|
العرب أمام المشكلة الغربية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2023 - 2007 / 8 / 30 - 11:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثلاثة مشكلات كبرى تواجه العرب في هذا العقد الأول من القرن الحادي والعشرين: مشكلة الدولة، مشكلة الدين، والمشكلة الغربية. وستهتم المقالة هذه بالخطوط العريضة للمشكلة الغربية، بعد أن كنا خصصنا مقالين نشرا الشهر الماضي في هذا المنبر لمشكلتي الدولة والدين. ثمة ثلاثة أعماق للمشكلة الغربية. عمق جيوثقافي، وآخر جيوسياسي مركب، وثالث جيواقتصادي. يخص العمق الأول رفض الغرب الاعتراف ثقافيا بالإسلام. فلطالما جعل الغربيون من الإسلام عنوانا لكل ما يرفضون. حين كتب مونتسكيو عن "الاستبداد الشرقي" قبل أكثر من قرنين ونصف كان يكني بالإسلام عن استبداد معاش في الغرب آنذاك، لكن المطابقة بين الإسلام والاستبداد ستبقى حتى بعد أن دخل الاستبداد الغربي في ذمة التاريخ. ويسهل رفض أية حركة سياسية أو اجتماعية في منطقتنا بمجرد الإشارة إلى صفتها الإسلامية وقبل أية مناقشة، كما يقول فرانسوا بورغا في كتاب حديث له. لا مجال لتقصي هذا الجذر هنا، لكن من نتائجه السياسية أن القوى الغربية تخشى تغير الحكومات العربية لأن إسلاميين هم من قد يستفيدون من ذلك. هذا أصل أساسي "للاستثناء الديمقراطي العربي". ونجد له سابقة تاريخية قديمة منذ عام 1860 حين خاطب نابليون الثلث العسكر الفرنسي المتجه إلى لبنان بالقول: "لا تتوجهون إلى سورية بغرض الغزو بل لدعم السلطان ضد استبداد رعاياه وبربريتهم.. تذكروا أن العلم الفرنسي يضللكم، هذا العلم المحترم من قبل أوربا بأسرها، ومن ورائكم تقف دولة جبارة". وتعزز الموقف ذاته من وقائع حديثة مثل الثورة لإيرانية عام 1979 واغتيال الرئيس المصري أنور السادات 1981 وصولا إلى 11 أيلول 2001. هذا لم يمنع كما نذكر لقاءات، وحتى تحالفات وقتية، بين قوى غربية وإسلاميين. بيد أن هذه كانت تحالفات وتفاهمات أداتية وعارضة بالضبط لأنها تفتقر إلى أي عمق ثقافي، أو لأن العمق الثقافي يزكي بالأحرى علاقة عداء بين الطرفين. وقد تكون نظرية "صراع الحضارات" لصموئيل هنتنغتون خطوة إضافة في تزويد العداء الغربي للإسلام بعمق ثقافي عالِم يتجاوز السياسة والمصالح السياسية، وتاليا في تثبيت ذاك العداء وتخليده. ومن جهتها، تمنح شتى التشكيلات "الجهادية" عمقا ثقافيا وسندا دينيا دائما لصراعها مع الغرب بالكلام على "الجهاد ضد الصليبيين واليهود". العمق الثاني لمشكلتنا الغربية جيوسياسي. وهنا ثمة ثلاثة أطوار أو أربعة. طور أول عبرت عنه حملة نابليون على مصر أواخر القرن الثامن عشر، وذلك في سياق التنافس بين البريطانيين والفرنسيين. وطور ثان تأخر عن هذا بأكثر من ثلاثة أرباع القرن، وهو طور الامبريالية الكلاسيكية والتنافس الاستعماري على العالم، وقد أثمر احتلال أكثر البلدان العربية. وانتهى هذا الطور مع الحرب العالمية الثانية. وطور ثالث واكب الحرب الباردة وانطوى على رهان غربي، أميركي بريطاني بالخصوص على جعل المشرق العربي حزاما ثانيا في مواجهة الاتحاد السوفييتي بعد الحزام التركي الإيراني الباكستاني. الطور الثالث هذا هو زمن القواعد العسكرية وأحلاف الدفاع عن الشرق الوسط كما هو معلوم. لكنه أيضا طور مواجهة الحركة القومية العربية والنجاح في إلحاق ضربة ساحقة لها في حزيران 1967. أما الطور الرابع التالي للحرب الباردة فهو طور عودة النفوذ العسكري الغربي المباشر إلى المنطقة، ثم "الحرب ضد الإرهاب". على أن ثمة نواة صلبة ثابتة لهذا الجذر الجيوسياسي خلال الستين عاما الأخيرة، هي إسرائيل التي ما كان لها أن تنشأ في قلب العالم العربي وفي زمن الاستقلال العربي لولا كل أشكال الدعم الغربي ولولا الالتزام الغربي، العسكري والسياسي والمادي والأخلاقي، بها. تكونت إسرائيل على حساب الفلسطينيين، وأظهرت نزوعا توسعيا ثابتا، وحظيت بعطف غربي فريد من نوعه على جميع المستويات. إنها منبع ثر للتوتر بين العرب والغرب، ولا ريب أنها سممت العلاقات بين الطرفين وأضعفت قدرة العرب على الانفتاح النفسي والثقافي على الغرب المتقدم. وكما أن في العمق الجيوثقافي للمشكلة الغربية عنصرا جيودينيا، يتصل بالمنافسات والصراعات الإسلامية المسيحية في آسيا الغربية والبلقان، فإن في العمق الجيوسياسي عنصر جيوديني أيضا يتصل بصراع الذاكرات (جورج قرم) بين الأديان الإبراهيمية الثلاث. العمق الثالث جيواقتصادي. الأمر يتعلق جوهريا بالبترول هنا. من الوقائع المبتذلة أن 60% أو أكثر من احتياطي النفط العالمي يوجد في دول عربية. وأن السعودية هي البلد الأول في هذا المجال يتلوها العراق. والنفط هو دم الحضارة الصناعية طوال القرن الأخير تقريبا. ومعلوم أنه كان للعرب إسهام في إعادة بناء أوربا بعد الحرب العالمية الثانية عن طريق نفطهم الرخيص. البترول اقتضى على الدوام ترتيبات أمنية وسياسية واستراتيجية في منطقة الخليج والجزيرة العربية خصوصا، ترتيبات تضمن ألا تقع أية حلقة من السلسلة النفطية، التنقيب والاستخراج والنقل والتصفية والتسعير والاستهلاك، في أيد يعتبرها الغرب معادية له. هذا بالخصوص بعد حرب 1973 التي واكبها استخدام جزئي جدا لسلاح النفط ضد دول غربية معادية للعرب، أميركا وهولندا بالخصوص. نذكر في هذا الصدد تشكيل قوات التدخل السريع الأميركية و"مبدأ كارتر" (إذا تعرضت إمدادات النفط إلى أميركا وحلفائها للخطر فإن أميركا ستستخدم القوة) في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. ومعلوم أن لحروب الخليج الثلاثة، 1980، و1990-1991، و2003 صلة جوهرية بسياسات الطاقة على الصعيد العالمي. والشيء الأساسي بخصوص البترول هو ميل القوى الغربية النافذة، أميركا بالخصوص بعد الحرب العالمية الثانية إلى النظر إلى منطقة الخليج كـ"بترولندة"، إقليم منزوع الصفات القومية والسياسية والثقافية، ومختزل إلى أرض للبترول. ومن الطبيعي، تاليا، أن تعكس السياسات الأميركية في هذا الحيز من العالم مقتضيات هذه النظرة من ترتيبات أمنية وسياسية، ومن غير المتوقع أن تكون لها أية صلة بالقيم الحديثة الخاصة بالديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام سيادة الدول. إذن ثلاثة أعماق وثلاثة عناوين كبرى لمشكلتنا الغربية: الإسلام، إسرائيل، النفط. وهي منابع ثلاثة لعدم استقرار عالمنا، ثقافيا ونفسيا، أكثر حتى مما سياسيا وأمنيا. ينضاف إلى هذه الثلاثة مؤخرا أن المجال العربي هو مسرح "الحرب ضد الإرهاب". وفي "الإرهاب" والحرب ضده تتكثف المشكلة الغربية بجذورها الثقافية والسياسية والاقتصادية، الإسلامية والإسرائيلية والبترولية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سورية والدول العربية بين ما دون الدولة وما فوقها
-
-أمتان-: حكم ذاتي إسلامي في ظل دولة علمانية، أو العكس!
-
في أصل خراب الديمقراطية والوطنية في المشرق
-
تقييم ائتلاف -إعلان دمشق-
-
في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين
-
هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن
...
-
بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
-
علمانيون، ديمقراطيون، وإسلاميون؛ لكن أين الأمة؟!
-
أفكار في شأن العنف والهيمنة والمعرفة
-
تصور أولي للمشكلة الدينية والإصلاح الديني
-
أيام مشكلة الدولة ولياليها في المشرق العربي
-
-أمة وسط- في المشرق؟!
-
هل العلمانية ممكنة في بلد واحد؟
-
تراجع السياسة الوطنية وصعود السياسة الأهلية
-
تحقيب تاريخي بلا تاريخ: تعقيب على تعقيب بكر صدقي
-
في شأن مشكلات العرب الواقعية ومشكلتهم الثقافية
-
الإصلاح السياسي وإعادة بناء الهوية الوطنية في سورية
-
بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..
-
نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المع
...
-
أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|