نشر أحمد الجلبي مقالة في إحدى الصحف الأمريكية خلال شهر تشرين الأول الجاري بعنوان " نظرة من الداخل "، وقد أعادت جريدة "الشرق الأوسط " السعودية نشر ترجمتها إلى العربية . يمكن وصف المقترحات والأفكار التي وردت في المقالة "الجلبية " بأنها أذكى وأخطر وأخس وصفة سياسية لإشعال الحرب الأهلية الضارية في العراق وتحويله إلى شذر مذر ، أرضا، وشعبا ،وتراثا ،وثروات ،بما يحقق الحلم الصهيوني القديم في السيادة على المشرق العربي .
ولكي لا يسارع أحد أزلام جندرمة الاحتلال القلمية إلى اتهامنا بالاتهام المعاد والمكرر حتى السأم نسجل : إن الدفاع عن أي مجرم بعثي أو غير بعثي من رجال النظام الشمولي المنهار ثبتت عليه جريمة المشاركة في المجازر الجماعية وأعمال التعذيب والاغتيال منذ وصولهم إلى السلطة وحتى طردهم منها من قبل حلفائهم السابقين الأمريكان ، إن هذا الدفاع هو جريمة بحق الضحايا والشهداء العراقيين بحد ذاته ،ولكننا نضيف : إن تدبر و تصفية هذا الملف يجب أن تكون من اختصاص القضاء العراقي المستقل وفي ظل حكومة منتخبة انتخابا ديموقراطيا في عراق حر . ولنلق الآن نظرة على وصفة الجلبي باشا لمعالجة الموضوع وسننقل عباراته كما نشرت :
يسلب أحمد الجلبي صوت الشعب العراقي لنفسه ويتحدث باسم هذا الشعب فيقول (إن الشعب العراقي يشعر بالامتنان للرئيس بوش وللشعب الأميركي على مساعدتنا في تحرير العراق ) ثم يعبر عن احترامه لقرارات سيده بريمر ومنها قرار حل الجيش فيقول ( وإننا نكِنُّ عظيم الاحترام للسفير بول بريمر لقراره الشجاع والحكيم برفع غطاء حماية القانون عن حزب البعث المكروه وعن جيش صدام ) ثم يلصق المقاومة العراقية كلها بالدكتاتور المهزوم وبعد ذلك يقلل من شأنها مع أن أسياده الأمريكان يصفونها بالجحيم الفعلي . يحاول الجلبي ، من ثم ،أن يلخص الوضع العام بعبارة ملتبسة فيقول ( إن العراقيين يرحبون بالتحرير لكنهم ينبذون الاحتلال) ثم يضع يده على أحد مفاتيح الحل فيدعو إلى ( تطوير مجلس الحكم العراقي بسرعة إلى حكومة مؤقتة حقيقية تشارك التحالف في حمل العبء الأمني ) و في هذه العبارة اعتراف فاقع بأن الحكومة التي تمخض عنها مجلس "بريمر " هي مجرد حكومة "تصنيف*" لا قيمة لها ولا اعتبار بشهادة الناطق باسم سلطة التحالف هتلي .
وعلى هذا ، أليس هدف الجلبي الأول هو أن يشارك أو يدفع العراقيين إلى المشاركة في تحمل العبء الأمني والتخفيف عن كاهل الاحتلال ؟ وبعد ذلك يقترح الجلبي باشا الأفكار التالية على سلطة الاحتلال فيقول ( وهناك أيضاً خطوات من الضروري أن تتخذها الولايات المتحدة على الفور لمحاربة شبكة صدام حسين ولتحسين الوضع الأمني:
أولاً، مطاردة مؤيدي صدام الذين يسرحون ويمرحون في أرجاء العراق• ولذلك تحتاج قوات التحالف إلى التحرك بسرعة لاعتقال واستجواب آلاف الأشخاص من البعثيين وعناصر فدائيي صدام ومن الأعضاء السابقين الذين عملوا في الأجهزة الأمنية والجيش، إضافة إلى اعتقال واستجواب أشقائهم وأبنائهم وأبناء شقيقاتهم وأبناء عمومتهم• وهنا يمكن لـلمؤتمر الوطني العراقي، وللجماعات الأخرى الموالية للتحالف، تقديم قوائم بأسماء أولئك المطلوبين ومعلومات عن مواقعهم وكذلك تقديم المساعدة في عمليات استجوابهم• )
إن الجلبي يفكر بعقلية السائح الذي قدم إلى العراق من مدينة نيويورك ، والذي لا يعرف أن النظام البعثي الشمولي مزق المجتمع وخرب شبكة العلاقات والولاءات الموروثة ،وقسم حتى الأسرة الصغيرة إلى شظايا ومزق متناثرة . هل يعلم الجلبي أن "البعث" لم يعد حزبا بل صار -ومنذ سنين عديدة - وباء و أخطبوطا وطريقة تفكير وخطابا سياسيا مانويا لا يرى إلا أبيض أو أسود ، أو بعبارة صدام المشهورة من لم يكن في خيمة الثورة والحزب فهو خارجها أي عدو لها ؟ وبصدد هذه العبارة الصدامية فقد تناسلت بسرعة كبيرة وراحت تتكرر على ألسنة المدافعين عن الاحتلال ومجلسه المعين حيث نجد من تطبيقاتها اليوم قول أحدهم من ينتقد مجلس الحكم ويقف ضده فهو مع صدام وضد الشعب العراقي .إنها العقلية ذاتها واللغة ذاتها مع اختلاف التعبيرات الصوتية والتموضع الزمكاني . ترى ، هل يعلم هؤلاء المسارعون الى تلقط فتات المائدة الاحتلالية أن هذا الوباء الشمولي البعثي تمكن من فئات واسعة من شعبنا لدرجة أن بعض رجال الدين والدنيا من حزب التحرير الأمريكي والمدافعين عن مجلس إدارة الاحتلال لم يعودوا يطيقون توجيه أي نقد لمشاريعهم التدميرية تحت حجج واهية من قبيل ( هذا الكلام يفرح الطاغية في جحره ) ولا ندري لماذا لا يفكرون بأن كلامهم هم ودفاعهم عن المحتلين يمكن أن يجرح ويؤلم أرواح الشهداء والصديقين والأئمة الذين يحتضنهم ثرى بلاد الرافدين ؟ إن الذين يبيعون البلد بأسعار رمزية ، ويتخلون عن سيادته طوعا ، ويحاولون تأجيل ما تطالب به الدول والشعوب الأخرى من انتخابات وكتابة دستور وانسحاب محتلين كما يفعل الآن في مؤتمر قمة الدول الإسلامية هوشيار الزيباري ومعه رئيس "الدورة الشهرية" لمجلس بريمر أياد علاوي ، إن هؤلاء هم آخر من يحق لهم توجيه التهم والإساءات للآخرين .
وإذا كان لدعوة محاسبة وتقديم المجرمين البعثيين المتورطين بالمجازر وأعمال القمع لها ما يبررها ،وهي فعلا لها ما يبررها ، فمن يستطيع اليوم أن يقدم رقما حقيقيا للبعثيين الفعليين أو للذين اضطرتهم الظروف الجحيمية ليكونوا بعثيين ؟ من يعرف قوائم الجلادين الفعليين الذين قتلوا واغتصبوا وسرقوا واضطهدوا العراقيين طوال أربعة عقود ؟ ألا يوجد أحد هؤلاء الجلادين "التائبين " في ربع الساعة الأخير من مباراة القفز بالزانة السياسية جالسا على يسار أو يمين الجلبي باشا في مجلس بريمر لإدارة الاحتلال ؟ وهل يعلم القارئ أن مسئولين كبار في الحزبين الكرديين الكبيرين ظهروا على حقيقتهم كعملاء للمخابرات البعثية لآخر لحظة من لحظات عمر نظام صدام التكريتي ( راجع استقالة المسئول الكردي شلاو علي عسكري على موقع الحوار المتمدن /وبيان الحزب الشيوعي العمالي حول الموضوع ) هل يعرف الجلبي وأمثاله الواقع المجتمعي الحقيقي في العراق وكيف أن القبيلة والأسرة والطرف "الحارة" انقسمت إلى ولاءات وتحزبات مختلفة ومتعادية حيث تجد في الأسرة الواحدة البعثي الصدامي واليساري والإسلامي والقومي واللبرالي ؟ فكيف يريد الجلبي بن الجلبي أن يعتقل وتستجوب ويحاصر أقارب وأهالي البعثيين ؟
ثم يقول الجلبي ( ثانياً، إجراء عمليات تمشيط أمنية تشمل البلدات والمدن التي تتركز فيها جيوب المقاومة• وينبغي هنا على قوات التحالف أن تقوم بتطويق هذه البلدات وأن تعطي للسكان المقيمين فيها مهلة لا تتجاوز 48 ساعة لتسليم الأسلحة غير المرخصة، وبعدئذ ينبغي تنفيذ عمليات تفتيش شاملة للبيوت• وإذا تم العثور على مخبأ للأسلحة في منزل ما، ينبغي عندئذ اعتقال كافة الذكور المقيم! ين في المنزل ممن تتراوح أعمارهم بين 15 و50 سنة• وستكون لعمليات التفتيش هذه فائدة كبيرة في العثور على الفارّين•)
إن هذه اللغة في الكتابة السياسية تجعل من المستحيل التمييز بين الكلب السلوقي والسياسي المحترف وذلك لأنها تنقل المتلقي وبصريح الدلالات من خانة التفكير والمحاججة والتحليل إلى خانة اقتناص الطرائد البشرية والتحريض على الإبادة والاضطهاد وانتهاك حقوق الإنسان والوشاية العلنية مدفوعة الأجر . إن الدفاع عن حقوق الإنسان ، ولكي يكون مبدأ مستقيما وحقيقيا ، ينبغي أن يشمل حتى الدفاع عن حقوق الإنسان " العدو " لأنه إن ظل في حدود الدفاع عن الإنسان الصديق " إنساننا نحن " فإنه لن يتجاوز حدود التضامن الغرائزي والعشائري البدائي ، وأبعد ما يكون عن التضامن مع حقوق الإنسان الشامل ، الإنسان النوع ، الإنسان العام ، الإنسان الجوهر غير المتماهي بالظرف الخارجي . وبهذا فقط يمكن أن نرسم فرقا لا يمكن ردمه بيننا ( نحن ضحايا الفاشية والظلم والاستبداد ) وبينهم ( الجلادين في نظام صدام أو الأنظمة التي سيفرضها المحتل الأمريكي على شعبنا ) لنكون جديرين بالحرية التي لوثها عملاء الاحتلال باستخذائهم ودوسهم على المبادئ من أجل حفنة من الدولارات .
ويضيف الجلبي ( رابعاً، التحرك بسرعة لتأسيس قوة أمنية عراقية قادرة على تولي عبء القيام بالكثير من تلك المهمات• ولذلك نفكر في تأسيس قوة وطنية عسكرية رديفة تشبه قوات الشرطة الإيطالية وتتفوق على قوات الشرطة العادية من حيث أنها مدججة بأسلحة أكثر وتتمتع بقدرة أكبر على المناورة والحركة .)
نعم ..الجلبي يفكر بعقلية السائح ، بل هو سائح فعلا ، عاد إلى العراق بعد حفنة من السنين ، ويريد أن يكون ملكا مفروضا على العراق ليأخذ بثأر أسلافه من عائلة " الجلبي " أو ليواصل المسار السلوكي الذي شقوه في تاريخ العراق . لقد عاتبني صديق من "شرفاء" المجالسة قبل أيام لأنني هاجمت بعض الشخصيات السياسية بعبارة قلت فيها إن (مصانع ومعامل القطاع العام هي ملكية خالصة للشعب العراقي وليست طابو لهذه الأسرة المتسلقة أو تلك ، ولا لهذا السياسي الذي ورث العمالة للأجانب أبا عن جد ولا ذاك . ) وأخذ عليَّ أنني أسأت إساءة بالغة لآباء وأجداد بعض الذين كانوا حقا عملاء ومتعاونين مع المحتلين الأجانب ولكن ذلك ليس مبررا للإساءة إلى الآباء والأجداد الذين قد يكونون من طينة أبنائهم وأحفادهم وقد لا يكونون . وكلام الأخ المعاتب سليم من حيث الجوهر ، وتؤيده الأعراف والثوابت الدينية والدنيوية وخصوصا الآية القرآنية التي تقول ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ولكنني كنت أتكلم عن عملاء محددين بالاسم ، ورثوا العمالة وخدمة الغزاة الأجانب أبا عن جد . ولن أزيد على ذلك بل سأقدم الدليل المأخوذ من التاريخ الحي المكتوب والموثق .
في الكتاب الأول من ثلاثية " العراق " للمؤرخ وعلم الاجتماع الأمريكي من أصل فلسطين حنا بطاطو وعلى الصفحة 352 منه نقرأ الأسطر التالية وسنقتبسها حرفيا وكما هي :
إن عائلة الجلبي ( تمثل حالة نموذجية أخرى ، إذ كانت واحدة من العائلات الشيعية القليلة التي حافظت على علاقات ممتازة مع الحكومة العثمانية وكان سلفهم علي الجلبي جابيا للضرائب في الكاظمية . وكان علي غاية في القسوة ، وعنده حرس شخصيون من العبيد المسلحين وسجن خاص بتصرفه . وعندما مات تنفس أهل الكاظمية الصعداء . أما ابنه عبد الحسين الجلبي الذي أصبح رئيسا لمجلس إدارة شركة ترام الكاظمية فقد كانت له منذ العشرينيات حقيبة في كل وزارة تقريبا لنه كان قابلا للاعتماد عليه ولين العريكة ، كما جاء على لسان السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي الآنسة جرترود بيل . وأما حفيده عبد الهادي الجلبي فقد حظي في عام 1938 بعطف عبد الإله الذي سيصبح الوصي على العرش لأنه ساعده بالقروض / العراق / الكتاب الول / ص 352 / حنا بطاطو )
وباختصار :
- فقد كان الجد " علي الجلبي " متعاونا مع المحتلين الترك العثمانيين وجلادا يعمل لصالحهم .
- وابنه عبد الحسين الجلبي كان متعاونا مع المحتلين البريطانيين و وزيرا دائما في الحكومة الملكية الحليفة لبريطانيا .
- وحفيده عبد الهادي الجلبي فقد كان مساعدا وممولا للمجرم السكير والملطخ بدماء شهداء الوثبة الوصي عبد الإله .
- أما ابن حفيده أحمد الجلبي صاحب المقالة موضوع الحديث .. فهو مرشح وزارة الدفاع الأمريكية وصديق الصهاينة الأول في العراق، وهو المحكوم بالسجن لاثنتين وعشرين سنة لاتهامه بسرقة أحد البنوك ، وهو أخيرا وعضو مجلس بريمر الوحيد الذي يدعوا علنا إلى بقاء القوات الأمريكية المحتلة وبناء القواعد العسكرية لها على أرض العراق فيالسوء حظ الغزاة الأمريكان على هذه " التحفة النادرة "!
غير أن من الإنصاف القول أن حالة احمد الجلبي ليست الوحيدة بين أصدقاء الاحتلال الأمريكي للعراق ، وإنما ثمة من يساويه أو يفوقه في هذه التيمة " الموهبة " وسوف نفتح الأوراق المخبوءة لبعض هؤلاء قريبا وبمجرد أن تحين المناسبة . كما أن هناك نوعا آخر من هذه العمالة الوراثية انتشر بعد سقوط بغداد وهو أكثر فسادا وقد أسس له مجالسي من الحجم الصغير : لقد حاول هذا المساعد السابق للنهاب ومهرب الآثار المعروف أبو حيدر الكرادي أن يستعمل والده كجسر للوصول إلى موقع مربح في خدمة الاحتلال ، فسافر هو وأبوه مع رجل دين معروف على ظهر دبابة بريطانية بعد سقوط بغداد ، ثم أرسل هذا الشخص وأبوه من قبل رجل الدين المذكور غفر الله له إلى محافظة الناصرية ليجندا عشيرتهما المعروفة في المنطقة لصالح التعاون مع الاحتلال ولكن أبناء العشيرة استقبلوهما بالأحذية وطردوهما شرد طرد .. وحين عاد هذا البطل إلى "المنفى" مجددا وبخفي حنين تخصص في شتم الوطنيين والاستقلاليين عبر مقالات تقطر بذاءة وتشي بالجوهر الحقيقي لأصدقاء الاحتلال ومؤيديه ..
* تصنيف : تعني هذه الكلمة باللهجة العراقية " المسخرة " و " ضحك على الذقون " .