أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - السفير - مشروع رؤية سياسية وخطة عمل لقوى الإصلاح والديموقراطية في الحزب الشيوعي اللبناني















المزيد.....



مشروع رؤية سياسية وخطة عمل لقوى الإصلاح والديموقراطية في الحزب الشيوعي اللبناني


السفير

الحوار المتمدن-العدد: 89 - 2002 / 3 / 13 - 08:44
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    




يتزايد صدور الوثائق وأوراق العمل السياسية في لبنان منذ فترة، في محاولة من قوى مختلفة لإعادة الحيوية الى الحياة السياسية. وإسهاما منها في توسيع النقاش المرافق لصدور هذه الوثائق، تنشر ((قضايا وآراء)) اليوم مقتطفات من مشروع وثيقة اعدتها ((قوى الاصلاح والديمقراطية في الحزب الشيوعي اللبناني)).
وإذ نلفت إلى ان ما لم تنشر من النص لضيق المساحة هي المقدمة والخلاصة والجزء المخصص للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية التي تقدم تشخيصا للأزمة منذ بداية التسعينيات، وقراءة للتطورات الاقتصادية العالمية المعاصرة، نشير الى ان مشروع الوثيقة هذا سيستكمله معدوه بجزء يعبر عن موقف مما يجري في فلسطين لجهة الدعوة لدعم انتفاضة الشعب الفلسطيني والالتفاف حول سلطته الوطنية ورئيسها ياسر عرفات.
القضية الوطنية
في بعدها الإقليمي الخارجي
على الرغم من نسبية مفهومي الداخل والخارج، لا سيما في عصرنا الحالي، وهذا شأن يطال كل الدول، الا ان التمييز بين هذين البعدين يبقى معبرا عن حقيقة موضوعية، مع الاقرار بتداخلهما وترابطهما. وفي البعد الاقليمي الخارجي للمسألة الوطنية اللبنانية نتناول تباعا ثلاث نقاط اساسية هي التالية:
قضية التحرير والتسوية.
الواقع العربي الجديد ودور الحزب وقوى اليسار عربيا.
تصحيح العلاقات اللبنانية السورية.
1 التحرير والتسوية
ان الانتصار الكبير الذي تحقق بتحرير الجنوب يظل ناقصا ما لم يندرج ذلك في اطار موقف لبناني استراتيجي سليم من موضوع التسوية بشكل عام، وما لم يندرج في اطار مشروع بناء الدولة الديمقراطية السيدة في لبنان، ووضع حد لمنطق لبنان الساحة، بدءا من اتخاذ التدابير الفورية لبسط سيادة الدولة على كل الارض المحررة. ولا ينقص هذا ذرة واحدة من الدور الكبير الذي لعبته المقاومة الاسلامية، وقبلها المقاومة الوطنية، في عملية التحرير.
وبشكل عملي، يتضمن مثل هذا الموقف المركب العناصر الاساسية التالية:
 صمود اللبنانيين: لقد فرضت المقاومة على اسرائيل انسحابا غير مشروط من لبنان، وهذا الإنجاز تجاوز لبنانيا معادلة الأرض مقابل السلام. يجب تثبيت هذا الموقف، ورفض اي مشروطية لاحقة في اطار ((التسوية الشاملة في المنطقة))، بحيث نقبل في اطارها بشروط مضرة بمصالح لبنان الوطنية.
 ان الدور الكبير الذي لعبته المقاومة في التحرير، ولا سيما المقاومة الاسلامية، يتحول الى نقيضه اذا استمر الموقف الرسمي اللبناني، والاقليمي، الذي يعيد انتاج حالة ميليشياوية ويفرض سلطة حزبية وطائفية على المناطق المحررة. ان هذا الواقع المفروض بعد التحرير، بفعل الطابع الطائفي لهذه الحالة، يعطل مساهمة عملية التحرير في اعادة بناء مشروع وطن ودولة ديمقراطية، ويدخل التحرير نفسه في دوامة النزاع الطائفي والسياسي الداخلي. ولذلك لا بديل عن دخول الجيش الى المناطق المحررة، وتحمل الدولة وحدها مسؤولية الأمن والاجتماع وحماية الحدود وضمان الحريات الشخصية والعامة للمواطنين والقوى الاجتماعية والسياسية، ما يؤمن للوطن مرحلة من الاستقرار، ويخرجه من دائرة الاستخدام كساحة، ويخلق ظروفا افضل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
 من الناحية العملية ايضا، فإن تحرير الجنوب ليس حدثا عاديا دون تأثير على السياسات الداخلية والخارجية للبنان، وعلى استراتيجية مقاومة اسرائيل في لبنان. وعلى استراتيجية المقاومة ان تأخذ بعين الاعتبار الحقائق التالية:
الحقيقة الاولى تتمثل في كون المقاومة تتم اليوم، (كما كانت في السنوات الاخيرة ايضا)، بعد توقف الحرب الأهلية، وفي ظل اعادة بناء الدولة، واستعادة السلطة المركزية لدورها. في هذا المجال، فإن المقاومة لا بد ان تندرج تحت العنوان الأكبر لإعادة بناء الدولة والمجتمع في ظروف ترسيخ السلم الأهلي، ووحدة البلاد والمجتمع.
الحقيقة الثانية تتمثل في تحرير معظم الارض اللبنانية من الاحتلال الاسرائيلي، وما تبقى من مشكلات (مزارع شبعا، الاسرى، المياه، التعويضات..) كلها مشكلات تحتاج الى حل من ضمن استراتيجية عمل استشرافية تضمن حماية الانجاز الكبير الذي تحقق الى الآن، ولا تعرضه للتهديد. وبهذا المعنى، فإن انفراد اي طرف، مهما كان دوره في التحرير، في اتخاذ قرار الحرب والسلم في لبنان، او في تقرير شكل تحقيق الاهداف الوطنية، يصبح بالغ الخطورة. ولا يغير من هذا الأمر واقع الدعم الرسمي اللبناني لهذا الطرف، الذي يغطي استقالة لبنان الرسمي من اداء دوره الوطني على هذا الصعيد. ويزيد من خطورة هذا الواقع، طغيان البعد الاقليمي لمسار التسوية على البعد الوطني اللبناني في تقرير شكل المواجهة في الجنوب، على ايقاع مسار التفاوض على المسار السوري، وخدمة لأهداف هذا الأخير. لقد اعطت هذه السياسة من الناحية البراغماتية نتائج ايجابية في عدد من النقاط، ولكنها تسببت ايضا بأعطاب بنيوية في الاداء السياسي والإنمائي اللبناني، ونتج عنها تغييب للدور اللبناني المستقل في عملية التسوية. لا بل ابعد من ذلك، جعلت هذه السياسة من سياسة لبنان الخارجية مجرد ملحق للسياسة السورية، وحتى ربط النشاط المقاوم بسوريا. وأدى في بعض المناسبات الى توتر في علاقات لبنان مع الأمم المتحدة، في وقت لا تبدو فيه قراراته في هذا الشأن صادرة عن ارادته المستقلة، في نظر الدول الاخرى، وفي نظر الأمم المتحدة.
في سياق هذه المعطيات، فإن موقفنا كقوى يسار وكقوى وطنية وديمقراطية، لا بد ان يعطي الأولوية للدعوة الى بلوغ توافق لبناني على خطة التعامل مع الوضع الناشئ في الجنوب بعد التحرير على قاعدة قيام الدولة بدورها الكامل. كما لا بد من تحديد خطة مواجهة الخطط الاسرائيلية والأميركية للمنطقة وفق تصور متوسط وبعيد المدى يضمن مصالح لبنان الوطنية، المتوافقة مع مصالح حقوق الاطراف العربية الاخرى، ولا سيما حقوق سوريا وحقوق الشعب الفلسطيني. ان مثل هذا التوافق وحده، من شأنه ان يحرر الجنوب والمواجهة مع اسرائيل من منطق التلزيم والاقطاع والتفرد، ويضمن بالفعل لا بالقول، وحدة الموقف الشعبي والرسمي اللبناني، وتعبئة قوى لبنان كله ضد اخطار الاحتلال واحتمالات التسوية، بعيدا عن الشعاراتية وعن التوظيف السياسي والاعلامي الفئوي في الصراع الداخلي والاقليمي.
2 الواقع العربي الجديد ودورنا العربي
إن مسألتي الانتماء والهوية العربية ولا سيما في ظل العولمة المتسارعة هما في غاية الاهمية ولا بد لأي حزب تغييري في العالم الثالث، وفي العالم العربي، من ان تكون له رؤية متقدمة لمضامين وآليات خوض الصراع على هذا المستوى، مع التركيز الخاص على الارتباط الحتمي بين التحرر الوطني والتنمية والتحويل الديمقراطي في مجتمعاتنا. وإن البعد المستقبلي للانتماء العربي وللهوية العربية، بما هي هوية حضارية ثقافية تشترك ليس فقط في اللغة وإنما في الإرث الثقافي والتاريخي ومشاعر الانتماء الحضاري، هي الأهم في رأينا. فمن الضروري بلورة هذه الهوية ببرنامج عملي يأخذ بعين الاعتبار عدم تبلور الهوية السياسية الموحدة ويعمل على إيلاء قضايا التنمية والتكامل الاقتصادي والديمقراطية اهمية كبرى وأولوية، مع الأخذ بعين الاعتبار، ضرورة مراعاة الشروط الخاصة والتمايزات التي انوجدت بين هذه البلدان في ظل الدول القطرية وتجاربها المختلفة. وتكرارا فإننا نؤكد ان مصير العلاقات بين الكيانات العربية او دولها سوف يتحدد بناءً لمدى قدرتها في بلورة مصالح شعوبها اولا وفي كل دولة على حدة من خلال سلطات تمثل ديمقراطيا مصالح وطموحات هذه الشعوب، وثانيا، وهو وثيق الصلة بالواقع الأول، ترجمة المصالح المشتركة لدول المنطقة والسعي لتطوير العلامات في ما بينها على كل الصعد وباتجاه التكامل المتكافئ.
ان التكامل العربي، من حيث هو مسار ديمقراطي وشعبي لتنمية عناصر القوة العربية في مواجهة تحديات العولمة، بما فيه تحديات مسار التسوية والتطبيع وما الى ذلك، هو من ضرورات المرحلة الحالية. وهذا الفهم العلمي والمستقبلي للتكامل العربي، لا بد ان يحل تدريجا محل الكلام الشعري عن الوحدة العربية الشكلية المفرغة من اي مضمون تقدمي حقيقي، الا التعاون على قمع الشعوب، وعلى الصلح مع اسرائيل تحت سقف التصورات الاميركية لمستقبل المنطقة.
ان نماذج التنمية التي اعتمدت في مختلف البلدان العربية (لغياب المواصفات الآيلة الذكر) آلت الى الفشل، سواء على صعيد التجارب القطرية، او تجربة التكامل القومي وصياغة مشروع عربي مشترك.
ان المسألة الأساس التي تعيق التنمية والتقدم في البلدان العربية تكمن في غياب مشروع وطني تنموي متبلور، على مستوى الدول والنخب الحاكمة. الا ان السبب البنيوي الأكثر اهمية هو بالتأكيد غياب الديمقراطية، وسيطرة النظم الاستبدادية في معظم الدول العربية. ان خطة عمل اليسار على الصعيد العربي لا بد ان تشمل كافة المستويات، وبالتالي الانخراط في مبادرات وأنشطة تنسيق عربية المدى، على المستوى السياسي المباشر (احزاب وقوى وشخصيات سياسية)، وعلى مستوى قوى المجتمع المدني.
وعلى الصعيد العملي، يعني هذا السعي لاستكشاف القوى السياسية والاجتماعية الناشطة في العالم العربي، التي يمكن لها ان تعمل بشكل مشترك على بلورة تدريجية لخطة بديلة للتعامل مع المشكلات الراهنة والتحديات المستقبلية، انطلاقا من رؤية تكاملية ومن بلورة مشروع عربي للتنمية الشاملة، متضمنا بالتأكيد النمو الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والاصلاح السياسي على اساس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. مشروع ينطلق بدوره من الانحياز الى المصالح الوطنية ومصالح الشعوب في التعامل مع الخيارات المطروحة، ومع شروط العولمة. مشروع لا يخشى المجاهرة بطبيعته السياسية من جهة، ولا يكتفي بالعمل السياسي التقليدي والفوقي من جهة اخرى. بل يعمل على المستوى المجتمعي كله، ولا سيما تحقيق الترابط بين اطر العمل النقابي، والمهني، وشبكات العمل الأهلي، والعمل الحزبي المتجدد، في سبيل تحسين فرص التحول السياسي في العالم العربي باتجاه الديمقراطية، وباتجاه احترام المميزات لكل بلد على حدة بما يوصلنا الى صيغة تكامل بين الخاص والعام.
ان فهما من هذا النوع للانتماء العربي وللتكامل العربي، ضروري جدا من اجل اليسار اللبناني على نحو خاص. فلبنان مفتوح بقوة على المؤثرات والصراعات العربية بحكم موقعه الجغرافي وصراعه الطويل مع اسرائيل، وبحكم الحضور السياسي والعسكري السوري الكثيف فيه، وبفعل وجود المخيمات الفلسطينية فيه ايضا. كما ان عروبة لبنان، كانت احد ابرز عناوين الصراع الداخلي، بما في ذلك اشكاله الأكثر عنفا ودموية، وعناوين الخلاف في هذا الشأن لا تزال كامنة. إن شأن فهم عصري ومتقدم ومدني للمسألة القومية، ان يسقط بعض مبررات الصراع التناحري بين التيارات السياسية اللبنانية في هذا الشأن، التي تهدد الوحدة الداخلية والاستقرار السياسي، في كل مناسبة. كما ان هذا الفهم يشكل اطارا موضوعيا لرؤية المصالح الوطنية اللبنانية في بعدها العربي، ومدخلا مختلفا لمعالجة اشكالات الوجود الفلسطيني في لبنان، والعلاقة مع سوريا، ومشاريع التنمية المستقبلية، بعيدا عن التشوهات والتطرفات الطاغية في النظر الى هذه العلاقات في الحياة السياسية اليومية في لبنان.
3 تصحيح العلاقات اللبنانية السورية
تنحكم العلاقة بين لبنان وسوريا، كما بين اي بلدين، بجملة معقدة من العوامل تمتد بين توازن القوى والمصالح الآنية، وبين الرؤى والاهداف المستقبلية لكل من البلدين. وتكتسب العلاقات وجودها المتحقق من خلال هذا التجاذب بين ما هي عليه واقعا بحكم ميزان القوى، وما يجب ان تكون عليه انسجاما مع الاهداف والرؤى المتوسطة والبعيدة المدى، وبين مصالح النخب والنظم والطبقات المستفيدة، وبين طموحات الشعوب والمصالح الوطنية غير الفئوية. ان دور الفعل السياسي والاجتماعي يتحدد على هذا الصعيد في ممارسة التأثير على هذا المسار بحيث يقلص الهوة تدريجا بين الواقع والواجب، وبين الفئوي والوطني.
وفي ظروف لبنان تحديدا، وبما يتجاوز الخطاب السياسي المسطح والآني، وحيث يكثر الكلام عن مستويات متقدمة من وحدة الموقف والمسار والمصير بين لبنان وسوريا، او عن هيمنة وإلحاق، فإن نقطة البداية الأنسب في رأينا تتمثل في ضرورة صياغة فهم مشترك، بالمعنى الحرفي للشراكة، للمصالح العليا للبلدين والعمل بموجبه. وفي اساس هذا الفهم المشترك، تبنٍّ صريح من قبل البلدين لخيارات متقاربة في مجال النظرة الى التنمية باعتبارها قائمة على التكامل العربي، وعلى إشاعة الديمقراطية والاصلاح السياسي وتداول السلطة من خلال الانتخابات الحرة، وعلى صياغة مشتركة للمصالح المباشرة والمتوسطة والبعيدة المدى للبلدين والشعبين في اطار عملية التسوية، وفي اطار مواجهة تحديات العولمة.
فإذا وضع فهم مشترك من هذا النوع، يمكن وضع خطة مشتركة لمواجهة تحديات عملية الصراع العربي الاسرائيلي وعملية التسوية في المنطقة على قاعدة احترام المصالح الوطنية للبلدين. كما يمكن ان يبدأ مسار متدرج لتقليص التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية بين البلدين، ولا سيما لجهة اكلاف الانتاج، ومستوى الأجور، وحرية انتقال السلع والخدمات والقوى العاملة عبر الحدود، وتقارب مستوى الضمانات الاجتماعية والحماية النقابية للعمالة المهاجرة، وتوحيد مستويات الدعم للزراعة والقطاعات الاخرى، والتكامل في مجالات الأفضليات التنافسية، واستثمار مصادر المياه المشتركة بين البلدين، والتعاون في مجال الطاقة، والبيئة.. الخ.
كل هذه امور ممكنة، وضرورية من وجهة نظر حزب كحزبنا يتجاوز في رؤيته الحدود الوطنية، الى البعد القومي العربي، والبعد العالمي والإنساني. ولكن شروط ذلك، التكافؤ في العلاقة، واحترام المصالح الوطنية اللبنانية، وصيانة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحق لبنان والشعب اللبناني، في ان يختار بشكل حر نظامه السياسي، ومؤسساته الدستورية.
ان النمط الحالي من العلاقات اللبنانية السورية لا تتوافر فيه المواصفات المشار إليها نظريا. وما يغلب عليها كأمر واقع هو طابع الانتفاع السياسي والاقتصادي على حساب لبنان، الذي تفرض عليه خيارات لا تتناسب مع خياراته الحقيقية ولا مع مصالحه الوطنية. ويولد ذلك الكثير من الاحتقانات، ومن الأحقاد في قاعدة المجتمع، تنتظر اي فرصة لتنفجر بشكل لا يخلو من العنصرية التي نرفضها كل الرفض. ولكننا نؤشر الى عناصر تكونها الموضوعي.
وفي الوقت الذي تزداد فيه الحاجة الى ان تتولى المؤسسات الدستورية اللبنانية التعبير عن المصالح الوطنية اللبنانية، والتنسيق عن قناعة مع الموقف السوري، نرى قصورا في هذا الجانب، مرده الى تسليم السلطة اللبنانية من جهة بشكل اتكالي الى سوريا واستقالتها من مهامها، وخوف وخشية الطرف السوري من فقدان السيطرة من جهة اخرى، ما يفرض نوعا من الإملاء والمصادرة.
لقد اظهرت التطورات الأخيرة ان تصحيح العلاقات اللبنانية السورية هو من الأولويات السياسية الضاغطة على الصعيد الشعبي، والاعلامي، وداخل المؤسسات الدستورية، نظرا لحجم تأثيرها السلبي على كل مستويات الواقع اللبناني: الوطني السياسي الاقتصادي الاجتماعي. ان تجاهل هذا الواقع ومحاولة قمع التعبير الحر عن الآراء في هذا المجال، من قبل سوريا وبعض السلطة، من شأنه ان يزيد من الاحتقان السياسي والشعبي، وان يشجع الطروحات المتطرفة على كل الصعد، في الوقت الذي نحتاج فيه الى معالجة متقدمة وعقلانية في آن لهذه المسألة.
ان اليسار اللبناني مطالب على هذا الصعيد بموقف متميز للجمع بين الطرح المتقدم والعقلاني في آن. ويتطلب ذلك صياغة موقف على الأسس التالية:
 حق الشعب اللبناني بكل فئاته وتشكلاته السياسية والاجتماعية في إبداء الرأي في هذه المسألة التي تطال كل مجالات الحياة المجتمعية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والشخصية.
 ان السلطة اللبنانية، ولا سيما مؤسسات الحكم الدستورية، تدين بسلطتها الى الدعم السوري المباشر، وبالتالي هي ليست محاورا صالحا لسوريا في ما يتعلق بالعلاقة بين البلدين. كما عدم تنظيم حوار داخلي سابق وهادئ في هذا الموضوع الوطني، يجعل السلطة اللبنانية غير مزودة بالمواقف الحقيقية للبنانيين بمختلف اتجاهاتهم، لتعبر باسمهم عن هذا الموقف. بناءً عليه، يتمثل مدخل معالجة هذا الموضوع في اطلاق حوار وطني بين اللبنانيين في ما يختص بالعلاقة بين لبنان وسوريا، وبلورة خطوط عامة لتوافق وطني لبناني في هذا الموضوع، يليه اطلاق الحوار مع سوريا حول المضامين والآليات المناسبة والهادئة والدستورية لتصحيح هذه العلاقات بما يضمن مصالح البلدين.
 ان العلاقات الاستراتيجية السورية اللبنانية تتطلب ان يكون لبنان حاضرا دوما لنصرة سوريا في الصراع العربي الاسرائيلي كما في الدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة تعبر عن حقوقه الوطنية والتاريخية المشروعة. ولقد لعب لبنان دورا بالغ الأهمية في مقاومته للاحتلال الاسرائيلي ولمشاريعه في لبنان بالتحالف مع سوريا وكانت مثالا عمليا لعلاقات الشراكة والتحالف بين بلدين عربيين. ويستطيع لبنان ويجب عليه ان يكون متفهما ومتجاوبا مع كل المتطلبات العسكرية الاستراتيجية السورية في ما يخص الصراع مع العدو المشترك. الا ان هذا لا يجب ان يكون على حساب حق لبنان في ان يكون دولة مستقلة سيدة على اراضيها، وحقه في اختيار نظامه السياسي ومؤسساته الدستورية المستقلة وانتخاباته الحرة الممثلة لشعبه وقواه تمثيلا صحيحا.
 ان هذه العملية الشراكة الاستراتيجية يجب ان تتم بين بلدين مستقلين سيدين متوافقين على المصالح المشتركة بين شعبين. وهذا يتطلب احترام اتفاق الطائف كوثيقة وفاق وطني وتطبيقها تطبيقا امينا وصريحا ما يستدعي اعادة انتشار للقوات السورية على اساس نص اتفاق الطائف ثم التفاهم على هذا الانتشار بين البلدين على أساس متطلبات الصراع المشترك مع اسرائيل دون ان يكون له مفاعيل على السيادة والتدخل المباشر وغير المباشر في الشؤون الداخلية اللبنانية. ففي حين نرى أننا ملزمون وراغبون بمراعاة المصالح الاستراتيجية لسوريا في صراعها مع اسرائيل بما فيها وجودها العسكري الذي يخدم هذا الهدف، فنحن نرى كذلك ان سوريا غلّبت حتى اللحظة مصالح انتفاعها السياسي والاقتصادي في لبنان، وعملت على ايجاد آليات سيطرة محكمة على الحياة السياسية اللبنانية الداخلية، ما أوجد مناخا متوترا بين البلدين عنوانه الاستقلال والسيادة ورفض الهيمنة.
 مراجعة كل الاتفاقات الاقتصادية واتفاقيات التعاون بين لبنان وسوريا وتثبيت الصالح منها، وتعديل الواجب تعديله بما يصون المصالح الوطنية اللبنانية. ان المآخذ على الاتفاقات المعقودة تعود في قسم منها الى عدم وجود الشفافية الكافية في معرفة مضمون هذه الاتفاقات، كما تعود الى المشكلة الأصلية الكامنة في علاقة التبعية القائمة بين السلطتين لصالح سوريا. بالإضافة الى الملاحظات الفنية التي ابداها عدد من الخبراء. ان حل هذا الموضوع يكون بقيام الطرف اللبناني بمراجعة متأنية لهذه الاتفاقات، مراجعة تشترك فيها الهيئات الاقتصادية والنقابية المعنية، والخبراء، والقوى السياسية، ليصار في ضوئها الى وضع افضل صيغ التكامل بين البلدين في مختلف المجالات، وضمن رؤية تنموية مستقبلية مشتركة.
 حق لبنان في ان تكون له سياسته الوطنية في ما يتعلق بالتسوية مع اسرائيل، وفي ما يتعلق بالوضع في الجنوب، وكيفية التعامل معه. وهذه السياسة في اعتقادنا، تؤكد التنسيق والتكامل مع سوريا وسياستها في استعادة حقوقها الوطنية، وعلى اساس دعمها دعما قويا وفعالا في مواجهة شروط اسرائيل وأميركا. إن ذلك لا يتعارض في رأينا مع وضع سياسة وطنية لبنانية في اطار التنسيق هذا، وسياسة الغياب والتغييب الحالية في هذا المجال، غير مقبولة وغير قابلة للاستمرار. ان التنسيق مع سوريا في مجال السياسة الخارجية هو حاليا مزيج من الالتحاق والتقية والمسايرة والقبول على مضض بغير القناعات الحقيقية. وما ندعو اليه، هو بلورة موقف وطني لبناني، حقيقي من موضوع التسوية، والتنسيق مع سوريا والتكامل معها انطلاقا من متطلبات المصلحة الوطنية، والواقعية السياسية، والاقتناع الحقيقي بوحدة المصالح في المدى الأبعد.
ان اليسار مطالب على هذا الصعيد بأن يكون في صلب حركة سياسية لبنانية، ديمقراطية متقدمة في طروحاتها، قادرة على توسيع قاعدتها الجماهيرية، تخرج حركة التململ هذه من مأزق الانتظار بحجة الواقعية، والأصح من ذلك قوة الأمر الواقع. ومأزق الانفعال المدمر المتشح بالتعصب وكره الأجانب. ان المنطق السائد حاليا يبقي مسألة العلاقات اللبنانية السورية اسيرة منطقها الراهن المغلق، الذي يعيد انتاجها باستمرار دون التكيف مع التغييرات، والذي يعيد انتاج النخب الحاكمة نفسها في لبنان، وهذه الأخيرة ترفض بدورها اي تصحيح لهذه العلاقات. إن مصير الدوائر المغلقة على نفسها، هو الاستمرار دون تغيير حتى انهيارها النهائي دفعة واحدة. ان الاصرار على ابقاء العلاقات اللبنانية السورية في صيغتها الراهنة دون تصحيح، هو خيار مدمر، وشديد الكلفة للبلدين مهما كان لباسه الخارجي بديهيا ومريحا لأصحابه والمستفيدين منه.
الإصلاح السياسي
أ في معنى الديموقراطية السياسية
كي نتلافى الاطالة والتكرار، نقتصر هنا على عرض العناوين الموجزة لما نعتبره محاور الاصلاح السياسي الديموقراطي في لبنان. فالديموقراطية السياسية، او الديموقراطية في النظام السياسي تعني بالنسبة الينا النقاط التالية:
1 ان تكون شرعية السلطة في البلاد مستمدة من قاعدة داخلية عريضة، لا ان تكون مستمدة من مصادر خارجية. وبالتالي ان تكون هذه السلطة قابلة للمساءلة امام الشعب اللبناني، وأن يكون اللبنانيون عبر مؤسساتهم المختلفة وأحزابهم وأشكال انتظامهم المتعددة، مؤثرين في تكوينها، وفي سياساتها، وفي استبدالها.
2 وضع قانون عصري وديموقراطي للتمثيل النيابي، يتضمن خلاصة المبادئ المتوافق عليها لتأمين التمثيل الصحيح المنسجم مع واقع التشكل السياسي والاجتماعي اللبناني من جهة، والذي يفتح المجال امام تطوير الحياة السياسية على اسس تتجاوز العصبيات الضيقة. ومن هذه المبادئ نقترح اعتماد نظام مركب بين النسبية والدائرة الفردية، وخفض سن الاقتراع الى 18 سنة، ووضع سقف للنفقات الانتخابية، وضمان حق المرشحين المتكافئ في استخداد الاعلام الرسمي وغير الرسمي، وإشراف هيئة قضائية مستقلة على الانتخابات، واعتماد البطاقة الانتخابية المقرونة بالاقتراع في مكان السكن... الخ.
3 ضمان استقلال القضاء وتحصينه ازاء السلطة السياسية التنفيذية والتشريعية، واعتماد مبدأ انتخاب القضاة للهيئات القضائية العليا بدل التعيين.
4 الالتزام بمبدأ سيادة القانون باعتباره الضامن لحماية المواطنين من تعسف السلطة وليس العكس، وباعتبار هذا المبدأ يجسد اولوية النص الدستوري والقانوني وإلزاميته وتفوقه على النص السياسي.
5 الالتزام الفعلي بحقوق الانسان، ولا سيما حق المواطن في التعبير والتجمع والانتظام في احزاب ونقابات، واحترام حرمة المراسلات والاتصالات والتنقل، واحترام الأصول القانونية في كل ما يتعلق بالادعاء ضد الافراد وتوقيفهم واستدعائهم امام القضاء.
6 احترام حق الجمعيات في التأسيس بحرية، وتطبيق نظام العلم والخبر بشكل سليم يحرر الجمعيات من رقابة الأجهزة الأمنية غير المبررة، واحترام استقلاليتها وضمانها بالقانون والممارسة.
7 تفعيل كل الهيئات المثلثة التمثل المشكل بموجب القانون، من المجلس الاقتصادي الاجتماعي، ومجلس ادارة الضمان الاجتماعي، ومجلس الجامعة، واللجان المشتركة بين القطاعات الحكومية والخاصة والأهلية في مختلف المجالات والمشروعات، بحيث تصبح هذه الهيئات صاحبة قرار فعلي معبر عن محصلة الحوار بين الاطراف المكونة. وتعميم هذه الصيغة من المشاركة في المؤسسات والقطاعات التي لم تعتمدها بعد.
ب في الإصلاح الإداري المباشر
إعطاء اولوية لإلغاء طائفية الوظيفة وحصر الاستخدام بالمباراة العامة وعلى اساس الكفاءة.
وضع تصميم خاص للامركزية ادارية فعالة تسهم في تحقيق الانماء الشامل، وردم التفاوت القائم حاليا بين المناطق.
تحديث الادارة ومكننتها وتبسيط المعاملات والتشريعات الادارية وتحسين مستوى معيشة الموظفين وتشديد الرقابة على فعالية عملهم، مع ضمان حق التنظيم النقابي للعاملين كآلية انتظام صحية من داخل الادارة بديلة للولاء للزعامة السياسية.
مواجهة الفساد والهدر من خلال مواجهة نظام توزيع المنافع المعمم في الادارة اللبنانية الذي يغطي ويحمي الاختلاسات والصفقات والفساد.
في المسألة الطائفية
تشكل الطائفية احدى ابرز الظاهرات الاجتماعية والسياسية في لبنان المعاصر، وأكثرها خطورة وأثرا على تطوره. فالطائفية اليوم قائمة في كتب التاريخ، في التعليم، في علاقات الناس ووعيهم البسيط، في النظام السياسي والإداري بكل تفاصيله، في اعلام الزعماء وممارستهم، وفي ميادين عديدة اخرى. كما ان للطائفية اساسا تاريخيا حاضرا في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، وفي الوعي الشعبي.
وإذا كانت الطائفية ظاهرة بهذه الأهمية، فبديهي ونحن نتعامل معها، ألا نقع في فخ البديهيات والتبسيط، وان نطور منظومة تحليل ومنظومة عمل تتعامل بفعالية مع مستوياتها المختلفة، وتسمح لنا بتجاوزها الى بناء دولة ومجتمع مدنيين. وبالتالي علينا تجنب الوقوع في المقاربة الجزئية او الشعاراتية للظاهرة الطائفية، خصوصا انه قد تبين مدى قصورها من خلال تجربة الحرب الأهلية، وعهد ما بعد الطائف.
وثمة انحرافان اساسيان في مقاربة الطائفية يهددان الفهم والعمل على حد سواء، وهما التاليان:
 الانحراف الاول، هو المبالغة في اهمية الطائفية في تاريخ لبنان وحاضره ومستقبله، الى درجة اعتبارها جوهر وجود لبنان ورسالته (كما في الفكر اليميني الطائفي المتطرف)، او اعتبار الطائفية في المقابل علة العلل في النظام، بحيث يصبح التخلص من الطائفية هو الحل الشافي لكل مشاكل لبنان (كما في بعض المبالغات في الخطاب اليساري او القومي او الشعبوي). ففي مقاربة من هذا النوع، يجري عزل الطائفية عن اساسها المادي التاريخي، لتصبح جوهرا متعاليا، فيه كل الخير او كل شر. وهو ما يضفي على الطائفية هالة من الغموض، ومسحة من الاطلاق، بحيث يعطل ذلك امكانيات الفعل السياسي لتجاوزها، ويضع الحركة السياسية امام خيارات القبول المطلق، او الرفض المطلق، باعتبارها خيارات تُتخذ دفعة واحدة، ويجعل من خيار تجاوز الطائفية خيارا غير قابل للتحقق الا بصفته الغاء يتم دفعة واحدة بانقلاب تغييري حاسم. كما من من مفاعيل هذه المقاربة، انها تعطل فهم الآليات الواقعية لعمل النظام السياسي، وحركة الصراعات الطبقية والسياسية، لأن تفسير كل شيء، اساسيا كان ام ثانويا، يحال الى الطائفية كمبدأ مفسر شبه وحيد للمسار المتعرج والمتحقق تاريخيا لحركة التناقضات والأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
 الانحراف الثاني، يتمثل في اجتزاء الظاهرة الطائفية عن باقي مكونات عملية الاصلاح السياسي، وفي اختزالها في الفهم او الممارسة العملية في الطائفية السياسية. وما من شك في ان الطائفية السياسية هي العقدة الأكثر اهمية في الاصلاح السياسي، ولكن لا يمكن اهمال الأبعاد والمستويات الاخرى في الظاهرة الطائفية في المجتمع وفي الوعي وفي السلوك العملي للبنانيين. وإذا كان ممكنا من الناحية النظرية على الأقل التحدث عن الغاء الطائفية السياسية (ولو المتدرج)، فإن تعبير الإلغاء لا يصح اطلاقا عندما يتعلق الأمر بالوعي والسلوك والتشكل الاجتماعي. وبالتالي، فإن اجتزاء النظرة الى الطائفية واختزالها في الطائفية السياسية، يحملان معهما ايضا خطر التعامل الارادوي والاداري مع حالة في الوعي وفي المجتمع، وهو ما مصيره الفشل الأكيد. كما ان الوجه الآخر لهذا الاجتزاء يتمثل في التوهم بإمكانية الغاء الطائفية السياسية بمعزل عن مستوى نضج تجاوز الطائفية في قاعدة المجتمع. اي بكلام آخر، هل يمكن لأي طرف سياسي ان يطرح شعار الغاء الطائفية السياسية بمعزل عن تبنيه خيارا عمليا ممارَسا بالعمل على تجاوز الطائفية في المجتمع، وفي الدولة، باتجاه الصيغة المدنية غير الملتبسة؟ ونحن نميل الى ترجيح عدم امكانية ذلك، وهو ما يقودنا بالضرورة، في ممارسة نشاطنا السياسي والاجتماعي، لكي نضع خطة عمل شاملة لكل مستويات الظاهرة الطائفية، والابتعاد عن تكرار التجربة السابقة التي انطلقت من مقدمات صحيحة، لتتجمد في الشعار، وتنفصل عن مواكبة الحياة، وبالتالي تفقد فعاليتها، او تجري مصادرة شعار الغاء الطائفية من قبل الطائفيين انفسهم.
إننا باختصار من دعاة اسقاط هالة الغموض والشمولية عن الظاهرة الطائفية، ورؤية مستوياتها المختلفة، وتفكيكها الى عناصرها المكونة: إن الطائفية ليست مبدأ متعاليا مفسرا لتاريخ لبنان وحاضره، بل هي ظاهرة تحتاج هي نفسها الى تفسير في ضوء هذا التاريخ، وبهدف واضح هو تجاوز الطائفية الى حالة ارقى.
إن مستويات الطائفية المقصودة بالتناول في هذا النص هي، على الأقل، المستويات التالية:
 الطائفية في المجتمع، وهو المستوى الذي ينظر في اساس الطائفية الكامن في النسيج الاجتماعي والعلاقات التقليدية. فالطائفية لا تستمد عناصر بقائها من وظائفها السياسية وحسب، او قل ان الأساس الاجتماعي المادي الذي اتاح للطائفية ان تؤدي هذه الوظائف السياسية الراهنة، إنما تعود الى استمرار وجود وفعالية الاشكال التقليدية للانتظام الاجتماعي المتمحور حول ثنائية العائلي المناطقي. وحقيقة الامر، ان الكثير من اسرار الطائفية واستمرارها عبر الزمن، يصبح قابلا للفهم والعلاج إذا نُظر اليه من منظور استمرارية التشكلات التقليدية التي تعتبر بمعنى ما بمثابة البناء التحتي للطائفية، التي هي بمثابة البناء الفوقي والتأطير الايديولوجي لهذا الانتظام الاجتماعي التقليدي، وقناة انتظامه في التشكل السياسي الأوسع للنظام اللبناني.
 الطائفية السياسية بتجلياتها في نظام التمثيل السياسي، وتشكل مؤسسات الحكم، وفي الادارة والتوظيف، وفي علاقات الاستقطاب السياسي التقليدي. ولكن هنا ايضا علينا التنبه الى تمازج البعد الطائفي في العلاقات والنظام السياسية، بالبعد العائلي والمناطقي، إذ حتى الطائفية السياسية لا توجد نقية بمعزل عن هذين البعدين. وحقيقة الأمر، انه من وجهة نظر التاريخ السياسي الحديث للبنان، فإن ما يميزه حقا هو توارث عدد محدد من العائلات السياسية السلطة في لبنان خلال القرنين الماضيين. وبهذا المعنى، فإن مادة الخلل الأساسية في النظام السياسي اللبناني، خصوصا في مرحلة ما قبل الطائف، كانت تتمثل في توارث السلطة ضمن العائلات السياسية ذات النفوذ. والطائفية هنا تلعب دور الايديولوجيا السياسية للنظام التي تسمح بتحالف ممثلي هذه العائلات، اكثر مما هي مصدر سلطتهم، لا بل ان نفوذ هذه العائلات هو مصدر قوة الطائفية السياسية. والواقع يشير الى انه غالبا ما يكون رجال الدين من الطوائف المختلفة في خدمة زعمائها السياسيين المدنيين الاقوياء، وإن دورهم لا يتنامى الا عندما يضعف نفوذ الزعامات التقليدية، حيث يبرز البعد الطائفي البحت في الطائفية السياسية بقوة اكبر، وحيث يشكل الاستقطاب الطائفي المباشر، والالتفاف حول رجال الدين، صمام الأمان للتماسك الداخلي في النظام السياسي، والمخرج الممكن بانتظار استعادة الفعالية السياسية من خلال القيادات المدنية. وكما في العلاقات السياسية بشكل عام، كذلك في الدولة وأجهزتها، حيث ان الدولة تلعب دورا متزايدا في انتاج الطائفية وإعادة انتاجها الموسعة، في الزمن الراهن بشكل خاص. ان القول بأن الدولة هي اساس تشكيل الطائفية السياسية، اكثر صحة من القول بأن الطوائف هي في اساس تشكيل الدولة.
 مستوى الوعي الشعبي والثقافة السياسية، وهنا لا يمكن تلافي البحث في علاقة الوعي الطائفي بالوعي الديني، وآليات الانتقال من الاول الى الثاني وبالعكس. وهذا الترابط يعطي للطائفية الاجتماعية والسياسية بعدا ثقافيا يرسخ من حضورها في الحياة السياسية والاجتماعية باعتبارها امرا طبيعيا. وينسحب ذلك على الثقافة السياسية السائدة، التي تروج لقبول فكرة ان تكون الطوائف هي الأدوات الاكثر اهمية للتمثيل السياسي، ولممارسة السياسة في مؤسسات الدولة وفي الشارع. وفي المقابل، تبدو الاشكال العصرية من العمل السياسي، والحزبية منها بشكل خاص، وكأنها امر دخيل على السياسة اللبنانية، إلا عندما يكون الحزب صيغة اخرى للاستقطاب التقليدي الفردي، او العائلي، او الطائفي.
 مستوى السلوك اليومي والبعد الوظيفي للطائفية لجهة دورها كإطار يساهم في توفير الخدمات الحياتية اليومية. فالطائفية بهذا المعنى هي شبكة القنوات والآليات التي يستخدمها المواطن يوميا في حياته العادية. فالتشريع جعل المحاكم الشرعية للطوائف مسؤولة عن كل تفاصيل حياته الشخصية، والتمثيل السياسي يتم على اساس طائفي، والتوظيف في الادارة او حتى في القطاع الخاص احيانا كثيرة يخضع للمعيار والقنوات الطائفية، والحصول على خدمات تعليمية او صحية يتم من خلال الأطر الطائفية... وبهذا المعنى، فإن المواطن مجبر في الكثير من مجالات حياته على ان يسلك سلوكا طائفيا، اي ان يستخدم القنوات الطائفية، وإن كان يحمل قناعات مغايرة. وهذه الطائفية السلوكية، هي في مضمونها نوع من البراغماتية والسعي الى الحلول العملية للمشاكل اليومية، اكثر من كونها في الأصل وعيا طائفيا. وبالتالي، لا بد من التنبه لهذا البعد الهام جدا، وهو ان الطائفية مفيدة من الناحية العملانية في روتين الحياة اليومية، وبالتالي هي تؤدي وظيفة مفيدة وتسد حاجات اساسية للمواطن. وبهذا المعنى، لا يمكن الغاء الطائفية بدون الغاء وظائفها هذه. ان مساحة الطائفية في حياة المواطن تتقلص بمقدار ما تتقلص وظائفها، وبمقدار ما تتسع مساحة الحيز المدني وقدرته على التحول الى اقنية وآليات مستخدمة في الحياة اليومية للمواطن، لتلبية احتياجاته. وهذا ما يدفعنا الى التركيز على وظيفة اساسية على الدولة ومؤسساتها ان تلعبها في لبنان، وهي ان تكون مساحة التفاعل الوطني المدني، وإحدى الآليات الاكثر اهمية في تحقيق الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية، بما يتجاوز الحالة الطائفية.
في ضوء ما تقدم، ومن وجهة نظر الفعالية السياسية الهادفة الى تحقيق تغيير حقيقي باتجاه بناء الدولة المدنية، ونشر الوعي الديموقراطي والعلماني، نقترح الأسس التالية في توجيه النشاط السياسي الهادف الى تجاوز الطائفية في المجتمع وفي النظام السياسي في آن. وهذه المبادئ هي:
 عدم فصل مسألة تجاوز الطائفية السياسية (او الغائها حسب التعبير الذي لا يزال متداولا) عن مسار الإصلاح السياسي للنظام. وبشكل ملموس، نقترح ألا يجري وضع برنامج عمل مستقل تحت عنوان ((الغاء)) الطائفية السياسية، بل ان يأتي علاج المسألة الطائفية من ضمن خطة عمل لتحقيق الاصلاح السياسي باتجاه بناء الدولة العصرية.
 ان العلاقات الطائفية تلعب دورا ماديا في الحياة اليومية باعتبارها قناة للتعبير والتمثيل السياسيين (من خلال نظام الانتخابات بالدرجة الاولى)، وباعتبارها آلية فعالة لتلبية الاحتياجات وتوفير الخدمات، بما فيها الخدمات الاجتماعية الاساسية كالتعليم والصحة. ان الطائفية من حيث هي مشكلة او تشوه اجتماعي او سياسي، لا تكمن في وجود الطوائف ومؤسساتها، بل تكمن في ان تعطى لها ادوار تشريعية او سياسية او اجتماعية لا تقع ضمن طبيعتها من حيث هي تفريعات للانتماء الديني، كما هو متعارف عليه في المجتمع والدولة الحديثين. وبهذا المعنى، فإن معالجة المشكلة الطائفية في لبنان، تكمن بالضبط في تقليص دور الطوائف ومؤسساتها الى مجالها الاصلي، بما يجعل من التمثيل السياسي، والتشريع، وتلبية الاحتياجات الاساسية للمواطن، من اختصاص الدولة، والمؤسسات المدنية الطابع، وعلى اساس المواطنية وما يتفرع عنها من حقوق.
 من الناحية العملية، تحتل مسألة تحسين فعالية التعليم الرسمي لجهة توفيره للجميع، ومجانا في مراحله الأساسية، اهمية كبيرة، وكذلك ما يتعلق بتوفير الخدمات الصحية والحماية الاجتماعية من خلال الدولة والمؤسسات المدنية الطبع. اضف الى ذلك، إصلاح الادارة، ولا سيما الغاء طائفية الوظيفة، وحصر التوظيف بالمباريات التي يجريها مجلس الخدمة المدنية. ان تعزيز التعليم الرسمي، وإصلاح النظام الصحي، وتوسيع تغطية انظمة التأمين الاجتماعي، بالاضافة الى حصر التوظيف بالناجحين بمباريات مجلس الخدمة المدنية، هي مساهمات كبيرة جدا في تجاوز الطائفية، بما في ذلك في الطائفية السياسية، لكونها تقلص عمليا من الوظائف التي تؤديها، وتوفر بدائل واقعية عنها.
 يحتل ايضا العمل على اصلاح النظام الانتخابي مكانا هاما في تجاوز الطائفية السياسية بشكل خاص. كما ان تنشيط دور البلديات على اسس حديثة، واقترابها بالممارسة من لعب دور اساسي في التنمية المحلية، من شأنه ان يرسخ بالممارسة السلوك المدني المبني على فكرة الحق، بديلا للولاء التقليدي الذي يلتبس فيه العائلي بالطائفي.
 اخيرا ان خطة العمل المقترحة لا بد من ان تشمل الحيز التربوي بشكل عملي وفعال، من نوع تدريس التربية المدنية، والكتاب الموحد لتعليم تاريخ الأديان... الخ. كما لا بد من ان يشمل الاهتمام وسائل الاعلام، ومضمون ما تبثه، وشكله، ارتباطا بمسألة الطائفية وبمسألة الاصلاح.
وغني عن البيان، ان التقدم على طريق تجاوز الطائفية، وفي صلبها الطائفية السياسية ومجمل عملية الاصلاح السياسي، لا يمكن ان تتم تلقائيا. وفي هذا الصدد لا بد من بناء حركة سياسية واجتماعية ضاغطة من اجل وضع آلية لإطلاق هذا المسار والبدء بإجراءات عملية في هذا الاتجاه، بدءا من العمل على اصلاح نظام التمثيل الشعبي، وفصل الادارة عن السياسة، وصولا الى تشكيل هيئة وطنية لتجاوز الطائفية من قوى المجتمع المدني، وفرض اطلاق هذه الآلية على المستوى الرسمي. ان مثل هذا النشاط لا يمكن ان يحصل تلقائيا، ما لم يضع الحزب وقوى اليسار على جدول اعمالهما الحقيقي مسألة تنسيق جهود العلمانيين وغير الطائفيين في هذا البلد، من اجل تحقيق الاصلاح السياسي والاداري وتجاوز الطائفية، باعتبارها أبعادا لعملية اصلاحية واحدة.
كما نقترح آلية محددة هي السعي لإنشاء هيئة وطنية شعبية وأهلية لبدء الحوار في تجاوز الطائفية السياسية والاصلاح السياسي، كوسيلة ضغط لإلزام الحكومة بتشكيل الهيئة الوطنية المقرة في الطائف لهذه الغاية، وكوسيلة عملية لإطلاق حوار بين قوى المجتمع السياسية والاجتماعية حول آليات التجاوز، وتدرجها، ومضمونها. كما نقترح بشكل ملموس ان تعطى الأولوية في هذا المجال للآليات اكثر من الشعارات العامة، وان نقتنع فعليا بضرورة التوصل بشكل مشترك الى بلورة آليات هذا التحول البالغ الأهمية في الحياة العامة في لبنان.

©2002 جريدة السفير



#السفير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جرائم ضد النساء في أرقام
- التظاهرة الحمراء- تخرق جدار الاتحاد العمالي
- رقاقة كومبيوتر بحجم حبة الأرز تزرع في جسم الإنسان:
- ملالي)) مجلة شهرية لنساء أفغانستان
- ايطاليا: آلاف المتظاهرين احتجاجا على خطط إصلاح سوق العمل
- الاتحاد العمالي يعلن الإضراب والاعتصام والتظاهر في 28 الجاري
- لمناسبة عيد الحب ...أشعار وأقوال من بستان العالم
- العفو والصليب الأحمر: وضع المعتقلين
- ستة آلاف طفل ضحية يوميا لأمراض المياه ((مياه الشرب والصرف ال ...
- الاتحاد العمالي اللبناني يقر التحرك اعتباراً من آذار
- إعادة الاعتبار للذات شرط معرفي وسياسي أيها المصنّف ((اليساري ...
- المنتدى الاجتماعي في بورتو أليغري: العالم الآخر الممكن
- ... وماذا يعني أن تكون يمينياً؟
- ماذا يعني أن تكون يسارياً في لبنان اليوم؟
- تدهور البيئة توازي الحرب على الإرهاب
- أولى حروب القرن وهزيمة الإسلام السياسي
- كيف أنهت سنة 2001 أيامها... علمياً؟
- سلبيات العولة والإبداع النسوي في مؤتمر نسائي دولي في القاهرة
- محكمة دولية للعنف ضد النساء.. في القاهرة
- في وداع نسيب نمر ..... الصلابة الفكرية والنضالية


المزيد.....




- الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص ...
- ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
- مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
- إيران متهمة بنشاط نووي سري
- ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟ ...
- هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
- عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط ...
- روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة. ...
- مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
- مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - السفير - مشروع رؤية سياسية وخطة عمل لقوى الإصلاح والديموقراطية في الحزب الشيوعي اللبناني