|
قصة صعود وسقوط وزير الداخلية 1/2
خالد الكيلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2027 - 2007 / 9 / 3 - 09:50
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
قصة صعود وسقوط وزير الداخلية 1/2
هل شاهد أحدكم وزير داخلية بعد إقالته من منصبه؟ يعني – لا مؤاخذة - وزير مفصول من الوزارة، أنا رأيته وجلست معه وتناولنا معاَ طعام الغذاء في الشاليه الخاص به على البحر، ويا هول ما رأيت، رأيت شخصاَ أخر غير الذي عرفته، عيناه ذابلتان، ويداه ترتعشان، ولا يقوى على الكلام، والدنيا كلها أصبحت سواداَ أمام عينيه، وصار يلعن الزمن والناس والحكومة والمعارضة وكل شيئ، كنت عندما ذهبت إيه مشفقاَ عليه، وخرجت من عنده أكثر إشفاقاَ عليه وعلينا. والرجل لم يكن مجرد وزير داخلية، ولكنه كان إدريس البصري الرجل القوي في المغرب لعقدين متصلين أثناء حكم العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني، والذي تناولت وكالات الأنباء أول أمس خبر وفاته في باريس، وهو الرجل الذي جمع في يديه كل خيوط السياسة الداخلية والخارجية في المغرب وأضاف لوزارته اختصاصات كثيرة وعجيبة ومتناقضة لدرجة أن المغاربة أطلقوا على وزارته – تهكماَ – أم الوزارات على وزن أم المعارك. فقد كان يمسك بيديه كل الملفات .... المخابرات والأمن والحكم المحلي والبرلمان والانتخابات وقضية الصحراء وملف الشراكة مع الاتحاد الأوروبي وملف الصيد البحري مضافاَ إليها عند اللزوم ملفات البيئة والتعليم والصحة والإسكان. باختصار كان السيد إدريس البصري وزير الداخلية هو رئيس الوزراء الفعلي في عدة حكومات مغربية تنوعت من حكومات تكنوقراط إلى حكومات ائتلافية إلى حكومات شكلتها المعارضة أيضاَ !! (حكومة عبد الرحمن اليوسفي في مارس 1998). بل كان إدريس البصري عملياَ هو الرجل الثاني في المغرب في ظل نظام ملكية دستورية لا يحدد فيه الدستور مهام معينة لولي العهد. وسي البصري كما كان ينادونه في المغرب لم يكن رجل أمن أو ضابط شرطة، ولكنه كان أستاذاَ للقانون في جامعة محمد الخامس بالرباط انتقل منها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي إلى وزارة الداخلية كاتباَ عاماَ (نائب وزير) وسرعان ما أصبح هو الرجل الأول في الوزارة إلى أن عين وزيراَ للداخلية في عام 1979 ليجلس على المقعد الذي جلس عليه من قبل الجنرال أوفقير قبل أن يعدم في عام 1972 عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها ضد الملك الحسن الثاني. وقد استفاد البصري كثيراَ من تجربة أوفقير فحرص طوال بقائه في الوزارة على ألا يتقاطع طموحه الجارف للسلطة مع إرادة سيده الجالس على عرش المغرب، بل كان أداةَ طيعة وذكية وهامة لتنفيذ تلك الإرادة بحيث يعفي سيده دائماَ من أية انتقادات توجه إليه ويتلقى نيابة عنه طعنات و لعنات الرأي العام والأحزاب والصحافة والمعارضة. وإدريس البصري كان رجلاَ مثقفاَ وذكياَ ويتحدث عدة لغات – ليس من بينها اللغة العربية بالطبع – وكان له اهتماماَ خاصاَ بالصحافة والصحفيين خاصة المراسلين الأجانب منهم، وكانت تربطه ببعضهم علاقات ود وصداقة لا تخلو من تبادل للمنافع والمصالح. ورغم اعتراض المغاربة على الأدوار التي كان يلعبها إدريس البصري في حكم المغرب طوال عشرين عاماَ إلا أنه استطاع بدهائه ودبلوماسيته كسب الكثيرين من أعدائه وتحييدهم في الوقت الذي كان يجمع فيه بين المتناقضات، فالبصري - وفي سابقة أعتقد أنها الأولى من نوعها – جمع بين حقيبتي الإعلام والداخلية في حكومة محمد كريم العمراني (1993 – 1995)، ثم ترك حقيبة الإعلام في حكومة عبد اللطيف الفيلالي التي تشكلت في 27 فبراير 1995، لكنه ظل يقبض دائماَ على الإعلام، وكان دائماَ في الواجهة وفي صدارة الصورة ...كل صورة، كان يشرف بطريقة غير مباشرة في بعض الأحيان، وبطريقة مباشرة في كل الأحيان على جهاز الإذاعة والتليفزيون، وكان يصنع الصحف والأحزاب، وكان لا يترك أية مناسبة تمر دون أن يعقد مؤتمراَ صحفياَ حاشداَ يتصدر هو منصته وعن يمينه ويساره يجلس عدد غير قليل من الوزراء وربما أحد مستشاري الملك أيضاَ كمستمعين، وخلفه يجلس أركان وزارته من كبار الموظفين، وكانت لديه ذاكرة حديدية في حفظ أسماء الصحفيين والمراسلين ووسائل الإعلام التي يمثلونها. باختصار كان إدريس البصري وزير داخلية المغرب الأسبق حاضراَ في كل الأزمات والملفات هو الذي يقول وهو الذي يصرح وهو الذي ينفي ويؤكد، والأهم من ذلك أنه كان حاضراََ وبقوة في كل لفاءات واجتماعات الملك الراحل الحسن الثاني سواء تعلق الأمر بشأن داخلي أو كان مباحثات مع وزير خارجية دولة أجنبية أو استقبال رئيس دولة صديقة، مما يذكرك بالسيد صفوت الشريف – أيام عزه – حين كانت – وما زالت – لديه القدرة على الحضور و إلقاء التصريحات في كل شيء وأي شيء. ولكن السيد إدريس البصري، وهذا هو لقبه الرسمي – فالمغاربة لا يسبقون اسم المسئول بدرجته العلمية خارج مدرجات الجامعة، ولا يمكن عندهم أن تسمع أو تقرأ تصريحاَ للسيد اللواء الدكتور الوزير المحافظ، ولكن فقط... السيد فلان الفلاني – رغم تشابهه في بعض السمات وفي طول فترة تولي السلطة مع خالدي الذكر لدينا يوسف والي وصفوت الشريف وكمال الشاذلي إلا أنه لم يحكم المغرب بقانون طوارئ، ولم يعتقل الأبرياء دون محاكمة، ولم يلفق التهم للمعارضين أو يقوم بتجريسهم في البرلمان والصحف، ولم يقم بقمع المظاهرات. لا... بل ترك عدة مئات من الشباب العاطلين ينصبون خياماَ ويعتصمون فيها لشهور طويلة أمام أبواب البرلمان في الرباط، صحيح أن أيامه لم تكن كلها حرية وديمقراطية وحقوق إنسان، لكنه استطاع أن يغير إلى حد كبير صورة مغرب الستينيات والسبعينيات حين كان المعارضون يتم تذويبهم بالحمض داخل البانيو كما حدث مع المهدي بن بركة، أو يختفون تماماَ داخل معتقل "تازمامارت" الرهيب. فقد استطاع أن يجعل كل شيء في المغرب "under control" دون أن تجد شرطياَ واحداَ بالسلاح في الشارع، ودون حملات أمنية أو كمائن بوليسية في الطرق، مستخدماَ في ذلك لعبة أجادها كثيراَ تتمثل في مقدرته البارعة على صناعة الأحزاب والصحف والزعامات، وزرع الموالي والمؤلفة قلوبهم وأعضاء جمعية المنتفعين في كل ركن من أركان الدولة. نعود لأصل الموضوع كيف أقيل إدريس البصري؟! تصاعد نجم وزير الداخلية طوال حقبة الثمانينيات والتسعينيات، وتنامت أدواره السياسية، وتغولت سلطاته وتفرعت في كل مجال وكسب ثقة الملك الراحل إلى الحد الذي جعله في نظر الملك واحداَ من المقدسات التي لا يجوز المساس بها!!. ففي الانتخابات التشريعية التي أجريت عام 1993 لم يحصل – كالعادة – أي من أحزاب المعارضة المغربية على الأغلبية التي تؤهله لتشكيل حكومة منفردة، كما لم توفق تلك الأحزاب في تشكيل حكومة ائتلافية فيما بينها، ولكن الملك الراحل الحسن الثاني رأى لأسباب داخلية وخارجية تكليف المعارضة بتشكيل حكومة ائتلافية بقيادة حزب الاستقلال. ولكن المفاوضات بين الملك والمعارضة وصلت إلى طريق مسدود، فتشكلت حكومة كريم العمراني. وعاد الملك الراحل في أوائل عام 1995 لطرح الفكرة مرة أخرى، وسرعان ما اصطدمت المفاوضات بين القصر الملكي وحزب الاستقلال بحائط إدريس البصري، فقد كان أقطاب الحزب الليبرالي المعارض مصرون على عدم مشاركته في الحكومة التي سوف يقودونها، والملك مصمم على مشاركته استناداَ لعرف دستوري في المغرب يعطي للملك حق اختيار وزراء الداخلية والخارجية والعدل، وفجأة... وفي ذروة التفاوض، صدر عن القصر الملكي ما يمكن وصفه بأغرب بيان سياسي، حيث اعتبر – البيان – أن مطالب حزب الاستقلال تعد مساساَ بالمقدسات!!، وهكذا صعد البصري ليصبح أحد المقدسات التي لا يجوز المساس بها في المغرب!! وهو الأمر الذي ظل المغاربة يتندرون به لسنوات طويلة. ولكن الأغرب منه كان تعليق إدريس البصري نفسه على الأمر، فقد نشر على لسانه وقتها أنه قال - رداَ على أحد الصحفيين الأجانب الذي سأله:لماذا لا تقدم استقالتك للملك فتريح وتستريح؟ - " أنا مجرد خادم يطيع أمر سيده،هل رأيت خادماَ يستقيل؟!!" وكانت هذه أول إشارة من البصري لدوره الحقيقي، وهو نفس الدور الذي يمارسه العديد من الوزراء من هنا وهناك على امتداد الوطن الكبير. وهكذا تشكلت حكومة تكنوقراط أخرى قي 27 فبراير 1995 ترأسها السيد عبد اللطيف الفيلالي الذي كان قبلها وزيراَ للخارجية. في صيف وخريف 1997 أدار السيد إدريس البصري بجدارة الانتخابات البلدية والتشريعية التي تمخضت – كالعادة – عن إخفاق أي حزب سواء من المعارضة أو الموالاة في الحصول على أغلبية مريحة تؤهله لتشكيل الحكومة، وهو الأمر الذي كان يحرص عليه – بدهاء واقتدار – السيد إدريس البصري، ولكن حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض – حينئذ – حصل على أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، وكان لابد أن يتولى قيادة حكومة ائتلافية، وحينها أصر الحزب المعارض - الذي أتت إليه الفرصة على طبق من ذهب – أن يتولى رئاسة الحكومة زعيمه المحامي عبد الرحمن اليوسفي المحكوم عليه بالسجن المؤبد في قضية سياسية والذي كان مقيماَ بمنفاه الاختياري في باريس، وهكذا صدر عفو ملكي لليوسفي وسافر السيد إدريس البصري – أيضاَ – لفرنسا للتفاوض معه حول شروط العودة وبالفعل عاد اليوسفي للمغرب وقام بتشكيل حكومة جديدة كان البصري فيها وزيراَ للداخلية، وتولى معظم حقائبها عدد من المعتقلين السياسيين السابقين ورموز المعارضة الاشتراكية الذين كانوا مطاردين لسنوات طويلة من رجال البصري ووزارة داخليته!!. وكان يوم الاثنين 14مارس 1998 وهو اليوم الذي حلفت فيه الحكومة الجديدة اليمين الدستورية أمام الملك الراحل من أسوأ أيام إدريس البصري – وأنا شاهد على ذلك – ولكن تلك قصة أخرى، فالبصري لم يكن يعلم أن في انتظاره يوماَ أكثر سواداَ من هذا اليوم هو 24 نوفمبر 1999. فقد توفي الملك الحسن الثاني في 24يوليو 1999، وانتقل العرش بسلاسة أدارها وأشرف عليها البصري بنفسه إلى ولي العهد الملك محمد السادس،واستمر البصري يؤدي نفس الأدوار مع الملك الجديد وكان وزير الداخلية يعلم أن الملك الشاب لا يرتاح إليه، لكنه لم يكن يتصور أن الجالس الجديد على عرش المغرب يستطيع أن يتخلى عنه وهو القابض على كهنوت السياسة المغربية، والمهيمن على أهم ملفاتها على الإطلاق (ملف قضية الصحراء المغربية). إذاَ كيف سقط إدريس البصري؟ فهذا هو ما سوف نعرفه غداَ
#خالد_الكيلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفرق بين رد القضاة ورد المحكمين في القانون المصري
-
دستور 1971 ... هل يصلح لمصر الآن؟بين ضرورة التغيير ومخاطره
-
الدستور المصري بين التعديل والتغيير
-
هموم مصرية - لماذا جرى ما جرى؟
-
عاشق أصيلة
-
حوار مع رئيس مركز دراسات الإسلام والديمقراطية في واشنطن
-
دستوركم ياسيادي
-
مش كفاية!!
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|