منتدى اليسار للحوار
- 4 -
المفصل الأساسي في الأزمة يتحدد في مقاربة الواقع، في وعي الواقع، أولاً في الرؤية/ الفكر، وبالتالي في تأسيس "الوعي المطابق" وثانياً في السياسة/التكتيك، وبالتالي تأسيس التكتيك المطابق. حيث أن مهمة الماركسية تتحدد في وعي الواقع، وعي آليات تحويله، كما أن مهمة الحزب تتحدد في أن يكون وسيلة إنتاج الوعي المطابق، وأداة تحويل الواقع. وحينما تفشل الماركسية في مهمتها، ويفشل الحزب في دوره نقول أن أزمة تسكن الحركة الماركسية، لهذا نبدأ من السؤال: إلى أي مدى وعت الحركة الماركسية العربية الواقع، ومارست بما يخدم عملية تحويله بما أن مهمتها تقوم في وعيه وتحويله؟
نحتاج هنا إلى تحديد "الوعي المطابق" وربما نكون بذلك قد ابتدأنا من النهاية، لكنها أساس التحديد لأن المسألة تتعلق بمقدرة الماركسية العربية على وعي الواقع، من أجل تحويله، لهذا سأشير باختصار إلى ما اعتقد أنه "الوعي المطابق"، أو الأهداف الأساسية التي فرضت نفسها منذ قرنين والتي كانت في أساس برنامج التحويل الثوري، لكي أوضح ما اعتقد بأنه أساس أزمة الماركسية العربية، المسألة هنا تتحدد في الأهداف التي طرحها ما بات يسمى "عصر النهضة العربي"، حيث طرح الاحتكاك بأوروبا، إنهاض "جثة ميتة" تعيش أكثر أشكال العصور الوسطى انحطاطاً، وكان يعني ذلك تمثل أوروبا ذاتها، وأقصد تحقيق التصنيع كأساس لتأسيس النمط الرأسمالي، لكنه كان يعني كذلك تمثل الفكر الذي تبلور ونشوء الرأسمالية، فكر العقلانية القومية والديمقراطية والعلمانية. وفي هذا الوضع أصبحت مهمات التوحيد القومي، والتحديث الفكري، مهمات جوهرية، لهذا احتلت مسائل فصل الدين عن الدولة، وتأسيس الوعي القومي، وشكل النظام السياسي، مسائل أساسية حكمت فكر النهضة، ولكن أيضاً حكمت "أحلام" النهضويين، و"أحلام" الحركة السياسية التي بدأت في التشكل منذ بداية القرن العشرين. إن قضية تأسيس نمط رأسمالي انطلاقاً من إدخال الصناعة كانت المسألة الأساسية التي فرضت إعادة تأسيس الإيديولوجيا، وكان الفكر البرجوازي قد بلور ثلاث قضايا أساسية أولها العلمانية، حيث أصبح الدين "مسألة شخصية" بعدما كان إيديولوجيا مسيطرة، إيديولوجيا سلطة، وثانيها المسألة القومية وتشكيل الدولة الأمة، عبر تجاوز النزعات الإمبراطورية (ما فوق قومية) والانقسام إلى ملل وطوائف، وكان يعني ذلك تأسيس مفهوم المواطنة، وثالثهما، الديمقراطية، عبر إعادة تشكيل العلاقة بين السلطة والمواطنين. وبالتالي أصبحت هذه القضايا أساس التبشير في عصر النهضة العربي، وأساس بناء الإيديولوجيا الجديدة، المطابقة لتأسيس الصناعة.
هذا الحلم بدأ مع محمد علي باشا بداية القرن التاسع عشر، لكن هزم المشروع نتيجة عبء عالمية الرأسمالية وتدخلها المباشر، مما أدخل مشروع التطور الرأسمالي في أزمة استمرت إلى أواسط القرن العشرين، حيث أصبحت الفئات الوسطى (والريفية خصوصاً) أساس عملية تحويل طالت تدمير البنى القديمة (الإقطاع)، وأسست لمحاولة بناء الصناعة، في إطار مشروع قومي يهدف إلى تحقيق الوحدة العربية. وأنا هنا لست في مجال تقييم كل هذا المسار. لكنني بهدف الإشارة إلى أن تأسيس نمط إنتاج جديد بالاستناد إلى الصناعة كان يعيش أزمة نتيجة عالمية الرأسمالية، حيث فرضت مصلحة الرأسمال، الأمم المتخلفة، تكريس بنية كان قد دمرها في المراكز، وبالتالي فرضت تدمير كل المحاولات التي هدفت إلى تأسيس ما تحقق في المراكز.
هذا السياق كان يشير إلى عجز الرأسمالية عن تحقيق أحلام النهضة، على العكس من ذلك كان يتوضح التحاقها برأسمالية المراكز و"تخصصها" النشاط في قطاع "التجارة.. الخدمات.. المال": أي من القطاع التجاري/المصرفي وابتعادها عن النشاط في الصناعة، مما كان يجعلها تتكيف و"الرؤية السياسية" لذاك الرأسمال، لتتكيف والايديولوجيا القديمة على الضد من أفكار النهضة. هذا الوضع كان يؤسس لأزمات ثلاث عميقاً في الواقع. الأولى تتعلق بأزمة الانتقال من نمط "إقطاعي" متخلف إلى آخر رأسمالي حديث عبر نشوء الصناعة، والثانية، تتعلق بأزمة الصراع الطبقين وخصوصاً التناقض بين الفلاحين والإقطاع في مجتمع يشكل الريف تكوينه الأساسي. والثالثة تتعلق بأزمة السيطرة الاستعمارية وحدود تأثير النمط الرأسمالي العالمي في التكوين المحلي.
ربما نحتاج إلى تحليل عميق لأسباب فشل تحقق التطور الرأسمالي عبر البرجوازية، لكن الواقع كان مسكوناً بأزمة عميقة، وبتناقضات اعمق كانت تحتاج إلى حلول، انقرضت عبر تدخل الفئات الوسطى، لكن بعد عقود من توضح الأزمة، وتفاقم التناقضات، وعبر أدوات كانت تؤشر إلى "قسرية" هذا التدخل (وأقصد الجيش)، الذي كان أداة السلطة وانقلب عليها. لكن هل كان هذا الخيار هو الخيار الوحيد؟
ألمس هنا مسألة "الوعي المطابق" لدى الماركسية العربية، نجد بأن "وعياً زائفاً" كان يسكنها. فإذا كانت قد حاولت منذ تشكلها إلى أواسط الثلاثينات أن ترث فكر النهضة، وأن تبلور مشروعاً يهدف تحقيق الوحدة القومية والاستقلال، والتحديث، وأن تسعى لأن تصبح قيادة لحركة ثورية عربية، فإن قطيعة قد حدثت بعد ذلك أسست لأن تتخلى عن كل ذلك، وأن تتبلور وفق الصيغة التي نعرفها بها، والتي أسميتها "الماركسية الرائجة". هنا يجب أن أشير أولاً إلى أن أزمة التطور الرأسمالي كانت تفتح الأفق لدور الماركسية، لأن تصبح الماركسية خياراً بديلاً، وهذه فكرة تبلورت في الماركسية منذ لينين واستندت إلى تردد وعجز البرجوازية عن تحقيق "ثورتها الديمقراطية"، لكنها استندت أكثر إلى تحليل لطبيعة النمط الرأسمالي العالمي. الذي بعالميته سدّ أفق التطور الرأسمالي، بمعنى الصناعي وليس بمعنى العلاقات. هذه الفكرة كانت مطابقة لواقع متخلف يعيش أزمة التطور الرأسمالي، كما كان الوضع منذ نهاية الحرب الأولى، مع بدء تشكل الحركة الشيوعية العربية. لهذا ومع اختمارها في الثلاثينات في سوريا ولبنان (والمشرق عموماً) حاولت عبر وراثة مشروع النهضة أن تصبح قوة الفعل في تحقيق الاستقلال والوحدة القومية والتطور، ووفق ذلك كانت تتحول إلى حركة واسعة. تستقطب المثقفين والعمال والفلاحين وكل المناضلين من أجل الاستقلال.
عن عام 1937 هو عام القطيعة. حيث أُهملت أفكار عصر النهضة لمصلحة "ماركسية" اقتصادية ضيقة، تراكم تصورها وتصوّر البرجوازية العاجزة. هذه "الماركسية" كانت قد أصبحت هي "الماركسية الشرعية" عالمياً، والتي أسميت على يد ستالين بـ "الماركسية اللينينية". وبالتالي فإذا كانت الماركسية العربية قبل عام 1937 تحاول تأسيس "وعي مطابق"، فإنها بعد ذلك أسست لوعي "مفارق". وسنلتمس ذلك في مستويات أربعة، أولها: المسألة القومية، التي هي في جوهر عملية التطور والمطابق الموضوعي لنشوء الصناعة (البحث عن السوق في إطار قومي)، حيث انقلب النضال "في سبيل الوحدة العربية" إلى التأكيد على تشكل "الأمة السورية"، أي تحوّل التجزئة إلى أساس لنشوء "أمم جديدة" تقطع مع تاريخها، أو تؤسس تاريخاً موهوماً. وثانيها المسألة الزراعية التي كانت جوهر الصراع لأن الفلاحين "هم الأكثرية الساحقة"، حيث انتهى النضال من اجل تصفية النظام الإقطاعي، لمصلحة مطالب مبسطة تتعلق بتحسين وضع الفلاحين عبر تحرير الفلاح السوري من التأخر والبؤس والجهل" (برنامج 1944). وثالثهما تحويل الصراع الطبقي إلى صراع مطلبي عبر التأكيد على حقوق للعمال والفلاحين. ورابعها، وهذا هو أساس المستوى الثالث، التأكيد على التطور هو تطور رأسمالي، مما يوجب الدعم والتحالف مع البرجوازية من اجل ذلك في إطار "نظام جمهوري ديمقراطية صحيح" (البرنامج).
"الماركسية الرائجة" إذن، والمؤسسة على ضوء هيمنة ستالين على الحركة الشيوعية العالمية في مؤتمر الكومنترن سنة 1934، تبلورت في صيغة أسستها "الماركسية السوفياتية" (حسب تسمية الياس مرقص) المتبلورة آنئذ، حيث تهمشت المسألة القومية لمصلحة "الأممية البروليتارية" وأصبحت القومية مفهوم "برجوازي" يثير التعصب والانغلاق. وأصبح تجاوز الإقطاع يفرض انتصار الرأسمالية، وبالتالي أصبح دعم التطور الرأسمالي هو "الهدف". وبالتالي لتتحدد مهمة الحزب في "النضال المطلبي"، الاقتصادي من جهة. وفي النضال من اجل الديمقراطية السياسية من جهة أخرى. وكانت هذه الصيغة تعني "الالتحاق" بالبرجوازية حتى في موقفها المتشابك والإقطاع. كما في موقفها المتردد في مسألة الاستقلال، لتصبح المعبِّر "اليساري" عنها، إنها يسار البرجوازية، شيء شبيه بالاشتراكية الديمقراطية في أوروبا. وإن بشكل أكثر رثاثة، ولكن أيضاً في إطار صيغة عالمية مناهضة للرأسمالية، واقصد العمل في إطار الاتحاد السوفياتي وسياساته العالمية.
هذا الوضع كان يدخل الحركة الشيوعية في أزمة الرأسمالية ذاتها، لأنها لم تختط سياسة بديلة، نتيجة عجزها عن وعي الواقع، الواقع الذي كان يشير إلى استحالة التطور الرأسمالي، ويفتح الأفق لخيار بديل كان على هذه الحركة أن تقوده. كما فعلت الحركة الشيوعية في روسيا (ثورة أكتوبر) والصين. وفيتنام وكوبا وكوريا و.. الخ، مما كان يعمق من الأزمة في الواقع، ويعمق من التناقضات فيه. لقد انقادت الحركة الشيوعية لمستنقع البرجوازية، وغرقت في أزمتها، ولما كان الواقع لا يحتمل التخثر كثيراً، فقد كان من الضروري أن تحل التناقضات في صيغة ما، لأن التراكم فيها يوصل إلى لحظة التفجر، كما يؤسس لنشوء قوى يعمل على حلها. سنلاحظ هنا بأن تذبذب الحركة الشيوعية في الموقف من الاستعمار ومن الإقطاع منذ عام 1937، ورفضها للمسألة القومية عبر تقوقعها في إطار قطري، قد هيأ لنشوء حركة جديدة تستند إلى هذه المسائل بالذات، الوحدة والحرية والاشتراكية*، حيث كان عمادها النضال الأشد ضد الاستعمار، وتحويل الوحدة القومية إلى مطلق، وتصفية الإقطاع والتصنيع. لتصبح القوة الأكبر عبر سنوات قليلة، ولتقود عملية تحوّل هدف بالأساس إلى تصفية الإقطاع (قوانين الإصلاح الزراعي) والبدء في التصنيع، كما طمح لتحقيق الوحدة العربية (الوحدة المصرية السورية سنة 1958)، أشرت سابقاً إلى أن هذه الحركة استندت إلى الفئات الوسطى، وتحديداً الفلاحين، لهذا فقد عبّرت عن مشروع هؤلاء وعن مطامحهم. وهذا ما أسس لما نعيشه اليوم، حيث كان وعيها مطابقاً في النفي (إي إلى إلغاء المجتمع القديم، كل التناقض في الريف) ولم يكن كذلك في التأسيس لأن مصالحها كانت أعلى من مصلحة التقدم، لهذا فشلت هنا، أي في التصنيع (وإن كانت حققت بعض التقدم) في تحقيق الوحدة القومية، فهما أساس التقدم.
إن تشكل حزب البعث ونشوء الناصرية هما نتاج أزمة التطور الرأسمالي من جهة، والتحاق الحركة الشيوعية بها من جهة أخرى. ولقد أفضت سيطرتها على السلطة، والتحولات التي حققاها، خصوصاً فيما يتعلق بإنهاء التناقض الأساسي في الريف، وتمدين المجتمع عبر التصنيع والتحديث، إلى تهميش إمكانية نشوء بديل، لأن هذه العملية فتحت الأفق لإعادة تأسيس التناقضات والخيارات عبر عقود من الزمن. فقد انحل التناقض الرئيسي، وأصبح من الضروري انتظار تشكل تناقض رئيسي جديد، وأقصد هنا أن زمناً سوف يمضي قبل توضيح عجزهما عن تحقيق أساسي التقدم (الوحدة القومية والتصنيع)، وقبل تبلور التناقضات من جديد بين الفئات التي غدت تمتلك الثروة، وباقي المجتمع.
الحركة الشيوعية أُجبرت على الالتحاق بهذا المشروع، رغم أنها في النهاية تحولت إلى تابع له. فقد كانت ضد "تطرف" الفئات الوسطى في موقفها في الإقطاع والرأسمالية، وضد "أحلامها" القومية. ولكنها حينما انتصرت هذه الفئات، اكتشفت أنها تحقق في الواقع أهداف أكبر مما كانت تطمح. فتأسست أوهام بأن هذه الفئات تحقق الاشتراكية، وهذا ما بدأ "العلماء السوفيات" التنظير له تحت تعبير ملتبس، أقصد "التطور اللا رأسمالي". أو "التوجه الاشتراكي"، لتتحول إلى ملحق بالسلطة الجديدة تبرر سياساتها، ولقد تجاوزت هنا "سياستها الليبرالية" التي كانت جزءاً مكوناً من برنامجها (الحريات الديمقراطية، حرية الضمير، والكلام والصحافة، والنشر والاجتماع والجمعيات والأحزاب والنقابات وحرية العبادة واحترام عقائد الناس الدينية) البرنامج الفقرة 7. حيث توهمت أنها تتماهى و"الديمقراطيات الشعبية"، في طريق ضروري نحو الاشتراكية. إن تحول التكوين الطبقي، والتقدم المتحقق همش إذن الحركة الشيوعية، ووضعها في حالة من اللا توازن. لأن منطقها القديم سقط مع سقوط أساسه، وكان الوضع الجديد يمزقها، لهذا انساقت وراء "تخريجة" السوفيات حول "التطور اللارأسمالي"، لكن هزيمة حزيران، ثم التحولات التي حدثت في الوطن العربي بعد سنة 1970، أسست لأن يحاول "إعادة الروح". عبر محاولة تأسيس وعي مطابق، وهو ما كان يشبه العودة إلى مرحلة ما قبل 1937، لكن أعتقد بأن المحاولة فشلت، فدخلت الحركة في مرحلة الاتفاك والاندثار، رغم استمرارها عقود ثلاث منذئذ، لكن سنلاحظ بأن عودة إلى الماضي قد تحققت في صيغة ما، حيث استعيدت فكرة "التطور البرجوازي"، في البلدان التي انهارت فيها تجربة "رأسمالية الدولة"، أو طردت الأحزاب الشيوعية من "جنتها".
لكن توضُّح أزمة سلطة الفئات الوسطى، وأيضاً أزمة الحركة الشيوعية القديمة، بعد عام 1970، ومع وهج "الثورة الثقافية" في الصين، و"الحرب الثورية" في فيتنام، نشأت "ماركسية" أخرى، نتيجة تمركس قطاعات من القوميين بالأساس، لكن سنلاحظ بان رفض "الوعي المطابق" القومي (وأقصد مشروع الفئات الوسطى القومي) أفضى إلى الزيغان عن تسيس وعي مطابق، عبر العودة لفكرة "الأمم العربية"، أو عدم تشكل أمة عربية، وبالتالي التأسيس القطري من جديد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى عبر القفز إلى "الاشتراكية" انطلاقاً من أن ما تحقق للثورة البرجوازية، وبالتالي فإن الاشتراكية غدت الهدف الراهن، لتأسس وعي زائف ربما كان عبّر عن فئات وسطى متمردة، كفرت بالمسألة القومية بعد هزيمة حزيران وتحولات سنة 1970، وانقلبت على الحركة الشيوعية القديمة بالتأكيد على ضرورة الثورة الاشتراكية. لقد تجاوزت "التعصب القومي" لمصلحة "الأممية البروليتارية" التي كانت تعني واقعياً، الكوزموبوليتية (وهنا كانت عودة لبكداش، لكن عبر أفاناسيف والماركسية السوفياتية)، كما تجاوزت إصلاحية الحركة الشيوعية القديمة لمصلحة الثورة، وبالتحديد: الثورة الاشتراكية.
أقصد هنا التوضيح بأن محاولة إعادة تأسيس الماركسية في الوطن العربي، والتي عُرفت تحت تعبيرك اليسار الجديد، عن إعادة التأسيس هذه لم تستطع تأسيس وعي مطابق، ولأنها أتت في مرحلة كان الصراع الطبقي لم يتعمق بعد، وكان الصراع الوطني في مرحلة انحدار، فقد "تلاشت" بسرعة، دون أن تترك ما هو هام.
لقد بدأت من مسألة مقاربة الواقع، وعبر مفهوم "الوعي المطابق" الذي يربط عادة بياسين الحافظ، وحاولت أن أشير إلى الزيغان عن الأهداف الأساسية، التي تشكل جوهر أي وعي مطابق، والآن أطرح السؤال: لماذا لم تستطع الحركة الشيوعية القديمة والجديدة أن تؤسس وعياً مطابقاً؟. لماذا لم تستطع وعي الواقع؟ وبالتالي لماذا قطعت مع عصر النهضة؟.
ندخل هنا في مسألة الماركسية ذاتها، ندخل في ماهية الماركسية وكيف فهمت. بمعنى أننا ندخل في العلاقة بين الفئات الماركسية والماركسية ذاتها، حيث تحولت من "رؤية"، منهجية في البحث إلى نصّ يحفظ، فأصبح مضللاً، لأنه يحجب الواقع، بمعنى أن الماركسية انقلبت من أداة تسهم في وعي الواقع إلى أداة تعمية له. وبهذا سيكون التصور السياسي مشوشاً، ويكون التكتيك كذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
* سنلاحظ بأن تأسيس البعث استند بالأساس إلى نقد الحزب الشيوعي السوري اللبناني في مسألتين هامتين: الموقف من الوحدة العربية، والموقف من الاستعمار الفرنسي بعد سيطرة الجبهة الشعبية على السلطة في فرنسا.
منتدى اليسار للحوار
-2-
اليسار غائب عن موقعه(1)...!!؟؟
أي حركة سياسية .. أي حزب نريد؟؟
منيف ملحم
إن عنوان هذه الندوة، يفصحُ عن أزمة قائمة في موقع اليسار، وباعتقادي أن لهذه الأزمة، بعدها العالمي، كما المحلي.. وأن هناك علاقة، بين البعدين. وبشكل خاص مدى تأثير العالمي على المحلي. إلا أن مواقعاً أخرى لليسار في العالم تبين أن الأزمة لدينا مركبة وأن البعد المحلي يحمل أهمية خاصة واستثنائية. تدخل ضمنه عوامل محلية خاصة بساحتنا العربية والسورية.
لذلك فإن دراستنا. وهي لا تهمل ما للعامل العالمي من دور في هذه الأزمة. فإنها ستركز اهتمامها على العوامل المحلية.
أزمة ماركسية، أم أزمة الماركسية؟؟
ترى الماركسية أن الفكر هو نتاج الواقع الموضوعي وانعكاس له (لكن من السذاجة تصور الأمر وكأنه انعكاس صورة في مرآة) وأن تطور الواقع يفضي إلى تطور الفكر الذي يقوم بدوره وبعد أن يتحول إلى فعالية ببشرية إلى تطوير الواقع.. وهي علاقة جدلية مفتوحة ما دام الإنسان يعيش في هذا الكون.
والماركسية التي كانت نتاج نشوء وتطور الرأسمالية – لقد خصص ماركس معظم جهده وكتاباته في تسليط الضوء على طريقة عمل الرأسمالية محللاً قوانينها وآليات عملها وذلك في كتابه الشهير نقد الاقتصاد السياسي – رأس المال - والصراع الطبقي. الذي تبلور في أنقى أشكاله في ظل الرأسمالية. ستظل حية ومتطورة مادامت الرأسمالية حية ومتطورة.
إن الماركسية ذات بعد طبقي وإنساني. تسعى إلى تدمير الرأسمالية كنظام انتاج. والانتقال إلى نظام إنتاج نسميه حتى الآن نظاماً اشتراكياً.
بموت الرأسمالية سوف يموت البعد الطبقي في الماركسية ويبقى جانبها او بعدها الإنساني. فالإنسان هو الغاية والهدف بالنسبة للماركسية.
إن ماركس الذي حلل طريقة عمل الرأسمالية. استنتج حتمية موتها. وهي حتمية تاريخية جدلية مفتوحة. لا حتمية قدرية إلهية ولا حتمية ميكانيكية. وذلك باعتبار أن هناك فعالية بشرية قائمة فيها. لذلك قال إما اشتراكية وإما همجية.
إن التاريخ لا يقلل "عقله" فيخلق نمط إنتاج ليستمر في الحياة قرن أو قرنين. لذلك نقول لأولئك الذين ملّوا الانتظار بعد ماركس. لم يحن الوقت كفاية بعد. على الرغم من أن الرأسمالية ونحن ندخل الألف الثالثة تعاني من أشد تناقض بين قوى الإنتاج المتطورة والعملاقة – والتي طورتها الرأسمالية ذاتها – وبين علاقات الانتاج القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. وهي علاقة تكبح إمكانية الاستفادة من هذا التطور العملاق لـ 80% من الجنس البشري. وتحصر الإفادة من هذا التطور بـ 20% من سكان الأرض. كما أنها وباستخدامها اللاعقلاني لموارد الأرض. تدمر بلا رحمة هذا الكوكب الجميل – ثقب الأوزون، النفايات الذرية، استهلاك الطاقة للأعمال العسكرية، نفقات الفضاء للأعمال العسكرية.. الخ -.
* * *
إن التجربة التاريخية تعلمنا «أن هناك فترات في التاريخ يحدث فيها تضخم مفرط في الممارسة وضمور شديد في الفكر (وهو ما حصل في النصف الثاني من القرن الماضي). وقد يحصل أن تكون الممارسة عدوة للفكر أحياناً. وقد يتأذى الفكر أحياناً من صلاته بالممارسة وهذا هو الجدل في أصفى أشكاله(2)». فالفكر لا يمكن أن يوجد من حيث الأساس ويتطور ويغتني إلا من خلال الممارسة وصلاته معها. كما أن الممارسة لا تستطيع على المدى الطويل أن تتجاهل الفكر - النظرية التي انبثقت منها-. «لكن هناك فترات في التاريخ ومراحل انتقالية مؤقتة أو طويلة بما فيها الكفاية يقوم توتر لا حل له بين النظرية والممارسة (وهو شيء نمر به منذ عقود) إن هذا التوتر يلحق الأذى بكل البنيان الفكري لماركس»(3).
لذلك فإن حل التوتر القائم بين النظرية والممارسة لا يتأتى من الانكباب على دراسة ونقد النظرية بغية تخليصها من عثراتها التي خلقها تطور الواقع ومن ثم العودة إلى الممارسة. كما يعتقد البعض. كما أن تضخماً مفرطاً في الممارسة مع إدارة الظهر للنظرية وكأن شيء لم يكن ليس حلاً. فكلاهما يلحق الأذى بالنظرية والممارسة لذلك كان لا بد من العمل على المسارين معاً.
إذا كان الاقتصاد السياسي الإنكليزي والاشتراكي الطوباوية والفلسفة الألمانية قد شكلت الأساس الذي قامت عليه الماركسية فإن ماركس «قد أبدع منظومة فكرية تجاوزت في الكثير من الأحيان احتياجات الحركة العمالية التي أراد لكتاباته أن تخدمها»(4) لذلك فإن تبسيطاً قد ساد النظرية الماركسية وأخذ شكل تعليم مدرسي في بعض المراحل من النضال العمالي ولضرورات هذا النضال. ولكن هذا شيء ومحاولة إلباس الماركسية لباساً ليس لها (نظرية لاشتراكية في بلد متخلف) أو تفصيل الماركسية على قد التجارب التي مرت بها الحركة، والثورات، والضرورات، التي أحاطت بتلك الثورات والتجارب شيء آخر.
إن ماركس رأى شيخوخة بعض النصوص والمفاهيم الماركسية خلال عقد أو عدة عقود من التطور والتجربة التاريخية. فكيف لنا أن لا نرى شيخوخة بعض المفاهيم والصيغ والنصوص بعد قرن ونصف من التطور العاصف والتجربة التاريخية الغنية للحركة العمالية والاشتراكية. إن التطور الذي شهده العالم في الربع الأخير من القرن الماضي وعلى جميع الأصعدة قد يكون عادل كل ما أبدعته البشرية منذ ظهورها على هذا الكوكب. إن هذا التطور قد ترافق مع جمود نظري على صعيد الماركسية مرده هيمنة الماركسية الرسمية العامية المشوهة والمبتذلة. وتعفن التجارب "الاشتراكية" التي حولت الماركسية إلى نظرية لخدمة سياسة البيروقراطيات الحاكمة.
لذلك فإن مهاماً كبيرة تقع على عاتق الماركسيين الثوريين تتمثل في:
1- القيام بفرز حقيقي بين الماركسية الثورية والماركسية العامية المبتذلة والمشوهة
إن سيطرة الستالينية على الحركة الشيوعية والعمالية العالمية لأكثر من نصف قرن وإخفاق الثورات في البلدان الصناعية الكبرى في أوربا والتي لعبت فيها الستالينية دوراً كبيراً سواءً بسياستها الرامية إلى توظيف المبدأ الأممي في الماركسية لخدمة الدولة الستالينية بدلاً من توظيفها لخدمة الثورة العالمية أو بسبب المثال المشوه والفظ للاشتراكية التي قدمته الدولة الستالينية لعمال الغرب الرأسمالي.
هذا الإخفاق عاد فلعب دوراً كبيراً في استمرار الستالينية وسيطرتها على الحركة العمالية والشيوعية.
إن سيطرة الستالينية ولد مفاهيم وأطروحات ومبادئ وسياسات اعتبرت جزءاً من الماركسية أو تطبيقاً لها (الاشتراكية في بلد واحد، الاشتراكية في بلد متخلف – اليمن، أثيوبيا-، احتقار الديموقراطية البورجوازية، إعدام الديمقراطية الاشتراكية، إعطاء صورة مشوهة وفظة عن ديكتاتورية البروليتاريا، تشويه الموقف الأممي.. الخ). كما أوقع تيارات ماركسية ثورية في مطبات الستالينية بين الحين والآخر.
2- الوقوف على أرض الماركسية الثورية بمنهجها المادي الجدلي والخروج من أسر النص بدلاً من الوقوف عليه.
اعتادت الكتابات الماركسية في المرحلة الماضية سواء في الدراسة أو التحليل لأي مسألة. اعتادت اللجوء إلى الإكثار من الاستشهاد بالنص الماركسي سواء أكان النص لماركس أو لينين أو تروتسكي او ستالين وذلك دعماً لصحة التحليل أو الدراسة أو الموقف وكلما كانت النصوص المستشهد بها أكثر كلما بدى الرأي أكثر صحة. وهو شيء شابه إلى حد كبير استشهاد المؤمنين بالنص الإلهي أو أحاديث الرسل.
إن الطريقة التي تم التعامل بها مع النص. جعلت للنص صفة القداسة وأدخلت الماركسيين في وعي ديني إيماني.
لقد استخدم ماركس منهجه المادي الجدلي لاستنباط منظومة فكرية واسعة من المفاهيم والقيم والمبادئ والنظريات (الدولة، التشكيلة، البونابرتية.. الخ) وبنفس الطريقة يمكننا استخدام هذا المنهج لتحليل واقعنا واحتياجاتنا دون العودة وفي كل لحظة إلى النص أو القياس.
3- النظر إلى منهج ماركس المادي الجدلي باعتباره أفضل وأرقى ما أنتجه الفكر البشري حتى الآن بدلاً من النظر إليه كونه كلي القدرة "فيه شفاءً للناس" مع إمكانية استخدام مناهج علوم أخرى مثل علم التحليل النفسي، (علم نفس الطبقة، علم نفس الجماهير، .. الخ) خاصة أن هناك كتابات قيمة لكتاب مثل رايش وفروم على هذا الصعيد.
4- إعادة النظر ببعض الصيغ والمفاهيم النظرية مثل (الطبقة، الدولة، ديكتاتورية البروليتاريا.. الخ) والتي يفترض تطور الواقع إعادة النظر فيها.
5- إنتاج نظرية برنامجية للتغير والثورة على صعيد واقعنا العربي والسوري بإطار البرنامج الأممي.
اليسار . الدور التاريخي
الحاجة والضرورة
إن المغرمين بالديمقراطية البورجوازية ينسون أن مفاهيم مثل الحرية، العدالة، المساواة، لم تترسخ كقيم إنسانية وتغتني وتأخذ مضمونها الذي هو عليه الآن. لولا الحضور القوي والمشاركة الفعالة والنشطة لأسلافنا الديمقراطيين الثوريين في أوروبا قبل أن يتبلور التيار الاشتراكي العلمي على يد ماركس وأنجلز. وإن الحركة الاشتراكية سواءً في أيام ماركس أو بعده هي التي استطاعت أن تعطي الشكل الديمقراطي لحكم البورجوازية هذا المحتوى من المضامين التي نطمح اليوم نحن في سوريا للحصول عليها.*
فالديمقراطية بمضامينها وأشكالها الحالية هي حصيلة تطور تاريخي طويل للبشرية منذ جمهورية روما والجمهوريات اليونانية القديمة وحتى الآن. وهي نتاج مصلحة رأس المال باعتبارها أقل أشكال الحكم كلفةً للبورجوازية وتراكم نضالات الطبقة العاملة العالمية وفي مقدمتها القوى الماركسية.
كما ساهم انتصار ثورة أكتوبر في توسيع وتعزيز هذه الديمقراطية في البلدان الرأسمالية. وخاصة بعد هزيمة الفاشية في الحرب العالمية بالثانية.
إن دولة الرفاه التي قامت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وبشكل خاص في الستينات والسبعينات من القرن الماضي نهضت ليس على تطور القوى المنتجة في ظل الرأسمالية فقط (لسنا بصدد الحديث الآن عن الدور الذي لعبه استغلال المستعمرات ونهب الشعوب) وإنما كان لليسار الأوروبي والعالمي بكل تلاوينه دوراً أساسياً في تحقيق هذه المكاسب والإنجازات التي نعمت بها شعوب تلك البلدان. ولنا أن نشهد اليوم وفي ظل تراجع وضعف حركة اليسار كيف تحاول الرأسمالية التراجع عما قدمته وانتزاع المكاسب التي ظفرت بها شعوب تلك البلدان، وما حركات الاحتجاج التي تقوم بها الشبيبة في سياتل وبراغ وغيرها (وهي حركات في معظمها من اليسار) إلا كفاح من أجل منع الرأسمالية من انتزاع هذه المكاسب في ظل النظام العالمي الجديد والعولمة الامبريالية.
إن كل ذلك يجعلنا نعتقد أن الحاجة إلى وجود حركة لليسار في أي ساحة مسألة لا يمكن الاستغناء عنها. ليس فقط من أجل الكفاح للإطاحة بالنظام الرأسمالي. وإنما من أجل كبح وحشية الرأسمالية وتخفيف آلام البشرية في مسيرتها على طريق الانتقال من "عالم الضرورة إلى عالم الحرية".
إن الحاجة إلى حركة لليسار هي حاجة دائمة، ولكن كما أنه يمكن أن تمر لحظات في التاريخ تكون فيها الحاجة إلى حركة لليسار ضرورة تاريخية لا بد منها ويتوقف على وجودها انعطافات في العملية التاريخية تؤثر ليس على مستقبل الساحة المعنية بعينها فحسب لعقود طويلة وإنما على مستقبل الإنسانية جمعاء. فإنه يمكن أن تمر لحظات في التاريخ يكون فيها وجود أو عدم وجود هذه الحركة سيان.
ولكن بما أن حركة اليسار لا يمكن بناؤها في كل لحظة وعند الطلب. توجب العمل على الشروع في بنائها عندما يكون الوضع (الذاتي والموضوعي) يسمح بذلك ومن هنا تأتي حاجتنا إلى الشروع ببناء حركة لليسار السوري. كجزء من اليسار العربي والعالمي.
لماذا اليسار غائب؟؟
إن من أبرز السمات التي وسمت ساحتنا السورية وميزتها عن ساحات كثيرة عربية وعالمية هو السيطرة المطلقة للخط الستاليني السوفييتي منذ نشوءه وحتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي وغياب أي تيارات سياسية أخرى طوال نصف قرن (ماوية، تروتسكية، يسار جديد.. الخ) هذا الغياب خلق نوع من الرضى لدى قادة الحزب الشيوعي الرسمي. كما غيب أي تنافس أو صراع سياسي – نظري. وبالرغم من ذلك. فقد استطاع الحزب الشيوعي السوري. ملء الساحة السياسية لليسار لأكثر من نصف قرن×.
على الرغم من أنه مر بفترات من النشاط العلني والشرعي كما مر بفترات قصيرة من الملاحقة والمنع. مع نهاية عقد الستينات وبداية عقد السبعينات من القرن الماضي عرف الحزب أزمة عميقة نتج عنها حدثان هامان في مسيرته.
الأول: انضمامه إلى تحالف مع حزب البعث الحاكم بما عرف الجبهة الوطنية التقدمية وهو ما شكل مقتله وسقوطه النهائي.
الثاني: انشقاق حقيقي داخل الحزب أسفر عنه تشكيل ما عرف لاحقاً الحزب الشيوعي المكتب السياسي.
إن الجناح المنشق حاول بعد خروجه من جبهة النظام أن يملأ الفراغ في موقع اليسار وقد نجح في البداية في تشكيل عامل جذب واستقطاب للكثير من المنخرطين حديثاً في الفكر الماركسي. خاصة وان هذا الفكر قد انتشر انتشاراً واسعاً في صفوف الشبيبة بعد هزيمة حزيران وصعود المقاومة الفلسطينية وتمركس بعض أجنحتها. وسقوط برامج البورجوازية الصغيرة الثورية في مصر وسوريا. ولكن مع نهاية السبعينات كان الحزب قد فقد ثلثي أعضاءه ولم يعد يشكل عامل جذب للماركسيين الجدد بعد أن أخذ يبتعد عن الماركسية ويتبنى أيديولوجيا شعبوية هي خليط من الدين والقومية والماركسية والليبرالية.
إن الأزمة داخل الحزب الشيوعي التي بدأت في نهاية الستينات وما أسفر عنها ترافقت مع ولادة ظاهرة الحلقات الماركسية التي أفرزت عدة منظمات ماركسية و(المنظمة الشيوعية العربية، اتحاد الشغيلة، النهوض، حزب العمال الشيوعي الفلسطيني، اتحاد الشيوعيين ..الخ) كان من أبرزها رابطة العمل الشيوعي التي تأسست عام 1976 وعرفت بعد عام 1981 باسم حزب العمل الشيوعي. إن حزب العمل الشيوعي، الذي انطلق من مشروعية وجود فصيل شيوعي ثوري، على يسار حركة شيوعية متكونة تاريخياً، ومعترف بها من المجمع الكنسي في موسكو، حقق ما طمح إلى بناؤه فقد كان حزب العمل الشيوعي ومنذ تأسيسه وحتى توقف نشاطه في عام 1992 على يسار الحركة الشيوعية الرسمية بكل انشقاقاتها وتلاوينها. واستطاع وعبر عقد ونصف تقريباً ملء الفراغ في موقع اليسار الذي تركه الحزب الشيوعي الرسمي سواء منه الواقع تحت هيمنة النظام الديكتاتوري، أو ذلك الذي وقف في المعارضة.
ولكن الوقوع على يسار الحركة الرسمية مع البقاء على أرضها شيء والوقوع على يسارها من خارج أرضها شيء آخر.
فرغم المحاولات الأولى التي بذلها الجيل الأول من الحزب للخروج من أرض الماركسية الرسمية وأسرها وعلى الرغم من تحقيق بعض النجاحات في كسر هذا الطوق. إلا أنه لم يستطع بالعام الخروج من هذه الأرض. بل إنه مع مرور الزمن أخذ يقترب أكثر فأكثر من هذه الماركسية الرسمية العامية والمشوهة وهو شيء أصبح مدعاةً للاعتزاز والفخر عند بعض قادة الحزب (بدأنا في حزب العمل بعيدين عن موسكو وها نحن مع الزمن نقترب شيئاً فشيئاً دون أن نتخلى عن نقدنا).
إن حزب العمل الشيوعي الذي ملأ موقع اليسار في نهاية السبعينات والثمانينات من القرن الماضي جوبه بحملات قمع دائمة ومستمرة من قبل الديكتاتورية تميزت بأشكال وطرائق لم تعرفها الساحة من قبل (اعتقال الأصدقاء، قارئي مطبوعاته، الرهائن، أعداد كبيرة من النساء، شدة وأنواع من التعذيب "الحديثة")
مع منتصف الثمانينات كان واضحاً بأن ميزان القوى يميل باتجاه تصفية الحزب. ومع بداية التسعينات كانت الديكتاتورية قد حطمت منظمات الحزب أو فككتها. وبلغ عدد المعتقلين بتهمة الانتماء للحزب سواء منهم من استمر لسنوات طويلة أو لفترات قصيرة بضعة آلاف معتقل. كان من بينهم مئات النساء.
بالرغم من كل هذا ظلت الساحة السورية تشعر بظلال حزب العمل الشيوعي تملئ ساحة اليسار سواء أكان معتقلاً في الأقبية والمعتقلات أو كان واقفاً أمام محكمة أمن الدولة العليا.
إن القمع والاعتقالات من العوامل الأساسية في تصفية حزب العمل الشيوعي. ولكنها لم تكن العامل الأساسي الوحيد. إذ أن القمع والاعتقال لم يمنع مناضلي الحزب من ممارسة نشاطهم السياسي والنظري والتنظيمي داخل المعتقلات لمدة عقد كامل تقريباً. وكأنهم في استراحة محارب. ولكن مع بداية التسعينات ومع تفكك "المنظومة" ومن ثم انهيارها والتطورات الدولية التي أعقبت هذا الانهيار ورافقته (حرب الخليج الثانية) شكلت مقتلاً حقيقياً للحزب ليس على صعيد تفكك هيئاته الحزبية ونشاطه السياسي – النظري داخل المعتقلات بل على صعيد انهيار القاعدة النظرية – السياسية التي استند إليها الحزب طوال وجوده وأعني الماركسية الرسمية.
لسنا هنا بصدد ذكر التيارات والآراء التي طرحت عقب الانهيار. فقد تكون تغيرت بعد انتهاء الزلزال وتنسم حاملوها روائح الحرية.
* * *
إن عقد الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي شهد تحولات نوعية في تركيب البنية الطبقية ليس على صعيد سوريا فحسب بل على الصعيد العالمي. كان من أبرزها انهيار الطبقة الوسطى في كثير من المجتمعات وبداية تمركز وتركز جديد للثروة من جانب وتركز وتمركز جديد للفقر من جانب آخر.
وبانهيار الطبقة الوسطى فقد اليسار واحدة من أكثر طبقات المجتمع حراكاً سياسياً. وهي الطبقة التي منحت اليسار مفكريه وقوته التنظيمية في ساحة مثل ساحتنا وقد ترافق هذا الانهيار للطبقة الوسطى مع انهيار التجربة السوفيتية. مما خلق تشويش كبير وعدم توازن نظري سياسي في وعي هذه الطبقة وهو شيء ليس مستغرباً عليها في لحظات الهزائم والانكسارات.
إن الوضع الذي وجدت نفسها فيه والرعب الذي تعيشه من وضعها المعاشي. دفع قسماً? منها إلى اليأس والقنوط والانكفاء عن أي نشاط سياسي والركض ليل نهار وراء تأمين وضع مادي يحفظ لها ماء وجهها. كما دفع بقسم آخر إلى الانحياز لمعسكر الرأسمال عالمياً ومحلياً نظرياً ونشاطاً سياسياً آملاً أن يستطيع بتسخير إمكانياته الفكرية تحسمين وضعه المادي كخادم لرأس المال. وهي الفئة المصنفة ضمن شريحة المثقفين.
أما ما تبقى منها – الطبقة الوسطى – فهي تنتظر تطور الحركة السياسية واتجاهاتها أو تساهم بشكل أو بآخر بصنع هذه الحركة.
إن مهمتنا إعادة الثقة بالنفس لهذه الفئات وذلك من خلال إعادة التأسيس "لوعي مطابق" لاحتياجات ساحتنا والسير في مقدمة الحركة أياً كانت الصعوبات. لكن دون فروسية أو تشبيح أو خلق أوهام. وبنفس الوقت الصراع النظري - السياسي مع المروجين لفكر البورجوازية أو الداعين إلى اعتبار الديمقراطية البورجوازية هي غاية ونهاية التاريخ أو "أنه ليس هناك في عصرنا الراهنة وفي بلاد الأرض كافة، أي مبدأ سياسي منافس لمبدأ المطابقة" البورجوازي.
مسألة راهنة
إن المسائل المطروحة على ساحتنا السورية كثيرة ومتنوعة ومعقدة. وتأتي اليوم في مقدمتها. ومفتاحاً لها مسألة الحريات والديمقراطية وبناء دولة حديثة. وحتى إذا كانت هذه المسألة مطروحة على أوسع قطاعات من أبناء الوطن فإن القوى اليسارية ستلعب دوراً أساسياً في تجذير المسألة ودفعها بقدر ما تستطيع (ومن مصلحتها فعل ذلك أكثر من الجميع) للوصول بها إلى نهاياتها.
ولكن عندما نقول أن مسألة الديمقراطية والحريات هي المسألة المركزية في نضالنا ونضال أكثرية أبناء الوطن. لا يعني أن نبني حركتنا السياسية أو نشاطنا على مقاس المسألة المطروحة الراهنة فقط.
اليوم المسألة الديمقراطية نبني حركة ديمقراطية غداً المسألة الوطنية نبني حركة وطنية بعد غدٍ المسألة الاجتماعية.. وهكذا..
إن هذا هو اللعب بعينه بقوى المجتمع والشعب من جهة والعمل على أساس الفعل ورد الفعل من جهة أخرى. وترك فعالية الناس بدون غائية محددة وهو الشيء الذي تصفق له البورجوازية طرباً.
إن الديمقراطية والبورجوازية منها الآن تحديداً هي هدف نضالنا. علينا تحقيق هذا الإنجاز الذي حققته كثير من الشعوب قبلنا. وهضمه جيداً من أجل الانتقال عبره ومن خلاله وبه إلى أهداف أخرى. اجتماعية – اقتصادية – سياسية – وطنية. وبالتالي فإن الديمقراطية ليست غاية التاريخ وإنما الإنسان هو الغاية والإنسان بحاجة إلى الديمقراطية. ولكن معها بحاجة إلى أشياء أخرى. وكما أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان فكذلك ليس بالديمقراطية وحدها يحيا الإنسان.
إن ما يميز حركة اليسار عن غيرها من الحركات والقوى السياسية الأخرى هو أنها تأخذ بعين الاعتبار في نضالها مصالح أكثرية أبناء الوطن بمجملها. الاقتصادية – السياسية – الوطنية – القومية – الأممية – وتدمجها في وحدة جدلية دائمة. واليسار وحده القادر على حل بعض القضايا والمسائل المستعصية في واقعنا العربي من مثل المسألة القومية سواء بشقها الداعي إلى حل الوحدة القومية للشعب العربي أو بشقها الداعي إلى التعامل مع القوميات والشعوب الأخرى غير العربية التي تعيش معنا وبين ظهرانينا.
نحو إعادة تأسيس لحركة اليسار الماركسي الثوري
إن الدعوة لاستنهاض حزب العمل الشيوعي بالشكل والمحتوى التي طُرحت في ورقة عمل الرفيق فاتح تعطي انطباعاً بأن القمع هو العامل الذي عطل نشاط حزب العمل وبالتالي منعه من إجراء مراجعة نقدية شاملة لمجمل خط الحزب من خلال المؤتمرات. وبأن المرحلة الراهنة تعطي إمكانية القيام بهذه المراجعة والتي لا تحتاج أكثر من إجراء بعض التعديلات على الموضوعات النظرية – السياسية.
بينّا في سياق هذه الدراسة أن حزب العمل لم يستطع الخروج من الأرضية التي وقفت عليها الحركة الشيوعية الرسمية وهي أرضية الماركسية العامية والمشوهة (موقف الحزب من الدولة السوفيتية، الموقف الأممي، الموقف من البورجوازية الصغيرة الثورية، .. الخ). وأن مياه النهر التي سبحنا فيها (مياه نهر حزب العمل الشيوعي) في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات كانت مياه عكرة بفعل طغيان الستالينية وإن كانت على الصعيد المحلي هي الأقل تلوثاً بين كل التيارات والأحزاب الأخرى لذلك فإنها اليوم لم تعد صالحة للسباحة وإنما يتطلب الأمر وبعد عشرين عاماً على تأسيس الحزب ليس فقط تفجير مياه جديدة لتصب في هذا النهر وإنما إعادة بناء مجرى جديد.
المطلوب اليوم إعادة تأسيس حركة لليسار الماركسي الثوري يساهم فيها كل من له مصلحة أو يرى ضرورة خلق هذه الحركة وباعتقادي سيكون لمناضلي حزب العمل الشيوعي دوراً مركزياً وفعالاً في تأسيس هذه الحركة. وهذه العملية لا يربطها رابط مع مقولة جدل بناء الحزب الذي يطرحها الرفيق فاتح فهذه الأحزاب التي يراهن عليها غير جديرة ببناء حركة لليسار إلى الحد الذي يمكن فيه أن تختفي دون أن يؤثر ذلك على مسار حركة اليسار في سوريا.
إن المطلوب فتح حوار واسع وعميق حول قضايا نظرية سياسية برنامجية، حوار علني شفهي ومكتوب يشارك فيه الجميع كل حسب إمكانياته على طريق تشكيل الهياكل التنظيمية والبرنامجية لهذه الحركة.
منيف ملحم
4/2/2001
--------------------------------------------------------------------------------
(1) المقصود بكلمة اليسار في هذه الدراسة وأينما وردت أي حركة سياسية تقف على أرض الماركسية.
(2) دويتشر الإنسان الاشتراكي.
(3) دويتشر نفس المصدر.
(4) نفس المصدر.
* بسبب تسمية الثورة الديمقراطية في الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر باسم الثورة البورجوازية في المصطلحات الماركسية ساد اعتقاد خاطئ أو تبسيطي على الأقل بأن الديمقراطية من إنجاز البورجوازية وبذلك لا يتم التمييز بين من قام بالثورة وبين من استفاد منها.. أنظر عزمي بشاره حول المجتمع المدني.
× يجب التمييز بين ملء الساحة السياسي وصحة وعدم صحة الخط النظري – السياسي أو ما يعرف بخلق وعي مطابق.
منتدى اليسار للحوار
- 9 -
الديمقراطية ما بين المجتمع المدني
- والدولة الحديثة -
منيف ملحم
احتل هذا المثلث، طوال عامٍ مضى الموقع الرئيس في حوارات وكتابات، المفكرين والكتاب والمثقفين والساسة في سوريا، وقد شملت المعارك الكلامية، التي دارت، عبر المنتديات والصحافة والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى، حول هذا المفهوم – الظاهرة، من اتهام بالجهل والغباء المعرفي النظري – السياسي، إلى اتهام بخدمة النظام الشمولي تارة، والمصالح الإمبريالية تارة أخرى والارتباط المباشر وغير المباشر، بأجهزة أمن النظام أو الدول الغربية، مروراً بالا تاريخية والأنانية الفردية الضيقة، وإحلال رغبات المثقف، مكان مصالح الشعب والأمة، والحقد والتآمر والثأرية، في التعامل مع الموضوع المطروح، ومن خلال متابعتي لما كتب وقيل حول هذا الموضوع من تهم فإنني أعتقد أن الكثير من هذه التهمة باطل كما إن القليل منها ليس بدون أساس قامت عليه، ومع ذلك فإنني سأبدي رأي في الموضوع وأطرح تصوراتي مع قناعتي إنه سيصيبني ما أصاب غيري من تهم وسيكون الكثير منها باطل والقليل ليس بدون أساس.
في المجتمع المدني
إن المجتمع المدني ظاهرة من ظواهر تشكل الرأسمالية وإحدى إفرازاتها. التي لعبت دوراً تقدمياً في تاريخ الشعوب والمجتمعات التي نشأت فيها، إذ لعبت دوراً كبيراً في الصراع ضد الملكيات المطلقة التي شكلت مرحلة انتقال ما بين الإقطاع والرأسمالية كما لعبت دوراً في تماسك ووحدة الشعوب التي كانت تسير باتجاه تشكلها في أمة – دولة إضافة لذلك فقد شكلت منظمات المجتمع المدني في بعض المراحل درع حماية للمجتمع في مواجهة طغيان الدولة الرأسمالية الحديثة.
ولكن على الرغم من انتشار الرأسمالية وتوسعها عالمياً فإن هذه الظاهرة – المجتمع المدني – لم تعرفها جميع البلدان والشعوب إذ اقتصر تشكلها على البلدان الرأسمالية المتطورة (المراكز) وبعض البلدان المسماة أطراف السلسلة (الهند، تركيا، البرازيل.. الخ)أما البلدان التي عرفت تطوراً رأسمالياً ضعيفاً فقد ظهر فيها المجتمع المدني كأجنة لم تستطع النمو والاكتمال أو أنه ظهر فيها على شكل مسوخ.
مع منتصف الستينات من القرن الماضي شكلت منظمات المجتمع المدني إزعاجاً كبيراً وعرقلة ضخمة للسياسات الإمبريالية في المراكز (حركة الطلاب، الحركات المناهضة للحرب، الحركة المناهضة للتمييز العنصري، الحركة المناهضة للتسليح النووي.. الخ). لذلك فقد قامت الرأسمالية بابتلاع وليدها، ولكن ليس من قبل الدولة وإنما من قبل الشركات والمؤسسات الإعلامية العملاقة الموظفة في خدمة رأس المال.
مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي ومع التحضير لهجوم الليبرالية الجديدة المتوحشة لما سيعرف لاحقاً تحت اسم العولمة تقيأت الرأسمالية مفهوم المجتمع المدني من اجل:
1- في المراكز الرأسمالية:
- أن تغييب السياسة أو تصنيع الوعي اللاسياسي من خلال طرح مقولة المجتمع المدني هو هدف الليبرالية الجديدة المتوحشة والمنطلقة تحت اسم العولمة، فهي تحاول خلق وعي جماهيري يقول أن عصر الأيديولوجيات قد سقط وانهار وان المشاريع الإنسانية الكبرى في التاريخ لا أمل منها لذا فعلى الجميع البحث في أشكال من العمل يحقق المصالح الفردية الذاتية من مثل تحقيق كينونة المثقف للسيد أصلان عبد الكريم، بدلاً من تحقيق كينونة الشعب أو الطبقة أو الأمة أو الإنسانية.
- يهدف إحياء هذه الظاهرة في المراكز إلى تفتيت النشاط السياسي للمجتمع وعدم نهوضه بعد الضربة التي تلقاها على اثر انهيار المنظومة الاشتراكية، وذلك عن طريق إلهائه بمنظمات أهلية تخصصية ضيقة وشخصية لا تهدف بالدرجة الأولى إلى النضال ضد الرأسمالية أو استبدالها بنظام آخر من جهة، ويمكن السيطرة عليها أو احتواءها من جهة ثانية.
2- في الأطراف:
- أن طرح المجتمع المدني كمهمة راهنة اليوم يتأتى في سياق تاريخي مختلف عن السياق الذي تشكل فيه في المجتمعات الرأسمالية المتطورة وبالتالي فهو صعب التحقيق إن لم نقل غير قابل للتحقيق(*). وفي أحسن الأحوال يتم خلق مسخ مجتمع مدني تكون سلبياته في هذه المرحلة أكثر من إيجابياته. وطرحه اليوم يعادل طرح قديم جديد حول إمكانية البرجوازية السورية إقامة نظام ديمقراطي على شاكلة النظام الذي قامت به البورجوازية في أوروبا إبان صعودها وتشكلها. من هنا يجب التفريق بين الموقف من الظاهرة وبين طرحه اليوم كمهمة راهنة.
- تسعى الإمبريالية المنطلقة تحت اسم العولمة لجعل شعار المجتمع المدني حصان طروادة في قلب هذه المجتمعات وذلك بغية تمرير سياسة العولمة وعلى كافة الأصعدة الاقتصادية، السياسية، الثقافية، الأخلاقية، القيمية.
- تسعى الإمبريالية تحت شعار ما بعد الحداثة إلى تدمير الهويات التاريخية الكبرى من مثل الطبقة والصراع الطبقي، السيادة القومية ومعاداة الإمبريالية، الاشتراكية والأممية، وإنعاش هويات «غير مثمرة» (مسلمي البوسنة، ألبان كوسوفو، أكراد العراق فقط وليس جميع الأكراد، مسلمي الفيلبين.. الخ)
لكل هذه الأسباب ولغيرها أرى أن طرح شعار المجتمع المدني كمهمة راهنة، للتحقيق او كمشروع لإخراج مجتمعنا من الأزمة التي يعيشها وعلى كافة الأصعدة هو شعار غير واقعي ومشوش ومضلل. يجب استبعاده لصالح مهام راهنة ومطالب برنامجية على علاقة باحتياجات أساسية لأكثرية أبناء المجتمع.
في الدولة الحديثة
كانت وما زالت الدولة ومنذ انقسام المجتمع إلى طبقات متناحرة تشكل أداة قهر وسيطرة طبقيين. ولكن التطور الذي طرأ على بنية المجتمعات وازدياد احتياجاتها العامة، وبشكل خاص في النصف الثاني من القرن العشرين، أضفى على الدولة مهمات ودوراً يتجاوز مهمة السيطرة والقهر الطبقيين دون أن يعني هذا إنه لم يتم تعزيز الجوهر الطبقي للدولة باعتبارها أداة قهر وسيطرة مع نهاية القرن العشرين.
وإذا كان من حق الإنسان أن يطمح في الوصول إلى ذلك اليوم الذي تعود فيه الدولة باعتبارها خادمة للمجتمع بدلاً من كونها سيدته، فإن تجربة العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي بينت بوضوح كم ما زلنا بحاجة إلى هذه المؤسسة في ظل الدرجة من التطور الذي وصلت إليه المجتمعات على اختلاف أشكالها وبشكل خاص في البلدان المتخلفة. ويكفي أن ننظر إلى بلدان انهارت فيها الدولة بفعل صراعات خارجية – داخلية (أفغانستان، لبنان، الصومال.. الخ) لنقدر كم هي حاجتنا إلى الدولة ما زالت قائمة بقوة.
ولكن من الملاحظ أن طغم رأس المال المنطلقة تحت اسم العولمة تحاول تخليص الدولة الرأسمالية في المراكز من الالتزامات التي فرضت عليها خاصة عشية ما بعد الحرب العالمية الثانية تحت ضغطة النضال الشعبي وخوفاً من التوسع وامتداد ((المنظومة الاشتراكية)) من مثل (الضمان الصحي، ضمان التقاعد، ضمان العاطلين عن العمل.. الخ) كما تحاول خلق دول في الأطراف مهمتها الأساسية لعب دور الحراسة وتأمين حركة رأس المال وهو ما يعرف بدولة الحد الأدنى أو الدولة الصغيرة ويستخدم لهذه الغاية شعارات من مثل (مجتمع مدني قوي/ دول ضعيفة، مجتمع كبير/ دولة صغيرة.. الخ).
لقد نشأت لدينا في سوريا بعد الاستقلال دولة ومؤسسات دولة حاولت أن تكون صورة ومثال عن الدولة المستعمرة سلطة تنفيذية/ سلطة تشريعية/ سلطة قضائية تستمد أحكامها من القانون الفرنسي، ولكن هذه الدولة لم تستطع الصمود طويلاً في ظل الطبقة المسيطرة «البرجوازية» في حينها من جهة، وأمام كثافة وتعقد وضخامة احتياجات المجتمع ما بعد الاستقلال من جهة ثانية (توحيد قومي، احتلال فلسطين، إصلاح زراعي، تصنيع..الخ)
إن ضعف الطبقة البرجوازية وتعقد حاجات المجتمع وضخامتها وتدخل الدول الاستعمارية لتأمين مصالحها في المنطقة دفع الجيش عدة مرات للاستيلاء على السلطة ومنع إمكانية تطور دولة ومؤسسات دولة ديمقراطية حديثة ولم تخرج سنوات الوحدة عن هذه القاعدة حتى جاء انقلاب 63 وسيطرة حزب البعث على السلطة ليشكل المسمار الأخير في نعش الدولة الحديثة والديمقراطية في سوريا.
تميزت سنوات حكم البعث في عقدها الأول بسيطرة الأجهزة على مقاليد البلاد فالبلاد تحكم عن طريق أجهزة (الحزب، الأمن، الجيش، المنظمات الشعبية.. الخ) وأصبح وجود بعض عناصر الدولة (سلطة تشريعية، سلطة تنفيذية، سلطة قضائية) وجود شكلي أمام الدور الذي تلعبه الأجهزة كافة. مع بداية الثمانينات من القرن الماضي تمت إزاحة جميع هذه الأجهزة من السلطة لتقع البلاد وتتركز جميع السلطات في قبضة رجل واحد يحكم بشكل رئيسي بواسطة جهاز الأمن الذي اخترق جميع الأجهزة السابقة وبقايا المؤسسات في الدولة، وسيطر عليها كما سيطر على المجتمع عبر اختراقه كل زاوية من زواياه، وعلى كافة مستوياته.
ومما زاد الأمر تعقيداً ان جهاز الأمن أخذ مع الزمن يأخذ طابعاً فئوياً، مما أعطى وهماً أن هناك فئة حاكمة بعينها بينما في الواقع أن نخباً من هذه الفئة هي التي تتولى الحكم، «وهذا هو الفرق بين الدول التسلطية ونظام الأبارتيد حيث تسود علاقات ديمقراطية وتعددية حزبية في أوساط الأقلية الحاكمة على الأقل*».
لذا فإن مهمة التغيير الديمقراطي تكتسب مزيداً من التعقيد.. فالديمقراطية هي شكل الممارسة السياسية مركزها الدولة ومن هنا فإن الانتقال من النظام الديكتاتوري إلى النظام الديمقراطي يتطلب إعادة بناء مؤسسات الدولة بشكل تدريجي وبالتوافق مع بناء مؤسسات ديمقراطية في المجتمع (أحزاب، نقابات، صحف، اتحادات حرة.. الخ)
أما إذا تم الانتقال بشكل سريع ودراماتيكي فإن البلاد معرضة إما للوقوع في حالة فوضى (الجزائر، روسيا، اندونيسيا.. الخ) أو إعادة الأجهزة إنتاج دولة بواجهة ديمقراطية بينما البلاد تحكم بواسطة قوى غير مرئية هي أقرب إلى المافيات.
في الديمقراطية
الديمقراطية ليست «الوجه الآخر للمجتمع المدني» فإذا كان المجتمع المدني إحدى إفرازات الرأسمالية وهو لم يظهر قبلها ولن يكون بعدها (بالشكل والمضمون الذي عرف به تاريخياً وإنما سيأخذ أشكال ومضامين جديدة تتناسب مع علاقات الإنتاج السائدة)(**)، فإن الديمقراطية هي نتاج ظهور الدولة. وهي شكل حكم عرفتها الشعوب والمجتمعات البشرية قبل الرأسمالية بمضامين وأشكال تختلف من شعب لآخر. والديمقراطية البورجوازية هي واحدة من أشكال حكم الرأسمالية، وهي بمضمونها وشكلها التي عرفت به في البلدان الرأسمالية المتطورة بعد صعود البرجوازية إلى السلطة الأرقى في سلم التطور خاصة بعد قرون من الكفاح والنضالات الشعبية وتحت ضغط ثورة أكتوبر التي أكسبتها مضامين اجتماعية وسياسية تحاول الليبرالية الجديدة اليوم التراجع عنها.
وحتى تستطيع البشرية الانتقال إلى شكل أرقى في الحكم من الديمقراطية القائمة اليوم في الدول الغربية. فإن عليها أن تتمثل وتهضم هذا المنجز التاريخي من أشكال الحكم باعتباره الأرقى والأقل كلفة والأقرب إلى درجة التطور التي وصلت إليه البشرية وعلى كافة الأصعدة، كما أنها الأكثر إنسانية من جميع أشكال الحكم التي سبقتها، أو التي حاولت أن تتجاوزها وأخفقت (التجربة الستالينية واستطالاتها أو شبيهاتها).
أقول علينا أن نتمثل ونهضم لا أن نقلد وننسخ لأن القوى التي حملت مشروع الديمقراطية وأسست في البناء التحتي للمجتمع في اوروبا ليست هي نفسها التي عليها أو لها مصلحة أو القادرة على تحقيق هذا المشروع في بلدنا، فالبرجوازية السورية التي أقامت نظام حكم ديمقراطي بعد الاستقلال لم تسطع المحافظة على هذا الحكم، بسبب ضعفها وقصورها وضخامة المهام الملقاة على عاتق الوطن(*) (توحيد قومي، تحرير فلسطين، تصنيع، إصلاح زراعي.. الخ) وليس بسبب عصبية العسكر وضيق أفقهم وطموحاتهم أو بسبب تآمر اللجنة العسكرية وطموحات أعضاءها من جهة ثانية فإن المحاولات الرامية إلى تأبيد الديكتاتورية أو خلق أشكال حكم ديمقراطية كاريكاتورية مبتذلة ومشوهة تحت حجة الخصوصية والتطور التاريخي ليس له ما يبرره، فهناك إمكانية الإقامة نظام حكم ودولة ديمقراطية متناسبة مع احتياجات مجتمعنا وتطوره ومتناسبة مع التطور الحاصل في العالم على هذا الصعيد. والذي لا نستطيع العيش بمعزل عنه. وما لم نفعل ذلك وبأقرب وقت ممكن فإننا سنصل إلى اللحظة التي وصل إليها الاتحاد السوفييتي في أواخر القرن الماضي ولكن بشكل اكثر مأساوية لأن عامل الزمن ليس في صالحنا.
إذا كانت البورجوازية السورية بعد الاستقلال حاولت جادة إقامة نظام حكم ديمقراطي، ولكنها فشلت. فإن البورجوازية السورية اليوم وخاصة تلك التي نشأت بعد عام 1970 – وهي تمثل القسم الأكبر من البورجوازية السورية(**) هي ليست معادية للديمقراطية فحسب وإنما معادية لأي إصلاح سياسي مهما كان حجمه ويظهر ذلك جلياً في موقفها من مشروع الإصلاح الذي طرحه الرئيس لذلك فهي تبحث باستمرار عن وكيل – بونابرت، يمثلها سياسياً ويترك لها حرية تحقيق مصالحها الاقتصادية. وهذا الوضع يفقد القوى الديمقراطية حليفاً ضخم بإمكانياته المادية في مشروعها نحو التغيير الديمقراطي.. ومع ذلك فإن ظهور تيار ديمقراطي في داخل البرجوازية السورية بكل فئاتها وشرائحها غير مستبعد لذا وجب التعامل معه بجدية عالية إذا ظهر.
إن هذا يلقي عبء حمل مشروع التغير الديمقراطي وبناء نظام ديمقراطي على كاهل الطبقات الشعبية وهذا سوف يمنحه اتساعاً كبيراً وضخماً إلا أنه يجب الإشارة على أن التيارات الثلاث التي اخترقت الطبقات الشعبية خلال المرحلة الماضية (الشيوعي، القومي، الإسلامي) لم يكن أياً منها ديمقراطياً لا في بنيتها ولا في ممارستها السياسية وهو ما يجعل التأسيس لحركة ديمقراطية وتيار ديمقراطي صعباً ومعقداً ويحتاج إلى وقت وجهد عملي ممارس أكثر منه جهد فكري وتمرينات فكرية كما يفعل البعض.
بعض من سمات المرحلة
هناك بعض السمات التي تميز المرحلة الحالية في سوريا وإذا لم نأخذها بعين الاعتبار فإن رؤيتنا للواقع من جهة ولمشروع التغيير الديمقراطي من جهة ثانية تبقى قاصرة. ومن أهم هذه السمات:
1- عندما نقول نظام شمولي فهذا يعني أن علينا مراقبة ما يجري في داخل النظام أولاُ وقبل كل شيء والرهان على التغيرات والتطورات التي تجري على صعد هذا النظام وحركته للخروج من المأزق الحالي الذي وصلنا اليه وقناعتنا بأن الرهان يمكن أن يفشل كما يمكن أن ينجح وهذا ليس متوقفاً على ما يجري وما يريد النظام والقوى المكونة له فقط وإنما يتوقف على القوى الديمقراطية في المجتمع والوضع الدولي والإقليمي(*).
2- أن القوى السياسية السورية وبكافة اتجاهاتها تعاني من اهتراء ليس أقل بكثير من الاهتراء الذي وصل إليه النظام وهي ضعيفة، يعزز من ضعفها غياب حركة مجتمعية تحتية وغياب أرث ديمقراطي.
3- كيفما كان الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية فإن ضريبة لا بد من أن يدفعها الوطن في عملية الانتقال هذه فنصف قرن تقريباً من الاستبداد وغياب الحريات وغياب الدولة مع ما ترافق في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي من قمع معمم وشامل وعنف وعنف مضاد طاول كل زوايا الحياة والمجتمع والقوى والمناحي. تاركاً المجتمع في حالة من الصعب وصفها أو التوقع عن كيفية إمكانيات تطورها مستقبلاً إذ لم يتم الانتقال بشكل تدريجي هادئ وسلمي.
4- ان هذه الضريبة يمكن أن تكون بحجم الضريبة الجزائرية، أو يحجم الضريبة الروسية وقد تصل إلى حجم الضريبة اليوغسلافية ، ولذلك يتوجب علينا أن نبذل كل جهد كي تكون ضريبة الوطن في حدودها الدنيا وأن تصل الى أي شيء ما عدا وحدة الوطن وحياة الناس و أرواحهم ، وان لا يحمل عبئها طبقة معينة أو فئة معينة أو جهة معينة. وبالتالي فعلى الجميع حمل هذا العبء انطلاقاً من أن الجميع شارك في الوصول إلى ما وصلنا إليه بشكل أو بآخر وبهذه الدرجة أو تلك. دون أن يعني هذا أننا شاركنا جميعاً على قدم المساواة في هذا الذي حصل فالنظام والفئة الحاكمة مسؤولة أولاً والذين حملوا السلاح في وجه النظام في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات مسؤولون والذين تحالفوا مع النظام أو دعموا أو صفقوا له أو صمتوا عنه مسؤولون والذين دعموا الحركة الإسلامية المسلحة أو صفقوا لها أو صمتوا عنها مسؤولون ومسؤول ذلك المناخ الدولي الذي ساد في أوائل السبعينات وجعل الدكتاتوريات تنبت كالفطر من الشاطئ الغربي لأمريكا اللاتينية إلى أقصى شرق آسيا مروراً بأفريقيا والمشرق العربي. فعندما تلف البلاد الديكتاتورية والحرب الأهلية فإن الجميع خاسرون (لقد عاشت سورية حرب أهلية خفية في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي وقد حان الأوان لطي صفحة هذه الحرب) وعندما تطوى صفحتها فإن الجميع رابحون.
5- أن هناك مرحلة انتقالية قد تطول بعض الشيء وهي تمر في ظروف دولية وإقليمية وداخلية تتطلب ضرورة التغيير. وعلى الرغم من إنه لم يتم فيها حتى الآن سوى تغير رئيس الجمهورية، ولكن كلنا يعلم أن هذا الموقع من السلطة في بلد مثل بلدنا يعادل تقريباً السلطة ذاتها سواء من خلال الصلاحيات التي يمنحها الدستور لرئيس الجمهورية أو خلال السلطات التي كانت بشكل فعلي بيد رئيس الجمهورية المتوفي.
على هذه الأرضية وفي ظل الشروط والوقائع التي نراها فإننا ندعو إلى:
1- العمل من أجل تغيير ديمقراطي هادئ(*) وسلمي يشارك فيه جميع الراغبين ولهم مصلحة في إقامة نظام ديمقراطي واشتقاق الشعارات المناسبة الرامية على خدمة هذا الهدف من مثل (إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية وكل مستتبعاتها، طي ملف الحرب الأهلية وكل ما نجم عنها، حرية تشكيل الأحزاب والنقابات، انتخابات حرة، فصل السلطات.. الخ)
2- على الرغم من أن اكثر المتفائلين والمتحمسين لمشروع الإصلاح الرئاسي قد خف حماسهم فإنني أرى أن المراهنة على هذا المشروع (ومهما كان أولياً وغير واضح المعالم) الذي كثر الحديث عنه في الفترة الماضية وأياً كانت حدوده وأهدافه وغاياته (حتى وإن كان يهدف إلى إعادة إنتاج النظام لنفسه) يشكل مدخلاً للقوى حاملة مشروع التغيير الديمقراطي.
3- أؤكد على المراهنة على المشروع وليس على رهن التغير الديمقراطي بمشروع الرئيس فالمراهنة قابلة للربح والخسارة وأنا أعلم بأنه إذا لم تفهم في حدودها فإنها يمكن أن تشكل إرباك وخسارة لنا ولكن ليست تلك الخسارة الكبيرة. أما الوقوف من المشروع الرئاسي موقف المتفرج أو الرافض وهذا حتى الآن لم يتم على حد علمي إلا في حدود صغيرة جداً. فهو الحماقة بعينها. أما عن عدم رهن التغير الديمقراطي بمشروع الرئيس، فذلك لعدة أسباب أولها أن التغير الديمقراطي مرهون بوجود قوى ديمقراطية لها مصلحة في التغيير وهذا شيء غير موجود على صعيد السلطة حتى الآن. بل على العكس من ذلك، فإن جميع القوى والأجهزة (بما فيها أحزاب الجبهة) التي تحيط بالرئيس قد عبرت عن نفسها في الأشهر الماضية بشكل واضح في خطاب معادٍ ليس للديمقراطية فحسب وإنما لأي إصلاح سياسي فعلي.
ثانياً: إن القوى الديمقراطية(*) في سوريا اليوم ضعيفة لدرجة كبيرة ويعزز ضعفها غياب حركة مجتمعية تحتية أياً كان شكلها ومحتواها ولكن إذا ما تقدم مشروع الإصلاح خطوة نحو الأمام فإن هذا سيكسبها قوة ودعم مجتمعي وذلك إذا استطاعت الخروج من الثوب القديم والخطاب القديم قولاً وفعلاً ذلك الخطاب الذي يفسر كل شيء على أساس المؤامرة. فوصول الجيش إلى السلطة مؤامرة وسيطرة البعث مؤامرة وسيطرة حافظ أسد على السلطة مؤامرة من اللجنة العسكرية و"برنامج" الإصلاح الرئاسي مؤامرة وكأن سوريا لا تخضع لتحولات اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية، فكرية وأخلاقية مثلها مثل جميع بلدان العالم وبالتالي فإن التحولات السياسية وقيام أنظمة حكم فيها هي رهن بهذه التحولات وليس رهن لمؤامرات هذا الفريق أو ذاك او هذا الجنرال أو ذاك.
نحو تأسيس حركة ديمقراطية واسعة في سوريا.
إن بناء حركة سياسية تعمل على بلورة رؤية واضحة ودقيقة لمشروع التغيير الديمقراطي وبرنامج هذا التغيير. الذي يحدد الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية ويصوغ التحالفات ويرسم التكتيكات المناسبة من أجل تعديل ميزان القوى لصالح قوى التغيير الديمقراطي، أقول أن بناء هذه الحركة هو مهمة راهنة وطويلة الأمد. وفي غير ذلك فإن أي حديث عن الديمقراطية والتغيير الديمقراطي والمجتمع المدني سيظل «أداة للدعاية وإضفاء المشروعية على نشاط شخصي أو فئوي» أو نوع من «إعلان التوبة وفرصة للتطهير من الآثام السابقة» سواء تلك المتعلقة بالموقف من الديمقراطية أو تلك المتعلقة بالتعاون مع الأنظمة الديكتاتورية داخل الوطن وخارجه.
إن الدعوة لبناء حركة ديمقراطية تشمل كل القوى السياسية والاجتماعية والطبقية بغية العمل من اجل تغيير ديمقراطي وبناء نظام سياسي ديمقراطي لا يجمعها جامع مع شعار حشد كل القوى «المتضررة من النظام الشمولي بغض النظر عن مواقفهم في نقطة محددة هي الديمقراطية».
فالأولى تهدف على بناء نظام ديمقراطي بينما الثانية فتهدف إلى التخلص من هذا النظام تحت شعار الديمقراطية وبعدها لكل حادث حديث.
إن الخروج من عقلية نفي الآخر المختلف سواء عن طريق التجاهل أو الاستبعاد أو إطلاق التهم هو المقدمات الأولى للخروج من العقل القديم والثوب القديم وتأصيل عقل ديمقراطي جديد. فبناء حركة ديمقراطية يتطلب قبول الاختلاف والتنوع والتمايز ضمن هذه الحركة كما يتطلب الحوار والنقد بشفافية وعلانية وديمقراطية. فالحوار والنقد العلني والشفافية لا يضعف الحركة بل يقويها.
دمشق 4/6/2001
--------------------------------------------------------------------------------
* سواء كانت الأحزاب والنقابات تحسب ضمن أو خارج المجتمع المدني. فإنها غير مندرجة فيما سبق أثناء الحديث عن المجتمع المدني، بل بالعكس فإن تشكيل النقابات والأحزاب والصحف أو ما يعرف بالمجتمع السياسي هي من المهام الراهنة اليوم في بلدنا باعتبارها مفتاحاً للعمل الديمقراطي وأداة للتغير الديمقراطي وبناء مؤسسات ديمقراطية في المجتمع والدولة وإذا كان متوقعاً للكثير من منظمات المجتمع المدني أن تلعب في هذه المرحلة التاريخية دوراً تفتيتياً في المجتمع عندنا فإن الأحزاب والنقابات تشكل القضبان الحديدية لأسمنت المجتمع.
* عزمي بشارة دراسة في المجتمع المدني/ واقع وفكر المجتمع المدني.
** يتم تعريف المجتمع المدني باعتباره المنظمات المستقلة عن الدولة وهو تعريف خاطئ فالمنظمات واحدة من جوانب لمجتمع المدني كما ان تعريف منظمات المجتمع المدني بأنها المنظمات الطوعية والمستقلة عن الدولة هو تعريف ناقص. فقد ظهرت منظمات طوعية ومستقلة عن الدولة دائماً قبل الرأسمالية ولكنها لم تكن منظمات مجتمع مدني. لذلك وجب إضافة "عن الدولة الحديثة" حتى يصبح التعريف أكثر دقة
* باعتقادي أن الكثير من المهام ما زالت راهنة وبشكل خاص منها التوحيد القومي والصراع العربي الصهيوني، وهذا ما يلقي على الدولة سواء أكانت دولة طبقة أو تحالف طبقي أعباء خاصة واستثنائية ومن هنا فإن المطلوب دولة متناسبة مع احتياجات مجتمعنا. لا دولة نقرأ عتها في الكتب.
** في الواقع تسميتها طبقة بورجوازية لا تعبر عن الواقع الفعلي، فهذه التسمية يمكن استخدامها تجاوزاً. أما التعبير الدقيق عن حقيقة الوضع فهو إطلاق تسمية أثرياء على هذه الفئة من المجتمع، وهم يشكلون الشريحة العليا في البورجوازية السورية فمعظم أموالهم جاءت بطرق مشبوهة. أما الشريحة الواقعة ما بين الشريحة العليا والبورجوازية الصغيرة وهي تتركز في الأسواق القديمة من المدن وتعمل في تجارة المفرق وهي ذات وزن كبير ولكنها تقع بالكامل تقريباً تحت تأثير الأيديولوجيا الدينية ويسعى البعض لمغازلتها من خلال مغازلة التيار الديني ولكنها أكثر عداء للديمقراطية من الأولى بحكم الأرضية الأيديولوجية.
* ليذكر الجميع أن إصلاحات خروتشوف في الخمسينات لو توفرت لها القوى الفاعلة خارج النظام الداخلية والخارجية لكانت وفرت على الاتحاد السوفيتي آلام 50 عاماً ومن ثم لكان التغيير ومحتواه مختلف عما نجم عن إصلاحات غوربتشوف في ظل قوى داخلية جديدة وقوى خارجية مستكلبة أمثال (ريغان، تاتشر، كول)
* نقول هادئ وليس متسرع ولكن ليس بالشكل البطيء الذي تم فيه خلال المرحلة الماضية. بحيث أن كل خطوة على طريق الإصلاح تتعفن وتمحى ملامحها قبل أن تأتي الخطوة التالية لترتكز عليها (محاربة الفساد مثال واضح على ذلك)
* أؤكد على القول أن القوى الديمقراطية وليست القوى المعارضة للنظام، فالثانية يمكن أن تكون كبيرة ولكن ما يهمنا القوى حاملة مشروع التغيير الديمقراطي.
منتدى اليسار للحوار
7
مشاريع أولية للعمل الوطني
قراءة نقدية
د.نايف سلوم
تسلمت عدة مشاريع أولية للعمل الوطني منها "مشروع ميثاق العمل الإسلامي" لـــ "د.محمد شحرور" حزيران 1999 ، ومشروع ميثاق ليبرالي تحت عنوان "حركة السلم ا لاجتماعي ، مبادئ أولية للحوار" لــ "رياض سيف" دمشق 31/1/2001 . كما تسلمت وثيقة لليسار الماركسي بعنوان "أي حركة سياسية ؟! أي حزب نريد ؟! كيف نبدأ؟!" لــ "فاتح جاموس" تاريخ 6/1/2001 . وقد رافق هذه الوثائق ورقتا عمل لــ "نذير جزماتي" من دون عنوان أو تاريخ . وهذه الورقة أقرب ما تكون إلى الســــيرة السياسية ، مع محاولة طرح موضوعات للحوار بهدف إعادة بناء حركة ديموقراطية واسعة في سوريا . الورقة الثانية تحت عنوان "اليسار غائب عن موقعه !!؟؟ أي حركة سياسية ، أي حزب نريد؟؟" لــ "منيف ملحم" تاريخ 4/2/2001 .
عندما واجهتني مهمة ترتيب قراءة هذه الوثائق حضر قول لماركس في مقدمة نقده لفلسفة الحق عند هيغل يقول : "إن نقد الدين هو مقدمة لكل نقد آخر" بما فيها نقد السياسة (الدولة) والمجتمع المدني . ذلك لأن سيرورة نقد الدين التي بدأت في أوربا منذ القرن السادس عشر لم تنته بعد على مستوى سير التاريخ العالمي . ومع أن نقد الدين قد انتهى من حيث الجوهر بالنسبة لألمانيا – بالرغم من ظهور فلسفات وجودية ألمانية بين الحربين ، وبالرغم من محاولة هايدغر تجديد السؤال الأونطولوجي (الوجودي العام) ، إلا أن هذا النقد لم ينته بالنسبة لقوميات أخرى ، خاصة حركة القومية العربية . فما يزال هذا النقد في بدايته ، وسيكون استكمال هذا النقد من مهام المفكرين العرب الديموقراطيين . (راجع كتابنا "ما بعد الحداثة ص16")
تحت عنوان مشروع ميثاق العمل الإسلامي" يقدم لنا د.محمد شحرور مشروع عمل محلي يقول في بدايته : "ها أنا أقدم للقارئ مشروع ميثاق العمل الإسلامي ، وكونه يحمل الصفة الإنسانية الشمولية فهو يصلح أيضاً كميثاق للعمل القومي. " (ص 5-6 )
يفهم من هذا القول وبشكل أولي أن الإسلام ، وباعتباره ذو بعد إنساني شمولي ، يصلح كإيديولوجيا للعمل القومي ليس للعرب فحسب ، وإنما لجميع شعوب الأرض . وهذا الادعاء يشير ضمناً إلى صلاحية الإسلام كإيديولوجيا عضوية بديلاً عن الشيوعية . يمكن تفسير هذا الأمر على أرضية أزمة هيمنة جديدة مزدوجة على المستوى العالمي :
1-أزمة هيمنة إيديولوجيا البروليتاريا ، أزمة هيمنة تحديداً ، وتفكك هيمنة مفهوم الثورة الاجتماعية . وقد توج هذا التفكك للهيمنة بتفكك الدولة السوفييتية في روسيا في العقد الأخير من القرن العشرين .
2-أزمة هيمنة مزمنة لليبرالية البورجوازية بســــبب من أفولها التاريخي ، حيث تحاول تجديد ذاتها دون جدوى تذكر . وسوف نرى آثار هذا التجديد في "مشروع ميثاق العمل الإسلامي " لــ د.محمد شحرور، وعند رياض سيف في "حركة السلم الاجتماعي" . (راجع مقالتنا : السيادة القومية في "عصر العولمة" أخبار الأدب ، عدد 18/ فبراير 2001 ص/38 ) .
على أرضية أزمة الهيمنة المزدوجة هذه نلاحظ عودة للسلفية الدينية كهيمنة عاطلة . أي راح الدين بكل عقائده المتلونة وفتاواه ، تعاليمه وطوائفه يملأ الفراغ الذي ترك بسبب أزمة الهيمنة القائمة عالمياً .
نعود إلى د.محمد شحرور حيث يتابع قائلاً: "يبقى على الإنسان من طرفه أن يثق بالله ، ثقة تنبع من إرادة واعية تختار بكامل حريتها هذه الثقة وتؤمن به وتطيع أوامره ونواهيه" ص/10/
هذه النظرة الساذجة إلى الألوهية ، ودور الدين في التاريخ لا تستطيع أن تشرح كيف تتشكل "الإرادة الواعية" المتجهة نحو الثقة بالله . كما أنها لا تستطيع ربط هذا الانفعال الوجودي الفردي (وجدان المتدين) بسير التاريخ العالمي والمحلي .كما أنها لا تستطيع رؤية الكيفية التي تظهر فيها الأوامر والنواهي المحدثة ؛ من يعيد إنتاجها ومن يؤولها ؟ وهل الصراع حول التأويل ذو دلالة وجودية أم أنه يحمل دلالة تاريخية- اجتماعية ؟
أقول : هذه النظرة ساذجة بالرغم من رغبتها الذاتية في لبرلة (من ليبرالية) الفقه الإسلامي . لأنها لا تستطيع رؤية دور الدين في عصرنا كإيديولوجيا عاطلة ، ما أن ترى فراغاً حتى تأتي لتملأه . هكذا يكون هدف هذه الإيديولوجيا التعزية وتلطيف الشعور بالذعر . وهذا يفسر مفارقة عبارة د.شحرور "من أن التشـــريع – يقصد الإسلامي – قد خضع لمستلزمات إيديولوجية صارمة كبلته وجعلته متزمتاً وألغت موافقة ورأي الناس في التشريع المقدم والذي سيطبق عليهم... إلا أن هذا كله –برأينا- لا علاقة له بالمقصد الإلهي من الخلق " ص/11/
لا يدري صاحب الميثاق أن الادعاء بمعرفة مقاصد الإله الحقيقية تفتح الباب لصراع الآراء حول "مقاصد الإله" . هكذا تغدو هذه المقاصد شماعة يعلق عليها كل فريق ميثاقه الخاص .
يقوم "مشروع ميثاق العمل الإسلامي" لــ د.محمد شحرور على فكرة محورية قوامها ما جاء في الميثاق من "أن الإسلام ميثاق بين الله والناس (العالمية) ، وأن الإيمان ميثاق بين الله والمؤمنين من أتباع الرسالة المحمدية (الخصوصية) " ص/10/
في هذا الميثاق "الشاعوب" يقيم الله ميثاقاً مع أتباع النبي محمد كونهم مؤمنين ، ويقيم ميثاقاً آخر مع الآخرين من أصحاب الديانات الأخرى كونهم مسلمين . مع أن د.شحرور يستشهد بالآية /110/ من سورة آل عمران تقول : "ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ". هذا البعض المؤمن من أهل الكتاب يشير إلى فساد الرأي السابق .
إذاً ، لدينا ميثاق إسلام (عالمية المحمدية) ، وميثاق إيمان خاص بأتباع النبي محمد . يحصر الإيمان هنا (باطنية العقيدة) بأتباع محمد ، ويبقى الإسلام للديانات الأخرى ويطرد العلمانيون والملحدون خارج دائرة المواثيق ، فلا هم مؤمنون ولا هم مسلمون ! ويكون الإله قد اختار شعبه . وندخل لعبة الفرقة الناجية ، التي هي فرقة الحكومة حسب قول لــ د.حسن حنفي في مجلة الناقد .
هذا الإسقاط الأونطولوجي على التاريخ الإسلامي ينبع بشكل غامض من فكرة لا تخلو من أهمية مفتاحيه بما يخص قراءة جديدة للمحمدية باعتبارها جملة انقلابين ، أولهما أخلاقي- عالمي والثاني سياسي- عربي ، وهو مشروع بناء الدولة العربية تحت هيمنة العقيدة الإسلامية العالمية . وتكون المحمدية قد جمعت بعدين : إنساني- عالمي من جهة ، ومشروع سياسي- قومي (الخصوصية) من الجهة الأخرى . فإذا تحدثنا بلغة د.شحرور نقول أن الإيمان هو ميثاق بين النبي محمد والعرب (الخصوصية القومية) ، والإسلام هو ميثاق بين النبي محمد والشعوب الأخرى غير العربية.
إن التفسيرات اللغوية التي يقدمها د.شحرور كالتفريق بين عباد وعبيد ، وبين عقد وميثاق مفيدة للبحث التراثي والديني. لكن هذا الجهد يهدده خطران : أولاً، غياب النزعة التاريخية الهادفة لمعرفة وتحد يد الدور الجديد للدين في العصر الإمبريالي الجديد. ثانياً إغفال إمكانية تقديم تفسيرات مضادة . لهذا فهي تحمل نبرة وعظ بالتالي فهي معرضة لمواجهة وعظ مضاد. أي معرضة لمواجهة "منهج معرفي بعينه لا يقبل غيره" ص /11/ من الميثاق.
يقول د.شحرور :"نجد أن الوصايا والمثل تراكمية ، ونفهم القول النبوي إن صح (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)" (بهذا المعنى التراكمي يفهم د.شحرور الوصايا والمثل).
ص /14/. هذا التأسيس التراكمي لأخلاق كوســــموبوليتية (عالمية) قد يفيد الأمم المتحدة خادمة الولايات المتحدة الأمريكية ، أما أنا فأرى أن المشروع المحمدي قد أعاد إنتاج أخلاقيات بعينها لينجز مشروع الدولة العربية السياسي. وهنا نريد أن نؤكد على أهمية نقد البيانات التراثية ومنها الدينية في سبيل إنجاز وعي مستقل . مع "ذلك يتوجب علينا التمييز بين التراث الديني كجزء من التراث القومي وبين الدين كأحد أشكال الوعي الاجتماعي، كسلوك ووجدان حاضر ".ص /5/ من مقالتنا "الإيديولوجية والثقافة". أي لا بد من التفريق بين الوجدان الديني الحاضر وبين البيانات الدينية . كما نريد أن نؤكد هنا أن الإسلام لا يشكل إيديولوجيا عضوية في عصرنا كونه كتعاليم وبيانات وأحزاب غير منهمك بتحطيم البنية السياسية الفوقية للنظام الرأسمالي واستبداله ببنية جديدة تهدف إلى إعادة توجيه جذرية للعملية الاجتماعية الاقتصادية . يكتب مكسيم رودنسون : "هذا المثل الأعلى الإسلامي (العدالة الاجتماعية) لا يضع حق الملكية موضع نقاش سواء أكانت ملكية السلع الاستهلاكية أم ملكية المواد المفيدة في الإنتاج أم ملكية الأرض والناس". الإسلام والرأسمالية ص/26/ . وهكذا يمكن تشبيه مثل "العدالة الاجتماعية" الإسلامي بنوع من دور تدخلي للدولة في العملية الاجتماعية الاقتصادية ، إنه أشبه بدولة رفاه والتي هي شـــــكل من أشـــــكال رأســـمالية الدولة البورجوازية.
في عصرنا يشكل الإســــلام نوعاً من العقائد والسلوك أكثر مما هو أيديولوجية عضوية معادية جذرياً للنظام الرأسمالي العالمي والمحلي . إنه نوع من إيديولوجيا اعتباطية .
بعد أن حاورنا تقديم الميثاق نأتي إلى المتن لنبدي ملاحظات نقدية بخصوص بعض العبارات .
جاء في الصفحة /23/ قول الميثاق :"لا ديمقراطية دون معارضة، ولا ديمقراطية دون تعددية حزبية ولا ديمقراطية دون حرية للرأي والرأي الآخر. وهذا يوضح أهمية المعارضة كأساس من أسس المجتمع الإسلامي الذي هو المجتمع المدني.
وهنا نتساءل كيف يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً مدنياً ، خاصة ونحن نعلم أن مدني هي في تعارض مع عسكري وديني وبيروقراطي. نقول أن المجتمع المدني موجود عندما توجد مسافة بين حدود السلطة وحدود الدولة بحيث تزيد حدود الثانية على الأولى . أيضاً، كيف يكون المجتمع الإسلامي مجتمعاً مدنياً وهذا الأخير يستمد شرعيته الوحيدة من الشعب بينما للمجتمع الإسلامي "مطلق آخر" ومرجعية معيارية مطلقة أخرى هي التنزيل (كلام الله)، أو مقاصد الإلـــــه التي ســــوف تفرخ عشـــــــرات التفاسير والتأويلات لتصبح كل جماعة أو فرقة هي المعيــــار الذي يكفر الجماعات الأخرى من المؤمنين والمسلمين حسب عبارات شحرور نفسها .
إذاً كيف يكون المجتمع الإسلامي هو المجتمع المدني والوثيقة تقول :"الإســـــــلام بشكله النقي النظري موجود في التنزيل الحكيم فقط . ولذا فهو مطلق في ذاته (كلام الله) ..وتظهر هذه المصداقية خلال مسيرة التاريخ الإنساني ككل ".
هذه المثالية ذات الشكل اللاهوتي قريبة إلى الفكرة المطلقة الهيغلية التي تتجسد عبر مراحل التاريخ. تنسى هذه المثالية المتجددة لاهوتياً أن هذا المطلق المعياري هو نتاج تاريخ محدد يعاد إنتاج قسم منه حسب مقتضيات المرحلة التاريخية. مثلما أعيد إنتاج القانون المدني الروماني تحت وقع صعود البورجوازية التجارية الحديثة في أوربــــــا وعند إلحــــاح حاجاتها المتزايدة في صراعها مع الإقطاع والكنيسة. وهكذا وتحت وقع هذه النظرة المثالية المتجددة لاهوتياً ومع هيمنة التنزيل كنص أو رقية قابلة لتفاسير عدة يكون فيها الميت قد أمســــك فعلاً بتلابيب الحي. هكذا تمسك حاكميه الله التي في السماء بـــــــ حاكميه البشر التي في الأرض. وهكذا يدخل التاريخي في صراع مع المطلق السماوي. ويفهم أن التاريخي أفقر من المطلق لكن مع التدقيق يظهر أن التاريخي يعطي مطلقه (وجهه الإيجابي) ، فلحظة الإيجاب أو الإطلاق هي لحظـــة من لحظات العمل التاريخي ترفع إلى مرحلة المعيارية والإطلاق. ويظهر بعد إنجازه وكأنه كان سابقاً للممارسة التاريخية كالشعر الجاهلي وعروضه .
نقرأ أيضاً في الصفحة /28/ من الميثاق: "الدين الإسلامي معتقد إنساني ، لا يخضع للزمان (التاريخ) ولا للمكــان (الجغرافية) أما الدولة فكيان مؤسساتي تحكمه الحدود ". هذا التفســــير للمعتقد هو تفسير ذاتي- شكلاني يفتقد لأي محتوى اجتماعي أو ثقافي – قومي ويغفل أن المعتقات يعاد إنتاجها باستمرار اجتماعياً وثقافياً – قومياً وذلك حسب مقتضيات العصر. إنها أشكال يعاد إنتاجها باستمرار حسب مقتضيات المحتوى التاريخي الجديد أصلاً .
في الصفحة /29/ يقول الميثاق:"الإسلام كاف لإقامة مجتمع إنساني بغض النظر عن الزمان والمكان ولكنه غير كاف لإقامة دولة زمانية مكانية وتحديد حدودها. بل يضاف إليه عناصــــر لإقامة الدولة كالقومية والتاريخ والجغرافية والمصالح الاقتصادية المشتركة والقوى العسكرية". هذه النظرة تضع المطلق الذي هو الإسلام في مقابلة ميكانيكية مع عناصر أخرى ضرورية لإقامة دولة قومية. هكذا يتحول المطلق إلى عنصر من عناصر أخرى إلى نسبة . وهكذا لم تعد الإيديولوجيا الإسلامية أيديولوجيا عضوية قادرة على قيادة مشروع الدولة العربية الجديدة بل باتت عنصر من عناصر هذا المشروع فحسب. أي أن الدين كبيانات تراثية وكثقافة قومية سوف يعاد إنتاجه نقدياً ومن جديد وفق مقتضيات المشروع القومي العربي الديمقراطي. ولن يتم قبوله كإضافة جاهزة ميكانيكية للعناصر الأخرى لأنه بشكله الراهن الخام يشكل عقبة أمام النهوض القومي الديمقراطي المذكور. ثم ماذا تعني كفاية الإسلام لإقامة مجتمع إنساني دون قدرته على إنجاز الدولة غير القول بكفايته التربوية . حتى هذا الجانب غير كاف نظراً لتعقد العصر ومحتواه الجديد.
في الصفحة /31/ تجري محاولة لــ لبرلة الخطاب الإسلامي السائد مثل تبديل الفتوى بالاستفتاء والبرلمان بدلاً من مجالس الإفتاء. يقول الميثاق :"إننا بحاجة الآن إلى الاستفتاء بدل الفتوى وإلى البرلمانات بدل مجالس الإفتاء." وأنا أسأل من نحن الذين بحاجة إلى كل ذلك ، إن لم نكن الإسلاميون ذوو النزعة الليبرالية .
يصون ميثاق الدكتور شحرور حق الملكية الخاصة والتجارة والادخار . جاء في الصفحة /33/ "العمل والجد والكسب والتوفير أمور مصانة لكل إنسان ". ويضيف :"الدولة عبارة عن عقد بين المواطنين والسلطة ينظمه الدستور ومبدأ تداول السلطة من أساسيات الديمقراطية ". وأنا أسأل ماذا لو كانت إحدى القوى السياسية مناهضة للملكية الخاصة ، هل يسمح لها بتداول سلمي للسلطة؟ ثم ألم يتخاصم مناصرو الملكية الخاصة على السلطة لتنازعهم بخصوص الحصص الموزعة؟. يعطي التاريخ أمثلة على أن تداول السلطة السلمي لا يتم إلا في نظام اجتماعي اقتصادي مستتب ومستقر تهيمن عليه شرعية واضحة السلطة والنفوذ بحيث أن أي تغيير شكلي في عناصر الحكم لا يؤثر على جريان المصالح القائمة كالحكومات الأميركية التي تعاقبت على الدولة الأميركية.
إن مشروع ميثاق العمل الإيماني غير كاف لإقامة دولة ديمقراطية زمانية مكانية لكنه مع ذلك يشكل عنصراً من عناصر هذا البناء يكون من حقه التعبير بحرية عن رأيه بشكل سلمي.
ننتقل بعد هذا الاستعراض النقدي لمشروع ميثاق العمل الإسلامي المحسن ليبرالياً إلى ميثاق ليبرالي واضح الليبرالية ليقول أن الحل ليس بـــــ ليبرالية ذات عباءة إسلامية بل بـ ليبرالية نقية على طريقة أوربا القرن الثامن عشر. وهذا الميثاق جاء على شكل ورقة تحضيرية مطروحة للحوار في سبيل بناء حزب سياسي للبورجوازية الليبرالية في سوريا، تحت عنوان "حركة السلم الاجتماعي مبادئ أولية للحوار" وهذا العنوان يشــــــــير إلى أن هذه الورقة تحملها قوى اجتماعية محددة (حركة) وســـــــائلها سلمية . وذات أهداف اجتماعية بورجوازية ليبرالية واضحة . سوف نحاول مقاربة بعض عبارات هذه الورقة لأن عنوانها الفرعي يدعونا لذلك (مبادئ أولية للحوار).
جاء في ص /4/ تحت عنوان "المجتمع المدني" :"تشكل مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية بمختلف نشاطاتها عامل التوازن مع مؤسسات الدولة ، حيث تكملها وتحرضها على تحسين أدائها وتشكل الآلية الضرورية لمراقبتها . كما تعتبر مؤسسات المجتمع الأهلي بكل نشاطاتها الخيرية والثقافية جزءاً هاماً من مؤسسات المجتمع المدني مؤهلة لتوسيع مجال خدماتها من فئة معينة لتشمل باقي فئات المجتمع".
أولاً، يفهم المجتمع المدني هنا على أنه مؤسسات أهلية مكملة لمؤسسات الدولة ، وبالتالي تغفل هذه النظرة أن للدولة مؤسسات مدنية التي هي أجهزة الهيمنة (الإعلام والتربية والتعليم والاقتصاد) وهذا الاختزال أو التخفيض للمدني (أو السياسي) إلى أهلي يكون غرضه ممارسة السياسة على طريقة أعيان دمشق في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر فقد كانوا يشكل هؤلاء وســــطاء بين السلطة العثمانية من جهة وبين رعايا السلطنة من عامة الناس من جهة أخرى وكان هؤلاء يستخدمون مناصبهم الوســـطية لتدعيم قاعدة مواردهم في القطاع التجاري من الاقتصاد وقد عزز هؤلاء من خلال هذه العملية منزلتهم الاجتماعية وســـلطتهم السياسية (راجع فيليب خوري "أعيان المدن والقومية العربية" ، سياسة دمشق /1860-1920/).
هذا التخفيض للمجتمع المدني إلى مجتمع أهلي مكمل لمؤسسات الدولة وضاغط يشير إلى هيمنة عقلية الأعيان الوسطاء على هذا التنظير . هذه العقلية الوسائطية تريد الاستفادة من المكاسب التجارية والصناعية والسياسية للمرحلة الجديدة دون تحمل مســؤولية إجمالية عن النظام وأدائه. إنها عقلية انتهازية تميل للاســــــــتفادة من كافة الأطراف العالمية والمحلية . وهي ذات نزوع كوســــــموبوليتي (عالمي) أي أنها مع كل ما يخدم مصالحها التجارية والصناعية، فهي تستفيد من التململ الشعبي وتستفيد من ضعف ســــــلطة النظام القائم ومن الضغط الإمبريالي العالمي وآثاره المحلية . بالمحصلة هي قوى براغماتية تسعى لمصلحتها الخاصة بكل السبل.
ونقول مع الورقة في الصفحة /4/ :"على ضوء هذه المفاهيم الأساسية يمكن قراءة البرنامج التفصيلي لحركة الســــــلم الاجتماعي".
في التفاصيل وتحت عنوان "البرنامج الاجتماعي" توجد دعوة إلى المصالحة مع البورجوازية الســـــورية التقليدية قبل التأميم الذي جاء على أثر "ثورة" /1963/ تقول الورقة:"إعادة النظر في كل أنوع الغبن التي مارستها مؤسسات الدولة مع المواطنين من مصادرة للأراضي والعقارات وغيرها، والتعويض لمالكي الأسهم في الشركات التي تم تأميمها بما يعادل القيمة الحقيقية للســــهم عند المصادرة. وذلك بغية طي صفحة الماضي والانطلاق نحو المستقبل على قاعدة متينة من الســــــــلم الاجتماعي، هذه العبارة تريد التأكيد على حق الملاك الصناعيين والإقطاعيين قبل التأميم في الستينات في الحصول على تعويضات لأن عدم إنجاز هذه الخطوة يشكل عنصر تفجر يهدد السلم الاجتماعي حســـب الورقة. من جهتي لا أدري مدى تهديد عدم إنجاز هذه الخطوة للسلم الاجتماعي أي مدى أهمية إجراء كهذا في إصلاح الشأن الاجتماعي السوري الراهن بحيث أرى أن هناك مهام اجتماعية اقتصادية سياسية أكثر إلحاحاً وحسماً من الناحية الشعبية لأن التعويضات لو تمت سوف تشمل فئة أنانية قليلة وغير ذات شأن كقوى اجتماعية بعد أربعين عاماً من التأميم والإصلاح الزراعي. إن إلغاء "حزبية الدولة" أكثر جدوى بألف مرة، وكذلك إصلاح القضاء واستقلاليته وضرب جذور ا لفساد .
في الجانب الثقافي نريد أن نقدم الملاحظات النقدية التالية للعبارة التي تقول:"تمثل الثقافة العربية الإسلامية المعين الرئيسي الذي ينهل منه جميع مواطني الشــــــعب السوري مما يمثل الحفاظ عليها جزءاً من المحافظة على هوية المجتمع وأصالته". ص /5/ . هذه النظرة الفلكلورية للتراث والتي تعتبره أيقونة توضع في البيت القطري – الليبرالي تحسن منظره وتكمل عناصر هويته هي نظرة ضيقة وفقيرة غير قادرة على رؤية التراث العربي الإســـــلامي بعطالته الكبيرة في وجه المشـروع القومي العربي الديمقراطي، لذلك لا بد من إجراء عملية نقد إجمالية لهذا التراث والخروج بدمج كل ما هو إيجابي في الأيديولوجية العضوية للمشروع القومي الجديد وهذا يعني بالضبط مشــروع نهضة فكرية تنويرية على مستوى التراث بمجمله ، أي إعادة إنتاج نقدية مع الاحتفاظ بكل ما هو إيجابي في هذا التراث القومي.
دعونا ننتقل إلى قراءة نذير جزماتي التي لم يؤرخها ولم يضع لها عنواناً. وقد يشير هذا من غير قصد إلى أن مشروع بناء الحزب (حزب اليسار الماركسي) مؤجل . يكتب نذير:"هل نباشر ببناء حزب لليسار عموماً أم حزب شيوعي ، أم أن مشروع بناء حزب لليسار أو للشـــيوعية ، مشروع مؤجل إلى أمد طويل أو قصير ، تفرضه أو لا تفرضه الوقائع في المستقبل ؟ ".
هذه الصياغات غير واثقة من نفســــــها تفترض وجود جميع الاحتمالات بنفس الدرجة. من وجهة نظرها يمكن أن يحصل أي شئ وكل شئ ولا شئ!. وهذا يؤكد وجهة نظرنا من أن أي حديث عن بناء حزب يفترض إجراء تحليل شامل للوضع الراهن العالمي والقومي والمحلي، التاريخي والاجتماعي .
يكتب نذير : " ( يتوجب ) فتح الباب على نقد الماركســـية نقداً إيجابياً بناء وفحص المقولات في ضوء التطورات التي حصلت من أواخر القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن الواحد والعشرين" . قبل إعلان نقد الماركـسية يتوجب التمييز بين الجانب المعياري (العقائدي) في الماركســــية من جهة، والجانب المنهجي العلمي التاريخي من الجهة الأخرى . بعد ذلك يتم إجراء تمييز بين من ينقد الماركسية ومقولاتها الأســــــاسية على أرضية معيارية واحدة ، أرضية العداء للملكية الخاصة الرأسمالية ، ومن ينقد الماركسية وهو يحاول نقد مقولتها المعيارية (العداء للملكية الخاصة وعلاقاتها) ، حيث يثار السؤال التالي : هل تشكل هيمنة الملكية الخاصة الرأسمالية سبباً أساسياً لشقاء البشر في عصرنا ؟ ومع هذا لابد من إعادة إنتاج هذا الجانب المعياري في الماركســـية قومياً ومحلياً، أي إعادة إنتاج المقولة عبر الخصوصية ، وهنا يفرض الديالكتيك المادي نفسه كمنهج يتوجب أن يثبت ضرورته أثناء قيامه بعمله في إعادة إنتاج المقولة المعيارية علمياً-تاريخياً وإعادة إنتاج نفسه أيضاً .
يكتب نذير : "معارضتي القديمة لاستخدام مصطلح الماركسية- اللينينية من باب عدم جواز لصق أسماء الأفراد على الإنجازات من هذا النوع خوفاً من التقديس على أقل تقدير ". لا يأتي التقديس من لصق أسماء الأفراد على الإنجازات ذلك لأن التقديس ظاهرة ذات بعد اجتماعي أكبر . لقد ظهرت عبادة لينين وتقديســـــه بالارتباط مع الصعود المتنامي للبيروقراطية السوفييتية في روسيا اعتباراً من منتصف عشرينات القرن العشرين . واستخدمتها البيروقراطية (القداسة) كعصا غليظة لتضرب بها رؤوس معارضتها وخصومها داخل الحزب البلشفي وخارجه . أما لماذا تســـــــتخدم كلمة ماركسية بدلاً من اشتراكية علمية وشيوعية ، فلأن لكل مصطلح من هذه المصطلحات عمل يقوم به . فالشيوعية عقيدة سياســــــية تتضمن إعلاناً لتحطيم الملكية الخاصة الرأسمالية . بينما ظهر مصطلح الاشــــتراكية العلمية للتفريق بين الاشــتراكية التي سوف تنجزها البروليتاريا كطبقة تاريخية تقدمية بالقوة وبين مذاهب اشتراكية كانت شــــــائعة في القرن التاسع عشر . أما الماركســـية فاستخدامها يشير إلى أمرين : إلى إنجاز ماركس وتميزه عن الإنجازات التي قبله من مذاهب شيوعية واشــــتراكية، وإلى دور الطبقة الجديدة (البروليتاريا) في التغيير الثوري القائم على تحطيم الملكية الخاصة . هذا من جهة ومن جهة أخرى ليشير إلى الفهم المادي للتاريخ كمقابل لفلســـفات التاريخ التي كانت قائمة قبل تبلور المشروع الماركسي خاصة فلسفة التاريخ الهيغلية. هنا لابد من إثارة مسألة مهمة هي أن النتاج الكلاســيكي الماركسي قد تم إنجازه على يد مثقفين بورجوازيين ديمقراطيين تحولوا تحت وقع الثورات الديمقراطية للقرن التاسع عشـــــر خاصة ثورة / 1848/ في فرنســـــا إلى الشيوعية . وهذا يؤكد تاريخية التســـمية من خلال الصراع العملي والإيديولوجي . راجع اوغســـت كورنو "ماركس وانجلز ، حياتهما وأعمالهما الفكرية " المجلد الثاني من الليبرالية الديمقراطية إلى الشيوعية ، الجريدة الرينانية ، الحوليات الفرنسية- الألمانية /1842-1844/ .
يكتب نذير: "تاريخياً لم يبدأ الفكر الاشتراكي / الشيوعي رحلته من عند ماركس .. ولن ينتهي عند الحدود التي توصل إليها ماركس .. انظر كتابنا (كتاب نذير) الاشتراكية والشيوعية من /500/ قبل الميلاد إلى ما قبل ماركس "
هذا الشكل من التعاطي مع الماركسية هو أقرب ما يكون إلى بناء علم وجود الأفكار الاشتراكية والشيوعية ، وهو جهد يحول التاريخية الماركسية إلى أونطولوجيا عامة لا تعود الماركسية فيها ســــوى نقطة من بحر حسب تعبير جزماتي نفسه. هذا التعاطي الأونطولوجي مع الماركسية غير قادر على رؤية مسألة حاسمة جاءت بها الماركسية وهي التاريخية أو العلم التاريخي . أي قدرتها على التعاطي مع الشروط والتوسطات الجديدة . يكتب لينين بهذا المعنى : "إننا لا نعتبر نظرية ماركس كلاً مكتملاً ، لا يتغير . إننا نعتقد على العكـــــــس ، أن هذه النظرية قد أرست فقط الأحجار الأســـاسية للعلم (التاريخي) ، علم ينبغي على الاشتراكيين أن يعمقوه في جميع الاتجاهات إذا أرادوا ألا تتجاوزهم الحياة . " ( رجع مقلتنا "الحاجة إلى هيغل".وهنري لو فيفر "فكر لينين"). بالتالي فالماركسية منفتحة بطبيعتها على التاريخ ، وأية معالجة لها على أساس أنها نظرية مكتملة كتبت في القرن التاســــــع عشر هو تخفيض لها إلى جهد تأملي فحسب .أي يرجعها إلى تأملية فيورباخ وإلى الممارسة الفكرية للمثالية الموضوعية (هيغل) . يخلط جزماتي بدل أن يفرق والعقل جهد تفريقي بامتياز .
بعد ذلك يعقب جزماتي على مصطلح ألـــ "socialism " وترجمته العربية بــ "الاشتراكية" بدلاً من الاجتماعية . يقول نذير : "اعترضت أيضاً على استخدام كلمة اشتراكية بدلاً من اجتماعية كترجمة للكلمة سوشياليزم التي ليست لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بأي نوع من أنواع المشاركة ". أما أنا فأقول أن اشتراكية واجتماعية تعطي معنى المشاركة الشعبية ، أي المشاركة "من تحت " وأعتقد أن استخدام الاشتراكية بمعنى المشاركة السياســـــية للطبقات الشعبية الهامشية يدخل في صلب الدعوة للديمقراطية السياسية ومشاركة الطبقات الهامشية في الحياة الســـياسية ، وعدم انفراد حزب أو طبقة بمؤسسات الدولة الهيمنية (الإعلام ، التربية والتعليم والاقتصاد) . أي تأتي المشـــاركة بالتضاد مع "حزبية الدولة " . كل ذلك مع التأكيد مع جزماتي على أهمية تدقيق المصطلح وترجمته والتأكيد على البعد التاريخي لولادة الدلالة .
يرغب نذير أن يكون اشـــتراكياً أو ماركسياً اصطلاحاً وليس ضرورة (ضرورة تاريخية)! مما يشير إلى غياب الوضوح المنهجي . يكتب نذير : "استرشدنا بالهدف ، هدف إقامة نظام اشتراكي اصطلاحاً يعقب الرأسمالية ، ويسعى أثناء وجودها إلى التخفيف من آلامها ". هنا نظام اشتراكي يعقب الرأسمالية ، ويمكن أن يوجد أثناء وجودها وهذه مغالطة . وهي ميل نحو العقلية الاشتراكية الأوربية التي تبين أنها أكثر تخديماً للرأســـــــمالية وشرورها خاصة شرها تجاه البلدان المتخلفة .
يلاحظ من اقتباس نذير من انجلز في كتابه "حرب الفلاحين في ألمانيــــــــا" بخصوص "ما يمكن أن يقع لقائد حزب راديكالي أن يضطر إلى تولي الحكم في فترة لا تكون الحركة قد نضجت بعد لتسمح بســــــيطرة الطبقة التي يمثلها " يلاحظ إشارة ضمنية إلى أن الظروف لم تكن ناضجة لثورة اجتماعية في روسيا سنة / 1917/ . هذه النظرة وأشباهها التي تعتبر ثورة أكتوبر الاجتماعية جاءت قبل أوانها يغيب عنها أمور ثلاثة :
1-قراءة لينين للاقتصاد العالمي والإمبريالية قبل الثورة ، وأن الجهد البلشفي جاء على أثر انفجار الثورة الديمقراطية في روسيا / شباط 1917 / على أرضية تحركات عمالية واسعة بدأت منذ / 1895 / شـــملت الإضرابات والمظاهرات العمالية على أرضية انفجار الحرب الإمبريالية الأولى التي عمقت الأزمة العامة للنظام الرأســـــمالي وأعطت إمكانية انفجار ثورات في أوربا الغربية تشكل عوناً استراتيجياً للثورة الروســـــية . يكتب لينين : "مع النضال ضد الحرب الإمبريالية الأولى كان يقوم رابط ملموس بين الطليعة الثورية (الروسية) والمؤخرة الأوربية للثورة العالمية "/ راجع كتابنا "في القول السياسي ص/105 /". أيضاً ، كان ماركــــس ، بناء على شهادة انجلز، قبيل موته يدرك ببصيرته قرب ميلاد عصر تاريخي جديد يتصف بشكل خاص بانتقال مركز الثــــــورة العالمية "إلى الشرق" . فاقدم على تعلم اللغة الروسية وتجميع بيانات ومراجع واسعة عن المشكلات الروســــــــية ، وبصورة خاصة المسائل الزراعية . "في القول السياسي ص/ 106 /".
2-الوضوح المنهجي عند لينين وتر وتسكي بخصوص الموضوعة التالية : "لم تعد البورجوازية الليبرالية قادرة على دفع الثورة الديمقراطية إلى الأمام ؛ نحو إنجاز مهامها ، بالتالي يتوجب على البروليتاريا أن تدفع بالثــــــــورة الديمقراطية إلى نهايتها . " لقد كان لدى روسيا الكثير من المهام الديمقراطية مثل تجاوز التأخر الصناعي ومسألة الحرب والمســـألة الزراعية إضافة إلى المسائل القومية الشائكة . كل ذلك بات من المهام الديمقراطية للبرليتاريا في روسيا .
3-تتالي الثورات بعد الثورة الروســـية في أوربا (إيطاليا ، ألمانيا ، أسبانيا المجر الخ..) وفي الشرق وأنحاء العالم الأخرى (الصين، كوريا ، فيتنام ، كوبا الخ..) . فلو كانت الثورة الروسية بمهامها المركبة خطأً تاريخياً لما كانت قادرة على جر سلسلة من الثورات الاشتراكية ذات المهام الديمقراطية البورجوازية .
عودة إلى نذير ، حيث يقول : "يحل حتى المخلصون ، الأحلام والأوهام محل الحقائق الدامغة التي تقوم على :
1-لا تنتصب أمام الشعب الســــوري ، ولا أمام أي شعب من شعوب العالم الثالث مهمة بناء الاشتراكية ، وإن كانت تبقى هدفاً لمستقبل افضل للبشرية ."
لاحظ أيها القارئ المستقل هذه "الحقائق الدامغة " التي تخلط بين الاشتراكية كنظام عالمي بديلاً عن النظام الرأسمالي العالمي القائم من جهة ، وبين المهام الاشتراكية للحزب السياسي التي من ضمنها قيادة المهام الديمقراطية وإفساح المجال أمامها لتأخذ كامل نموها وتطورها (دفعها إلى نهايتها) ، نتيجة للضعف التاريخي للبورجوازية الليبرالية في أطراف نظام الرأسمالية الاحتكارية .
بعد استعراض للحقائق الدامغة يقدم نذير تصوره الإيجابي للوضع المحلي بالقول : "إن الظروف مهيأة لإقامة أنظمة وطنية ديمقراطية تتحالف فيها القوى الوطنية والتقدمية مع الرأسمال المنتج وتناضل ضد الرأســــــــمال البيروقراطي والطفيلي ." إن صياغات كهذه تغفل شكل عمل الرأسمالية الاحتكارية في أطراف النظام (نظامها) ، كما تغفل طرح مسألة الطبيعة الاجتماعية لقيادة هذا التحالف . كما تطرح بشكل منهجي إشكالية الديمقراطية كتراث للبورجوازية الصاعدة /1500-1850/
إن تطور وعي ماركس وأنجلز خلال /1844-1846/ من الليبرالية الديمقراطية إلى الشيوعية والمادية التاريخية ذو مغزى ، ويتوجب فهم هذا التطور والتجاوز لليبرالية الديمقراطية على أنه تجاوز هيغلي، أي تجاوز مع احتفاظ بكل الطروحات الديمقراطية للبورجوازية الصاعدة. وأنه تطور من محاولة تلطيف عمل النظام الرأسمالي وصولاً للدعوة إلى قلب النظام القائم عبر إلغاء الملكية الخاصة الرأسمالية وإحلال الملكية العامة محلها وخلال هذا المســـير الطويل يتم تبني كامل المشروع الديمقراطي للبورجوازية الصاعدة. وكنا قد تحدثنا عن الجانب المعياري للماركســـــية والذي يتم البرهان عليه في الأيديولوجية الألمانية . يكتب ماركس بهذا المعنى:"لقد انطلقنا حتى الآن من أدوات الإنتاج فتبين لنا ضرورة الملكية الخاصة في درجات معينة من التطور الصناعي وفي الصناعة الاستخراجية (ليس المقصود الصناعة الكبيرة الحديثة لاســـــتخراج النفط والمعادن) لا تزال الملكية الخاصة تتطابق كلياً مع العمل (الفرد يملك أدوات عمـــــــله، والملكية في الصناعة الصغيرة وكذلك في الزراعة حتى الآن في كل مكان هي عاقبة ضرورية (نتيجة ضرورية) لأدوات الإنتاج الموجودة (بما فيها الأرض والمياه).
وفي الصناعة الكبيرة يبرز التناقض بين أداة الإنتاج وبين الملكية الخاصة. للمرة الأولى بوصفه نتاجـــــاً خاصاً لهذه الصناعة لا بد له ، من أجل إنتاجه ، (إنتاج هذا التناقض) ؛ أن تبلغ الصناعة الكبرى درجة عالية من التطور . وهكذا لا يصبح القضاء على الملكية الخاصة ممكناً إلا مع تطور الصناعة الكبيرة." ترجمة دار التقدم من /102-103/.
وهذه مناسبة للتذكير ببؤس ترجمة د. فؤاد أيوب لهذه الفقرة من الأيديولوجية الألمانيــــــة . جاء في ص /61/ من الإيديولوجية الألمانية – دار دمشق القول: "ونتيجة ذلك ، فإن إلغاء قانون الملكية الخاصة غير ممكن أيضاً إلا مع إلغاء الصناعة الكبرى "؟!
نعود إلى نذير جزماتي حيث يشرح لنا طبيعة الحزب الذي يشتهي فيقول: "والحزب المنشود حزب وطني لا قومي عربي ولا كردي ولا سوري ولا طائفي ، بل حزب وطني تقدمي يسترشد بالماركسية منهجاً لا نصوصاً".
إن حزباً كهذا هو شبح بل هو بستان خاو على عروشه ، فحتى يتجنب السيد نذير شوفينية حزب يضطر لنسف الروافع الديمقراطية والقومية للعمل الاشتراكي تماماً مثل ترجمة د.فؤاد أيوب حين اضطرنا لنسف الصناعة الكبيرة حتى نتمكن من إلغاء الملكية الخاصة الرأسمالية. ونريد هنا أن نقدم ملاحظة وأرجو ألا تفهم على أنها هجوم شخصي على أي كان، وفحواها الخراب الذي يصيب العقول الســـتالينية عندما تفكر بمراجعة نقدية لتاريخها الإيديولوجي والتنظيمي.
بعد ذلك يقدم لنا السيد نذير منطقاً منشفياً وصفياً لآلية الانتقال إلى الاشتراكية حيث لا يخلو هذا المنطق من نزعة اقتصادية تعطي امتياز التغيير الاجتماعي للمستوى الاقتصادي في البنية الاجتماعية.
يكتب نذير: "إن المشروع الاشتراكي مؤجل في بلادنا وبلاد غيرنا من العالم الثالث إلى حين، ولا بد أن يسبق مشروع نشوء النظام الاشــــــــتراكي. قيام ذلك النظام إما في مجموع البلدان الصناعية المتقدمة، أو في واحدة أو أكثر من هذه البلدان، ومن ثم ينفسح المجال رحباً أمام باقي البلدان للانضواء تحت لواء ذلك النظام، ليس من دون مساعدة البلدان التي سادها النظام الجديد". ص/4/
يعاني هذا الطرح المنشفي من عيبين: 1- أنه طرح وضعي يرى التحولات التاريخية كتحولات اقتصادية كمية. ثانيا، ميكانيكي، حيث لا يرى جدل العصر الذي نقل مركز الصراع السياسي من المراكز إلى الأطراف الرأسمالية رغم النشاط الملاحظ في الفترة الأخيرة للقوى النقابية واليسارية في أوربا (المظاهرات ضد العولمة ومنظمة التجارة العالمية) وهنا نذكر بقول ماركس في ا لصراعات الطبقية في فرنسا. والذي فحواه أن أي ثورات اجتماعية في أطراف النظام تبقى بروفات للعمل العظيم إذا لم تستطع تحريك بروليتاريا المراكز الرأسمالية . يقول ماركس بالحرف: "من الطبيعي أن تحدث الانفجارات العنيفة في أطراف البدن البورجوازي الأحرى منها في قلبه ، ما دامت إمكانية التصحيح أعظم منها هناك. ومن جهة أخرى فإن درجة رد فعل الثورات (تأثير) الثورات القارية على إنكلترا هي في الوقت نفسه ، المقياس الذي يشير إلى مدى ما تطرح هذه الثورات حقاً وفعلاً مسألة الشروط البورجوازية للحياة على بساط البحث ، أو مدى ما تكتفي بهدم تشكيلاتها السياسية". /132/ الصراعات الطبقية في فرنسا . وماركــس يتحدث عن إنكلترا كونها رأس أو قلب النظام الرأسمالي منتصف القرن التاسع عشر.
ويضيف ملاحظة أخرى بنفس المعنى وهو في سياق تحليل ثورة /1848/ في فرنسا قائلاً:"إن الحرب الطبقية داخل المجتمع الفرنسي تتحول إلى حرب عالمية تتجابه فيها الأمم وجهاً لوجه . ولا يبدأ الإنجاز إلا في اللحظة حيث تدفع البروليتاريا، بواسطة الحرب العالمية إلى طليعة الشعب الذي يسيطر على السوق العالمية، إلى طليعة إنكلترا. وليست الثورة التي لا تجد هنا خاتمتها، بل بدايتها التنظيمية بالثورة القصيرة ". ص /110/ الصراعات الطبقية . وهذا ما حصل لروســـــيا بالضبط . لكن الثورة الروسية لم تستطع للأسف دفع بروليتاريا ألمانيا وإيطاليا وإنكلترا إلى طليعة الشعب وهذا ما جعل من الثورة الروسية تكتفي بهدم التشكيلات السياسية لمراكز النظام الرأسمالي.
"سوف يؤكد لينين مراراً أن البلاشفة ما كانوا بادروا إلى الاستيلاء على الســــــلطة السياسية أبداً لولا قناعتهم بأن بروليتاريا الغرب سوف تكمل ما بدؤوه ، بينما كان المناشفة يعتقدون أن انفجار ثورة اشتراكية في أوربا الغربية سوف يجبرهم على التفكير بالانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية". (راجع كتابنا"في القول السياسي ص /124/")
يقول لينين: "إن الشروط الموضوعية للحرب الإمبريالية تضمن لنا أن الثورة لن تقتصر على المرحلة الأولى من الثورة الروسية ، وأن الثورة لن تقتصر على روسيا". ص /124/ "في القول السياسي".
كان لينين يحرص هنا عن حذر شبه منهجي تجاه البورجوازية الليبرالية بما يخص قيادتها للثورة الديمقراطية. كذلك تجاه الطبقات الوسطى.
يقول نذير: ""الروافع الأخلاقية هامة جداً- حسب روجيه غار ودي وميشيل لوي". هذه النزعة الأخلاقية هي نوع من إرجاع وجودي للنزعة التاريخية الماركسية فإذا أضفنا إليها (إلى هذه النزعة) قول نذير: "بالرغم من كل ما حدث ويحدث على طريق العولمة ، تبقى القومية إيديولوجيا البورجوازية في بلدان العالم الثالث على الأقل ، وتبقى الأممية إيديولوجيا البروليتاريا المتكونة أو على طريق التكوين".
يغدو العمل السياسي لليسار الماركــــــسي نافلاً ومعزولاً، لأن المطلوب تربية أممية لإنجاز مهمة قومية - ديمقراطية. يكتب مهدي عامل في مقدماته النظرية :"ما أريد قوله بإيجاز هو أن محاولتي النظرية كانت ترتسم ،عن وعي، ضد ما لحق بالنظرية الماركسية من تشويه وانحراف في ممارسات الحركة الشيوعية العربية ، أو بعض أحزابها .ومازال التشــــــــــــويه والانحراف قائمين فيها حتى الآن. ولعل بالإمكان الرجوع بهما ، في نهاية التحليل ، إلى طغيان الإيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة، في ظهورها مظهر الإيديولوجية "القومية" في تلك الممارسات . فعلى قاعدة هذه الإيديولوجية بالذات يتم الفصل في الزمان والمكان بين القضية الاجتماعية والقضية "القومية" بحيث تظهر الأولى كأنها مجال تحرك الصراع الطبقي ، والثانية كأنها مجال تحرك الصراع الوطني أو "القومي" .ويجري تغليب الأولى على الثانية باسم "النظرية الماركسية" ، أو الثانية على الأولى باسم "النظرية القومية" ، فتستقل مرحلة التحرر الوطني عن مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية وتسبقها، وتكون فيها القيادة الطبقية للبورجوازية ، بانتظار الانتقال منها إلى المرحلة الثانية التي على الطبقة العاملة فيها وحدها دون غيرها من المراحل أن تقوم بدورها القيادي". مقدمات نظرية ص /8/.
بالطبع وبنزعة أخلاقية غار ودية بحتة سوف تسلم البورجوازية السلطة وبشكل سلمي إلى البروليتاريا ما إن تنجز الأولى مهامها "القومية".
ننتقل الآن إلى قراءة ورقة منيف ملحم المعنونة بــ "اليسار غائب عن موقعه!!؟؟ أي حركة سياســـية ..أي حزب نريد؟؟"ومنيف ملحم يتعجب ويستفهم في نفس الوقت عن غياب اليسار ومن غياب اليسار الماركسي عن موقعه. وأنا أقول: من غير المبرر أن يتعجب ، ومن الطبيعي أن يستفهم عن سر هذا الغياب .
يكتب ملحم في مطلع ورقته :"إن عنوان هذه الندوة يفصح عن أزمة قائمة في موقع اليسار. وباعتقادي أن لهذه الأزمة بعدها العالمي ، كما المحلي.. وأن هناك علاقة بين البعدين". بالطبع يدهـــــــــش القارئ لطرح بداهة من بدهيات الماركسية التي تقول أن الرأســـــــــــمالية لم تأت بالتجارة والصناعة الحديثتين والسوق القومية، بل جاءت بالسوق العالمية أيضاً. لهذا السبب يفترض باليسار الماركـــسي الانشغال بتحليل سير التاريخ العالمي للرأسمالية بالإجمال مع الانشغال بالشأن المحلي (القومي). يضيف ملحم :"تبين أن الأزمة لدينا مركبة وأن البعد المحلي يحمل أهمية خاصة واستثنائية ..لذلك فإن دراستنا ستركز اهتمامها على العوامل المحلية".
بالطبع ، لرسم استراتيجية جديدة واضحة للعمل القومي (الوطني) لا بد من دراسة وافية لسير التاريخ العالمي خاصة وأن تنظيرات "العولمة" و"نهاية الإيديولوجيا" و"نهاية التاريخ" ، وموت فلسفة البراكسيــــــس وغيرها من الدعوات الإيديولوجية البورجوازية في الوقت الحاضر تحتاج لحسم نظري من الناحية المبدئية . كما يتوجب الوصول إلى وضوح منهجي بما يخص شكل عمل الشركة المساهمة الاحتكارية ، ومسألة الفائض الاقتصادي ، والســــــــعر الاحتكاري، ومهمات الدولة الرأسمالية الاحتكارية خاصة الأميركية منها والاستثمار في الخارج الذي أخذ أبعاداً هائلة بعد الحرب العالمية الثانية وكل ذلك استكمال لجهد لينين بخصوص الإمبريالية (الرأسمالية الاحتكارية).
إذاً قبل الحديث عن الوضع المحلي لا بد من رصد كافة التغيرات العالمية رصداً منهجياً بهدف الوضوح النظري والإيديولوجي خاصة وأن النشاط الإمبريالي والأميركي بات ساحقاً ومهدداً لأية حركة سياسية أو دولة معارضة لجهده.
يكتب ملحم مقارباً الماركسية: "إن الماركسية ذات بعد طبقي وإنساني تسعى إلى تدمير الرأسمالية كنظام إنتاج". هذا التعريف (التحديد) للماركسية لا يحمل الخصوبة الكافية . ذلك أن الماركسية عقيدة ومنهج، أي مذهب تغيير ومنهج تفسير. يكتب ماركس في موضوعات عن فيورباخ:"إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تتقوم في تغييره". الماركسية إذن تفسير وتغيير ليس للعالم بالمعنى الأونطولوجي ولكن تغييره بالمعنى التاريخي ، أي تغيير شكل الملكية الخاصة الرأسمالية التي هي أساس النظام الرأســــــمالي أو ما يسمى بنمط الإنتاج الرأسمالي.
أي أن الماركسية علم تاريخي وإيديولوجيا . والإيديولوجيا هي الإيمان الجماهيري (الشعبي) بنتائج هذا العلم، ومتى تحول العلم التاريخي إلى إيمان بات قوة تغيير مادية من أجل إنجاز الانقلاب الاجتماعي . والنظام الرأسمالي عبارة عن علاقات اقتصادية وهي علاقات التبادل والتداول والتوزيع والإنتاج المادي بالمعنى المباشر من جهة ، وعلاقات اجتماعية وهي علاقات الملكية الخاصة الرأسمالية من جهة أخرى. وهذه العلاقات الاجتماعية (علاقات الملكية) هي أساس النظام الرأسمالي وجوهره.
تهدف الشيوعية كمذهب سياسي إلى إلغاء الملكية الخاصة الرأسمالية وهذا المذهب مسلحاً بالديالكتيك المادي كمنهج للتحليل والتركيب في سبيل إنتاج علم تاريخي (اقتصادي وسياسي) وتنظيم. والحتمية التي فهمت ميكانيكياً بفعل هيمنة الستالينية هي في حقيقتها الشروط التاريخية المعطاة والميول الموجودة (الميول التاريخية) والســــــــعي لإنجاز هذه الميول ( تحويلها من عقبة إلى وسيلة ) عبر ممارسة سياسية منظمة للطبقات المتظلمة خاصة البروليتاريا كطبقة ثورية بالقوة رغم التغيرات التي طرأت على فئاتها بعد الحربين الأولى والثانية خاصة. وذلك بحكم موقعها الوظيفي في الإنتاج الرأسمالي عموماً وهنا أقدم موضوعة للنقاش بشكل أولي وهي أثر التحول من الرأسمالية الصناعية إلى المالية أثر ذلك على فئات الطبقة العاملة وعلاقة ذلك بتزايد أهمية التحالف مع البورجوازية الصغيرة، خاصة وأن الإمبريالية الرأسمالية راحت تلقي بالملايين على هامش إنتاجها وتخلق جيشاً من العاطلين عن الشراء . لقد درس لينين الإمبريالية كرأسمالية احتكارية. لكن طرأت بعده تغيرات مهمة على شكل عمل الشركة المساهمة الاحتكارية. ونحن بحاجة لدراسة أثر هذه التغيرات على مجمل عمل النظام الرأسمالي.
لقد شاعت فكرة اقتصادوية خلال فترة هيمنة الســـتالينية على الحركات الماركسية تقول بأن النظام الرأسمالي سوف ينهار تلقائياً بفعل تناقضاته الاقتصادية. ونحن نقول مع هاري ماجد وف: "الدرس الهام الذي يجب تعلمه من تاريخ الرأسمالية هو أن المشاكل الكبرى لا تؤدي إلى انهيارها انهياراً أوتوماتيكياً ... إن مصير الرأســـمالية في النهاية سوف تحدده فقط الطبقات النـــــشطة داخل المجتمع والأحزاب القائمة على هذه الطبقات والتي لديها الإرادة والقدرة على استبدال آلية النظام القائم". ص /140/ "الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم".
يســـتشهد ملحم بــ اسحق دويتشر قائلاً: "إن ماركس قد أبدع منظومة فكريـــة تجاوزت في الكثير من الأحيــــان احتياجات الحركة العمالية التي أراد لكتاباته أن تخدمها". هذا الكلام غير دقيق، لأنه ليس هناك ما يمكن تسميته في العلم التاريخي "تجاوز الاحتياجات" . وإذا كانت الحركات العمـــــــالية وخاصة التي شوهتها البيروقراطية قد اختزلت الكثير من جوانب هذا العلم فهذا دليل على شكل ممارسة البيروقراطية العمالية وطريقة تعاطيها الانتقائي والاختزالي مع العلم التاريخي. لذلك يتوجب عند كل ظهور لقضية جديدة إعادة توجيه جبل المعلومات والنتائج في سبيل إنجاز العلم التاريخي. على سبيل المثال تأثير السعر الاحتكاري والاستثمار في الخارج، أو ما يسمى الاستثمار داخل الحماية الجمركية على مجمل عمل النظام الرأسمالي. لذلك نؤكد على أن البيروقراطية السوفييتية اختزالية وكسولة تسعى دائماً لتكريس ذلك التوتر بين العلم التاريخي والممارسة لكي تحجب باستمرار ممارساتها الأنانية الفاسدة.
يكتب ملحم في تحديده لمهام الماركسيين الثوريين :"إن سيطرة الستالينية على الحركة الشيوعية والعمالية العالمية لأكثر من نصف قرن وإخفاق الثورات في البلدان الصناعية الكبرى في أوربا والتي لعبت فيها الستالينية دوراً كبيراً سواء بسياستها الرامية إلى توظيف المبدأ الأممي في الماركسية لخدمة الدولة الستالينية بدلاً من توظيفها لخدمة الثورة العالمية أو بسبب المثل المشوه والفظ للاشتراكية الذي قدمته الدولة الستالينية لعمال الغرب الرأسمالي".
هذه الصياغة ذات الطابع الدائري غير أصيلة. حيث يتوجب أولاً إظهار ترقب البلاشفة لانفجار الثورة في أوربا إثر استيلائهم على السلطة مباشرة. فعندما راحت بوادر فشل ثورات أوربا تطل برأسها راح لينين يؤكد على الرافعة الثانية ذات الطابع القومي للديمقراطية السوفييتية ألا وهي التحالف بين البروليتاريا والفلاحين في روسيا. بعد هذا الإظهار يمكن الحديث عن انعكاسات صعود البيروقراطية السوفييتية وسياساتها على ثورات البلدان الأخرى وعلى الوضع الثوري العالمي بالإجمال.
يؤكد لينين مراراً "أن البلاشفة ما كانوا بادروا إلى الاستيلاء على السلطة السياسية أبداً لولا قناعتهم بأن بروليتاريا الغرب سوف تكمل ما بدؤوه". ص /253/ "اللينينية في ظل لينين لمار سيل ليبمان " الجزء الأول.
يكتب ملحم بخصوص شكل التعاطي مع النصوص الماركسية الكلاسيكية قائلاً: "يمكننا استخدام هذا المنهج الماركسي لتحليل واقعنا واحتياجاتنا دون العودة في كل لحظة إلى النص أو القياس". في الرد على هذه العبارة أقول أن دراسة الكلاسيكيات الماركسية ذات طابع تربوي تعليمي تماماً كدراسة المنطق لأن "المنطق حكم مســـبق وباطل ، لكنه يعلم التفكير" حسب عبارة نافذة لــ هيغل نقلها لينين في دفاتره الفلسفية. لكن هناك نتائج عامة ذات قيمة معيارية مثالها موقف الماركسية من الملكية الخاصة الرأسمالية ومع ذلك فإنه يتوجب إعادة إنتاج هذه المقولة المعيارية علمياً –تاريخياً وفق التطورات الجديدة للرأسمالية. يضيف ملحم : "مع إمكانية استخدام مناهج علوم أخرى مثل التحليل النفسي الخ..". وأقول هذه مناهج لمستويات دنيا أو جزئية أي مناهج ميكروية إذا جاز التعبير بينما تشكل الماركسية عبر ديالكتيكها المادي منهجاً ما كروياً يميل للعمل بآلية الدمج الماركسية الشهيرة ، الدمج المعادي للنزعة البيروقراطية أو للعنف البيروقراطي أثناء عملية الدمج، ويمكن أن نســــمي هذا العنف تجاه النص بالشطب البيروقراطي أو الاختزال أثناء عملية الدمج.
الماركـــــــسية تستفيد من كل هذه المناهج الميكروية مع دمج وتعميم بعض نتائجها مع الإبقاء عليها كاملة في حقلها الخاص إذا أثبتت جدارة واضحة.
بعد ذلك يقترح ملحم إعادة النظر في بعض المفاهيم ويعطي مثالاً عليها من بين أمثلة "دكتاتورية البروليتاريا" وهنا أود تقديم ملاحظة لا بد منها بخصوص دكتاتورية البروليتاريا، وما يحصل من خلط والتباس بينها وبين الاســــــــتبداد السياسي كشكل حكم وليس كشكل دولة، فمثلاً هناك استبداد بورجوازي حاصل ضمن تنظيم البورجوازية لسيطرتها وهيمنتها كالفاشية والنازية والعسكريتارية . وهناك استبداد بروليتاري (سوفييتي) حاصل ضمن ســـــــيطرة وهيمنة البروليتاريا على شكل بيروقراطية سوفييتية مستبدة. الدكتاتورية إذن بالمعنى السياسي هي إحراز السيطرة والهيمنة من قبل طبقة سائدة على الطبقات الهامشية سواء أكانت بورجوازية أم بروليتارية ولهذا يمكن أن نقول دكتاتوريــة البورجوازية ودكتاتورية البروليتاريا.
يورد ملحم في ورقته هامشاً ذو دلالة ص /4/ يتوجب التعقيب عليه. يقول الهامش: "بسبب تسمية الديمقراطية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر باسم الثورة البورجوازية في المصطلحات الماركسية ساد اعتقاد خاطئ أو تبسيطي على الأقل بأن الديمقراطية من إنجاز البورجوازية وبذلك لا يتم التمييز بين من قام بالثورة وبين من استفاد منه".
أقول لحل هذه الإشكالية بخصوص الديمقراطية البورجوازية ، نقسم تاريخ البورجوازية الحديثة في أوربا إلى فترتين ، فترة صعود البورجوازية وهي فترة كانت الديمقراطية والليبرالية في وحدة وقد امتدت من /1500-1850/ ولم يتم وعي هذا الانقلاب إلا في القرن الثامن عشر. وفترة انحطاط أو هبوط في الإيديولوجية البورجوازية الليبرالية مترافقة مع ميل هذه البورجوازية للتحالف مع الطبقات الرجعية البائدة. وخلال هذه الفترة الثانية انفصلت بالتدريج الليبرالية عن الديمقراطية وباتت البروليتاريا كطبقة تقدمية بالقوة هي الوريث الشرعي للديمقراطية السياسية للبورجوازية وشعاراتها زمن صعودها.
يقول ملحم في ص /5/ :"إن الحاجة إلى حركة لليسار هي حاجة دائمة ، ولكن كما أنه يمكن أن تمر لحظات في التاريخ تكون فيها الحاجة إلى حركة لليسار ضرورة تاريخية لا بد منها ويتوقف على وجودها انعطافات في العملية التاريخية تؤثر ليس على مستقبل الساحة المعنية بعينها فحسب لعقود طويلة وإنما على مستقبل الإنسانية جمعاء. فإنه يمكن أن تمر لحظات في التاريخ يكون فيها وجود أو عدم وجود هذه الحركة سياناً".
تتناوب هذه الفقرة بين الطرح الأنطولوجي المثالي لمسألة الحاجة إلى يسار ماركسي من جهة وبين الطرح التاريخي وقد يعتقد البعض أن الأنطولوجيا أوسع من التاريخية وأكثر رحابة وهذا خطأ جســـيم ذلك أنه واعتباراً من هيغل، الذي كتب بعد الثورة الفرنسية، بات المحتوى أغنى من الشكل وبات هذا الأخير مـشـــــروطاً بالمحتوى المتناقض.أي أن الأنطولوجيا لم تعد سوى وجه من وجوه التاريخية. لهذا السبب نؤكد أن الحاجة إلى حركة لليسار الماركسي مسألة مشروطة تاريخياً (عالمياً ومحلياً) . وهذا يؤكد قولنا في بداية التعليق على ورقة ملحم من أنه يتوجب تحليل الوضع العالمي والمحلي ليتبين لنا ضرورة بناء حركة يسار ماركسي، ضرورة تاريخية. وليظهر لنا توافر عناصرها الذاتية والموضوعية مع التأكيد على أهمية ضبط مصطلح ذاتي وموضوعي. وهنا أود تقديم ملاحظة قد تكون مفصلية بما يخص الفقرة السابقة لـ ملحم. أقول مبدئياً باعتبار أن الهيمنة قد تفككت بما يخص مفهوم الثورة بفعل من تفكك التجربة السوفييتية وبفعل الازدهار الاقتصادي التقني القطري للإمبريالية (ازدهار المراكز)، وباعتبار أن القوى الاجتماعية ولا أقول السياسية لليسار في سوريا قابعة في كنف الدولة بحكم الإصلاح الزراعي والتأميم السابق)، كل هذا يتطلب قيام حركة يسار ماركسي تعد نفسها جيدة لخوض "حرب مواقع" داخل مؤسسات الهيمنة الخاصة بالدولة الرأسمالية الطرفية،حرب قائمة على أرضية برنامج ديمقراطي سياسي واجتماعي هدفه النضال من أجل إلغاء "حزبية الدولة" أو احتكار حزب بعينه لمؤسسات الهيمنة كمؤسسات الإعلام والتربية والتعليم والمؤسسات الاقتصادية.
أخيراً بضع ملاحظات حول كراس فاتح جاموس أقول بضع ملاحظات لأن هذا الكراس بحاجة لقراءة نقدية خاصة به نظراً للطيف الواسع للمواضيع التي يناقشها ولكون تعقيبنا هنا قد غدا أكبر من اللازم . أقول: يتوجب في حرب المواقع إعادة النظر في الكثير من الألقاب التي توسم بها حركة ما مثل انتهازي وغير انتهازي. ويجب أن نلاحظ إذا ما تم الإبقاء على الحزب القديم شكل المواقف الحكومية والشعبية المسبقة تجاه هذا الحزب. من هنا قد يكون تغيير اسم الحركة ضرورة ملحة. كما يتوجب تغيير النبرة القديمة الخاصة بهذا الحزب لأنها وليدة مرحلة تاريخية بعينها (وليدة ظرفها) وإذا كنا نريد أكل العنب وليس قتل الناطور كما كان يجري من قبل في ممارسات الحركة فعلينا دراسة نبرة خطابنا وإعداد دعاة يسار ماركسي بشكل رفيع مع تخفيض التحريض إلى حدوده الدنيا.