مؤرخ واستاذ جامعي عراقي / كندا
نداءات من اجل عمليات التغيير الاجتماعي
عندما يتاح للثقافة ان تكون محركاً للافكار المبدعة والامنيات الكبرى فإن مسؤولية المثقفين الحقيقيين تتضاعف بشكل متسارع من اجل قيادة عمليات التغيير الاجتماعي والثقافي ومحو آثار الثقافة السلطوية والتدجين السياسي وحالات التشتيت والالغاء التي شملت قطاعات ذكية ونخب رائعة من المثقفين العراقيين المهرة الذين تعد ابداعاتهم متميزة على المستوى العالمي في الاداب والعلوم الطبيعية والسريرية .. وفي الموسيقى والفنون التشكيلية والمعمارية .. لقد كانت السياسة الثقافية الاحادية والشوفينية التي مارسها النظام السابق قد طالت الافكار الحرة والابداعات الذكية والمنتجات الحيوية ولم تكتف بذلك حسب ، بل تدخلت في نمط العيش والسلوك البشري والحياة العائلية ، كما قامت السلطات الحزبية والرسمية معا بالعمل المارق على تحديد مسؤولية المثقفين وحجبهم بشكل كامل عن مواجهة العوائق والوقوف ضد كل مشروع يطمح للوصول بالعراق الى حالة ارقى من التقدم الاجتماعي والتطور المعرفي ..
وعليه ، فلقد تراجع المجتمع العراقي بكل قطاعاته ونخبه وفئاته وهو المعروف دوما بالقوة والمتسم بالحيوية والمرهف بالحس الحضاري والرغبة الجامحة بالتحديث المتسارع .. فمن ميزات المجتمع العراقي كما تدارسناها في كتابنا " انتلجينسيا العراق : النخب العراقية المثقفة في القرن العشرين " انها تمتلك تفكيرا مدنيا دنيويا يتقبل البدائل العصرية وليس من اولوياته الالتفات للماضي باستثناء جيوب جغرافية وبيئوية محددة ومعروفة وقد تبلورت حقائقها مؤخرا .. ولكن المجتمع في الثلاثين سنة الاخيرة من القرن العشرين تخلف - ويا للاسف - عن ركب التيارات المعاصرة ومتغيرات المعرفة المتوارثة وتراجع كثيرا عن عصر المعلوماتية. وهنا يتطلب هذا الامر في الواقع من المثقفين تكريسهم العمل كل من موقعه على ابراز خصائص الشخصية العراقية الحضارية بكل خصوصياتها الثقافية التي تتميز تنوعاتها بالندرة والتي جري تشويهها وتدميرها او في افضل الاحوال تحويلها الي كائن خرافي له تشوهاته وانه هامشي غير فاعل .. ولعل هذا الجانب هو اخطر ما انتجه العهد السابق بجعله للعراقيين المثقفين اعدادا من الضحايا التي لا يلتفت اليها احد ، فهي اما معزولة او محبطة او هاربة لا تجرؤ علي ان تفصح ما يكمن في دواخلها ابدا وقد غاب تفاعلها الاجتماعي الحرّ .. وكانت ولما تزل خائفة فالخوف يأكلها طوال هذه السنين ، ولم يزل الخوف يلازمها حتى بعد رحيل الطغيان ليس بسبب الخوف من المستقبل ، بل الخوف من عودة الطغيان من جديد باقنعة من نوع آخر .
ما الذي يمكن فعله لمثل هذه الامراض الاجتماعية ؟
يتحدد دور الثقافة العراقية والمثقفين العراقيين في المرحلة التاريخية القادمة باعتماد الكفاءات الجادة والنظيفة والمتخصصة والمنفتحة اساسا في التوغل من اجل اجراء عمليات جراحية وتشريح كل المفاصل في حياة المجتمع العراقي من الناحيتين النظرية الواقعية والاجرائية التطبيقية وذلك باعتماد هيئات متخصصة ومستقلة سياسيا من اجل العمل على تنقية مجالاتنا الثقافية من كل الادران الشوفينية والامراض الاحادية ومنح الثقة لكل انسان عراقي ومبدع ان يعبر عن رأيه وابداعه بالطريقة التي يريدها وان يتم اعتماد الكفاءات والاحسن دوما في اختيار الفنانين والكتاب والادباء والتشكيليين والموسيقيين .. وكل الكوادر العراقية المعبرة عن روح الثقافة العراقية الجديدة . ولابد من اصدار قوانين وتعليمات جديدة تعمل تنفيذيا على الغاء كل التراكمات من التقاليد البدائية والاعراف المتخلفة التي غزت مجتمعنا العراقي المتمدن ابان عقود من الزمن تم خلالها (ترييف) المدن واكتساح البني الاجتماعية الاصيلة بقيم وعادات الريف المتخلف وسلوكيات الطفيليين من اثرياء الحروب الاميين الجدد والجهلة من اشباه المتعلمين ممن امتلكوا المواقع السياسية والوظيفية والاقتصادية ( وحتى الدينية ) في مجتمع المدينة بحكم تراثهم الريفي السلطوي والعشائري وقربهم من ادوات النظام الحاكم وخصوصا اولئك الذين نزحوا من مناطق جغرافية متخلفة جدا وتسود فيها سلوكيات مشينة غير متحضرة باسم العشائريات والقيم الاسروية البالية ولقد سيطر ابناؤها على مقاليد السلطة في العراق منذ العام 1963 مرورا بعهود الاخوين العارفيين عبد السلام وعبد الرحمن والقريبين القرويين احمد حسن البكر وصدام حسين !
كل هذا جرى سياسيا وفرض الامر الواقع وبتبريرات قومية ودينية ضد فكرة التقدم الحقيقية عند العراقيين المحدثين ، وبينما تسلطت تلك القوى من الفئات الاجتماعية المتخلفة على المرافق الحيوية في البلاد ، تراجعت الطبقة العراقية المتوسطة المثقفة التي كانت تقود حتى مطلع السبعينيات عمليات التحركات الاجتماعية والتطورات الابداعية في جميع المجتمعات الانسانية واصبحت هي الطبقة المعوزة المعزولة التي لا تملك ان تؤدي أي دور في المجتمع المتخلف اشبه الريفي الذي انتكس بسرعة وهو يتحرك دوما الى الاسفل وفق الحاجات الاولية العادية والغريزية للكائن البشري (الطعام والتملك والنوم والجنس) وتحولت المؤسسات الثقافية التي تملكها الدولة والافراد لخدمة وتلبية رغبات الذوق الريفي البدائي المتخلف الذي لم تهذبه الحضارة ولم تصقله معطيات الثقافة الحديثة الا بقدر ما تؤهله الثروة من امتلاك القصور الكبيرة والاثاث والرياش الثمينة والسيارات الفارهة والنساء المصبوغات بالاصباغ المضحكة ..
مشروع اعادة لتأسيس الحداثة العراقية
ان مشروع تأسيس او استعادة تأسيس الحداثة العراقية مهمة شاقة وصعبة ، ولكنني مقتنع جدا بأن العراق يستوعب اليوم اي برنامج حداثوي واي مشروع للتحديث فالحداثة العراقية هي اهل لاصحابها وهي حداثات بحق وحقيق ، بل انها تحول عميق في الفكر العربي والفاعليات القوية. وإذا كان يسهل على الاخر ان تقتبس قسماً من عناصر تقدّم ثقافة العراقيين في القرن العشرين ، فالعراق عالم قديم من الكلاسيكيات ومتحضر جدا ، ولكنه يجمع كل تناقضات الدنيا . نعم ، لقد سادت الفوضى في العراق ابان الثلاثين سنة الماضية وغدت مراتع الفن ومجالس الادب واروقة التعليم وقاعات الدروس ومهرجانات الشعر وحفلات الموسيقى وبرامج الاذاعة والتلفزيون ومؤسسات الفكر .. كلها من دون استثناء ملاعب حزبية مهيجة للفوضى الراقصة وهي تسبح بحمد الرئاسة الالهية لصدام حسين بلغة الاجلاف السمجة .. وانها صارت محكومة بتحولات من التراجع نحو الوراء ونمو الثروة والمال والسلطةوالقوة بايدي هؤلاء المتخلفين الطارئين علي حياة المجتمع الحضري من سكان المدينة الاصلاء ، وطال الفساد بُنى التربية ومؤسسات التعليم العالي بسبب انهيار منظومات القيم العراقية والتردي الاقتصادي المقيت وشاعت الرشاوى مؤخرا بين المعلمين والمدرسين، وكما تقول الروائية العراقية المعروفة لطفية الدليمي في مقال لها كتبته مؤخرا : " واصبح لكل مدرس او استاذ جامعي (تعريفة معلنة) تدفع بالعملات الصعبة لضمان نجاح طلاب شبه اميين وحصولهم علي الشهادة الجامعية دونما تحصيل علمي مؤكد وحصلوا علي (الدكتوراه) بالطريقة ذاتها واحتل بعضهم مناصب ومواقع اساسية في هيكل الدولة وانسحب الوضع الي محرري الصحف الثقافية الذين اخذوا يتقاسمون (المكرمات) المقدمة لشعراء المديح ودارت المساومات علانية حول نشر قصائد التمجيد الفجة التي يتوقع ان تنال رضا النظام فيغدق علي كاتبها الهبات وهكذا تحولت (الفنون والآداب) الي ابواب ارتزاق رخيص خارج عن قيم الابداع والفن الحقيقية " .
مستلزمات التغيير في ثقافة العراقيين
ان من ابرز مستلزمات العراق اليوم مراعاة جملة من المبادىء والعمل على تحقيق جملة من الحاجات ، يمكنني اختزالها بالاتي ، اذ لابد من ترسيخ المبادىء التالية لتحقيق اهداف بعيدة المدى ، وهي :
اولا : ولادة ثقافة مدنية من خلال سياسة مؤهلنة ( بمعنى : معلمنة ) تشارك فيها كل القوى الاجتماعية المدينية الحية في المجتمع بعيدا عن تدخلات سلطوية يفرضها من يسمون انفسهم بـ : شيوخ عشائر او رجال دين او رؤساء طوائف وملل .. وعدم فرض وصاية لأي احد على الانشطة الثقافية والابداعية العراقية من اجل ان تنطلق لتتلاقى مع ثقافات اخرى ، او على اقل تقدير ان تعرف اين مكانها الطبيعي من ثقافات العالم .
ثانيا : ولابد ايضا ان يشارك المثقفون العراقيون مشاركة حقيقية بشبكة المعلومات الدولية ( = الانترنيت ) والانفتاح عليها باكثر من لغة وتحل بديلا عما يسود ويطغى اليوم من المواقع العربية المتخلفة التي تسيطر عليها قوى تراجعية ومزيفة وتافهة لا تعرف من الثقافة الا مضيعة للوقت والجهد والمال ومن خلال بث مضامين رائعة ابداعية ومتخصصة تحل بديلا عما هو كائن اليوم ! فهل باستطاعة المثقفين العراقيين ان يفرضوا مواقعهم على هذه الشبكة العالمية ؟
ثالثا : ولابد ايضا من تأسيس سياسة اعلامية عراقية لها قيمها الثقافية وسلوكياتها واخلاقياتها العالية تكون حرة طليقة بعيدة عن كل القيود السلطوية وانها تعكس كمرآة كل الاطياف ، فضلا عن دورها الذي لابد ان تأخذه في الحيز الثقافي العربي المعاصر بعد ان غابت طويلا عنه لأسباب سياسية واضحة ، وان يشتمل ذلك على كل وسائل الميديا السمعية والبصرية والمكتوبة.
رابعا : ولابد ايضا من ثورة جراحية في تغيير المناهج الدراسية للمدارس والجامعات ، وهو مطلب اساسي من اجل استعادة وعي الاجيال بحقائق الحياة المعاصرة وابعادهم عن مستهلكات النصوص والاقوال والاخبار والعبارات والفصول التي تمدح وتمجد الرئيس القائد والحزب الواحد .. واخراج جيل كامل من ازمة مثاقفة قميئة تقدم النضال على العلم ، وتؤله الدكتاتور على حساب الحريات ، وتمجد بالشعارات ضد التفكير العلمي !
خامسا : واخيرا ، لابد لي من وقفة قصيرة عند المجمع العلمي العراقي وبقية الهيئات والمؤسسات العلمية والثقافية والاثارية التي ارادها النظام السابق مجرد دوائر بعثية صرفة يعيّن بنفسه هيئاتها من دون اي اعتبار للكفاءة والخبرة والسمعة العلمية ، فالمجمع العلمي العراقي بحاجة ماسة الى مجمعيين حقيقيين بديلا عن ساسة واكاديميين سلطويين ( وليعذرني بعضهم من معارفي وزملائي ) لأن الصحيح ان يكونوا منتخبين لا معينين وان يكونوا موسوعيين ولهم مهاراتهم اللغوية وليس جعل المجمع ميدانا لالقاء محاضرات سياسية حزبية يقدمها سعدون حمادي وامثاله فضلا عن اعادة النظر في عضوية المزاملة والشرف ، فثمة اعضاء عرب قبلوا مجمعيين لدورهم في التعاطف مع النظام منهم الدكتور محمد المسفر والدكتور محمد عابد الجابري !! فهل يمكننا استعادة الحداثة العراقية من خلال مشروع في الاولويات ؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات القادمة !