الرابع عشر من تشرين الأول 2003
كان يمكن أن يكون اعتقادا صحيحا بأن السيد مقتدى الصدر قد جاء ليكمل الرسالة التي جاء بها والده الشهيد محمد محمد الصادق الصدر، ذلك الرجل الذي قدم حياته من أجل الحق حين وقف بوجه أعنف إعصار همجي.
لكن ما استجد من أحداث على مدى الأيام القليلة الماضية، والتي أفصحت إن الرجل لم يكن يتحدث عن مسألة إخراج قواة التحالف عن طريق التظاهر السلمي كما يعلنون. حيث كان موقف الصدريين من حيث الشكل لا يختلف كثيرا عن موقف الآخرون ولكن من دون أن يحملوا السلاح. كان منذ اليوم الأول غير واضحا في طرح أهدافه، ولكن الخطاب كان عموما يدعو إلى رحيل المحتل دون تقديم بديل، رغم إنه من المعروف إن رحيلهم يعني في أحسن الأحوال حربا أهلية وتقسيما للبلد، وما هو أسوأ هو عودة الحكم البعثي الأسوأ من الفاشي للعراق. هذا فضلا عن معاداته، دونما سبب واضح، للمرجعية الدينية في النجف الأشرف الذين ينعتهم بأنهم إيرانيين وفي ذات الوقت يقلد الإمام عبد الكريم الحائري الإيراني الذي يعيش في إيران والمحسوب على التيار المتشدد في إيران. بالطبع من الضروري التنويه إلى أن السيد مقتدى الصدر ليس له أية درجة علمية دينية ولم يدرس العلوم الدينية على الإطلاق، وكل مؤهلات السيد الصدر هو إنه وريث مؤسسة الصدر الدينية والتي تأسست أواسط التسعينات في النجف، وقيل وقتها إنها جاءت من أجل شق الحوزة الدينية هناك. لكن استشهاد الأب السيد محمد محمد الصادق الصدر ونجليه على يد صدام، أزال كل نوع من أنواع الشك على أهمية هذه المؤسسة الدينية خصوصا وإن جميع من تصرف عيهم هذه المؤسسة هم من العراقيين الأكثر فقرا من سكان مدينة الثورة ( الصدر حاليا) وسكان بضعة مدن أخرى في محيط بغداد. بالرغم من أن المؤسسات الدينية على غرار مؤسسة الصدر لا تورث وإنما تنتقل إدارتها إلى مرجعية دينية أخرى مرتبطة بهذه المؤسسة، إلا إن المرجعية التي كانت مرتبطة بهذه المؤسسة، والشخص الذي كان الشهيد الصدر يعتقد إنه مناسب لتولي الأمور هو الشيخ عبد الكريم الحائري الإيراني الأصل، وهذا الأخير قد هرب إلى إيران إبان الفترة التي أستشهد فيها السيد الصدر وولديه. كان من الممكن أن تنتقل إدارتها إلى رجال آخرون من ذوي الدرجات العلمية المرموقة دينيا ولهم من الأتباع ما يؤهلهم لإدارتها. لكن لا أحد يعرف كيف انتقلت هذه الإدارة إلى الفتى مقتدى وكأنها ملكا شخصيا له.
عموما لقد اختلف السيد مقتدى الصدر مع المرجعية السياسية العراقية الجديدة أيضا دون أن يكون هناك سبب واضح أيضا، في حين إنهم يعملون من أجل إقامة حكم ديمقراطي ودولة لها من القوة والمنعة ما يمكنها من الوقوف بوجه التحديات الكثيرة التي تحيط بها من كل جانب، ومن ثم إخراج لمحتل من العراق بطريقة سلمية، وهو لم يطلب أكثر من ذلك رغم الصخب الذي كان يثيره. الأمر الآن قد أختلف كثيرا وبدت كل ملامح المشروع الصدري الحقيقي تتضح للعيان، حيث قبل الآن كان الأمر مختلفا وحتى بعد تأسيس جيش المهدي.
فبل الآن، ما كان هذا الفتى يتحدث عن شيء أكثر مما قالته باقي الأحزاب الدينية، ولو إنه كان بحدة أكثر، كما أسلفنا، وكان هناك اعتقاد إن ما وراء هذه الحدة هو نزق الشباب وجموحه، فالرجل مازال في منتصف العشرينات من عمره.
كان البعض أيضا يتوقع إن حركة الصدر الابن ما هي إلا حركة مكملة لحركة إسلامية عامة سنية كانت أو شيعية تلوح للأمريكان، من خلال الصخب الذي تثيره، يلوحون للأمريكان بحقيقة ذلك المارد الذي مازال تحت التراب والذي يمكن أن ينطلق وقتما يشاء فيما لو تخلت الولايات المتحدة عن وعودها التي قطعتها على نفسها أمام العالم والشعب العراقي، وذلك بإقامة حكومة ديمقراطية عراقية حقيقية وليست صنيعة تصون العراقي وحقوقه، وحين يقف الجميع، كل حسب أسلوبه ليقول للأمريكان كلمة واحدة فقط مفادها (نحن لا نريد أن نلزمكم بأكثر مما ألزمتم أنفسكم به).
ربما يختلف الكثير من المحللين السياسيين من العراقيين مع هذا الرأي، ولكن مع ذلك، فالصدريين لم يقولوا أكثر مما قالته الأحزاب الدينية الأخرى سواء كانت شيعية أم سنية وحتى علمانية، فالجميع لا يريد لقوة الاحتلال البقاء في العراق بعد إنهاء المهمة التي ألزمت نفسها بها، وهم شاكرين ذلك ومرحبين بالعون الذي قدمه التحالف للعراقيين بتخليصهم من البعثية (ألأسوأ من الفاشية بكل المقاييس). ذلك هو الخطاب الدبلوماسي الذي يجب أن يكون من ممثلين لشعب ممتن بكل معنى الكلمة للتحالف، وعلى رأسهم الأمريكان. ولو توقف الخطاب عند هذا الحد، ربما سيفهم الأمريكان إن الشعب العراقي، أو على الأقل ممثليه، يمكنهم أن يعطوه الكثير، وربما حتى البقاء الدائم في العراق، فالمخاوف من الاحتلال ليست كتلك المخاوف التي يمكن للمرء المرور عليها مرور الكرام وهو مطمئن لحسن النوايا، فهذا يمكن أن يعتبر نوعا من السذاجة السياسية. فوجود الخطاب الحاد، وربما حتى النزق منه، ينفع كثيرا لأصحاب القرار من العراقيين أن تكون كلمتهم مسموعة أكثر من الذين يمتلكون ناصية القرار في العراق حاليا، حيث ليس من المعقول أن ينزع العراقيون كل أسلحتهم الخفيفة منها والثقيلة، وحتى الهواجس التي يمكن لها أن تتحول إلى حجارة أو رصاص حين تكون هناك حاجة لذلك، فالرجل الصدري، حتى قبل أسبوع أو يزيد قليلا، مازال خطابه يقع ضمن الدائرة المسالمة ولكن المتوعدة والتي تمتلك الكثير من وسائل القوة، ومنها ذلك الجيش المسالم الذي لم يعتدي على أحد، بل على العكس تماما من ذلك، فقد ساهم مساهمة فعالة بإعادة الأمن إلى بغداد، وإن كان ذلك بصمت شديد دون أن يترك أثرا على الإطلاق، وحقيقة أنا ممن شهد الكثير من نشاطهم عن كثب في إعادة الأمن إلى بغداد وبالخصوص مدينة الصدر التي كان الجميع يتوقع من أبنائها ما هو غير لائق، فالأمن، بفضل الصدريين، في المدينة ممتاز جدا بالرغم من كثافتها السكانية العالية والجوع الذي يجتث الأمعاء، أضف إلى ذلك، إن كل ما فعلوه هو أساليب جديدة بالتظاهر تثير المراقب من حيث الشكل والمضمون، فمن ناحية تكون المظاهرة سلمية ولا يحمل المتظاهرون فيها غير السيوف الصدئة ولكنهم يلبسون الأكفان، ليرمزوا بذلك على استعدادهم للشهادة، ويهتفون بعبارات حادة بل وجارحة للقوى التي ساهمت بتحرير العراقيين من ألبعثية وفي ذات الوقت يدعون للوحدة الوطنية والإسراع بتأسيس حكومة عراقية. وحتى خطب الشاب الصدري تحمل ذات المضامين من التهديد والتهادن.
وحين أعلنوا عن تأسيس جيش المهدي، قالوا إنه جيش وطني الهدف منه حماية الشعب العراقي وليس الإساءة لأحد، قال الكثيرون من إن هذه مجرد مناورة ربما ستفضي إلى لاشيء، وتخيلها البعض مجرد إثارة للشغب في شارع لا ينقصه الشغب أصلا من أجل الحصول على مكاسب للشاب الطموح للوصول للمناصب العليا وحسب، وقال آخرون إنها مجرد زوبعة إيرانية في فنجان عراقي فارغ، ولكن ها هو جيش المهدي قد تأسس بصمت ما عدا الإعلان الأول عنه، واستعرض أول عضلاته الرخوة، وهو مجرد من السلاح، إلا ما هو رمزي منه، كالسيف الصدئ والكفن. ولكنه أصبح حقيقة على الأرض وما زال يزداد قوة ويتمترس في أكثر من مكان في العراق وليس مدينة الصدر فقط.
ولكن ما اعتبره الكثيرون خطيرا جدا، هو إعلان الشاب الصدري مقتدى عن حكومة الظل التي تتألف من ثلاثة عشر وزيرا فقط في البداية، والتي تعتبر لبنة أخرى في تنفيذ المشروع السياسي للصدريين.
في مقدمة الإعلان عن الوزارة هناك شيئين، الأول إنها تنشد الحرية والديمقراطية والثانية تدعوا للإعلان عن التأييد لها من خلال المظاهرات السلمية. يريدون لهذه المظاهرات السلمية أن تعطي هذه الوزارة الشرعية على الطريقة العربية أو الإيرانية، ولكن لقلة أنصار الصدر وتواجدهم فقط في مدينة الصدر ببغداد، لذا دأب الصدريين على نقل أنصارهم من هذه المدينة إلى المدن الأخرى للتظاهر من أجل يعطوا صورة يبدو من خلالها إن الصدريين متواجدين في كل مكان من العراق وبقوة أيضا، لذا فهم قد استغلوا احتفالات الشيعة بمولد الإمام المهدي في كربلاء، وبعثوا بأتباعهم إلى هناك ليتوزعوا بين الناس حاملين شعاراتهم، لتبدو الصورة وكأن الشارع في كربلاء بكامله مؤيدا لوزارة الصدر وليس مجرد احتفال ديني بمناسبة مولد الإمام المهدي.
بمساعدة الإعلام العربي المؤيد لهم، غباء منه، كانوا يودون مصادرة هذا الاحتفال الديني لصالح مشروعهم السياسي، وهذا تخطيط محكم لابد أن يكون وراءه دهاه في العمل السياسي. فضائية الجزيرة أول من استشعر بأهمية هذا الحدث وأفتعل خطأ لم يستطع تمييزه غير العراقيين، حيث أن الخبر ظهر على عمود الأخبار المتحرك بالشكل التالي (أتباع الصدر يحتفلون بمولد جيش المهدي في كربلاء) فهذا الخبر للمشاهد العادي، وخصوصا العربي، وهو يرى في كربلاء الملايين من البشر يحتفلون بولادة جيش المهدي، وليس بذكرى ولادة الإمام المهدي، ذلك إن جميع العرب لا يعرفون من هو الإمام المهدي أصلا، وكونه الإمام الثاني عشر للشيعة، فإنهم بهذا الخبر سيعطون هذه الوزارة الصدرية شرعية ما بعدها شرعية كما هو الحال لهذا الجيش، وأنا طبعا لست متأكدا لحد الآن ما هو حقيقة الدور الذي تلعبه هذه الفضائية في مسألة كهذه، ربما كانت غلطة متعمدة مدفوعة الأجر.
بالرغم من أن المظاهرات في مدينة الصدر كانت منظمة تنظيما جيدا جدا يدل على إن وراء هذا العمل جهود تنظيمية معتبرة.، ولكن ما حدث في كربلاء هو أن طرد الصدريين من بين المحتفلين بهذه المناسبة وأستمر الاحتفال بدونهم. ولكن ما كان الصدر ليقبل بهذه الهزيمة على يد منافسيه الأقوياء، فبعد يومين فقط، استجمع الصدر قواه وذهب بتحد أكبر من الأول حين أراد احتلال مدينة كربلاء ذات الأهمية الكبرى للشيعة في العالم والتي تقابل النجف من حيث الأهمية الدينية، ولكن طرد أنصاره منها مرة أخرى، وكادت هذه الحادثة أن تكون شرارة لأمر جلل سيحدث في العراق.
من مناقشة بيان التأسيس لهذه الوزارة أيضا، نستطيع أن نقرأ الكثير، فالوزارة تتألف من ثلاثة عشر وزيرا فقط، وكأن الصدريين يعترفون ضمنا بالتشكيلة الوزارية العراقية ومجلس الحكم الانتقالي الحاليتين، وحيث تكويناتها القومية والدينية والمذهبية، ولكن بالتأكيد ليس السياسية. فالوزارة أعطت للشيعة من الصدريين، كامل حصة الشيعة العراقيين متجاوزين بذلك على الشيعة من العلمانيين وحتى باقي الاتجاهات السياسية الدينية لدى هذه الفئة من الشعب، وهذا أول تجاوز يمكن أن نسجله من هذه الوزارة في المرحلة الحالية. الوزارة أيضا فيها أربعة وزارات تفصح عن الكثير من النوايا من وراء الإعلان عنها.
أضع السؤال الذي يحمل بداخله إجابته، ما الذي يعنيه الصدر من تأسيس وزارتي الداخلية والعدل مع أخرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فالشؤون التي تقوم بها وزارة الداخلية والعدل هي في نهاية الأمر نهيا عن المنكر وأمرا بالمعروف، وهذا بحسب الوظائف التي تحملها هاتين الوزارتين بالمفهوم العلماني للوظائف، فلم إذا وزارة أخرى متخصصة بهذا الشأن؟ إن هذا يفضي إلى حقيقة إن هذه الوزارة ما هي إلا وزارة على غرار وزارات إيران التي خلقت من أجل مصادرة الحريات والديمقراطية على عكس ما أعلن عنه السيد الصدر، وما تعلنه إيران من أنها دولة ديمقراطية، وللمرء فيها مطلق الحريات التي لا يقيدها شيء سوى مسألة بسيطة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالطبع حسب التعريف الخاص لهذه المفردات، حيث إن الوظائف التي تحملها وزارتي العدل والداخلية لا تكفي لعرض جميع مضامين هاتين المفردتين لدى المتشددين من الإسلاميين. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي إحدى أهم عناصر ولاية الفقيه الذي هو وحده من يحدد تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا أحد غيره، إلا من يخولهم الفقيه، وهذا يعني إقامة ولاية الفقيه في العراق.
وكيف يمكن أن نتصور أن هناك دولة ديمقراطية، وفيها وزارة إعلام؟ فالتعارض بوظيفة هذه الوزارة ومفهوم الإعلام الحر والحرية لم يعد خافيا على أحد. فأول ما سنراه من هذه الوزارة هو أن تصدر أوامرها بتحويل الصحون الفضائية اللاقطة إلى صحون (للتمن والقيمة) والمفيدة في كل المناسبات، أما الصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام فإنها ستكون خاضعة لولاية الفقيه وسوف لن تكون في أحسن الأحوال على غرار النموذج الإيراني.
إن هذا الإعلان يتحدث عن نفسه من إنه صيغة جديدة لمشروع إيراني لتصدير الثورة إلى العراق ومن ثم إلى باقي الدول العربية والإسلامية، وسيكون البدء فيه من الدول الأفقر حيث ستتحول دولارات النفط العراقي والإيراني إلى أنصار، فإذا عرفنا إن حصان طروادة القديم قد تم الكشف عما بداخله، فهذا هو الحصان الجديد الجامح الذي يحاول اقتحام أسوار بغداد الجديدة لم يزل يتحرك نحو الأسوار بثبات ولم يوقفه أحد أو حتى يحاول أن يوقفه.
كان من المفروض بالمحللين السياسيين العرب أن يفهموا هذا المشروع الخطير منذ اليوم الأول، ومن قبل أن يكتبوا ولو كلمة واحدة في هذا المجال بالخصوص، حيث هم من أكبر أعدائه وأن لا يسقطوا كما سقط نصر المجالي حين أعتبر إن تيار الصدر يمثل العرب وتيار السيستاني يمثل الإيرانيين. إن نجاح المشروع الصدري الجديد في العراق يعني الطامة الكبرى على الدول العربية جميعا، حيث غباء محلليها مستعصيا على الدوام، وهذه الفضائيات خير مثال على ذلك، فهي تروج لمشروع ليس لها ولا لمموليها مصلحة به، وهذا شأن العرب دائما، فقد ختم الله على قلوبهم فهم عمي لا يبصرون، ولذا فهم يذهبون من انتكاسة إلى أخرى ولم يحققوا نصرا دوليا أو محليا واحدا منذ قرون.
عرفنا بالأمس المؤامرات العربية على العراق الجديد وأوضحنا معالمها، وتحدثنا عن المؤامرة التركية وشرحنا أبعادها، وسأمنا استخفاف الأوربيين من فرنسيين وما لف لفهم لعقولنا ومحاولاتهم لتسويق مؤامرتهم، واليوم نشهد أعنف وأخس هجمة على أبناء شعبنا من السلفيين الأكثر تخلفا حتى من إنسان العصور الحجرية، وعرفنا وما سنعرف من مؤامرات على هذا الشعب المنهك من آخرين لا يخطرون على بال أحد، تجد إن من الصعب السكوت وترك الجميع يسرح ويمرح على أرض العراق الذي أصبح ساحة لمباريات بالمؤامرات لقوى الشر.
من سيكسب الرهان في النهاية ويستحوذ على العراق هو صاحب المؤامرة الأذكى والأفضل تخطيطا، هذه هي تصوراتهم، ولكن كل ما يفعلوه هو مزيدا من إراقة الدم العراقي.
كلمة أخيرة موجهة للسيد مقتدى الصدر، أن أتقي الله بشعب العراق الذي قدم والدكم الشهيد حياته من أجله، وليس لي بعد مقال والدكم، رحمه الله، أي مقال.