|
العراق بين ثقافتين...ثقافة المجتمع المدني وثقافة العنف
عبد جاسم الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 2033 - 2007 / 9 / 9 - 09:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يأخذ العنوان دلالاته الواقعية برموزها وشعاراتها وامتداداتها التاريخية في العراق ومضاعفات الأزمة العضوية التي تلمّ به على امتداد حوالي نصف قرن بخاصة بعد اجهاض ثورة الرابع عشر من تموز وإشاعة ثقافة السلاح والعنف والموت التي نعيش ذروتها في العراق. يصلح الموضوع لدراسات نقدية تحليلية يتولاها أهل الاختصاص في مراكز البحث العلمي والاكاديمي والمؤسسات الثقافية لأنها ذات جدوى مهمة على المستوى الثقافي الاستراتيجي في العراق ومنطقة الشرق الأوسط والعالم.
إن البحث في العراق قد تراجع إلى أبعد الحدود ولم يعد فاعلاً بل يعبر عن أزمة ثقيلة في عناصرها لأنه يفتقر إلى الحرية وتوافر الشروط العلمية المناسبة في البحث. نحاول في الصفحات التالية فتح هذا الملف وقراءة أبوابه ومضامينه السياسية والاجتماعية والمذهبية كذلك، بالاستفادة من مراجع التأليف العراقية وكتب "المذكرات" والشهادات التاريخية لأسماء إما لأنها فاقت من غيبوبتها وشعرت بثقل المسؤولية وكأنها تبحث عن كلمة تخفف عنها وزر الأعباء التي حملتها في مواقع الحزب أو الدولة، أو لأن البعض منها كان يجد حريته في نشر آرائه المخطوطة بعد مماته! وتظلّ في كل الأحوال نقطة ضوء ايجابية في نقد الذات والتجربة من أجل إعادة بناء الإنسان والمجتمع على أسس جديدة بعيداً عن تلك المخالب السوداء التي ماانفكت تنهش بالعراق والعراقيين وتعبث بشعارات طواها الزمن. تعترض الباحث في الملف السياسي في العراق ظروف نشأة الدولة العراقية وقيام المؤسسة العسكرية بالتكوينات "القومية" التي احتوتها وصارت قاعدة دائمة لها في النزاعات والاستحواذ على العراق كله واستخدامها في حلّ الصراعات والخلافات بين القادة العسكريين وقمع حركات الاحتجاج والتمرد والانتفاضات الشعبية وظهور النزعة "الانقلابية" والتكتلات والعلاقات الشخصية و"المناطقية" ويمكن أن يكون العنصر "الطائفي" قد لعب دوراً مؤثراً في احتواء المؤسسة العسكرية والهيمنة عليها، بزجها في الصراعات السياسية ومسك زمام الأمور بيد تلك القيادات "القومية". فالبيئة الثقافية لاولئك الضباط القوميين كانت محدودة في إطار مناصبهم الوظيفية من خلال الثقافة العسكرية التي حصلوا عليها في مراتبهم العليا في الجيش العراقي وكذلك الدولة العثمانية أو من خلال انتماءاتهم الاجتماعية لعوائل "اقطاعية" وعشائرية، كانت لها امتيازات خاصة لدى بريطانيا باعتبارها احدى الدعائم الأولى والمهمة للاحتلال والنظام الملكي في العراق منذ نشأته وحتى اسقاطه في ثورة تموز الوطنية العام 1958. ... ظهر الجيش العراقي في السادس من كانون الثاني العام 1921 ببغداد قدره (2000) رجل. اعتمدت النشأة الأولى للجيش العراقي على ضباط سابقين في الجيش العثماني وعلى المدرسة البريطانية في الاسلوب والتنظيم والتدريب والتجهيز... وقدمت الحكومة البريطانية استثناءات خاصة في الانتماء للكلية العسكرية "لأبناء رؤساء العشائر الاقطاعيين الموالين للحكم من شروط الحصول على الشهادة المدرسية... إذ خصصت ما يقارب 25% من مجموع الضباط إلى أبناء رؤساء العشائر....". فالمؤسسة العسكرية في العراق بكبار قادتها كانت ذات بنية فكرية محدودة، عرفت بالاضطراب والتردد والعزلة عن جماهير الشعب، حاكت حولها معاني وشعارات في الوطنية والوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والاحتلال، إلا أنها كانت تمارس سياسة الاضطهاد المباشر على حركات الاحتجاج والتمرد كما حدث في قمع انتفاضة حركة الشيخ محمود الحفيد العام 1919 والانتفاضة البرزانية العام 1932، إذ شاركت القوة الجوية البريطانية باخماد حركات العشائر في 130 مرة ومناسبة... واستخدم الجنرال "ياسين الهاشمي" الجيش لأغراضه الشخصية في محاصرة خصومه واحراجهم، كما فعل في اثارة الاضطرابات على حكومة "حكمت سليمان" بالاتفاق مع بعض رؤساء عشائر الوسط والجنوب مثل: محسن أبو طبيخ وعلوان الياسري وعبد الواحد الحاج سكر، وقمع انتفاضات أخرى وقاد الجنرال "بكر صدقي" حملته العسكرية المعروفة على الانتفاضة "الآشورية" العام 1933. إن المعطيات التاريخية والأبعاد النقدية بعيداً عن الشعارات الزائفة التي روجتها المؤسسة العسكرية وصارت جزءاً من بضاعتها في الوطنية والقومية لا تخرج عن نزعة استئصال الآخر بالصفة "الانقلابية" التي توارثتها من جيل إلى جيل حتى إذا أخذت شكلاً تنظيمياً في حزب أو كتلة أو جماعة، فانها تشكل القاعدة الرئيسة المهمة في حياتهم السياسية والحزبية، ولم تكن الحياة المدنية والاشكال الاجتماعية سوى وسيلة لعبورهم إلى صفة "الانقلاب" العسكري وإلغاء الآخر، كما فعل "ياسين الهاشمي" مرات عدة منها خلال وزارته العام 1935 باستخدام حزبه السياسي "الاخاء" لاستدراج عدد من "موظفي الحكومة ورؤساء العشائر (واتباعهم المسلحين) وبعض قادة رجال الدين من أجل تعزيز قيادته وسلطته الشخصية والسير أكثر وأكثر باتجاه التسلط والدكتاتورية".(1) لهذا لا تجد عند هؤلاء الضباط القوميين رؤية واضحة أو فكراً يمكن أن نجد صداه بين العراقيين، لأنهم كانوا عرضة للاحتواء والصراعات الدولية، سواء تلك التي حدثت بعد الحرب العالمية الأولى أو الحرب العالمية الثانية فتارة نجدهم مع رجال الاحتلال الأول "نوري السعيد" وتارة مع "ياسين الهاشمي" المعروف بعدائه لحركات الاحتجاج السياسية والاجتماعية والأشكال التنظيمية في الحركة العمالية وثالثة مع "رشيد عالي الكيلاني" ودول "المحور"، بحثاً عن مظلة ونفوذ مع الدول الكبرى... "كان أولئك الضباط من ذوي الأفكار القومية وقد تعاطف معهم عدد من الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني خلال السنوات الأخيرة من الحرب أبرزهم: صلاح الدين الصباغ وفهمي سعيد وعبد الرزاق حسين ومحمود الدرة وعبد المجيد الهاشمي وأكرم مشتاق. ربط هؤلاء مصيرهم في بداية تكوينهم... ببعض السياسيين القدامى الذين عرفوا باتجاهاتهم القومية أمثال: ياسين الهاشمي ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني..."(2). فالنيات الطيبة لدى بعض القيادات العسكرية "القومية" لم تكن كافية لتكوين فضاء شعبي ورؤية قومية، للتحرر من هيمنة الاستعمار والاحتلال والنفوذ الأجنبي، لأنها كانت محدودة الآفاق ضيقة في أبعادها، تميل إلى الاعتكاف والانحسار خاصة إذا علمنا أنّ البنية الاجتماعية لعدد كبير من القيادات العسكرية كانت تنتمي لفئات "اروستقراطية" حظيت بامتيازات استثنائية على مستوى الأفراد والعشيرة من "بركات" الحكومة البريطانية وأدواتها في العراق فيكفي أن تعلم ماذا كانت تعني العوائل والقبائل التالية "الهاشمي والعمري والباجه جي والكيلاني والنقيب والمدفعي والأيوبي..." بما تملكه من أملاك وأراضٍ اقتطعتها الحكومة البريطانية لترضية رؤساء العشائر والقبائل لمؤازرة الاحتلال ودعمه وقدمت استثناءات لأبنائهم في الوظائف الادارية العليا والمراتب العسكرية. أرادوا أن يضفوا عليها سمة دينية وتشريعية للاستحواذ والهيمنة على الأرض والبشر بقولهم: "انها هبة من الله أنعم عليهم بها فلا يجوز للحكومة وقانون الاصلاح الزراعي تقسيمها بين المستحقين من الفلاحين....". ... إنّ درجة تركيز الملكية الزراعية في العراق، تكاد تكون فريدة من نوعها في العالم. فانّ (1) في المئة من سكان الريف يستحوذون على ثلاثة ارباع الأراضي. فحسب الاحصاء العام لسنة 1957، بلغ سكان الريف 4.100.000 نسمة. إنّ 104 ملاكين يملك كلّ منهم 20 ألف مشارة فما فوق بعضهم يملك أكثر من مليون مشارة أي ما يعادل ربع مساحة لبنان الكلية...(3) وأنّ إحصاءات رسمية تقول: "إن اثنين من كبار الملاك يستحوذون على 69 في المئة من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة..." فمفاهيم القومية العربية في العراق بشعاراتها "الوحدوية" بقيت لعقود طويلة "هلامية" فارغة من أي محتوى شعبي أو مضامين اجتماعية أو فكرية وغير قابلة للحوار والمناقشات وكأنها اكتسبت صفة "القداسة" والعقيدة، لكونها دخلت مع بعض الضباط القوميين بعد تأسيس الدولة العراقية بما لا تتوافر لها سمة ثقافية يمكن استيعاب دلالاتها وأهدافها وامكانات تحقيقها على المستوى العملي والشعبي. فكانت حمالة "أوجه" عدة تبعاً للصراعات الدولية ونفوذها في العراق ومنطقة الشرق والمصالح الشخصية والحزبية... ويلاحظ الباحث ارتباط تلك المفاهيم "العربية" و"الوحدوية" بالمؤسسة العسكرية "الفوقية" وبشعارات سياسية ظلت تلازمها بما يؤكد تاريخياً وثقافياً تعارضها الحاد والمنظم مع أي بعد ديمقراطي يسعى إلى التنظيم الاجتماعي وبناء مؤسسات مدنية لاقامة نظام اجتماعي متوازن يحقق للجماهير حضورها وحريتها ويوفر لها فرص التعبير عن ذاتها في مجالات العمل والتعليم والحياة المتعددة الأوجه، من دون قهر أو خوف أو اضطهاد اجتماعي وطبقي. يقول خدوري: "إنّ أفكار الشعبية لم تشق طريقها كما يجب، وذلك يعود بصورة رئيسة إلى معارضة السياسيين الكبار والدعاية المضادة من قبل القوميين الذين أعلنوا بعنف أن الشعبية ليست سوى شيوعية تحمل اسماً مختلفاً، ولهذا فانها مناقضة للتقاليد القومية العربية وموجهة نحو تهديم تعاليم الاسلام...." (4). ويختزل الباحث "التميمي" عناصر العداء للشعبية والأفكار الاصلاحية بقوله: "واصل القوميون العرب وبعض ملاكي الأراضي ومعظم ضباط الجيش عداءهم لجماعة الاصلاح الشعبي تحت شعار مناهضة الشيوعية...." (5). يلخص "محمد مهدي كبة" رئيس حزب "الاستقلال"، أصبح عضو مجلس السيادة بعد ثورة 14 تموز 1958، رؤية حزبه الفكرية والثقافية وموقف حركتهم القومية من الشيوعية والاشتراكية بقوله: علينا أن نفرق بينها وبين الاشتراكية أو الوطنية التي لا تتعارض مبادئها وطبيعة حركتنا القومية... تتفق والمبادئ القومية القائمة على فكرة العشيرة التي يتكافأ أفرادها في النسب ويتساوون في الحقوق والواجبات... أما المبادئ الشيوعية والاشتراكية العالمية، وهي والمبادئ القومية على طرفي نقيض أو قل هما ضدان لا يجتمعان على صعيد واحد في أية ناحية من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها... فمن المؤسسة العسكرية والبناءات السياسية التي استظلت بها بدأت المواجهة بين ثقافتين اثنتين، واحدة تشتغل على شعارات "عاطفية" خذلتها اصلاً وتنكرت لها حينما توافرت لها فرصة استلام السلطة، كما حدث العام 1963 والعام 1968، ووضعتها جانباً لتؤسس "دكتاتوريتها" ومصالح أفرادها، سنتحدث عن الموضوع في صفحات قادمة... ومن العلامات المفيدة في هذا السياق الامتدادات التاريخية والفكرية والسياسية بين حزب "الاستقلال" وحزب "البعث" في العراق من جهة و"المؤسسة العسكرية" من جهة أخرى التي تقدم نموذجاً لا مناص منه لقراءة واقع العراق ومضاعفات أزماته السياسية والثقافية في الصراعات التي أكدت "النزعة الانقلابية" لتلك الأطراف والعداء المستحكم للديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء مؤسسات المجتمع المدني، وكما لاحظنا سابقاً موقف حزب "الاستقلال" السلبي من إضراب عمال النفط في كاورباغي العام 1946 ومن الاتجاهات والأفكار السياسية الأخرى ومن المفيد أيضاً الاستشهاد برأي أحد القياديين في حركة القوميين العرب النقابي الراحل "هاشم علي محسن" إذ يقول بشأن حزب الاستقلال ومواقفه من الحركة العمالية والحريات المدنية والاجتماعية: "لقد كان منهاج الحزب حافلاً في المطالب القومية والتحررية الوطنية، إلا أنه لم يشر لا من بعيد ولا من قريب للحريات النقابية وحقّ العمال في تأليف النقابات. ترجم الحزب هذا الصمت بالعزلة التامة التي ظلّ يعيشها بالنسبة لحركة النقابات العمالية طوال تصديه لقيادة حركة النضال القومي في العراق. ولم ينحصر اهمال الحزب للطبقة العاملة وحقها في ممارسة الحريات النقابية في منهاجه فحسب، بل أنّ نشاط العمال النقابي لم ينعكس حتى على صحافة الحزب، ولو قدر له أن يحكم لما وقف عند حدّ رفض السماح بقيام النقابات، بل لحارب العمال تحت ذريعة اتهامهم بالشيوعية... إنّ أبرز ظاهرة رافقت نشوء الحركة القومية في العـراق هو انغلاقها على نفسـها وعزلتها عن جماهير العمال وحركتهم النقابية..." (6). تقودنا الصفحات السابقة عن الائتلافات الفكرية والثقافية والعلاقات المتشابكة والحميمة بين قادة المؤسسة العسكرية والتيارات القومية على اختلافها والاقطاعيين وبعض رجال الدين وممن قوّضت الثورة مصالحهم والارتباطات بالدول الكبرى وبذات النفوذ والدول الاقليمية والعربية المجاورة، بأنها كانت وراء الانقضاض على الثورة منذ ساعة اعلانها. لكنّ الذي يهمنا في هذا الباب قراءة أبعاد العنف الذي أفرزته "المؤسسة العسكرية" بطابعها القومي والصراعات التي نخرت جسم المؤسسة وحولته إلى اشلاء خاوية، هيمنت على جزء كبير منها مصالحها الذاتية فصارت تبحث عن كتلة أو جماعة أو "خلاص" كانوا يسمونه قومياً بانقلاب عسكري أو عمل تحريضي أو دعوة علنية للتدخل الأجنبي والاقليمي وبالذات "العربي" الذي كان رابضاً خلف الحدود مع "الجمهورية العربية المتحدة" يغذي عناصر الفتنة والانقسامات وإلغاء الآخر بالقوة. فالمؤسسة العسكرية التي تحولت إلى مجموعات من "الضباط الأحرار" قبيل إندلاع ثورة تموز الوطنية العام 1958، كانت تفتقر إلى المبادئ الأولية في الحوار والنقاش والمشورة وتبادل الرأي في وضع برنامج وطني يجيب على الأسئلة الملحة والمتوقعة وكان من أهمها سؤال "الوحدة العربية" الذي أشعل العراق لهيباً من دون جدوى وحوله إلى ساحة بشعة للانقسامات والاغتيالات، الأمر الذي شكل أحد عناصر "العنف" التاريخية في العراق. يبدو أنّ تشكيلة الضباط الأحرار كانت متحمسة على اسقاط النظام الملكي وإقامة النظام الجمهوري من دون تفصيلات ومواثيق عهد والتزامات... انهم كانوا مهتمين بالسبل والوسائل الكفيلة بتحقيق الثورة أكثر من اهتمامهم بأهدافها وأغراضها، حتى أنهم لم يضعوا مخططاً متكاملاً يعنى بشؤون استراتيجية الثورة أو تعيين ساعة الصفر لها. ومن أقدم المخططات التي وضعت للبدء بالثورة، كان المخطط الذي وضعه عبد الكريم قاسم عندما كان في الأردن، ولعلّ ذلك كان بالتعاون مع عبد السلام عارف... (7) إنّ غالبية الضباط "الأحرار" كانوا محافظين، فهم أقرب إلى الولاءات القومية و"العروبية" المحافظة، لا يؤيدون السياسة الحديثة ذات السمة الثورية في الاصلاحات الاجتماعية والثقافية منها الاصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي على مستحقيها من الفلاحين وتأميم صناعة النفط، وسنجدهم بعد الثورة مباشرة يواجهون أزمات ويصطدمون بوقائع جديدة أفرزتها الثورة بعد سني الخوف والاضطهاد والقهر الاجتماعي. لقد هالهم أن يجدوا جماهير العراق كلها وبصورة تلقائية تعبر عن نفسها في التنظيم والحركة والحضور والمبادرات الشعبية والمشاركة في حماية الثورة والدفاع عن انجازاتها، فقدوا عنصر الاستئثار والهيمنة ومواقع اصدار القرار السياسي، شعروا بأن تلك الجماهير تهدّد مصالحهم وتزحف لإحتلال الشارع بحرية، انتفضت لإعادة سماتها الإنسانية بعد أن كانت أداة للسخرية والاستخدام المهين، تعاني طوال حياتها كلها من العوز والاضطهاد الاجتماعي، خرجت من الكهوف المظلمة وبيوت الطين الواطئة تقف على "السدة الشرقية"، وتشرف على بغداد الثورة والحلم والحرية لتشارك العراقيين فرحتهم في بزوغ فجر الخلاص من الاحتلال والاستعمار وقيوده الاجتماعية الجائرة... فكان الصدام يعبر عن نفسه بقوة بعد وقوف الجماهير بقامتها وحريتها تطالب بحقوقها، أنه عنصر جديد أضافته الثورة إلى بنيتها وتركيبتها الاجتماعية فظهرت علامات المماحكات بين ثقافتين اثنتين، ثقافة "المؤسسة العسكرية"، ذات المنابت القومية والأصول الاجتماعية المحافظة التي لم تغادر فضاءاتها الضيقة وشعاراتها "القومية" ولم تحمل مشروعاً اجتماعياً يلبي طموح الغالبية الغالبة من المقهورين والمضطهدين يحقق كرامتهم الاجتماعية ويعيد اليهم اعتباراتهم الإنسانية، كما أنهم لم يقدموا مشروعاً وطنياً يعالج الأزمات ومضاعفات الاحتلال ويسهموا ببناء اقتصاد وطني واستراتيجية لآفاق العراق وتقدمه وعلاقاته بمحيطه والبلدان العربية والعالم. كانوا مع الأسف "يتقافزون" بتوتر وعاطفية في شعارات "الوحدة الفورية" لا صلة لها بواقع العراق وأزماته وكيفية النهوض به. كان هذا الاتجاه أشدّ خطراً على العراق وترك مضاعفات على النسيج الاجتماعي والوطني لكونه يتناغم مع مصالح الاقطاعيين وفئات من البرجوازية والمنتفعين من العهد الملكي. ولجأ الاتجاه القومي في العراق إلى سياسة العنف والمواجهة في وقت مبكر من قيام الثورة، بعد أن شعر بالانحسار والتراجع، أمام مدّ شعبي، اكتسح حال الجمود والسكون والانغلاق فكان التصدي للتظاهرات الجماهيرية السلمية في بغداد وتفريقها بقوة "السلاح" احدى أهم ركائز ثقافة العنف التي صحبتها حملات الاغتيالات والاعتداءات والتهديد واقتحام التجمعات الشعبية، وكانت محاولة اغتيال "عبد الكريم قاسم" في (رأس القرية) في شارع الرشيد في تشرين الثاني/ اكتوبر العام 1959، علامة على دخول قيادة "حزب البعث" في نفق التآمر على الثورة باعتباره شكل دائرة الاستجابة غير المشروطة لجميع الفئات والجماعات و"طوابير" اعداء الثورة، وحمل لواء "الاغتيال والسلاح والتصفيات الجسدية" وإمكان التعاون مع أطراف أجنبية وعربية وبخاصة "مصر" عبد الناصر تحت شعار "الوحدة الفورية"، من جهة أخرى توالت يوماً بعد آخر تحقيق انجازات شعبية ذات سمات استراتيجية في تشريع قوانين جديدة منها: اصدار الدستور المؤقت وقانون العمل وقانون الأحوال الشخصية وقانون الاصلاح الزراعي وقانون الأحزاب والمطبوعات وقانون النفط رقم (80) والاشتغال على استكمال سيادة العراق واستقلاله من الناحية الاقتصادية والسياسية والخروج من نفوذ الدول الكبرى. أشاد "كامل الجادرجي" بالمكاسب التي حققتها الثورة بخاصة فيما "يتعلق بقانون الاصلاح الزراعي الذي وصفه، بأنه ثورة، أزالت عهداً اقطاعياً، كان وجوده من أهم الأسباب التي أعاقت التطور الاجتماعي والاقتصادي في العراق وإلغاء حلف بغداد وانتهاج سياسة الحياد وقبول مبدأ التصنيع في القطاع العام" كامل الجادرجي ودوره في السياسة العراقية. (8) وانفتحت آفاق التعليم للعراقيين جميعاً سواء في داخل العراق وخارجه، فبدأت نهضة تعليمية وثقافية وفنية وعلمية كانت لها تأثيرات مهمة في منطقة الشرق الأوسط والبلدان العربية والعالم. وأصبح العراق يزخر بتلك الطاقات والامكانات العلمية والثقافية والاقتصادية، وصار نموذجاً تخشاه حكومات البلدان المجاورة، لكنه في الوقت نفسه كانت له امتدادت ثقافية مع الأدباء والكتاب والفنانين والتقدميين في تلك المجتمعات... ومما له أهمية في هذا الشأن، أن ثقافة الكلمة والمجتمع المدني والحوار وثقافة الابداع والفنّ والكتابة كانت ذات أنساغ حيوية وإنسانية ممتلئة بالعلاقات والانفتاح على الثقافات العراقية على تنوعها واستفادت من غنى تراثها، وثقافات المحيط والعالم، فأرست دعائم المحبة والتآلف الإنساني وشجعت الناس على القراءة والحوار وخلق منتديات ثقافية وفكرية كانت لها امتداداتها بالمفكرين والمثقفين الأوائل في بدايات القرن العشرين وبقيت ذات جذوة وحضور في المستويات العلمية والأكاديمية والاقتصادية والفكرية، تمدّ العراق بنبض الحياة والسمو على الأشكال الأخرى من ثقافة الكراهية واستئصال الآخر. يقول زكي خيري في كتابه (صدى السنين): "حاولنا أن نزيل التوتر بيننا وبين القوميين ولاسيما حزب "البعث"، جاء الجواب في جريدة البعث السرية "الاشتراكي" تحت عنوان "نقطع اليد التي تمتد إلى الشيوعيين"، ويضيف زكي بأنّ برقية البعث العراقي إلى انقلاب سورية في 8 آذار العام 1963 حسمت الموقف "اسحق حتى العظم" في حين لم تكن أمامه أية مقاومة... قدم "حسن سريع"، قائد انتفاضة الجنود في 3 تموز العام 1963 على سلطة البعث في 8 شباط العام نفسه، نموذجاً آخر في ثقافة الجماهير وآمالها عند النجاح في عقد محاكمات شعبية عادلة أمام الرأي العام المحلي والعالمي على النقيض تماماً من ثقافة السلطة البعثية/ القومية الممتلئة في قهر الآخر وسحقه واغتصاب النساء فيه من دون وازع أخلاقي أو اجتماعي أو وديني، وتلك ظاهرة تاريخية اقترفها بعثيون في دلالات الانتقام والثأر من ذلك العراقي الآخر. يقول طالب شبيب: "تجمهر أمام أبواب معسكر الرشيد حشد من الجنود وضباط الصف وبعض الضباط والمدنيين يهتفون "ماكو زعيم إلا كريم" و"عاشت الجمهورية العراقية الخالدة". نادى "أنور الحديثي" على أحد الهاتفين وطلب منه إعادة هتافه، ولما أعاده أطلق عليه أنور الرصاص من مسدسه الذي صوبه نحو رأس الجندي مباشرة فسقط على الفور ميتاً..." ويقول أيضاً "كنا نسمع عن جثث تطفو على سطح دجلة... وكان صالح مهدي عماش (وزير الدفاع) يستغل الفرصة في كل مرة نسافر فيها إلى خارج البلاد، فيقوم باعدام مجموعة جديدة من الشيوعيين ولم يسلم منه حتى النادمون والمعترفون والمتعاونون مع أجهزة التحقيق... وأعلن عبد السلام عارف بصراحة رغبته في أن يستمر نهج تصفية وإعدام الشيوعيين بنفس الوتيرة، وهدّد بأنّ أي توانٍ سيؤدي إلى استقالته من رئاسة الجمهورية..." (9). قال "حسن سريع" لرفاقه: "لاتقتلوا أحداً، بل اعتقلوهم وسنقدمهم للمحاكمة". اعتقل ثوار 3 تموز 1963 في الساعة الأولى من إعلان الحركة وزير الداخلية حازم جواد وطالب شبيب وزير الخارجية وقائد الحرس القومي منذر الونداوي ونائبه نجاد الصافي وخليل العزاوي، وهم باستثناء طالب شبيب المسؤولون مباشرة عن جهاز الأمن وعن ذراع الدولة والحزب القوية الحرس القومي وهيئاته التحقيقية المنتشرة في كل المدن والنواحي والقرى والأحياء..." لقد جاءت تركيبة ثوار حركة 3 تموز 1963 الاجتماعية، تقريباً من نفس النسيج الاجتماعي والقومي والديني والمذهبي العراقي العربي والكردي والآشوري والمسلم والمسيحي... الخ، كما لم تتحكم في تصرفاتهم أية مثيرات طائفية أو عنصرية أو دينية... (10). نرصد تفكير الجندي حسن سريع قائد الحركة والمشير الركن عبد السلام عارف رئيس الجمهورية، الأول علم رفاقه عدم إنزال العقاب قبل المحاكمة... وبالمقابل أشرف الثاني بنفسه مباشرة على عمليات قتل وإذلال جماعية راح ضحيتها خلال الساعات الأولى من فشل التمرد بين 150 إلى 200 جندي ومدني قتيلاً بعد استسلامهم!!!... (11). كان مركز طه الشكرجي في معسكر الرشيد في مقر اللواء 19 (لواء عبد الكريم قاسم) قد شهد في الأيام الأولى بعد 8 شباط 63 وبعد فشل حركة حسن سريع مهرجانات من التعذيب والقتل لعدد كبير من الضباط الأحرار القادة كالزعيم الركن داود الجنابي والمقدم إبراهيم الموسوي والعميد عبد المجيد خليل والعقيد حسين خضر الدوري الذي قلع له الشكرجي أذنيه بكلابتين قبل رميه بالرصاص بأمر من صالح مهدي عماش، انتقاماً من توقيعه قرار الحكم باعدام ناظم ورفعت...
حزب البعث واستراتيجية العنف في العـراق
تفيد التجربة والمشاهدة والقراءة لحوالي خمسة عقود خلت، اعتباراً من ثورة 14 تموز العام 1958، وما رافقها من صراعات واحتدام دموي شديد وفق شعارات لاتزال بقاياها حاضرة حتى يومنا هذا، بأنّ ثقافة "العنف" والسلاح والقوة وما تحمله من مرادفات واشتقاقات كانت صفة عضوية في بناءات حزب البعث واستراتيجيته العامة وشرطاً من شروط الإنتماء إليه، ويعتبرها جزءاً من "فحولة" الحزب و"رجولة" أبنائه في قهر خصومة واستئصالهم عند الضرورة.
وتؤكد الوثائق ومصادر قيادة "البعث"، بأنّ زخم إنتماء الشباب لحزب البعث في مرحلة ما بعد تموز 1958، كان مبعثه القوة والمواجهة والردّ المباشر الذي اتسم به، لا القضايا الفكرية والثقافية. ولعلّ الفرصة تتوافر يوماً للبحث العلمي في هذا المجال لقراءة الخلفية الثقافية والبيئة الاجتماعية لعدد كبير من الجماعات الارهابية التي التحقت بحزب البعث بعد ثورة تموز 1958 في بغداد وفي محلات كانت موئلاً "للشقاوات" و"عصابات" بغداد قبل الثورة، وكأنها وجدت الملاذ والرعاية والاحتواء في كيان الحزب وتنظيماته فاستخدمها البعث، ركائز لتفريق التظاهرات الشعبية المسالمة بقوة الرصاص، ولا نريد في هذا الباب أن نذكر أسماء من نعرفهم وصادفت الأيام أن نلتقي بهم في معتقلات بغداد، لأننا نهدف قدر الامكان إلى غاية علمية بحتة، نسعى لأن نضع تجربتنا من أجل عراق خال من ثقافة العنف والموت وإلغاء الآخر. لكننا في هذا الجزء من أوراقنا ستظهر ثقافة السلاح والعنف باعتبارها جزءاً من ثقافة "المؤسسة العسكرية" بانتماءاتها القومية وشعاراتها "الوحدوية". حمل حزب البعث لواء العنف وسحق الآخر باعتباره امتداداً للتيارات القومية في العراق بخاصة حزب "الاستقلال" الذي انزوى تدريجاً وانتهت مرحلة حضوره ونشاطه السياسي. فاشتغل على استقطاب المؤسسة العسكرية وزجها في الصراع في وقت مبكر. يقول هاني الفكيكي: في "1961ـ1962، لم يكن عمل الحزب داخل الجيش يتجاوز حدود توسيع عدد الضباط المتعاونين معه، وخاصة ذوي الرتب الرفيعة وقادة الوحدات الضاربة القريبة من العاصمة. وكان هذا يتمّ على حساب الإعداد الفكري والسياسي لهؤلاء الذين تحركهم كراهيتهم لقاسم والشيوعيين ويعجبهم البعث كمؤسسة قوية تتحدى الحكم بشجاعة، وحيال التأييد والشعبية اللذين تمتع بهما قاسم في أوساط الجنود والطبقات الشعبية الفقيرة وبالأخص في مدينة "الثورة" والريف الجنوبي، أضيفت إلى العوامل المذكورة مشاعر سنية دفعت بالضباط نحو الحزب" (12). اتخذت الأحزاب القومية في العراق بعد تموز 1958، المؤسسة العسكرية باعتبارها القاعدة الأمامية والركن الركين في العمل والتخطيط لتصفية حساباتها السياسية مع الخصوم، فكانت الشغل الشاغل لهم جميعاً، وأعادوا إلى الذاكرة صراعاتهم الأولى في تلك "المؤسسة" أيام احتدام النزاعات بين الجنرال ياسين الهاشمي ونوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني وحكمت سلمان فلا تعنيهم الثقافة الفكرية والاجتماعية ومبادئ الحوار أو المشروع الوطني، لهذا لم يؤسسوا طوال تلك الحقبة فضاء للحرية والنقد والمساءلة وبناء المجتمع والإنسان، لأنّ الغالبية منهم قد تآكل حضورها بفعل الجمع بين الحزب والسلطة والمؤسسة العسكرية التي انتهت إلى الدكتاتورية وسياسة الغطرسة والبطش والتوسع "القومي" والقوة! وتعتبر تجربة استلام حزب "البعث" السلطة في بغداد في انقلاب 8 شباط 1963 وما رافقها من حملات بطش وإبادة امتدت إلى انتفاضة الجنود وثوارها في حركة 3 تموز 1963، ذروة التعبير عن ثقافة الحقد والكراهية وسحق الآخر فحملت المؤسسة العسكرية بين دفتيها هذا الكمّ المتراكم من الضغينة وضيق الأفق على الرغم من أنّ السلطة كانت في قبضتهم. فاتخذ "الإلغاء" معاني عدة في الاستباحة وإلغاء ثقافة القانون والعدالة والإنتماء إلى بناء مستقبل العراق. وصحوة "الاعتراف" في كتابة المذكرات والادلاء بتصريحات من داخل المؤسسة العسكرية وحزبها "القومي" في العام 1963، تبين الامتدادات التاريخية لثقافة العنف التي تدرب عليها "بعثيون" في ابتداع أشكال جديدة في تعذيب المعتقلين وإذلالهم والاعتداءات "الجنسية" على عدد من المعتقلات، إلا أنّ ما يؤسف له حقاً هو غلبة الجانب السياسي في أشكاله "الانتهازية" على جانب البحث والتحليل ونشر ثقافة النقد والتوعية الجماهيرية مما أدى إلى طي تلك الصفحات والسكوت عليها لخلل في البنية الثقافية والفكرية في مفهوم النقد والتحليل لظاهرة العنف التي أخذت العراق ابتداء من انقلاب شباط 1963 نحو تأسيس ثقافة العنف والفصل بين الثقافة المدنية والديمقراطية التي اشتغل عليها مفكرون ومثقفون وأكاديميون، كانون يتألقون مع العراق والإنسان والحرية، إذ نستعين الآن بمذكرات هاني الفكيكي في كتابه "أوكار الهزيمة" وطالب شبيب وكتاب "المنحرفون" وغيرهم، إلا أنّ هذا الكمّ الهائل من مشاهد الموت والخوف والتعذيب لم تأخذ طريقها في بحوث أكاديمية ونقدية. "كان التعذيب يجري بأكثر أشكاله بدائية وثأرية... وفي ذلك التعذيب كانوا يستخدمون العصي والأنابيب المطاطية والتهديد بالقتل عن طريق عصب أعين المتهم... وقد سمعت قصصاً عن التعليق بالمراوح السقفية وغيرها من الأساليب التي ربما استخدمت ولم نكن على بينة منها..." (13). يقول الضابط محمد علي سباهي الذي كان عضواً وأحد مؤسسي المكتب العسكري لحزب البعث قبل 8 شباط: "في عام 1963 زرت في قصر النهاية عمار علوش وكان مشرفاً على التحقيقات، فرأيت عنده عبد الكريم الشيخلي (وزير خارجية فيما بعد) وأيوب وهبي وخالد طبرة، وفوجئت بالصحافي عبد الجبار وهبي ممدداً على الأرض وكان على وشك الموت ويطلب الماء، ويجيبه خالد طبره (مدير عام فيما بعد): "ها گواد تريد مي (ماء)" ولم يعطه. وكان الدكتور فؤاد بابان قد أخبرني بمدينة السليمانية عام 2001 قائلاً: "كنت معتقلاً في قصر النهاية فرأيت عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) منشور الرجل من تحت الركبة بآلة نشر خاصة، وكان إلى جانبه شخص آخر لديه يد واحدة معلق منها..." (14). "الملازم أيوب وهبي (الملقب بابن شيتا)، كان مهووساً، دخل يوماً إلى النادي الأولمبي الذي تحول بعد 8 شباط إلى معتقل ومركز تحقيق وتعذيب فرأى مجموعة من الضباط يقفون جانباً، فقال مَنْ هؤلاء؟ فقالوا هذا الرائد حافظ علوان مرافق عبد الكريم قاسم وهذا الملازم نوري ناصر أحد مرافقي قاسم والملازم الطيار محمد صالح إبن أخت عبد الكريم قاسم والملازم الطيار كريم صفر والرئيس غازي شاكر الجبوري، فسحب أيوب وهبي أقسام رشاشته ورماهم جميعاً دون تردد، فلم ينج غير حافظ علوان الذي احتمى بعامود كونكريتي وغازي الجبوري الذي اكتشفه فيما بعد ناقل الجثث بسيارة الاسعاف إنه مازال حياً، فأخذه إلى مستشفى الرشيد العسكري حيث أنقذه أطباؤها باعجوبة. جاء في الهامش "الرئيس غازي الجبوري روى بنفسه هذه الحادثة لـ "عبد النبي جميل" في سجن نقرة السلمان، حديث خاص بين المؤلف والطيار عبد النبي جميل عام 2001"...(15) ... يذكر أن أيوب وهبي كان طياراً فاشلاً، وبسبب سوء سلوكه هرب إلى الجمهورية العربية المتحدة، وعاد قبيل 8 شباط، بعد أن عفا عنه عبد الكريم قاسم، وفوراً بعد 8 شباط نسبه صالح مهدي عماش للعمل مع ضباط الحرس القومي. تطوع لتعذيب أكثر السياسيين الذين دخلوا قصر النهاية والنادي الأولمبي وأسهم في الاعتداء على سلام عادل واغتصب خلال التحقيق سيدة شيوعية وكثيرات غيرها، وبدل محاكمته كوفئ بتعيينه مستشاراً دبلوماسياً للسفارة العراقية برومانيا... "عبد الكريم فرحان، لقاء خاص مع المؤلف عام 1973". "كانت الدعوة مندفعة وغريبة للقتل الجماعي صادرة عن شدة توتر الروح الثأرية... لكن المبالغة والعصبية الشديدة التي ظهرت على عبد السلام عارف وأحمد حسن البكر وعبد الغني الراوي... وبعد نقاش وجدال دام حتى ساعة متأخرة من تلك الليلة وافق أحمد حسن البكر (والذي لم يكن حتى ذلك الحين عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث) على إلغاء فكرة إعدام الجميع، بشرط موافقة القيادة القطرية على أن يسافر عبد الغني الراوي بعد حين إلى معتقل نقرة السلمان للإشراف على إعدام عدد محدود من الضباط فأعطوه الموافقة. وبعد تعديل البكر لموقفه، إضطر عبد السلام عارف إلى تغيير اقتراحه من قتل الجميع إلى إعدام 150 ثم تراجع إلى ثلاثين ضابطاً فقط... عبد الغني رفض تنفيذ الأمر لقلة العدد" (16). يؤكد "الفكيكي" هذا المشهد بقوله: "أما المفاجأة الثانية، فكانت اصرار العسكريين وفي مقدمتهم عارف والبكر على إعدام 450 ضابطاً قاسمياً وشيوعياً بذريعة تواطئهم مع حسن سريع ورفاقه ومشاركتهم في الحركة المسلحة ضد الثورة... إن عبد السلام طلب إلى عبد الغني الراوي عند مغادرته القاعة التحضير لإعدام 150 ضابطاً شيوعياً، الأمر الذي رفضه الراوي بسبب قلة العدد وتواضعه" (17). لعلّ الدراسة حققت بعض أهدافها في فتح نافذة عراقية بحتة لقراءة مصارد العنف في العراق، وهي كثيرة ومتعددة الجوانب والأغراض، نأمل أن تتواصل مع دراسات أخرى في سبر ميادين العنف والخوف والانكسارات الاجتماعية والنفسية في العراق.
د. عبد جاسم الساعدي
الهوامش: 1) محمد الدليمي الدكتور، الجادرجي ودوره في السياسة العراقية، بيروت 1999، ص385. 2) اسماعيل العارف، أسرار ثورة 14 تموز، لندن 1986، ص49. 3) سعاد خيري، ثورة 14 تموز بعد أربعة عقود، السويد 1998، ص145. 4) مجيد خدوري الدكتور، العراق الجمهوري، ط1، بيروت 1974. 5) خالد التميمي الدكتور، محمد جعفر أبو التمن، الوراق للدراسات والنشر، دمشق 1996، ص411. 6) هاشم علي محسن، تطور الحركة النقابية في العراق، بغداد 1966، الجزء الثاني، ص34. 7) مجيد خدوري الدكتور، العراق الجمهوري، ط1، بيروت 1974، ص29. 8) محمد الدليمي الدكتور، الجادرجي ودوره في السياسة العراقية، بيروت 1999، ص249. 9) علي كريم سعيد الدكتور، عراق 8 شباط 1963/ مراجعات في ذاكرة طالب شبيب، دار الكنوز الأدبية، بيروت 1999، ص192ـ195. 10) علي كريم سعيد الدكتور، العراق/ البيرية المسلحة/ حركة حسن سريع وقطار الموت 1963، بيروت، ص128. 11) المصدر السابق نفسه، ص70. 12) هاني الفكيكي، أوكار الهزيمة، لندن 1992، ص218. 13) المصدر السابق نفسه، ص258. 14) علي كريم سعيد الدكتور، العراق/ البيرية المسلحة/ حركة حسن سريع وقطار الموت 1963، بيروت ص59. 15) المصدر السابق نفسه، ص142. 16) المصدر السابق نفسه، ص245. 17) هاني الفكيكي، أوكار الهزيمة، لندن 1992، ص280.
#عبد_جاسم_الساعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
منصور حكمت: قراءة جديدة للماركسية الشيوعية فقدت معناها وارتب
...
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|