|
انتخاباتٌ تشريعية بالمغرب بدل -قومة- 2006 التي لم تقع
محمد المدلاوي المنبهي
الحوار المتمدن-العدد: 2027 - 2007 / 9 / 3 - 04:35
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
تقديـــــــــــــــم
عاش "الرأي العام" الصحفي والسياسي وحتى الفكري-النخبوي بالمغرب بشكل جدي طيلة سنة 2006 على إيقاع ترقب ما عسى أن تسفر عنه نبوءة سياسية للزعيم السياسي المتصوف، السيد عبد السلام ياسين، شيخ "جماعة العدل والإحسان"، تلك النبوءة التي كان قد بشر بمقتضاها بأن سنة 2006 ستكون حاسمة من الناحية السياسية والحضارية في تاريخ المغرب، وهو تعميم كان يكتسب تحديدا لدلالة مضامينه المستفادة، من سياق خلفيات الأدبيات السياسية للجماعة، التي تحتل فيها فكرة "الخلافة على منهاج النبوة" قطبَ نظرية الحكم، ويحتل فيها أسلوبُ "القومة" مكانة مركزية كآلية جماهيرية لإقامة تلك الخلافة بعد استكمال "التهييئ التربوي والسياسي" لتلك الجماهير، والتي كانت قد جاءت تصريحات السيدة نادية ياسين، نجلة الشيخ، في نفس فترة الترقب حول تفضيلها لجمهورية [إسلامية] بالمغرب بإحدى الجامعات الأمريكية لتوجه ذلك الترقب في اتجاه معين أكثر دقة. ونظرا لأن درجة الجدية والمواظبة والمتابعة التي تعاملت بها مختلف الدوائر السياسية والصحفية والفكرية المغربية مع ذلك الترقب، تعكس في الحقيقة وضعا فكريا عاما لا يخص فقط، في واقع الأمر، الفضاء الداخلي للجماعة وحدها، المتسم بما عُـرف عنه، وما لا ينفيه أصحابه، من استعمال للغيبيات وللعرفانيات وللإشراقيات كأساليب تعبئة سياسية، وبعد أن نسي الجميع، اليوم، ذلك الترقب، منشغلا بتفاصيل حسابات الانتخابات التشريعية الوشيكة للسابع من سبتمبر 2007 المقبل، ولم يعد أحد يطرح تساؤلات وبدبج تحليلات حول النتائج السياسية الممكنة، بالنسبة لكافة الأطراف، لكيفية نهاية ذلك الترقب، إما عن طريق تحقق "بشرى" الشيخ على وجه من الأوجه، وإما عن طريق مجرد تبخر النبوءة في السماء، وبعد أن انصرف اليوم كل الذين كانوا يحللون ما عسى أن يسفر عنه انقضاء سنة 2006، إلى الخوض في تفاصيل انتخابات تشريعية قد لا يبدو أن لها رهانات سوسيو-اقتصادية بسبب عجز معظم الأحزاب التقليدية عن تشبيب أجهزتها مما تولد عنه تناسل للأحزاب وغموض في تمايزات البرامج أو انعدامها البتة، وبسبب ضعف تجربة الأطراف الحزبية المشاركة في حكومة العهد الجديد في كل ما يتعلق بالمبادرات السوسيو-اقتصادية الكبرى للسنين الأخيرة بالقياس إلى مبادرات المؤسسة الملكية (ملفات مدونة الأسرة، المسألة الثقافية، المبادرة الوطنية لتنمية العنصر البشري، الخ)، مما يشي في الأخير بأن رهانات هذه الانتخابات لن تتعدى بعض الدلالات السياسية العامة من قبيل نسبة المشاركة (ودلالاتها الاجتماعية من حيث شرائح العمر والجنس والبادية والحاضرة والجهات) خصوصا بعد الخطاب الملكي في ذكرى عيد 20 غشت، ومن قبيل الوزن الانتخابي (بحساب المقاعد وبحساب الأصوات) الكلي والتفصيلي للأحزاب المصنفة كإسلامية، بعد كل هذا، فإنه من المفيد من أجل أخذ المسافة اللازمة للفهم والاعتبار أن يتم التذكير بتلك السنـة من ممارسة الخيال السياسي (Politique-fiction) على غرار الخيال العلمي (Science-fiction) الذي كان قد شغل المغاربة لمدة سنة برهانات تحقق تنبؤ شيخ أو عدم تحققه، والتذكير بدلالات ما يعكسه ذلك النمط الجمعي للتفكير وللممارسة من طبيعة الذهنية الغالبة على المجتمع، وذلك من خلال استعراض الفقرات الآتية لبعض الوقائع ولبعض خلفياتها؛ وهي فقرات كانت صيغتها الفرنسية قد نشرت في الأسبوعية المغربية La Vérité, n° 259 (du 09 au 15 juin 2006); pp. 22-23.
عن التنبؤ بصفة عامة
يعتبر التنبؤ أسلوبا من أساليب تمثـُّـل وجود الإنسان ووضعيته، وتَـمثـُّـلِ تموقع هذا الإنسان حيال محيطه الوجودي. أما مناسبـــية هذا الأسلوب وتفعيل اللجوء إليه دون غيره من أساليب التمثل الأخرى، كالتمثل العقلاني مثلا، فأمر رهين دائما بالظرفية السوسيو-تاريخية (نمو أو انحسار اقتصادي، استقرار أو أزمة وقلاقل سويسو-سياسية، حالة الحرب، حالة السلم، الخ.)، بينما تكون الصيغ والأشكال التعبيرية الملموسة (إشراقات، وكشوفات صوفية، رؤى منامية، الخ) التي يعبـِّر من خلالها هذا الأسلوب التمثلي عن مضامينه، وكذا نوعية الحدود والمقولات الدلالية (catégories de signifiants) التي تستخدمها تلك الأشكال التعبيرية في الترميز والتشفير، متوقفة على نوعية الرأسمال الفكري والرصيد الثقافي للفضاء البشري المعني.
عندما تهب رياح النبوءات على بلاد المغرب الأقصى
فيما يتعلق بهذا الأسلوب المذكور من أساليب التمثل، يبدو الوعي المغربي وكأنه يجتاز اليوم، ومند بضعة أشهر، منطقة اضطرابٍ للأفق وتداخلٍ للرؤية، متولدة عن نوع من صراع رياح لنبوءاتٍ تعددت مصادرها وتفاوتت قوى دفعها ووتائر اهتزازاتها. فهناك مثلا استقراء الرأي الذي أنجزه المعهد الجمهوري الدولي المقرب من الحزب الجمهوري لسيد العالم حاليا، الولايات المتحدة الأمريكية، حول مدٍّ وطوفانٍ إسلامي مرتقب في المغرب من خلال اكتساح مزعوم لــ"حزب العدالة والتنمية" للساحة السياسية خلال انتخابات 2007 بالمغرب، هذا الاستقراء الذي أجج العواطف السياسية حتى داخل الحزب المعني المبشر بالفوز، والذي سارع مسؤولوه، في نوع من المفارقة، إلى تسجيل وجود "درجة عالية من المبالغة" في واقعية ومصداقية الأرقام المقدمة، كما لو كانوا يسعون، من خلال ذلك التشكيك في مصداقية أرقام المعهد الأميريكي، إلى أن يُـذهبوا "عينَ السوء" عن الحزب الإسلامي.
ثم هناك الرؤى القيامية لاتجاه إسلامي آخر، جماعة العدل والإحسان، بخصوص "القومة" التي تبشر بها هذه الجماعة في أجل حددته تلك الرؤى في "سنة 2006 المباركة" التي تشكل هذه المرة، في أدبيات الجماعة، يومية ورزنامة مضبوطة على أفلاك الأبراج لتحقق فحوى الإنذار القديم الذي كان إنذار مفتوحا منذ أن وجهه زعيمها، الشيخ عبد السلام ياسين، من باب "النصيحة لأولي الأمر"، إلى المرحوم الحسن الثاني قبل ثلاثة عقود، ألا وهو إنذار "الإسلام أو الطوفان"، تلك "القومة" التي قامت مؤخرا نجلة الشيخ، السيدة نادية ياسين، برسم خطاطتها الزمانية-التاريخية الدنيوية وبصياغتها بمصطلحات دستورية حديثة، وذلك حينما نادت ودعت دعوة ديموقراطية في إطار حرية التعبير، من على منبر إحدى جامعات سيد العالم المعاصر دائما، الولايات المتحدة، إلى إقامة "جمهورية" (إسلامية طبعا) في بلاد المغرب الأقصى.
ثم إنه يتعين ألا ينسينا تعاقب الليل والنهار، والقُـر والقيظ، نبوءة التسونامي المغربي التي كان قد أوعِدها المغاربةُ ليوم 25 ماي 2006 (على غرار تسونامي أندونيسيا في ديسمبر 2004؛ انظر http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106765)، وهو مد أو طوفان بحري كان قد أوعِده المغاربة بالمعني الحقيقي لا المجازي هذه المرة، بالرغم من أنه أخلف وعيده فأرهب هؤلاء المغاربة الذين هشـهشـتهم رياح الاضطرابات المشار إليها سابقا، وسبب لهم من الفزع أكثر مما ألحق بهم من الأضرار ما دام أن المحيط الأطلسي استمر في استقبال مستحميه كعادته مند أن اكتشف المغاربة هذا الوجه من أوجه التسلية والترويح، ولم يستعد تسميته القديمة "بحر الظلمات" في يوم ذلك الخميس بالرغم مما كان يعرفه قبل سنوات من حرب شواطئ خلال الصيف (انظر http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106379).
وأخيرا، يتعين ألا ننسى سواد هذه الجموع المتروكة لأمرها، والتي تتمثل في تلك الشبيبة التي لم تؤطرها لا الجماعات الإسلامية، من عدل أو عدالة أو غيرهما، ولا المنظمات السياسية الزمانية بأطيافها، تلك الجموع التي ليس لها من أستاذ معلم هاد إلا بعض المرشدين التقديريين أمثال الشيخ "غوعل" (Google) و فضاءات وأندية الإميسين (MSN) واليوتوب (Youtube)، ممن يتعهدونها من وراء الشاشة كمربين وموجهين عبر منعطفات ومجاهل الفضاءات التقديرية الافتراضية على شبكة البينون (Internet) عسى أن تقف تلك الجموع، بفضل تلك الرعاية والتأطير الافتراضيين، على معنى ما للحياة، وذلك في انعدام أي فلسفة عامة للإنسان وللأخلاق وللمدينة وللدولة، تحاور عقل الفرد والجماعة، ما دام خيار مصادر الوعي منحصرا، بالنسبة لتلك الجموع، ما بين خطابة الخطباء الفصحاء، مهما كانت مرجعياتهم، ومجاهل الفضاءات التقديرية الافتراضية. فهذه الجموع الشبابية المتروكة لأمرها قد صاغت هي كذلك لنفسها نبوءاتها، وحددت مواعيدها المهدوية والقيامية، التي لم تفلت بدورها من سحر تقاليد باطنيات "الأرقام السداسية" القائمة على أساس الرقم 6 .
ولكي يتأكد المرء من ذلك، ما عليه إلا أن يعود إلى الموقع المسمى (Revelation.net) على شبكة البينون، أو أن يبحث عن متوالية "06/06/06" في نافذة الكشاف غوغل (Google)، فسيجد في الموقع المذكور الخلفية الثقافية الكامنة وراء باطنية الأرقام السداسية، وسيجد في البحث الثاني ما لا يقل عن 40.300.000 من المواقع التي تتحدث عن موعد يوم الثلاثاء 06/06/06 (أي الثلاثاء 06 يونيو 2006) الذي أمسك في الأسابيع الأخير بأنفاس جميع مجانين موسيقى الهارد-روك (Hard Rock) والهيفي-ميطال (Heavy Metal) في في جميع أنحاء العالم، أي بما في ذلك مغرب الرؤى والتنبؤات، إلى درجة أن مفارقة تداخلٍ غريب في المواعد الرمزية القائمة على أساس الانبهار والارتياع في نفس الوقت إزاء المزايا العرفانية والعِـرافية للأعداد من ذوات الرقم "6" في كشف وتحديد التواريخ المصيرية، قد جمعت في الأيام الأخيرة، بالمغرب، في مفارقة ونشاز، ما بين هذه الشبيبة المنشطرة على نفسها وكافة عالم جماعة العدل والإحسان، شبابا وشيوخا. فما هي، إذن، قصة هذه الأرقام السحرية، التي تقوم على أساس الرقم 6 ، والتي تزرع الفزع وتسبب الانبهار في نفس الوقت بالنسبة لكثير من الناس، شبابا وشيوخا، نخبة وعامة، أمّـيين ومحسوبين على العلم، أميـّي القلم وأميـّي الحاسوب؟
جذور روحٍ قبّـاليةٍ مترسخةٍ في الأذهان، لكن غير معترف بها
لقد سبق لظاهرة التنبؤ والمهدوية في المغرب – من حيث هي أحداث ووقائع تاريخية - أن شكلت موضوع دراسات عدة، منها على وجه الخصوص ندوة كانت قد عقدت خلال التسعينات من القرن العشرين الميلادي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (Mahdisme: crise et changement dans l histoire du Maroc. Publication de la Fac. des Lettres Rabat. 1994). لكن الجوانب من هذه الظاهرة، التي لم يتـم تناولُـها بعدُ من الناحية الأنثروبوغرافية والاثنولوجية، حسب ما أعلم إلى اليوم، تناولا منهجيا مستقلا في المغرب هي: أ- الصيغ والأشكال الملموسة التي تتخذها ظاهرة التنبؤ (تجلي إعجازي خارق للعادة، رؤى وإشراقات كشوفية صوفية، رؤى منامية، الخ,)، ب- الأحوال النفسية الملموسة التي يحصل فيها ذلك القبيل من الشعور (تأمل صوفي، حضرة وتواجد جماعي، جذبة وغياب رقصيي أو حشيشي، الخ)، ج- الحدود والمقولات السيميولوجية الدلالية التي ترمَّـز وتشفَّـر عبرها تلك التنبؤات (خطاب فصيح مباشر، سجع الكهان والعرافين، هذيان الغائب المجذوب، أو النائم المكبوس، أو الحشاش المهووس، تصويرات منمذجة، رموز منمطة، رقمولوجيا وجفريات)، وأخيرا د- الجذور الثقافية للمعطيات الملموسة على كل بعد من الأبعاد المشار إلى بعضها.
من المعلوم لدى الباحثين في تاريخ ومقارنة الأديان بأن النبوءة والتنبؤ، كما تتصورهما الأذهان اليوم بصفة عامة، قد شكلتا دائما، من حيث مظاهرهما التاريخية الأكثر بروزا، "رياضة أهلية" عند العبرانيين، حيث يقوم "العهد القديم" أو الناناخ תנך (أي التوراة + الأنبياء + الكتب)، الذي هو الصياغة التاريخية المكتملة الأولى لعقيدة التوحيد في بقية الديانات الإبراهيمية، كديوان أساسي لجُماع أوجه تلك النبوءات. ويحتل "أسلوب الرؤيا" ضمن هذا الديوان من النبوءات مكانة متميزة إذا ما قورن بــ"أسلوب النبوة" القائمة في الاعتقاد على التجربة المباشرة الإعجازية الخارقة كما هو الشأن مع الأنبياء إبراهيم، ويعقوب، وموسى، عليهم السلام. ومن أشهر أوجه "أسلوب الرؤية" في العهد القديم رؤى يوسف، ودانيال، وياشاعيا، وأراميا، وحزقيال، التي تتراوح ما بين رؤى منامية تتم في المنام، ورؤى إشراقية تحصل في حالة التواجد و"الحضرة" الصوفية.
موازاة مع تقاليد الرؤى النبوءاتية، التي يتم تنزيلها أو ترميزها وتشفيرها بطرق مختلفة في نصوص التنزيل المؤسِّــسة، نشأ عبر الأزمنة والحقب فن دلالاتي (art sémiologique) خاص للتفسير والكشف يتولى "تأويل الأحاديث"، وتفسير النصوص، وفك الترميزات والتشفيرات، قصد تحديد المضامين والأطر الزمكانية التاريخية لرؤى النبوءات. و من أهم المدارس الكبرى لهذه الفنون السيميولوجية الدلالاتية فـنّ عرف في تقاليد الفكر العبراني بالقبالة קבלה (Kabbale)، والذي يشكل كل من "كتاب التصوير" (ספר יצירה سيفر يتصيرا بالعبرية) و"كتاب البهاء" (זהר الزوهار بالعبرية) نصيها المؤسِّـسين. وقد شكل أولهما أساسا لنظريةٍ ألفا-عددية (alphanumérique) تُـعرف في العبرية بــ الكَـيـماطرية (גמטריה) ثم عُرفت بعد ذلك في العربية بــ"حساب الجُمـّل"، وهي نظرية تعنى بالقيم العددية الأزلية لأحرف الأبجدية العبرانية (اثنان وعشرون حرفا: أبجد، هوز، حطي، كلمن، ...) التي يـُـعتقد بأن أسرار الخلق، والتاريخ، والمصير، والمآل، قد تم ترميزها جميعا بواسطة تلك القيم العددية منذ الأزل في ثنايا نصوص التنزيل، وذلك من وراء المعاني اللغوية المباشرة العادية لتلك النصوص. وكمثال ملموس على ذلك الاعتقاد، نشير إلى أن بعض التصورات القبالية للوجود وللتاريخ قد ادعت مثلا، بعد حين، بأن تخريب برج مركز التعامل العالمي بنيويورك يوم 11 سبتمبر 2001 (أي يوم 11/9 من الألفية الثالثة) كان مشفرا تشفيرا قباليا في العهد القديم، وذلك من خلال الترقيم القانوني لمسلك الآياة (11/9 من سفر التكوين) التي هي المسلك الذي تتحد عن تخريبه تعالى لبرج بابل بعد استكبار الانسان واعتداده بقوته؛ وذلك إذ قال الملأ من قوم نوح بعد طغيانهم واستكبارهم: »هيّا بنا نبنِ لنا مدينة، ونشيد بها برجا تكون هامته في كبد السماء». فرأى الرب السماوات و الأرض ما في ذلك من تطاول واستكبار، فقوّض ما صنعت أيديهم، ودك البرج دكّا (انظر الموقع > http://www.bibleetnombres.online.fr/wtcatten.htm< من أجل نماذج من تلك "التحليلات").
نماذج تاريخية لتسخير القبالة في الرؤى والنبوءات
وهكذا، وفي إطار الأدبيات القبالية اليهودية المشار إليها أعلاه، برزت في فضاء التداول بعضُ وصفات التأليفات الرقمية التي اكتسبت، مع الزمن، شهرة شعبية اخترقت الآفاق والملل والنحل؛ ومن أهمها تآليف الأرقام السداسية، أي تلك التي تقوم على أساس رقم 6 ، وأشهرها على الإطلاق العدد "666" الذي اشتهر لدى المفسرين القباليين باسم "عدد الدابـّة" (The Number of the Beast = Le Nombre de la Bête)، في إحالة على الدابة التي ورد وصف لها في مسالك الآيات 13: 16- 18 من سفر الرؤيا (Apocalypse:13 ; Revelation:13) والتي درج أولئك المفسرون على ربطها بشخصية الدجال (antéchrist ؛ أي "بوحمارة"، حسب التقاليد الشفهية المغربية) الذي سيظهر، حسب ما يعتقدون، في الأزمنة المهدوية (temps messianiques) والذي تحكي عنه أدبياتهم بأنه شخصية ذات سلطان ولا يصمد أمام جاذبيتها المغرية الزائفة إلا "القسم الناجي"، من حيث أن ذلك الدجال يأمر السماء فتمطر، ويضرب الأرض بعصاه فتـنبت حبا ونباتا، وتؤتي فاكهة وأبا، وأنه يحول دمنة النفايات إلى مائدة طعام مختلف ألوانـُه، وأنه يمتطي حمارا ذَرعُ ما بين أذنيه سبعون ذراعا، الخ.، والذي سيخوض المسيحُ المنتظر، من خلال محاربته وهزمه، المعركةَ الأخيرة ضد الشر، "فيملأ الدنيا عدلا وعدالة" كما ملئت جورا واستكبارا وضلالة. فلا يبقى إذن، بعد هذا التوصيف، أمام من يهمهم أمرُ الإصلاح، وإعدادُ الترتيبات النفسية والتربوية لأزمنة الصلاح، من الذين أوتوا العلم الرباني، والعرفان النوراني، إلا أن يعملوا على الكشف عن ذلك الدجال من بين أفراد زمرة ذوي السلطان وقوة التأثير، وذلك اعتمادا على إعمال أولئك الموهوبين لباطنيات التقليبات القبالية للأعداد القائمة على أساس رقم 6 . ولقد حفل تاريخ الفكر القبالي، منذ نشأته إلى اليوم، بمختلف التأويلات والتقليبات المتعددة للرقم 666، الذي هو "رقم الدابة"، بغاية إقناع هذا الجيل أو ذلك الجيل بأن الدجال مختف تحت جبة هذا الحاكم (نيرون، مثلا)، أو تحت تاج ذلك الملك، أو تحت عمامة أو قبعة ذلك المفكر أو ذلك العالم ("جيوردانو برونو"، أو "غاليلي")؛ وذلك حسب الحقب ونوعية ومواضيع التدافع أو الخلاف، وحسب أسلوب تدبير ذلك التدافع أو ذلك الخلاف.
ومن جهة أخرى، لم يحرم المتنبؤون والمهدويون أنفسهم يوما، بجميع أصنافهم، من إعمال وتفعيل المزايا الانبهارية للعبة الأرقام هذه من أجل تدعيم دعاواهم المهدوية، والتبشير بها، وتحديد مواعيدها على إحداثيات التاريخ والجغرافبا. فقد عرف التاريخ القديم، و الوسيط، وحتى الحديث، عددا كبيرا من النبوءات والمهدويات من مختلف الرتب والدرجات، وبمختلف المصائر والنهايات. فمن صادفت نبوءاتهم ظروفا سوسيو-سياسية وفكرية تجعل النجاح السياسي أو الفكري يحالف مساعيهم المهدوية فينتقلون من مروجين للبشارات إلى ممارسين للحكم، تصنفهم تلك الأدبيات التاريخية والمناقبية كــ"إمام"، كما حصل بالأمس مع المهدي ابن تومرت المصمودي مؤسس امبراطورية الموحدين، أو مع الإمام الخميني في عصرنا مثلا، دون أن ننسى المتصوف الطرقي السوداني محمد بن أحمد (1844-1885) الذي شق ذات يوم عصا الطاعة على شيخه، الشيخ محمد شريف، ثم استقل بنفسه مبشرا بمهدويته الواعدة بالعدل والصلاح والإحسان، إلى أن ادعى بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاءه في المنام وقال له: "أنت المهدي المنتظر ومن شك في مهديتك فقد كفر"، فأسس على أساس تلك الرؤيا المباركة دولته المهدوية في السودان. بينما تخصص تلك الأدبيات التاريخية والمناقبية ألقابا قدحية من قبيل "متنبئ" (faux prophète)، أو "مهدي مزيف" (faux messie)، أو "دجال"، أو "بوحمارة" حسب تعبير المغاربة، لكل من لم يحالفهم الحظ لا سياسيا ولا فكريا، كما حصل مثلا لــ حاميم الغماري (315-313 هـ) بشمال المغرب، أو لأبي العباس السجلماسي المعروف بــ بو-محلة (قتل سنة 1022 هـ) في شرق المغرب.
إلا أن أشهر أفراد هذه الفئة العاثرة الحظ من ذوي الرؤى المهدوية يبقى في بابه على الإطلاق، هو المسمى ساباطاي تصيفي (Sabataï Tsevi 1226-1276)، أشهر المتنبئين المهدويين اليهود طيلة تاريخ اليهودية وما حفل به من أنبياء الصدق ( نبيئـيم ) أو أنبياء الكذب ( نبيـئي شيقير נביאי שקר). فقد ادعى أنه "المسيح المنقذ المنتظر" (המשיח)، الذي تبشر به كثير من مسالك العهد القديم، خصوصا سفر المزامير، باعتبار ذلك المسيح سيظهر من صلب ذرية داود، والذي ما يزال اليهود ينتظرونه إلى اليوم بمقتضى ركن من أركان الإيمان الثلاثة عشر كما حددها حجة اليهودية، موسى بن ميمون القرطبي الفاسي، وذلك بما أن اليهود لم يعترفوا بمسيحية عيسى ابن مريم بالرغم من أنه كان ينادي فيهم "أنا المسييح"، "أنا ابن داود" (راجع الأناجيل) معتبرين إياه عبارة عن من منشق من آل الناصرة فعرف صحبه بالنصارى.
ولقد عمت حركة أنصار "ساباطاي تصيفي" العارمة ضمن بني ملته كافة أرجاء الامبراطورية العثمانية وإلى غاية بولونيا؛ بل أن هناك وثائق تبين بأن صداها وصل حتى الجماعات اليهودية القروية التي كانت تعيش في قلب الأطلس الصغير بالمغرب الأقصى الذي لم يكن يوما تحت الإدارة التركية. وبما أن معطيات التقويم والتأريخ اليهودي التي أطرت أيام الحياة الراشدة لذلك المغامر في عالم المتبنبئين لم تكن توفر له تأليفات رقمولوجية (numérologique) ذات دلالة أعراف الأدبيات القبالية الشعبية بالنسبة للاستحقاقات الزمانية المناسبة لمساعيه المهدوية (عاش من 5386 إلى 5436 حسب التقويم اليهودي)، فإنه لم يتردد في استغلال معطيات تقويم التاريخ المسيحي لعصره من أجل تدعيم تلك المساعي في بداية بشارته : لقد أعلن أنه المسيح "نجل داود" ليستحق الخلافة، وذلك في إشارة مزدوجة إلى بشارات المزامير بالقدوم المستقبلي للمسيح من جهة، وإلى كون "بيت داود" هو "بيت الملكية" في بني إسرائيل، ثم أعلن يوم الثامن عشر يونيو من سنة 1666 للميلاد، أي سنة بلوغه الأربعين، وهي سن البعثة، كأجل موعود لقيام زمن الشفاعة المهدوية (Rédemption messianique). وإذا كان أمر الدلالة القبالية للرقم 1666 واضحا من حيث أن الأمر يتعلق، من خلاله، بالعدد الشهير 666 من الألفية الثانية للميلاد، فإن وراء الإمعان في تحديد يوم القومة في يوم 18 يونيو بالضبط رغبة في تقوية السند القبالي لنبوءة ساباطي تصفي في أوساط أنصاره، بما أن فك التشفير يسفر عن يوم (6+6+6) من شهر (6) من سنة 666 من الألفية الثانية للميلاد؛ وقد سبقت الإشارة إلى الأدبيات القبالية التي تربط هذه الأرقام بنهاية التاريخ وقيام الأزمنة المهدوية التي سينتصر فيها المسيح على الدجال "فيملأ الأرض عدلا وعدالة" كما ملئت جورا واستكبارا وضلالة.
هكذا، ومن خلال هذا المثال الأخير للتخرصات القبالية، تكتمل مرة أخرى حلقة المفارقة ما بين حدود "الجد واللعب". أفلا يذكر هذا التخرص القائم على باطنيات سلاسل الأرقام السداسية بأحلام وكوابيس مجانين موسيقى الهارد-روك و الهيفي-ميطال ، الذين كنا قد رأينا كيف أنهم كانوا ينتظرون تاريخ ائتلاف الستات الثلاث على شكل 06/06/06 (أي السادس من يونيو من سنة 2006) كموعد جنوني مع الشيطان (Diable) لتفجير الطاقات المكبوتة عبر صخب موسيقى "الهارد"، وكانه النفخ في الصور؟ فها نحن من جديد، ومن باب المفارقة في باب الملل والنحل، نجد أنفسنا أمام توافق تام في أساليب التمثل والتمثيل والتصور والتصوير ما بين جنون الشباب المعولم من جهة، ومغامرات المهدوية اليهودية من جهة ثانية، وأسلوب تصور الوجود وآليات التاريخ لدى جماعة إسلامية محترمة كجماعة العدل والإحسان، التي تؤمن اليوم، من جهتها، إيمانا فولاذيا، بأن القومة الموعودة، التي كثيرا ما ترددت في أدبياتها، ستتحقق تاريخيا بإذن الله مع موعد سنة 06 من الألفية الجارية، الألفية الثالثة، وذلك ربما مع زيادة ظلال دلالية إضافية مشفـّـرة للرقم 6 ، الذي قد ترى فيه تصوراتٌ باطنية حينما تتداخلُ تلك التصورات مع ممارسةٍ عادية للسياسة الدنوية، تشفيرا لما يناظر "الشخصية ذات النفوذ" التي تتحدث عنها أدبيات تفاسير سفر الرؤيا (littérature apocalyptique) والتي قد يحيل توصيفها القبالي في الظرفية المعنية بتاريخ القومة على ضمير مستتر "مبني للمجهول" في أدبيات جماعة العدل والإحسان، تقديره "من يهمه الأمر". هذا دون أن تنسى الجماعة، من حيث ممارستها للسياسة الدنوية ومواكبتها الحداثية لأدبيات هذه السياسة، ما توفره الظرفية من تحليلات "حداثية" "بلا حدود"، تصب في نفس مصب تخرصات القبالة؛ وذلك كتحليلات الصحفي المحلل البارز، جان بيير توكوا (Tuquoi) على سبيل المثال، من خلال كتابه في علم المستقبليات (futurisme) المعنون بــ"الملك الأخير" (Dernier roi)، ذلك الكتاب الذي قد يكون ذلك المحلل قد أماط اللثام من خلاله على هوية وعينية "آخر الملوك" اعتمادا، ولو بشكل غير واع، على الرقم 6 ، حينما يكون هذا الرقم رقما ترتيبيا لاسم ملك معين على شجرة أسلافه. كل هذا من أجل أن يقال - إذا ما تم التخلي عن كل إشارات وهمهمات الكهان – بأن الملك الحالي للمغرب مرتّـب على شجرة أسلافه باعتباره محمدا السادس، أي محمد 6 أو M6 كما يحلو للخطاب الشبابي المرح أن يلقبه، وبأن الرقم 6 حافل بالدلالات بالنسبة لحاملي التفكير القبالي عن وعي أو عن غفلة.
عودة إلى المتنبئ "ساباطاي" من حيث إنه ليس الوحيد
زيادة على كل ما سبق من أوجه التسخير القبالي الشعبي لباطنيات الأرقام السداسية بشكل يخترق الملل والنحل كما تخترقها الأفاكر الشعبية بصفة عامة - ولكي نعود إلى المـُـتـمَهـدي اليهودي، "ساباطاي تصيفي"، الذي انتهى على كل حال، بعد اندحار دعواه وتبخر بشراه، بإلحاق نكبة معنوية فظيعة ببني ملته في صميم عقيدتهم لمّـا فضل، بعد ذلك الاندحار وزيادة في تعميقه، أن يتحصن وراء اعتناق جدّ محسوب سياسيا لديانة سيد العالم المتوسطي حينئذ، الامراطورية العثمانية، ألا وهي الإسلام - زيادة على كل ذلك، نشير أخيرا إلى أن هذا المتمهدي لم يهمل، منذ بداية مسعاه المهدوي، أن يستغل مصدرا آخر من مصادر الظلال الدلالية القبالية للرقم 6 الذي هو أساس "رقم الدابة" (The Number of the Beast) الذي يعلن نهاية التاريخ، ألا وهو مصدر النجمة السداسية (hexagramme)، التي كانت قد أخذت ترمز لدى الأوساط القبالية اليهودية منذ منتصف القرن الخامس عشر الميلادي إلى "ترس داود" (מגן דוד Magen David). فقد عمد إلى اتخاذه هذا الشكل السداسي الزوايا رمزا للشفاعة (Symbole de la Rédemption) التي كان قد أعلن نفسه مسيحا مبعوثا من أجل إحلالها في الأرض، والتي من أجل إحلالها ذاك كان قد دعا أنصاره إلى الدعاء باسمه في البـيع اليهودية بعد الصلاة، بدلا من الدعاء للخليفة العثماني، وذلك قبل أن يتبخر مسعاه في تنصيب نفسه "ملكا على اليهود" باسم "بيت داود" تمهيدا لنهاية الحياة الدنيا (העולם הזה "هاعولام هازي") وقيام حياة الآخرة (העולם הבה "هاعولام هابا").
التنبؤ ومسألة تماسك المنطق الداخلي
نشير أخيرا إلى أنه لا فائدة - مع هذا النمط من أنماط التصور و وهذا الأسلوب من أساليب تشغيل الدماغ - من أن تراود الإنسانَ بعضُ الميولات نحو محاولة للوقوف على وجه ما للعقلنة والتماسك الداخلي لمنطق مثل هذه الأنساق الذهنية في تمثل الوجود وتمثيله، وفي تصور التاريخ وتصويره؛ وذلك بأن يتساءل مثلا كيف أمكن لنباهة المسيح المنتظر، "ابن داود" المبشَّـر به في المزامير، كما قدم "ساباطاي تصيفي" نفسه، أن يؤسس رقمه السداسي التنبؤي على محور تاريخ الديانة المسيحية، التي هي أساسا أطروحةٌ نقيضٌ ورسالة تجاوز ونسخ - بحكم مبررات قيامها الداخلية وبحكم مقوماتها العقدية - للإطار الملي العقدي الذي يدعي هذا المدعي بأنه بُعث لكي يتوج رسالته الأزلية عن طريق تجسيد إحلال الأزمنة المهدوية، التي بشرت بها مزامير العهد العديم، وعن طريق لمّ شمل ما تشتت من أسباط إسرائيل السلفية، ألا وهو إطار يهودية الأزمنة التوراتية الأولى؟ الجواب على هذا، أو شبه الجواب عليه هو أن ساباطاي لم يكن، وليس هو الوحيد الذي يمارس هذا النوع الانتهازي من أنواع تهريب القيم والمفاهيم في برصة التنبؤات. فقد سبقه كثيرون، وعلى رأسهم قداسة البابا "إينوسانط" الثالث (Innocent III 1160-1216) الذي كان يطمح إلى إخضاع الملوك الزمنيين في عصره لسلطة و"إمامة البابوية"، مناديا بأن منزلة الكنيسة مقدمة في الاعتبار على هيئات المجتمع الزمني. فلكي يقنع رعاياه إقناعا قباليا شعبيا بدنوّ أجل نهاية الحياة الدنيا في عصر ولايته البابوية وبأنه، يمثل بناء على ذلك، خليفة المسيح المنتظر، وأن إليه المفر، من حيث أنه من سيمهد لعودة ذلك المسيح من السماء إلى الأرض ليحارب الدجال، أقول : لكي يقنع رعاياه بكل هذا المنطق التاريخي المفصل على حد المقاس، لم يجد قداسة البابا إينوسانط الثالث في معطيات التقويم المسيحي لقرن جيله ومجايليه شيئا مما له دلالة قبالية شعبية، فدبر وقدر، ثم احتال ودبـّر، فاهتدى إلى تخريج أصيل حدد بمقتضاه سنة 1284م كسنة لظهور الدجال، وهي أقرب أجل من جيله ومجايليه مما يمكن أن يُـهتدي له إلى تخريج قبالي ذي دلالة، بما أن تلك السنة - كما نبه البابا الغافلين إلى ذلك، وهو قائد الحملة الصليبة الرابعة - توافق بالضبط سنة 666 لظهور الإسلام (www.abhota.info/end1.htm)!! فلا بأس، ولا حرج إذن، أن يتخذ قائد الحملة الصليبة الرابعة من ظهور الإسلام مرجعية ذات أسس أزلية وليس مجرد "حدث تاريخي"، ما دامت الغاية (أي التأثير على العامة) تبرر الانتهاز في الإقناع والحجاج.
وبعد كل من البابا "إينوسانط" الثالث، المسيحي الملة، والمتمهدي، "ساباطاي تصيفي"، اليهودي الملة (الذي اعتنق الإسلام، دين أولي الأمر بعصره بعد فشل مسعاه المهدوي اليهودي)، لكن هذه المرة بالقرب منا وبين ظهرانيها وأمام شهادة جيلنا، أفلم يتخذ الشيخ ياسين بدوره التأليفة السداسية الأولى للألفية الثالثة، أي "سنة 2006 المباركة" حسب تعبيره، كموعد للقومة؟ الواقع أنني كثيرا ما تساءلت خلال كل هذه المدة التي كثر فيها اللغط عن رهانات ذلك الموعد الصوفيو-سياسي (mystico-politique) كيف يحصل في هذا البلد، الذي قد يطرح فيه، على سبيل المثال، سؤال على الحكومة تحت قبة البرلمان حول موقفها من إقبال البعض على الاحتفال برأس السنة الميلادية، أو حول عدم إثبات التاريخ الهجري في وثيقة إدارية أو مطبوع عادي لمصلحة من المصالح، والذي كثيرا ما ساجل فيه الفكر الحداثي أساليب وخطاب الحركات الإسلامية من حيث مدى تماسكها الداخلي على الأقل، كيف يحصل أن لا أحد من هؤلاء ولا من أولئك في هذا البلد لم يطرح قط سؤالا، ولو من باب الفضول المعرفي، حول قضية "مرجعية التقويم" مند أن أصبحت "قومة 2006" التي بشر بها الشيخ ياسين شأنا سياسيا وطنيا يناقشه المثقفون والسياسيون، ويشكل قوتا يوميا لصحافة الجد وصحافة اللعب؟. فما عدا ما إذا كانت جفربات أمثال المجدوب نوسطراداموس (Nostradamus)، أو شطحات "ساباطاي تصيفي" هي معين الفكر المؤطر للرؤى وللنبوءات الصوفية في إسلام اليوم، كيف يـُتصور أن يكون الموعد الذي تحيل بواسطته رؤيا صوفية إشراقية على أجل "إقامة الخلافة الأسلامية على منهاج النبوة" متمثلا في نقطة من التاريخ يتم تعيينها على محور التأريخ المسيحي وليس على محور تأريخ الهجرة التي هي مرجع الخلافة النبوية؟ إنه بكل بساطة مجرد اقتناص للأرقام وللرمزيات التي تبهر العامة، ولو تمّ ذلك في انعدام تام لأي معرفة ولأي وعي بتاريخ الأفكار وبرحلات الرمزيات عبر المنظومات الثقافية. وفي إطار روح هذا القبيل من الفكر، يحق أخيرا لأي تحليل يراجع التاريخ القريب للمغرب مراجعة قبالية أن يتساءل بشأن "حركة" و" قومة" الثائر، الجيلالي بن دريس الزرهوني، المعروف بلقبي بوحمارة أو الروكَي ، والذي ادعى يوما في المنطقة الشرقية من المغرب - لكي يدعم دعواه باستحقاق العرش - بأنه الابن الأكير، نجل الحسن الأول، ليرى من خلال ذلك التساؤل ما إذا لم تكن تلك القومة الإصلاحية الصوفية المسلحة وغير الموفقة قد حركتها رؤى صوفيو- سياسية (mystico-politique) وأقامتها على قراءات قبالية للتاريخ، معتمدة على رقم السنة 06 من القرن الماضي (أي 1906، التي تقابلها اليوم 2006)، تلك السنة التي تمثل واسطة عقد مشوار حركة الروكَي الفاشلة (1902-1909)، خصوصا وأن هذا الموظف الصغير الذي اشتغل في بداية حياته العملية كطوبوغرافي بسيط في الجيش، «قد استغل الاستياء العام ضد التوجه الأوربي للسلطان الشاب، كما استفاد من الأزمة النفسية التي كانت تعم البلاد في انتظار ″رجل الساعة″ و مصلح الأحوال، فانضم إليه أنصار كثر»، حسب ما ورد في صفحة من صفحات "تيسير التاريخ" بموقع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
فإذا كانت هناك، إذن، تداخلات عدة - على مستويات الأصول الأدبية، والتشكيلية، وحتى الشاراتية المغربية - بين كثير من العناصر المكونة، ومن بينها العنصر العبراني اليهودي بالضبط، كما بينتُ ذلك في عمل حديث (انظر كتاب: "الحكاية الشعبية في التراث المغربي". مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية – الرباط 2006.)، فإن مجال الرؤيا والنبوءة، التين هما رياضة أهلية في التقاليد العبرانية اليهودية، لا يمكن أن تشذا عن تلك التداخلات، خصوصا في بلد أصبح مريضا أكثر فأكثر بنوع من "التأديُـن" (religiomanie) أضحت مظاهره وأعراضه تتحول شيئا فشيئا إلى وسائل إقناع سياسي. على كل حال، فيما يتعلق بمنطق التاريخ وبفلسفته الأخلاق والمدينة، يبقى فكر أناس من أمثال "ساباطاي تصيفي" أو "نوسطراداموس" أقرب اليوم إلى الوعي المغربي أكثر مما يقربُ منه فكر أناس من عيار "ابن رشد" مثلا أو "ابن خلدون" الذي تشاء المفارقة أن يُحتفل حاليا بالذكرى 600 لوفاته، وذلك رقم سداسي آخر، نسوقه عرضا لسعادة من ينبهر بذلك.
#محمد_المدلاوي_المنبهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من برج بابل إلى برج مانهاتان ومن التتر إلى الطالبان
-
بذل المجهود لرسم ما بين العلم والرأي من حدود(1*)
-
التسونامي والله Tsunami and God (بقلم الربي بنيامين بليخ)
-
التربية والتعليم، وتفجير طاقات الشباب (تذكيرات لا بد منها)
-
الحافظ الصغير (من وحي الكاريكاتور الذي زعزع أركان أمة) 1*
-
العطلة (1*)
-
قضية الصحراء: عودة إلى تطوير الخطاب والسياسة في المغرب (*1)
-
أسئلة حول التنوع الثقافي واللغوي في وسائل الإعلام بالمغرب (*
...
-
اللغة العبرانية في عشرية تدبير اللغات الأجنبية بالمغرب (*1)
-
فصيلة الأسئلة المغيَّبة في النقاش حول حرف كتابة الأمازيغية (
...
-
أسئلة حول اللسانيات والبحث العلمي بالمغرب (حوار)
-
هل من تعارض وطني بين إنصاف الأمازيغية وتأهيل العربية؟ (حوار)
-
موقع اللغة الأمازيغية من التعدد اللغوي بالمغرب
-
انطباعاتٌ عن طباع وطبوعٍ وإيقاعاتٍ من بايروت
-
عن اللقاء حول مسألة الديموقراطية في المملكة المغربية
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|