( من الخيال العلمي ) – د. بهجت عباس
أفاق منْ نومه مذعوراً، فالكوابيس وأضغاثُ الأحلام عكّـرتْ عليه طيبَ المنام، فكان يستيقظ بين آونة وأخرى. وفي الهزيع الأخير من الليل هجره النوم تماماً، فاستلقى على فراشه في غرفته الصغيرة المُطـلِّة على منتزهٍ صغير يقع في ضاحية نائية من مدينة برلين الجميلة، وفي الغرفة الثانية من الشقّة ينام إبنُه أو توأمُه الصغير زكي.
كانت الليلةُ آخرَ ليالي شتاء 2037 م، وكانت عصيبةً حقاً على هاني. فضيقُ الصدر وعُسْرُ التنفس كانا ملازميْنِ له. أخذ جهاز الإستنشاق واستنشق منه ثلاثاً، ووضع حبةً تحت لسانه، ليُزيلَ الألمَ ويُوسًعَ القصباتِ والرئتين، وأخذ ينظر إلى غرفة زكي ويلعن الحظَّ العاثرَ الذي رزقه بهذا الصبي وراح يسرح في الماضي. إذ لمْ يزلْ يتذكّرُ كثيراً من الحوادث، رغْمَ بُعْد الزمن. تذكّـرَ أيامَ شبابه في برلين، إذْ قضى فيها ردْحاً من الزمن تزوّج خلالها من فتاة ألمانية تُدعى (هيلغا) وعادا إلى الوطن، فأنجبتْ له بنتاً وولداً. لبثوا هناك أعواماً طوالاً، عادوا بعدها إلى برلين في نهاية القرن العشرين، بعد أن اصفـرّتِ السماء، وغاض الماء واختفتْ جنّـةُ عدْن. جلب معه مالاً كثيراً كسبه على حساب المُعدمين البائسين، كما يقولون، إذ كان هاني يُحبٌّ المالَ حبأ جمًا، وهو معروفٌ أيضاَ بضيق اليد.
تزوجت إبنته وغادرت وزوجها إلى أُستراليا للإستقرار فيها. وتخرج إبنه طبيباً وعمل مدةً قصيرةً في مهنة الطب، ولما زار كاليفورنيا لحضور مُؤتمر طبي، أعجبه مناخُها، واستهوتْه مفاتنُ طبيعتها، فقـرّر البقاءَ فيها. بقي هاني وهيلغا وحيدين، واستأجرا هذه الشقّةَ البعيدة عنْ مركز المدينة لرخصها، فهو بخيلٌ جداً وحسود، لا يساعد أحداً ولا يرحم أيَّ فقير يمد إليه يداً. كان يُسَرٌ لرؤية المعدمين، لأنه يشعر أنه أرفعُ منهم مقاماً، ويتجنّـبُ رُؤيةَ من هم أكثرُ منه مالاً وجاهاً، لأنّه كان يصْغُرُ أمامهم. كانت زوجته تحلمُ برؤية روما وأطلالها وآثارها والفاتيكان والبابا. كان يَعِدُها بتنفيذ هذا الحلم أكثر من ثلاثين عاماً أو تزيد ولم يفِ بوعده، فهجرته إلى ألبرتا-كندا لتعيش مع قريبتها، إذْ فضّـلتْ جليدَ ألبرتا على جليد قلبه. حدث هذا مطلع القرن الواحد والعشرين، وكانت تُرسل إليه بطاقة عيد الميلاد ورأس السنة باستمرار. وأخبرته أنّـها سترسل البطاقة إليه كلَّ عام، وإذا لم يستلمْ منها أيً شيء، فهذا يعني أنّها غادرت العالمَ الفاني إلى دار الخلود. كما أعلمتْه أنًها ليستْ نادمةً على قضاء ذلك العمر معه، ولكن الإستمرار في العيش معه هو ضياع للوقت وانهيار للأعصاب. لذا عاش هاني وحيداً في شـقَّـته بعد هذا الفراق. كان يقضي نهاره ماشياً في المنتزهات والشوارع وينام مُبكراً. ولكنً ذلك لمْ يمنعْه من أن يلتقي بعضَ الصِّحاب في البار الوحيد الموجود في منطقته ليقضيَ سويْعاتِ المساء في الثرثرة والتهكم على الآخرين. وكان أصدقاؤه لا يُحبّـونه، إذْ أنًه لمْ يكن بخيلاً وحسبُ، بل وحسوداً أنانياً يَفرضُ رأيَه على الآخرين، وكان رجلاً مَلولاً أيضاً، فهو يُحاول أنْ يُفرِّقَ بين الأصدقاء ليكونَ القاسمَ المشترك، ويتدخل فيما يعنيه ومالا يعنيه. كان في منطقته الكتور بشير، صديقُه القديم الذي ساعده أيامَ الشقاء، فأنكر جميلَه أيـّامَ الرخاء. ورغمَ ذلك، كان ذلك الطبيب يعطف عليه، وهو طبيب متخصص، يراجعه كلًما عـنّتْ له حاجة إليه. وعندما تقدًمت التكنولوجيا أوائل القرن، وأنتج العلماءُ الخميرةَ التي تحمي ( التلومير )، الموجودة أسفلَ الكروموسوم والضرورية لإنقسام الخلية المستمر، أصبحت الخلية لا تشيخ، وأصبح إطالة العمر ميسوراً. كان هاني منْ أوائل مَنْ حصلَ على هذا العلاج بعد أن صرف الكثيرَ من أمواله، ولم يشعرْ بعدها بمرور السنين عليه. وكان الدكتور بشير يُشرف عليه، وكانت بطاقات زوجته (هيلغا) تصله كل عام، ومنذ عشرين عاماً إنقطعتْ تماماً، فبكى وعدَّها في حساب الأموات.
في ذلك الوقت كان الناس يستنسخون أنفسَهم، إذ أنً تجربةَ استنساخ النعجة (دولي) أدّتْ إلي استنساخ البشر. لاحظ هاني أنً هذه النسخَ كانتْ جميلةً وتُشْبه المستَنسَخ، وكانت صغيرة. طرأتْ عليه الفكرة! لِمَ لا يستنسخ له ولداً يساعده في أموره، بلْ يكون هو ذاته، وقدْ يرجع من جديد قويًا كما كان، ويتجنب الأخطاءَ التي مرّ بها سابقاً، ولنْ يُضيعَ الفرص التي سنحت له في الماضي؟ ذهب إلى صديقه الدكتور بشير وأسرّ له ما جاش في خاطره. رحّب هذا الأخيرُ بالفكرة، فاقتطف خليةً من أنف هاني وأخبره أنْ سيكونُ له بعد تسعة أشهر غلام زكي. فرح هاني وانصرف وهو يرقص سروراً وطرباً، ولم يدْرِ ما دار في خلد الدكتور بشير الذي سوّلتْ له نفسُه أمراً. كان الدكتور مَن اكتوى بنار الحسد المتأججة في نفس هاني منذ أمد طويل، وكذلك من بخله ولجاجته. ولمًـا كانت الجينات آنذاك قد اكتُـشِفتْ وعُـلِـمَ موقعُ كلِّ واحدٍ منها على الكروموسوم، فقدْ تبيَّن أنَّ ثمّة جيناً للحسد، وكذلك للجشع والأنانية والعنف وكره الآخرين. ولمًـا كانت هذه الجينات موجودةً كلَّها في خليَّةِ هاني، قرّر الدكتور إزالتها ووضْعَ جيناتِ المحبة والكرم والتسامح والتضحية بديلاً، فتكون النسخةُ تُشبه هاني خَـلْـقاً وليس خُـلُـقاً. رقص لهذه الفكرة، فهو يُحبُّ الإنتقام.
عمل ما فكَّر به. وبعد أنْ صنع الجنين ( المحسَّن )، زرعه في رحم إمرأة استأجرها، وانتظر تسعة أشهر وُلِـدَ بعدها الطفل (زكي)، وكان الإسمُ من اقتراح الدكتور بشير.
كان فرحُ هاني أشدَّ من فرحه بولادة إبنه وإبنته، فأتى له بالمراضع، ولما بلغ من العمر بضعَ سنين، كان صورةً طبق الأصل منه. أدخله مدارس خاصة لتـنشئـته على أحسن ما يكون، ولكنَّ الصبيَّ رفضها، وآثر المدارس الرسمية. كان مرحاً جداً والإبتسامة لا تفارق شفتيه. يشارك الأطفال في لعبهم ولهوهم، ويُعطيهم ما ملكت يداه. وكان هاني يراقبه على مضض. إذْ كان في صِغَرهِ يأخذ من الأطفال ما يريد ولمْ يعبأ بصراخهم. نشأ زكي على هذه الحال وكان كريماً. والغريب أنَّ هاني لمْ يستطعْ أنْ يقول شيئاً، بلْ كان يشعر بوخز في صدره دوماً وأخذت خلاياه تشيخ وصدره يضيق وصحته تتردى. فسرور زكي هو آلام لهاني. وأخذ هاني يندم على الإستنساخ بين آونة وأخرى. ولمّـا بلغ زكي العشرين من العمر تخرج من الجامعة وأصبح مهندساً، فكثُرَ أصدقاؤه وكثر بذخه حتّى استنفد أموالَ هاني كُـلَّها تقريباً. ذهب هاني إلى صديقه الدكتور بشير شاكياً، فهوّن الأخير عليه الأمر، وأعطاه بعضَ المُهَدئات، وإعترف له بما فعل من تغيير الجينات أو بالأحرى إصلاح الخطأ. إهتاج هاني وسبَّ الدكتور وقفل راجعاً إلى شقته، فانقبض صدره وأخذ يلعن ذلك اليوم الذي وثق بالدكتور. فلما وصل الشقّة وجد (زكي) مع شلّة من الأصدقاء، وقد وضع على المائدة أقداح الشراب وأنواع الطعام التي طلبها إلكترونياً. رآهم يشربون ويأكلون والمرح يلـفّهم من فرع إلى قدم. فاختلج قلبه غيظاً، وضاق صدره وأصبح تنفسه ثقيلاً. أخرج علبة الإستنشاق من جيبه واستنشق منها أربعاً، وتناول بعض الحبوب المُهدئة. بعد أن خرج الرفاق، أخذ يعاتب زكيّاً على بذخه، فأخبره هذا بأنّه لا يستطيع أن يفعل غير ما فعل، لأنه يحبُّ أصدقاءه كثيراً وأنَّ المالَ لا يعني لديه شيئاً ما داموا فرحين. فالمال عنده كمجرى الماء، فإنْ حبَسه فسيغرق فيه وسيموت الآخرون ظمأً، وهو كالهواء لجميع الناس، فحبْـسُه عن بعضهم يؤدّي إلى موتهم، وهذا ما لا يريد. أطرق هاني وفكّر ملـيّاً ولمْ يردَّ على زكي بلْ تركه وذهب إلى غرفته، وقد نال منه التعب والغضب ممّا جعله يستلقي على فراشه. فكانت تلك الليلة الليلاء التي لم يتمتع فيها بطيب المنام. وأخذ ينتظر بزوغ الفجر.
فتح النافذة ومدّ رأسَه خارجها يرقب مطلع الشمس، ولكنْ سُرعانَ ما أدخل رأسه وأغلق النافذة عندما داعبتْ نسَماتُ الفجر الباردة الشعراتِ المتبقية على رأسه، خَشْيةَ الإصابة بالبرد، ولكنَّ نبضاتِ قلبه أخذت تزداد، فأحسَّ بوخزات في صدره، وعُسْرٍ في التنفس وألم حاد في صدره، فانهار على أرض الغرفة.
إستيقظ زكي حين سمع الإرتطام، وتقدّم ماشياً ليرى ما حدث، فبصُرَ بهاني مُلقى على الأرض بلا حراك. ذهب بسرعة إلى غرفته وتناول التلفون وأخذ يتكلم طالباً الإسعاف. وبعد انتهائه من المكالمة، ذهب إلى هاني فلم يجدْه، فحار في أمره ولم يدْرِ ما يصنعْ. بقي في شقته طيلة النهار، وكان أولَّ يوم من ربيع عام 2037. وعندما جنحت شمس الأصيل إلى الغروب، سمع طرقاً على الباب، فهرع إليها وفتحها، فإذا به يُفاجأ بفتاة جميلة المحيّا في العشرين من عمرها تبتسم باستحياء، وكانت صورة طبقَ الأصل من الصورة المعلَّقة على جدار غرفة هاني. نظر كلُّ منهما في عينيْ الآخر، فلمْ يشعرا إلاّ وهما في عناق عميق.
آذار 1997