" عين الصاحب " .. تذرف الدموع وعلامات التعجب
العدوان الذى شنته إسرائيل مؤخراً على " عين الصاحب " فى سوريا ، هو بمثابة غارة سياسية محملة برسائل عديدة وخطيرة
وهذه الغارة العسكرية – السياسية تمثل تطوراً دراماتيكياً ليس فقط فى الصراع العربى – الإسرائيلي وانما ايضا فى المعادلة الإقليمية برمتها .
ويخطئ من ينظر الى هذه الغارة على انها مجرد رد فعل لعملية حيفا الاستشهادية التى نفذتها المحامية الفلسطينية هنادى جرادات عشية الاحتفالات الإسرائيلية بـ " يوم الغفران " ، أحد أهم الأعياد اليهودية .
ذلك ان الفحص الدقيق لملابسات هذه الغارة العسكرية - السياسية يبين بجلاء انها جاءت بـ " ذريعة " عملية هنادى وليس بـ " سببها " .
والدليل على ذلك تأكيد المراسل العسكرى للقناة الثانية فى التليفزيون الإسرائيلي ان التخطيط لهذه الغارة جرى منذ أسابيع قبل عملية حيفا ، وان وزير " الدفاع" الإسرائيلي شاؤول موفاز كان قد طلب من قيادة الجيش إعداد قائمة أهداف يمكن ضربها فى الخارج .
وان الغارة على موقع " عين الصاحب " السورى كانت واحدة من سلسلة عمليات جرى التخطيط لها والمصادقة عليها فى اجتماع الحكومة الإسرائيلية قبل ثلاثة أسابيع .
اى ان الخطة كانت موضوعة ، ومبيتة ، ولا تنتظر سوى " الذريعة " .
هذا "التطور " فى التكتيكات الإسرائيلية ، الذى يعتقد البعض انه يتجاوز " الخطوط الحمراء " المتفق عليها ضمنا بين " اللاعبين " الإقليميين والدوليين ، يحمل وجهتين تبدوان متناقضتين .
إحبـــاط شـمـشـون
الوجه الأول هو ان هذه الغارة العسكرية السياسية دليل " إحباط " إسرائيلى اكثر مما هى دليل " ثقة " مفرطة .
وقد عبرت عن ذلك المحررة السياسية للقناة الاولى فى التليفزيون الإسرائيلي بقولها ان " هذه العملية تشير الى المأزق الذى تعيشه الحكومة الإسرائيلية " ، كما أوضح زئيف شيف المحلل العسكرى فى " هآرتس " ان "هامش المناورة الفعلى أمام اسرائيل بات محدوداً ، حيث ليس من السهل عليها اتخاذ القرار بإزاحة عرفات " وان التصريحات الإسرائيلية التى توعدت بـ "الرد القاسى " ليست سوى مجرد جعجعة لان الإمكانيات المطروحة على اسرائيل معروفة جيداً فى الجولات السابقة : طرد عرفات ، عملية برية كبري فى قطاع غزة ، وتشديد الحملات العسكرية والعودة الى التصفيات عن طريق القصف الجوى".
ولان الفشل الإسرائيلي كان بالغا فى وضوحه هذه المرة فقد حاول شارون الخروج من دائرة : " الحلول الاعتيادية " وتوجيه ضربة فى " عين الصاحب " السورية .
وهو الأمر الذى جعل عوفر شلاح المعلق فى صحيفة "يديعوت احرونوت" يتساءل : " لماذا قصفت اسرائيل معسكر التدريب ( الفارغ على ما يبدو ) للجهاد الإسلامي فى سوريا ؟ " ويجيب على تساؤله بقوله " كل من يرى فى هذه العملية الليلية لسلاح الجو حركة ستقلص الإرهاب " إنما يوهم نفسه ، فما نحن إزاءه ليس سوى خلاصة الإحباط والعجز فى الوضع الإسرائيلي الراهن " .
ويضيف دون لف او دوران مؤكداً انه " من البديهى انه ليست هناك أية صلة بين عملية حيفا ومعسكر التدريب هذا ، ولا حتى مع قيادة الجهاد الاسلامى فى دمشق . ولكن يتعذر على إسرائيل التعايش مع حقيقة انها تواجه محيطاً من "الإرهاب" الذى تفكك منذ زمن الى خلايا متفرقة. فالمحامية هنادى الممتلئة بمشاعر الانتقام وجدت من يوفر لها الحزام الناسف وينقلها عبر الحدود .
واعتبر المحلل الإسرائيلي ان " الغارة الإسرائيلية على الاراضى السورية لا تتيح سوى تفريغ جزء من الإحباط المتراكم لدى " شمشون " لكنها لا تجدي فى القضاء على ما تسميه إسرائيل بـ " الارهاب " .
رســــائـل مـلتبـســة
وهذه " الشهادات " الإسرائيلية ترد على طوفان التعليقات والتحليلات العربية السطحية التى انزلقت بحسن نية او نتيجة جهل ، الى اعتبار عملية هنادى "سبب " غارة شارون ، الامر الذى ينطوى ضمنيا على " تبرير " لاقدام حكومة شارون على هذا العدوان الجديد !
كما انزلقت ايضا الى بث الرعب فى قلوب العرب أجمعين وتخويفهم من ذراع إسرائيل الطويلة القادرة عل الضرب فى اى مكان ، الامر الذى ينطوي ضمنيا على تكريس الانهزامية والاستسلام أمام البلطجة الإسرائيلية بدعوى " العقلانية " و"الواقعية " و " ضبط النفس " .
وهذا التلميح الأخير هو الرسالة السياسية الأهم فى غارة عين الصاحب التى تريد إسرائيل ترويجها . فهى من خلال هذه الغارة تريد ان تقول للعرب عدداً من الأمور تشكل الوجه الثانى لهذا التطور :
أولها : إحراج سوريا ، والضغط عليها ، لحملها على الإذعان للمطالب التى سبق للإدارة الامريكية وضعها أمام الرئيس الأسد ، وأهمها طرد الفصائل الفلسطينية المتواجدة على الأراضي السورية والتوقف عن مساندتها ماديا ومعنويا .
ثانياً : تثبيط همم هذه الفصائل الفلسطينية المناوئة لنهج أو سلو من خلال إظهار سوريا (مضيفتهم) فى صورة العاجز عن حماية من استجاروا بها ، وبل وعن حماية نفسها .
ثالثا : إعطاء سلاح جديد لـ "المارينز والانبطاحيين" العرب لعرض بضاعتهم الراكدة التى تزين سياسة التخلى الكامل عن أى شكل من أشكال المقاومة للمشروع الصهيونى الاستيطانى التوسعى ، بحجة أن "البديل" عن هذا "السلام الدامس" هو مزيد من الهزائم.
وفى رأينا أن هذا المنهج الانبطاحى ، السائد منذ سنوات ، هو نفسه المسئول عن تمادى اسرائيل فى غطرستها ، وانتهاكها لما كان يعتقد الكثيرون أنها "خطوط حمراء" لا يمكن تجاوزها.
الصــديــق الأمـــريـكــى !
والأهم هو أن غارة عين الصاحب لا تدين هذا المنهج الانبطاحى فقط ، وانما تقدم أيضاً دليلاً جديداً على سذاجة وسخافة وخطأ المنهج الموازى له الذى عول كثيراً على "الحليف الاستراتيجى" الأمريكي ، وعلى دوره كـ" وسيط نزيه" فى التوصل لحل "عادل وشامل" للصراع العربى الإسرائيلي.
وجاءت غارة عين الصاحب لتوجه أكثر من لطمة لهذا الوله غير المبرر بأمريكا.
فقد ثبت- أولاً- أن شارون قد تشاور مع الإدارة الأمريكية قبل الغارة ، وأخذ منها الضوء الأخضر.
ثم أن الرئيس جورج بوش (الابن) لم يتأخر فى توفير الغطاء والدعم السياسى لهذه الغارة ، حيث سارع إلى وصفها بأنها "دفاع مشروع عن النفس" من جانب إسرائيل ، بل انه تطوع للقول بأنه لو كان مكان شارون لفعل مثله تماماً!
ولم تكتف الإدارة الأمريكية بعرقلة إصدار قرار من مجلس الأمن بإدانة اسرائيل لإقدامها على هذا العدوان السافر ، بل انها ذهبت إلى الضفة الأخرى من النهر محرضة على "محاسبة سوريا" أو بالأحرى عقابها!
إن هذا الموقف الأمريكي الواضح وضوح الشمس ، لا يمثل فقط لطمة لـ"المارينز العرب" الذى طالما زمروا وطبلوا لدور "الوسيط النزيه" الذى حجزوه لواشنطن فى إدارة دفة المفاوضات العربية الإسرائيلية ، وإنما يمثل لطمة أيضاً لكل أولئك الذين هللوا للعدوان الأمريكي (البريطانى) على العراق ، واسبغوا على هذا العدوان الإمبريالي صفات "تحريرية" و "ديموقراطية" زائفة ، ورفضوا كل التحليلات الموضوعية التى حذرت من أن احتلال العراق سيكون مجرد الخطوة الأولى لاعادة رسم خريطة المنطقة بهدف إخضاعها تماماً للهيمنة الأمريكية – الإسرائيلية، دونما اعتبار حتى لمشاعر ومصالح تلك النظم العربية التى ارتبطت معها بصداقة خاصة .
وها هى النوايا الاستعمارية الأمريكية تظهر فى العراق ويبصرها كل ذى عينين ، ثم هذه هى حملة الضغط على سوريا تتجاوز مرحلة الابتزاز السياسى وتصل إلى "الضرب فى المليان".
ويتوازى مع العدوان على عين الصاحب تصعيد الضغط على ايران ، والتهجم على السعودية ومصر.
هنــــادى .. وشــــارون
فهل نعيد قراءة الصورة بتفاصيلها الحقيقية ، وليست المتوهمة ، ام نكرر نفس أخطاء السياسة العربية إزاء العدوان الأمريكى على العراق ، ونلقى اللوم على الضحية بدلاً من مواجهة الجانى الحقيقى؟!
هل نستخلص الرسائل الحقيقية من غارة "عين الصاحب"، ونوجه أصابع الاتهام والإدانة لشارون وبوش ، ونضع سياسة جادة للوقوف فى وجه مخططهما الذى لن يتوقف عند حدود سوريا..
أم ندفن رءوسنا فى الرمال – كالعادة – ونلقى باللائمة على الرئيس بشار الأسد (الذى لم يسمع الكلام ) ، وعلى محامية الشعب الفلسطيني "هنادى" التى قتل الإسرائيليون شقيقها وخطيبها وأصدقاءها المدنيين العزل .. ولم تجد ما تفعله إزاء هذا الإذلال اليومى سوى تفجير نفسها فى وجه القتلة الإسرائيليين والتواطؤ الأمريكى ؟!