ربّما تكون مسرحية ( الباب المفتوح) أول نص مسرحي يكتبه القاص يوسف إدريس ، وهي تدور حول شاب متعلّم _ يفترض انه مثقف ولو إلى حد _ جامعي ، يغلق والده عليه باب غرفته ليحول بينه وبين الخروج للمشاركة في معركة الدفاع عن الوطن عام 56 حين اشتعلت المعركة في ( بور سعيد ) التي تحوّلت ألى رمز للمقاومة الشعبية المصرية ضد تحالف العدوان الثلاثي : البريطاني ، الفرنسي ، ( الإسرائيلي) .
لست بصدد الكتابة عن ذلك النص المسرحي المبكّر للراحل يوسف إدريس الذي قدّم فيما بعد أعمالاً مسرحية أخذ بعضها عن قصصه القصيرة ( العسكري السود ، ملك القطن ) ووضع بعضها ( الفرافير ، الجنس الثالث ،وغيرها ) ، ولكن ( جوهر ) تلك المسرحية خطر ببالي بشكل ملّح في الفترة الأخيرة .
ما السبب في ذلك يا ترى ؟ .
السبب يعود على بؤس حالة المثقّف العربي ، وغيابه _ قل تغيّبه _ عن القيام بدوره ، وشلل إرادته برضاه أولاً وقبل كل شيء ، وانحطاط وعيه .
لنعد إلى مسرحية الدكتور يوسف إدريس ،وليستذكر من قرأها _ كنّا نقرأ المسرحيات كنصوص أدبية وذلك قبل ازدهار الحركة المسرحية في الستينات والسبعينات _ ( خطابها) ، أو فليكتف من لم يقرأها بسوقنا لفكرتها الأساسية ليدرك ما نهدف إليه .
الشاب المتعلّم في مسرحية ( الباب المفتوح ) ظلّ يصرخ وهو حبيس غرفته طالباً من والده ، وذويه ، أن يفتحوا له الباب كي يتوجّه للمشاركة في معركة الدفاع عن الوطن ، وهو طيلة الوقت لم يفكّر في مد يده على أكرة الباب ليرى إن كان الباب مغلقاً أم مفتوحاً .
وفي نهاية المسرحية ، وبعد أن تنتهي المعركة ..يكتشف ( الشاب) _ لا يهم اسمه _ أن الباب كان مفتوحاً ، وأنه كان بمقدوره لو مدّ يده أن يفتحه ويخرج ويقوم بواجبه ! .
ولأن النص يقول الكثير ، فلا بدّ أن نشك بأن الشاب المتعلّم ، المثقّف ، كان في داخله يدرك بأن الباب مفتوح ، ولكنه يتهرّب من مسئوليته ويحمّلها لغيره ، ويتهرّب من دوره ، ويتقاعس عن النهوض بواجبه ، ويقضي الوقت في الصراخ ، والإدعاء !...
الباب مفتوح ، ولو أن الشاب سحبه _ وهذا لا يحتاج لكبير جهد _ فإنه سيكون في الشارع ، مع الناس ، وهنا سيتوجّب عليه أن يحدّد اتجاهه ، وينهض بدوره ، ويدفع ثمن مشيه مع الناس ، وتكلفة الدفاع عن الطن ( المقاومة) ، إذ لا يكفي أن تفتح الباب وتجلس على الرصيف متفرجاً ، أو تختار طريقاً غير الطريق السوي ، طريق الوطن ، والحريّة ، والذي هو شاق ، ومحفوف بالمخاطر ، ويتطلّب تضحيات ربّما تكون الحياة الشخصية إحداها ، وأقله هناءة العيش .
* * *
لا يجب أن نتحوّل إلى ندابين للمثقفين ودورهم ، إذ ثمّة منهم من أسهم في صياغة الوعي ، والمعرفة ، وقاوم ، وبلغ به الأمر أن يدفع حياته ثمناً لقناعاته ، وخياره .
ولكننا أيضاً لا يجب أن نحوّل نظرنا عن أولئك الذين يصرخون بطرق شتّى
( مطالبين) بأن يفتح _ بضم الياء _ لهم الباب ، ولا يخطر ببالهم أن يحرّكوا أقدامهم لبلوغ الباب ، ويمدّوا أيديهم لتحريك أكرته ، فما بالك بأن يحطموا الباب إن وجدوه مغلقاً !.
هذا النوع من ( المثقفين) سريع الارتداد ، والانتكاس، وهو شكّاء بكّاء ، دعي ، وكاذب في سلوكه وممارساته ( اقرأوا رواية : الرجل الذي فقد ظلّه لفتحي غانم لتروا ، وتتعرّفوا على النوع الذي نقصده ، وإن شئتم فاقرأوا رواية ( الكذّاب ) لصالح مرسي، لتتعرّفوا إلى المفارقة بين القول والفعل ) .
* * *
يحدث الآن في العراق أن بعض الكتّاب ، والمثقفين ، والمنظّرين
( اليساريين ) قد أسفروا عن ولاء طائفي ، وكشفوا عن الشرطي في دواخلهم ، وكشّروا عن أنيابهم ، ونسوا أنهم كانوا قريبين جداً من النظام ( السابق) ، وانهم تنّعموا في خيراته ، ونظّروا له ، أو في أقلّه لم يعرف عنهم أنهم من معارضيه لا سرّاً ولا علانيةً .
فجأة ، وبالتلازم مع الحقبة ( البريمرية) ، وفي زمن الاحتلال ينحط المثقف إلى خطاب طائفي يرى في الحل لكل مشاكل العراق ، يوزّع التهديدات على زملاء الأمس من المثقفين ، وينظّر لأكثرية ( شيعية ) وأقلية ( سنيّة) في العراق الواحد ، الذي لم يكن الحكم فيه سنيّاً بل كان حكم الحزب الواحد ، والرئيس الواحد ، والذي لا تحّل مشاكله ، وتنتهي آلامه إلاّ بوحدة المجتمع وأدوات حكمه ، وتحديد أهدافه ، وانتمائه لأمته ، وعدم الإنبتات عن هذه الأمة لأن الولاء للطائفة سيمزّق المجتمع ويشّل قدراته ، ويدخله في ( لعبة) الإحصاءات ، والخضوع لرجال الدين بتعصّبهم ، وولاءاتهم ، ومصالحهم و..وتعاملهم مع الموالين كقطيع تابع ، خانع ، مسلوب الوعي والإرادة .
الأخبار الوافدة من العراق عن قطاع من المثقفين محزنة ، ومؤسفة ، وخطرة ، لأنها كشفت عن وعي مزيّف ، وافتقادهم للتفكير الحر، وتصرفهم غريزياً ، بحيث أنهم بوعي ، أو بدون وعي ، باتوا ينظّرون لعدم مقاومة الاحتلال الأمريكي ( نكاية) في النظام السابق ، وانطلاقاً من مصلحة
( الطائفة) ، وكأن الطائفة أمّة قائمة بذاتها ، مصالحها واحدة ، ومستقبلها واحد ، سواء كانت في ( إيران) أو ( باكستان) ...
هؤلاء المثقفون يحبسون أنفسهم في ( غرفة) ويغلقون الباب على أنفسهم ، وهم بعملية الإغلاق هذه ينحطون بوعيه ، ويرتكسون طائفياً ، وينشرون فساد الرأي بين الناس ، ويخدمون أعداء العراق ، ويؤرثون الحقد على الأمة العربية ، ولا يقلقهم التسلل ( الإسرائيلي) الصهيوني المكشوف إلى العراق ، فقد أعماهم الحقد ، وردّتهم تغمض عقله وعيونهم معاً .
* * *
العيّنة العراقية الثقافية الراهنة يشبه خطابها الخطاب الطائفي في لبنان الذي كان عنوانه الكاريكاتوري الشاعر ( الكبير) سعيد عقل _ الذي نظّر للفينيقية ، وبتر العلاقة مع العرب ، ومحاربة الفلسطينيين الغرباء ، ولبننة العالم ( جعل العالم لبنانياً ) يا للشطط والهوس !_ والذي تناقض خطابه المعادي للعرب مع بلاغة شعره العربي الفصيح جداً ، والمغرق في بلاغته.
ذلك الخطاب ( الشعري) أنجب ظواهر سياسية منحطّة :( أبو أرز ) المارق ، و ( إيلي حبيقة) المجرم الذي تلطّخت يداه بدم الفلسطينيين واللبنانيين في صبرا وشاتيلا ( مذبحة 17 أيلول 82 )، والذي قاده الخطاب الطائفي إلى التحالف مع جيش العدو بقيادة شارون ، وانتهى منسوفاً دون أن يأسف عليه سوى قلّة من بقايا المهووسين بالخطاب الطائفي الذي دمّر لبنان واحرقه في أتون حرب طائفية انتفع منها تجّار السلاح ، وعوائل النهب.
* * *
ثمّة أيضاً في ( الحالة) الفلسطينية من اكتفوا بالانتماء الشكلي للمقاومة ، وسكتت ألسنتهم عن قول كلمة الحق ، وهي في جوهره نقد يقوم على نزاهة ضمير المثقف ،ووعيه الجذري غير المساوم ، وبصيرته الرائية ، وحساسيته المبنية على أن نظافة ومصداقية ونبل الهدف تستوجب أن تكون الممارسات نظيفة وصادقة ونبيلة .
دائماً وجد من رفعوا أصواتهم في وجه سياسة الخراب ، والاستئثار ، والفساد المالي والأخلاقي ، ورأى أن هذه الأعراض المرضيّة ستقود لا محالة إلى كارثة محقّقة يتكلف ثمنها شعبنا الفلسطيني . ومع ذلك فقد وجد من يروّج لمظاهر الصحّة والعافية ، ويمتدح ( التضحيات) ويحمّل الآخرين أوزار ما يتعرّض له شعبنا وثورتنا..إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه .
ولأنني لا أريد أن أنبش الدفاتر ، والأوراق بالتفصيل فإنني فقط أذكّر بما كتبه المفكّر الفلسطيني العالمي الكبير إدوارد سعيد عن خيبته بالمثقفين الفلسطينيين الذين التحقوا بالسلطة الفلسطينية وتكالبوا على المناصب والرشوى ، وتخلّوا عن دورهم النقدي .
وكما أن بعض السياسيين الفلسطينيين يتهالكون ويسيل لعابهم على منصب وزير في السلطة _ بما سيدّره عليهم من ثراء ، ومن محسوبية ، وامتيازات _ بحيث اصبح هؤلاء تسلية في مجالس الفلسطينيين يتندرون عليهم ، ويسخرون منهم ، فقد التحق بهم كتّاب ومثقفون في هذا اللهاث في الوقت الذي تنشيء فيه ( إسرائيل) الجدار ( الأمني ) الذي ينهي أية إمكانية لقيام دولة فلسطينية ، وبات هاجس التوزير هو لحمة وسدى حياتهم .
لقد بلغ المر بأحدهم أن كتب معتذراً عن حضور ملتقى الرواية في المغرب لأنه مشغول بتسلّم حقيبة وزير الثقافة ، وهذا ما دفع صديقنا الشاعر المغربي أن يكتب مقالة عن ( المذكور ) وقرب توزيره في وزراة أحمد قريع ، على اعتبار أن توزير الكاتب ( الثوري) سينهض بحالة الثقافة والمثقفين الفلسطينيين ، وسيجعل من وزارة قريع وزارة راديكالية ( مقاومة) ، مع عدم ورود أنها ربّما تكون وزارة فتنة فلسطينية داخلية خضوعاً للمخطط الأمريكي ( الإسرائيلي) !.( أنصح بقراءة كتاب قريع : السلام المعلّق ، الصادر عن المؤسسة العربية ) ليطّلع القارئ على فكر ، ودور قريع ، وما اقترفه بحق الشعب الفلسطيني .
ترى ماذا كان سيضيف ذلك الكاتب ( الوزير) لوزارة ثقافة في السلطة الفلسطينية_ في حين انه مارس دور وكيل وزارة الثقافة طيلة عشرة أعوام وبدون منجزات يعتد بها _ بينما حياة الفلسطينيين تدمّر يومياً ، وأنشط من يقومون بواجبهم هم المقاومون ، أبناء وبنات شعبنا ، وحفّارو القبور الذين يدفنون الشهداء والشهيدات ؟! أمّا وزارة قريع فلن تنقذ شعبنا ، فقريع كان له ( شرف ) الإسهام في عقد صفقة ( أوسلو) التي أوصلت شعبنا إلى ما هو فيه ، وبدلاً من محاسبته هو وغيره عل كل ما فعلوه ، ينصّب رئيساً للوزراء في بلد محتل ، وعلى أرض دولة بعد الأمل بها بسبب سياسة النهب من ( شركاء ) السلام العجيب ؟! .
سقت هذا المثل لأبيّن للقاريء العربي سوء المآل الذي هوى إليه بعض المثقفين ، وقدّمت ( عيّنة ) بغض النظر عن الاسم الذي لا أحسده على ما صار إليه ،هو الذي ادّعى أنه ضد ( أوسلو) فانتهى به الأمر واحداً من منتفعي الحقبة الأوسلوية !.
* * *
منذ أيام أواظب على قراءة ما يكتبه الباحث والمفكّر الصديق فاضل الربيعي على صفحات (القدس العربي ) نابشاً جذور وأسباب ما يحدث راهناً في العراق ، الخلفيات الدينية ، والثقافية ، والعشائرية ن والحزبية ، والاجتماعية ، بمبضع خليق بمثقف ثوري حقيقي أن يفعله ، مؤدياً دوره دون حساب الربح والخسارة ، بغيته تحرير وطنه العراق من الاحتلال الأمريكي ، وحماية مجتمعه من جهالة الولاء الطائفي أيّاً كان ، منطلقاً من العقل لا من الحقد ، من نزاهة الضمير لا من المصلحة الشخصية .
من قبل قرأت لصديقي عبد الرحمن الربيعي مقالات زادتني اعتزازاً به ، وهي نشرت على صفحات ( القدس العربي) ، وكذا ما كتبه الشاعر سعدي يوسف ضد تنصيب بريمر لمجلسه الثقافي في العراق ، وأدوات الحقبة البريمرية .
وهو ما فعله دائماً الشاعر الكبير مظفّر النوّاب الذي لم تخطيء بوصلته التاشير على أعداء الأمة ، والذي رأى في ما تفعله أمريكا وبريطانيا عدواناً على وطنه ، ولم يتوقّف عند صراعه مع نظام الحكم لينطلق منه في موقفه .
بالتاكيد هناك اصوات عراقية كثيرة ترفض العدوان والاحتلال ، نتابعها ، نختلف معها في بعض المور ن ونتفق معها على رفض الاحتلال الأمريكي وضرورة مقاومته ، وهذا ما يكتبه ويصرّح به سليم مطر .
في داخل العراق معركة مستترة بين من يؤمنون بعراق حر ، عربي ، سيّد ، مقاوم ، وبين من ارتدوا ، ومن يؤجرون عقولهم ، وحناجرهم ، وأقلامهم .
إن رفض ممارسات النظام السابق ، تسيّد الحزب الواحد ، والقائد الواحد ، وطلب الحريّة والعدالة ، لا يمكن أن تؤدي إلى التعاون والتحالف مع الاحتلال الأمريكي ، وتبريره ، والتنظير له ، والقبول بمرجعية أفراد معممين بدلاً من فرد غير معمم ، وتسيّد خطاب طائفي بديلاً لخطاب الحزب الواحد .
هنا بالضبط يأتي دور المثقف ، وفعله ، ويحتاج الناس لكلمته وصوته .
وهذا ما تحتاجه أمتنا وجماهيرها المسحوقة ، لا في العراق ، أو فلسطين ، وحدهما ، ولكن في كل الأقطار العربية ، بحيث يكون الخطاب الثقافي الثوري ( العربي) ناراً تنتشر عابرةً الحدود ، والموانع ،تضيء متحديّة أنظمة الطغاة المتشابهين التابعين لعدو الأمة: أمريكا و( إسرائيل) ، والأدوات المنصّبة على سدد الحكم...