|
كوارث الديكتاتوريات العسكرية على العالم العربي
شاكر النابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 2029 - 2007 / 9 / 5 - 11:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ فجر الاستقلال السياسي الصوري العربي، ابتلي العالم العربي بكوارث سياسية ماحقة نتيجة لتسلط الديكتاتوريات العربية على مقدرات هذه الأمة. ونستطيع أن نلخص هذه الكوارث التي ألحقتها الديكتاتوريات العسكرية بالعالم العربي، وأعاقت من خلالها نمو وتطور الدولة العربية الحديثة، على الوجه التالي: 1- قيام حكم الحزب الواحد ومنع التعددية. فالانقلابات العسكرية التي تمت في مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا والسودان واليمن، جاءت بحكم الحزب الواحد. فحكم الحزب الواحد القوي هو نتاج الحركات القومية والثورية التي تأتي من القاعدة لكي تستولي على الحكم. في أن الانقلابات العسكرية تأتي من فوق، من القمة لكي تحكم بمنطق الحكم المطلق. 2- جاءت الديكتاتوريات العسكرية في الدولة العربية الحديثة بقيم سياسية وثقافية، تختلف عن قيم المجتمع المدني. ففي حين أن قيم المجتمع المدني هي الحرية والديمقراطية والمساواة والسلام، فإن قيم الديكتاتوريات العسكرية هي الطاعة والانضباط والقوة. من ناحية أخرى فإن الديكتاتوريات العسكرية في العالم العربي ترفض مجموعة المنجزات الثقافة والسياسية والاجتماعية للحضارة الغربية، وتعتبرها من مظاهر الاستعمار. وتعتبر الديكتاتوريات العسكرية العربية أن "كل ما قدمه الانجليز والفرنسيون أيام استعمارهم لمصر وبلاد الشام من إيجابيات أصبح مشبوهاً ومتهماً"، كما يقول أنور عبد الملك في كتابه ( مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون). 3- كانت الديكتاتوريات العسكرية العربية تعاني من عدم تأهيلها علمياً وثقافياً وسياسياً لمثل المهام الصعبة التي تولتها أثناء حكمها. فهي فئات منضبطة ولكنها بعيدة جداً عن علم وفن السياسة. وقد أوقع هذا الجهل بالسياسة قيادات الديكتاتوريات العسكرية العربية في مآزق ومطبات سياسية مختلفة، كلّفت شعوبها خسائر مادية واقتصادية وسياسية هائلة. 4- كانت الديكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية تعتبر المعارضين لحكمها من الخوارج. وبأنهم من ذوي الفكر الأيديولوجي الواحد. وبأنهم غير قادرين على الاتفاق مع الاتجاهات الأخرى. وأن أغلب هؤلاء المعارضين هم من الحرس القديم للأحزاب السياسية اليسارية وخاصة الشيوعيين منهم. كما أن الديكتاتوريات العسكرية العربية كانت تصرُّ على ارتباط دعاة المجتمع المدني من المعارضين بالاستعمار الجديد الذي لم يعد بحاجة إلى جيوش. وأن المجتمع المدني تعبير أمريكي ليس موجوداً في أي مكان إلا في أمريكا. 5- أصبح القضاء تحت إبط الديكتاتوريات العسكرية العربية، التي حكمت بعض البلدان العربية. وقد تم استعمال القضاء من قبل الديكتاتوريات العسكرية العربية للتخويف والترهيب. فما لم يقم الاستعمار السابق للعالم العربي بفرضه كالأحكام العرفية وقوانين الطوارئ وإقامة المحاكم العسكرية وخلاف ذلك، قامت الديكتاتوريات العسكرية العربية به لإخافة وإرهاب المعارضة السياسية. 6- إن قيام الديكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية أدى إلى منع تربية ونشوء قياديات سياسية تستطيع تولي الحكم مستقبلاً فيما لو انزاحت الديكتاتوريات العسكرية العربية. وقد رأينا ماذا فعل صدام حسين في العراق حين أفرغ العراق من كل النخب السياسية المحتمل أن تحكم العراق مستقبلاً. وعندما تم خلع صدام حسين لم تجد أمريكا أمامها نخباً سياسية تستطيع إدارة البلادة إدارة حسنة. وما زال العراق حتى الآن يتخبط بالدماء وبالقتل اليومي نتيجة للفلتان الأمني ونتيجة لعدم وجود حكومة قوية تستطيع السيطرة على الشارع العراقي. وقد امتد هذا الوضع منذ عام 2003 إلى الآن. كذلك الحال في كثير من البلدان العربية التي ما زالت تحكمها الديكتاتوريات العسكرية العربية والتي ليس من الضروري أن يكون الحاكم فيها جنرالاً سابقاً ولكن يكفي أن يحكم البلد بنظام الثكنة العسكرية. 7- من المسلّم به أن ارتقاء الثقافة في أية أمة من الأمم، يعتبر السبيل السليم إلى تكوين نخب سياسية منبثقة عن أحزاب سياسية مؤهله لتولي الحكم وقيادة البلاد قيادة حكيمة ورشيدة. ولكنا لاحظنا أن الديكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية، عندما تولت الحكم حطّت من قيمة الثقافة العربية وذلك من خلال فرض الرقابة على الأنشطة الجامعية والفكرية. وكذلك تأميم كافة وسائل الإعلام وفرض رقابة صارمة عليها. واعتبار أن لا عقل يفكر في البلد غير عقل النظام، ولا رأي سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً يسود غير رأي النظام. وفرض فكر الدولة العسكرية على مناهج التعليم في المراحل المختلفة. والقيام بعملية تطهير واسعة النطاق لمعظم الأكاديميين الليبراليين، وتفريغ المجتمع المدني – إن كان قائماً - ومؤسساته منهم. 8- لم تكتفِ الديكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية بوضع القضاء والثقافة والإعلام تحت ضرسها وسيطرتها الكاملة، ولكنها وضعت أيضاً المؤسسات الدينية كذلك. فحرمت المؤسسات الدينية من الاستقلال الذاتي الذي تمتعت به في عهد الاستعمار الغربي، وفي عهد الاستعمار العثماني كذلك. وقامت الديكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية بتأميم آلاف المدارس الدينية، وأملت عليها مناهجها التعليمي الخاص بها. كما قامت الديكتاتوريات العسكرية العربية بتوجيه المؤسسات الدينية توجيهاً سياسياً يتماشى مع مصالحها وأهدافها. وكان منها أن أقحمت رجال الدين في السياسة بالقوة وبالقهر، مما نتج عنه الآن – وكما نشاهد الآن – في العالم العربي انتشار الأحزاب الدينية السياسية، وتدخل رجال الدين في السياسة من خلال هذه الفتاوى الدينية- السياسية المتضاربة التي نقرأها كل يوم، والتي تلعب دوراً رئيساً في زيادة وتعميق فتنة الإرهاب. 9- وفي ظل الديكتاتوريات العسكرية العربية في بعض البلدان العربية، تحوّلت الفكرة القومية من فكرة للأمة جمعاء إلى فكرة حزبية، بعملية اختزالية تحتاج اليوم إلى نقد جريء وعميق. ثم تحولت الفكرة القومية من فكرة حزبية مدنية إلى فكرة حزبية عسكرية، ومن فكرة مجتمعية إلى سلطة عسكرية. وعلينا اليوم أن نعترف بأن الكثير من النقد الذي وُجه إلى الفكرة القومية وإلى الحركة القومية إنما كان بتأثير من المؤسسة العسكرية التي أقامت شرعيتها على الفكرة القومية. وصادرت التعبير عنها والتمثيل لها، وقدمت للجمهور أسوأ صورة ممكنة عن المشروع القومي. 10- عندما تولت الديكتاتوريات العسكرية العربية الحكم في بعض البلدان العربية تم مزج النشاط السياسي مع النشاط العسكري. وتم فتح الأحزاب السياسية لأبوابها لدخول العسكريين القدامى، وتحولهم إلى سياسيين. ونحن لا نرى غضاضة في ذلك شرط أن يأتي هؤلاء العسكريون من خلال "صناديق الاقتراع" النظيفة النزيهة، وليس من خلال "صناديق الإتباع" المزورة، أو على ظهور الدبابات من خلال انقلاب عسكري. 11- إن ما تقوم به الديكتاتوريات العسكرية العربية من إصلاحات جزئية عندما تتولى الحكم، لا يتعدى أن يكون خدمة لمصالحها وبقائها في الحكم أطول مدة ممكنة. فلقد أحالت الديكتاتوريات العسكرية التي حكمت أجزاء من العالم العربي طوال نصف قرن مضى وما يزال بعضها في الحكم حتى الآن، بعض البلدان العربية إلى بلدان بدون استراتيجيات، ولا خطط، ولا مشاريع وطنية. وما يستولي على المراقب السياسي للأوضاع العربية اليوم هو الشعور المؤلم بانعدام الرؤية والافتقار للإرادة، ومن ثم غياب القيادة والاستسلام إلى المصير القدري. كما يقول برهان غليون في (نهاية الحقبة الوطنية العربية). 12- بعد أن استولت الديكتاتوريات العسكرية العربية على الحكم، أصبح الانضمام إلى صفوف الجيش أقصر الطرق للوصول إلى المناصب السياسية. "فكان يمكن للضابط أن يرى نفسه على سطح الحياة السياسية بعد مدة وجيزة. وهو بهذا يصل إلى القمة، دون أن يكون قد نسي أو تناسى أحقاده الطبقية. والضباط الذين كانوا دائماً وراء التحولات الاشتراكية، كان يُذكي عملهم الاشتراكي شعور واضح متوتر بالطبقية" (جورج جبّور، "الفكر السياسي المعاصر في سوريا"). ومن هنا أصبح الجيش "جنة الوظائف". "فلا عجب أن يكسب الجيش صفة نموذج المستقبل، وأن يتطلع إليه القوم كأداة للتنمية والإنماء، ومثالاً للانتعاش الاجتماعي" (فؤاد خوري، "العسكر والحكم في البلدان العربية"). وهذا المظهر في الحياة العربية، وفي طريق بناء الدولة الحديثة، قد أخلّ ببناء المجتمع وأخّر كثيراً ميلاد الدولة العربية الحديثة. *** ومن خلال هذه الأضرار، وأضرار أخرى كثيرة، لحقت بالمجتمع العربي خلال النصف الأول من القرن العشرين وما زال هذا المجتمع يتجرّع كؤوس المرارة من الديكتاتوريات العسكرية العربية، نرى أن الضرر قد لحق كثيراً بالدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال. ولعل الفشل الذي شاهدناه في النصف الثاني من القرن الماضي إضافة إلى ما نشاهده الآن، قد كان من الأسباب الرئيسية لفشل الدولة العربية الوطنية بعد الاستقلال في تحقيق الطموحات والآمال الوطنية في الحرية والديمقراطية والمجتمع المدني السلمي. مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الدولة العربية الوطنية بعد الاستقلال كانت في معظم أنحاء العالم العربي – ماعدا دول الخليج - تتمثل بأنظمة الحكم الديكتاتورية العسكرية التي نشأت عشية الاستقلال مباشرة.
#شاكر_النابلسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دور العسكرتاريا في فشل دولة الإستقلال الوطني
-
ضرورة ابتعاث رجال الدين إلى الغرب
-
معركة سوريا وأمريكا في -نهر البارد-!
-
بيان مساندة الكرد السوريين يقضُّ مضاجع الديكتاتورية
-
لماذا أصبح رجال الدين الآن قادة الرُكبان؟
-
البيان العالمي لمساندة الشعب الكُردي السوري
-
التجارة الرابحة بالدين
-
حملة -الأنفال- السورية
-
المصالحة السياسية العربية
-
صمت الحجارة وخيانة المثقفين
-
إلى أمير المؤمنين خالد مشعل ووالي غزة اسماعيل هنية
-
دعوهم يحكمون لينكشف زيفهم
-
طالبان في غزستان!
-
القتلُ أساسُ المُلكْ
-
الليبراليون الجُدد في الثقافة الايطالية
-
ما الحكمة من المحكمة؟
-
غابت العدالة العربية فحضرت الدولية
-
الأقباط بين مطرقة الكنيسة وسندان المسجد!
-
الوباء الفلسطيني!
-
عمر بن الخطاب شيخاً للأزهر!
المزيد.....
-
روسيا أخطرت أمريكا -قبل 30 دقيقة- بإطلاق صاروخ MIRV على أوكر
...
-
تسبح فيه التماسيح.. شاهد مغامرًا سعوديًا يُجدّف في رابع أطول
...
-
ما هو الصاروخ الباليستي العابر للقارات وما هو أقصى مدى يمكن
...
-
ظل يصرخ طلبًا للمساعدة.. لحظة رصد وإنقاذ مروحية لرجل متشبث ب
...
-
-الغارديان-: استخدام روسيا صاروخ -أوريشنيك- تهديد مباشر من ب
...
-
أغلى موزة في العالم.. بيعت بأكثر من ستة ملايين دولار في مزاد
...
-
البنتاغون: صاروخ -أوريشنيك- صنف جديد من القدرات القاتلة التي
...
-
موسكو.. -رحلات في المترو- يطلق مسارات جديدة
-
-شجيرة البندق-.. ما مواصفات أحدث صاروخ باليستي روسي؟ (فيديو)
...
-
ماذا قال العرب في صاروخ بوتين الجديد؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|