يوسف ليمود
الحوار المتمدن-العدد: 2028 - 2007 / 9 / 4 - 10:51
المحور:
الادب والفن
عندما أتيت إلى مدينة بازل لأول مرة قبل خمسة عشر عاما, كانت قماشة كبيرة تغطي واجهة متحف الفن بها, تعلن عن معرض إستعادي لأعمال المصور الأمريكي الشهير جاسبر جونز 1930, فكان تعرّفي على عمله وقتذاك لأول مرة واستقبالي له بحميمية لم تبهت طوال تلك السنوات. هذه الأيام, وتحديدا من 2 يوليو وحتى 23 سبتمبر, تنسدل على الواجهة نفسها قماشة بالحجم نفسه تحمل الاسم نفسه, تعلن عن معرض يضم إنجازه الفني في السنوات من 1955 – 1965.
كيف يمكن الزمن, الصوت, الحركة, الجسد, الألم, الموت, الشعر, العناصر في أوّليّاتها, الرفض, الوهم, والخداع, أن تحضر بصريا في سردية اللوحة, دون السقوط في سردية أدبية أو من أي جنس آخر؟ كيف لفتلة تافهة متدلية على مسطح رمادي أن تقول الصوتَ والشعر, أو لشوكة طعام مشدودة في سلك من ركن في اللوحة إلى ركنها الآخر أن تقول الألم, أو لمسطرة خشبية مغروسة في عجائن المساحة التي جرّفتها أن تقيس, في الوهم, مسافاتِ الممكن والمستحيل, أن تفكك وتشكك في ديناميكية الرؤية البصرية وروتينية العادة, أن تجعل من الجسد آلة وإلها, يخلق ويحطم, يحرك ويجمّد, يكرر وينوّع, يتأثر ويؤثر, بكلمة, أن تجعل من صاحبها حلقة وصل في سلسلة التطور في الفن المعاصر, رقماً على مسطرة حساب تقيس وجودَها وتلاشيها؟
هذا الرسام, الذي انتهى في مطالع الخمسينيات من سلسلة لوحات تناول فيها العَلم الأمريكي, كشيء تراه العين كعادة دون أن تفكر فيه كموضوع بصري, وجد الآن موتيفا آخر The Target هدف الرماية - الدائرة ذات الأشرطة المتصاغرة داخلها حتى بؤرة التصويب. سوف يشغله هذا الهدف بضع سنين أخرى, ليخرج منه بتنويعاتٍ ما بين الرسم بالقلم إلى الكولاج إلى الطباعة الليتوغراف إلى التصوير (غالبا معجونا بالشمع بدل الزيت) إلى العمل المركب من النحت والصورة. نري الدائرة بدرجات الأخضر فقط, ثم بالأبيض فقط, ثم بالرمادي كذلك, وبأسود الرصاص أيضا, يفصل بين أشرطة دوائرها الداخلية شرخ نتج عن لصق ورق الجرائد فوق كل شريط على حدة. نراها أيضا في أكمل صورها وقد ارتكز فوقها صندوقٌ خشبي مستطيل يحوي تجسيدا بخامة البولييستر للنصف الأسفل من أربعة وجوه لشاعرةٍ وخزّاف كانا صديقي الرسام, يعلو مستطيلَ الصندوق غطاءٌ بمفصلات متحركة, يمكن غلقه, لكن العمل يُعرَض مفتوحا دوما على وجوه الغياب أو الموت تلك. أما بلاغة الدائرة, تكمن فى ذكاء اقتصادها واقتصارها على الألوان الثلاثة الأساسية (أحمر/ أصفر/ أزرق) التي منها تخرج كل الألوان الأخرى.
نرى كذلك سلسلة من الأعمال الكبيرة الحجم بعنوان Device الألوان الأساسية الثلاثة أساسُها, بينما ثبّت في طرفي الجزء العلوي من اللوحة مسطرتا قياسٍ خشبيتان انزلقتا على ألوان السطح في مجال حركتيهما ليكوّنا نصفي دائرتين متساويتين ورماديتين نتجت رماديتهما من امتزاج الألوان الثلاثة معا أثناء حركة تجريف المسطرة, في الوقت الذي طرقت فرشاته غير المتحفظة مع السطح بابي التعبيرية والتجريدية في خبطة واحدة. غير أن حروف الكتابة التي أدمجها في النسيج الأسفل للعمل قوّضت فكرة التجريد الخالص, واستدعت تشكيكا في أساسيات التصوير من جهة, كما جسّدت حسا تصويريا متسلطا ومغايرا من جهة أخرى, يتأرجحان على كفتي ميزان حساس من الهدم والبناء, وبالتالي يخلقان منطقة, غير ذات مسمى, على مسطح الصورة في بعديه الرمزي التعبيري والتجريدي. ثم إن حركة الكشط أو التجريف الدائرية التي أحدثتها خشبة المسطرة, البادية كعقرب ساعة دائر في مينائها, أكدت على البعد الزمني, وهي - القطاعات المسحوبة بالشريط الخشبي - تنفصل عن نسيج الأداء اللوني المحيط بها لتؤكد على تحولات عناصر المادة في المكان وسهولة تحللها وذوبانها بفعل الحركة التي هي الزمن, وبالتالي تلمّح إلى الوهمية البصرية التي تشكّل عالم المرئيات, فالأحمر والأصفر والأزرق يتحولون إلى الرمادي, أي اللا لون, بجرةٍ واحدة من خشبة أو من يد.
في سلسلة من الرسوم الورقيةstudy for Skin نفذها الفنان في العام 1962 مستخدما جسده كأداة بديلة عن تلك المألوفة في فعل الرسم, نتبين أثراً لوجه الفنان مطبوعا على الورقة بعد أن ضمّخه بزيت الأطفال وهباءِ الفحم. ونرى بوضوح أكثر, اليدَ المفرودة الأصابع ملطوخة في أماكن متفرقة من هذه المجموعة التجريبية التي رُسمت بالمنطق العشوائي ثم الانتقائي فيما بعد, أكثر منها بالمنطق البنائي التخطيطي التصاعدي. هذه المجموعة مثال بارز على ارتباط مفهوم الصورة بحركية الجسد التي نلمسها كثيرا في عمل رسامنا هذا, حيث دوائر الذراع الملوثة بالفحم ولطخات الكف, يستدعيان تصور الجسد وكأنه آلة أو ماكينة, الأمر الذي يحيل ربما على آلية المجتمع وميكانيكيته. الحضور الجسدي كذلك, يبرز بوضوح في لوحة صغيرة, بحجم كتاب تقريبا, مقضومة (حسب عنوانها) وربما كانت أغرب ما أنتج صاحبها, حيث تغطي قماشَ اللوحة طبقةٌ سميكة من الشمع قضم الفنان بقعة في أعلاها تبين فيها أثار أسنانه الأمامية الحافرة.
لوحة كبيرة بعنوان منظار "هارت كرين" مصورة بالأبيض والأسود ودرجات ما بينهما, ليس على سطحها أي مجسمات لكنها استطاعت أن تقول ما تقوله مثيلاتها التي استقطبت مجسماتٍ ووسائطَ دخيلة على المسطح. نجدها مقسّمة, وهميا, ثلاثة أجزاء, مكتوب في كل جزء, من أعلى إلى أسفل: أحمر, أصفر, أزرق. أما الدائرة غير المكتملة على اليمين, جرّفتها ذراع الفنان, في حين يكاد الإصبع الأوسط لكف اليد المطبوعة أن يخرج من قطر الدائرة حيث امتداد الذراع, التي تذكّر بمسطرة القياس, تلمّح إلى محدودية المدى الذي يمكن أن تصل إليه القدرة البشرية, وهي أيضا إشارة إلى الشاعر الأمريكي هارت كرين الذي انتحر غرقا برمي نفسه من سطح سفينة في أحد أيام سنة 1932, واللوحة تحيل تحديدا على أبيات في قصيدته "شاطئ هاتيراس" يقول فيها:
"من المنظار, نلمح ما يمكن أن يكون فرحاً أو ألما
العين, في إمكانها أن تستجيب المشهد
لكنها سرعان ما تنحرف
لترمي بنا في غور متاهة غارقة
حيث أحدٌ لا يرى سوى ماضيه المعتم معكوسا".
بعد هذا, نرى NO مقصوصٌ حرفاها من لوح رصاص ومتدلية من سلك هابط مثبت أعلى اللوحة يبتعد سنتيمترا واحدا تقريبا عن سطح المستطيل الرمادي الكبير لتقول, في صمت حرفين وبلاغتهما, ما لا تقوله كلمات أكبر وأشد صراخا.
في عملٍ مركب, مع تنويعات عليه بمجموعة رسوم على الورق, ثبّت الفنان كشاف ضوء على يمين اللوحة, تعلوه مرآه دائريه صغيرة تعكس ضوءه الافتراضي على صحن من البورسلين مطبوع عليه وجه الرسام, الطبق بدوره مثبت على ظهر لوحة صغيرة ملصوقة على الجزء الأسفل من يسار اللوحة الرئيسية, هذا العمل الذي يحمل عنوان "تذكار" أنجزه صاحبه أثناء دعوة له في اليابان في العام 1964. رغم انفتاح هذا العمل على تفسيرات شتى, إلا أنه منغلق على غموض لا يَرضى سوى بالحدس مفتاحا, لكن الذي لا شك فيه أنه يُشرك المتلقي في ديناميكية الإدراك البصري عند الفنان نفسه, فالثالوث (كشاف/مرآة/طبق) يحيل على ثالوث (فنان/لوحة/متلقي) ويبقى الحدس رأس مثلثٍ زاويتا قاعدتِه العينُ والتفكير.
بعرض خمسة أمتار تقريبا وارتفاع أقل قليلا من مترين و"بدون عنوان", يتكهرب الناظر بطاقة هائلة تنبعث من تفاعل مساحاتٍ ثلاث ضُمت الواحدة إلى الأخرى لتشكلّ لوحة واحدة تسيطر عليها الألوان الثلاثة الأساسية إلى جانب مساحات عريضة من الألوان الثلاثة الثانوية (برتقالي/بنفسجي/أخضر), ويحضر الحرف الأول من اسم كل لون من الثلاثة الأساسية مطبوعا في إرباك بصري على مساحة اللون الذي ليس له, ونلمح حضور الجسد من خلال كف اليد المطبوعة برقة مرتين, ثم أرباع الدوائر التي كشطتها المساطر الخشبية تشكّل هنا ما يشبه أقواسا قزحية تصعد من وتنتمي إلى أرض اللوحة كمادةٍ ومكوّنات لون وليس إلى سماء الأفق كفنتازيا, ثم مقشة ثـُبتت في أقصى اليمين الأصفر في العمل. استُبدل هنا التراكم اللوني المتغني بدرجات الشفافية في الأعمال السابقة إلى صراحة المساحة المتجردة متوحدةً مع صراحة اللون المصمتة. أهو انتصار على الزمن أدى إلى الوصول إلى الحس الصريح ذاك؟ إذ رأينا, قبل قليل, الزمن حاضرا من خلال تراكم طبقات الطلاء التي أعطاها امتزاجها بالشمع شفافية ًلا تغطي فيه فرشاة اليوم على ما فعلته فرشاة الأمس تماما!
خارجا من القاعة بعد أن آنست من أعمال الرجل طاقة ً, لم أمنع نفسي من سؤال ملحّ: من يكون جاسبر جونز؟ أتخيل السؤال حروفاً مقصوصة من لوح رصاص ومبعثرة بشكل مربِكٍ مرتبك فوق مستطيل رمادي. الإجابة؟ ربما هي اللوحة التي يحاول الفنان رسمها منذ احترافه الرسم حتى الآن. المؤكد أن أحدا لن يرى تلك اللوحة أبدا, لكن هل يراها هو نفسه منتهية ذات يوم؟
يوسف ليمود – سويسرا
[email protected]
النهار اللبنانية
#يوسف_ليمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟