في سياساتهم العدوانية يتكىء الاحتكاريون الاميركيون وأتباعهم إلى جملة من المغالطات التاريخية التي تنال من شأن الأمم الأخرى وتحطّ من قدرها وتبرّراستعبادها أو إبادتها، وبخاصة الأمة العربية والاسلامية، فلطالما ألحّ مؤرخو العصر الاوروبي الاميركي، خلال القرون الخمسة الماضية، على تصوير اوروبا باعتبارها مركز جميع العصور البشرية، فهي الامتداد الطبيعي للإغريق والرومان القدامى من جهة، وهي الوارثة للتراث التوراتي والانجليلي من جهة أخرى، وبالطبع، فإن هذا التصوير القسري والربط التعسفي غيرصحيح تاريخياً. غير أن ادعاءهم أنهم امتداد سياسي لأثينا وروما الوثنيتين العبوديتين يبدو معقولاً بمعنى من المعاني، حيث لايستطيع المرء أن يكون ابن الشيطان ومن صلبه حقاً وفعلاً، لكنه يستطيع بالتأكيد أن يغزل على منواله وأن يكون ابنه بالروح!
الأسباب الكامنة وراء المغالطات:
لم تكن أثينا القديمة عاصمة أوروبية، وكذلك روما القديمة، بل هما كانتا عاصمتين مشرقيتين وجزءاً من المنطقة العربية القديمة، ففي زمنهما لم تكن أوروبا التي نشاهدها اليوم قد ظهرت بعد، لاديمغرافياً ولاسياسياً، والعلوم المختلفة، اليونانية والرومانية، ليست سوى مرحلة في تطوّر علوم تلك المنطقة العربية القديمة . إن الاحتكاريين المعاصرين في انتقائهم وتلفيقهم للوقائع والصلات التاريخية أرادوا تبرير الحرب المفتوحة ضدّ الأمة العربية والاسلامية، فزعموا أنهم استمرار لأثينا وروما اللتان فتحتا الأبواب أمام العقل، فكأنما لم يكن ثمة عقل قبلهما، وكأنما بالإمكان فصل العقل عن الروح والمادي عن المعنوي في سيرورتهم وصيرورتهم، وفي جدلية العلاقة الأزلية بينهم! لقد كانت حكاية "العقل المستقل" مجرّد ذريعة تبرّر التعالي على الإنسان وتسوّغ التمييز والاحتكار والإبادة ، ولقد نجحوا ـ وياللأسف ـ في تحقيق خلط مفتعل اضطربت بسببه الأذهان، وتعثرت الخطا، فنحن صرنا كما أرادوا، ننظر الى خارطة العالم وديمغرافيته في ذلك العصر القديم بمنظار العصر الراهن والتقسيمات الجغرافية والديمغرافية الراهنة ، ولانتردّد في عقد مقارنة بين هارون الرشيد وشارلمان، فكأنما نحن نعقد مقارنة بين الرئيس الاميركي المعاصر وبين رئيس جزر القمر المعاصر !
المنطقة العربية هي الأساس :
قبل ألفي عام تقريباً، كان ثمة حوض المتوسط العربي الطابع عموماً، وكانت السواحل الشمالية بمنزلة تخوم وأطراف وضواحي لمنطقة حوض المتوسط ، وهي بقيت كذلك حتى عهد "تاجر البندقية " الشكسبيري ، أي حتى أواسط الألف الميلادية الثانية . كانت منطقة حوض المتوسط تقوم على المساحة البشرية والجغرافية الواقعة بين النيل والخليج العربي من جهة والأطلسي من الجهة الأخرى ، وهذه المساحة بمنزلة القلب ومركز الثقل بجميع المعاني والمعايير ، وأثينا وروما كانتا مجّرد شرفتين في ذلك البناء العربي المتكامل حسب التعبير الصائب للمفكر الفرنسي بيار روسيه ، فلو أن أثينا و روما زالتا من الوجود فإن المنطقة سوف تبقى ، أما إذا زالت المنطقة فلن تبقى أثينا ولا روما !
كانت روما في مرحلة من المراحل ، مركز قيادة للمنطقة العربية وليس لغيرها . وهي ظهرت بفضل المنطقة العربية ، ولم تظهر المنطقة العربية بفضلها ، وهي كانت ترفع راياتها الرومانية السياسية في أنحاء المنطقة العربية ، وتفرض لغتها وقوانينها الرومانية ، لكنها تعيش وتنهض استناداً الى تراث المنطقة العربية ، وثرواتها المادية و البشرية ، وخبراتها وتجاربها الإنسانية . إن العلماء والمفكرين والمهندسين والبنائين الرومان كانوا عرباً في معظمهم ، وإن هم حملوا أسماء رومانية ونطقوا باللغة الرومانية .ومعظم المنشآت التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا في منطقة المتوسط ، بما فيها ايطاليا،هي عموماً وبصورة غالبة من صنع العرب القدماء . أما سياسياً فكان العصر يونانياً ثم رومانياً ، وإن غدا فيليب العربي وغيره قياصرة في روما!
الانتقال من عصر الى عصر :
في آواخر العهد الروماني، وأثناء استطالته البيزنطية ، كانت المستعمرات الرومانية تنوء تحت ثقل النهب العشوائي لثروات الأمم ، وتحت ضغط الانكار الروحي والثقافي للمجتمعات ، وتحت نير السياسات العبودية التي تعتمدها الأقليات الحاكمة .
في تلك الفترة ، اختلطت الموازين، واضطربت المعايير ، واضمحلت القوانين ، وتعطلت العلاقات والأسواق الدولية، فبدا كأنما العالم جميعه مشرف على نهايته، كما هو حاله اليوم ، فكان ذلك مأزقاً تاريخياً لاحل له عند سادة ذلك العصر ، ولم يكن ثمة مناص إلا بالتغيير الجذري الإيجابي للعلاقات الدولية . لقد كان مأزقاً تاريخياً لم تنفع معه الجيوش الجرارة من المرتزقة الذين جندتهم الامبراطورية الباغية المفلسة، تلك الجيوش التي استمرت حتى اللحظة الأخيرة تخبّ في جميع أنحاء منطقة المتوسط، ناشرة الرعب والدمار أينما حلّت. لقد أصبح تغيير العقيدة السياسية الدولية، والعلاقات الدولية عموماً ، أي الانتقال من عصر الى عصر، هو الحل الوحيد .
نجاح عملية الانتقال التاريخية:
لقد كان ذلك القائد الروماني محقاً عندما أبدى دهشته لجرأة رسول المدينة/ يثرب عندما خاطبه داعياً اياه الى الحق ، وكان حكيماً عندما نجح في كظم غيظه وضبط نفسه، وراح يتأمل في رسالة يثرب بهدوء . وعندما انطلقت كتائب الدعوة العربية الاسلامية لتغيير العلاقات الدولية الظالمة كان المسيحيون شركاء في تلك العملية التاريخية، سواء في مرحلة التحضير أم في مرحلة التنفيذ، فالقضية كانت تخصهم مثلما تخص اخوتهم المسلمين، ومثلما تخص جميع المظلومين المهانين المهمّشين ،من مختلف المذاهب والأجناس ، فالاسلام، كما بّلغه محمد ، هو استمرارية مسيحية موسوية ابراهيمية ، وهو ذروة تلك الدعوات على مدى القرون ، ولحظة انتصارها الحاسم. ولقد نجحت الدعوة الى الحق ، مع من حالفها وهم كثر ، في تحقيق عملية الانتقال التاريخية، وفي احلال علاقات أممية جديدة ، متقدمة عموماً بجميع المعايير .
تشبيه واشنطن بروما القديمة:
هناك، بالفعل، مايوحّد بين اليونان القدامى والاوروبيين المعاصرين ، وما يوحد بين الرومان القدامى والاميركيين المعاصرين: إنه الجوهر العبودي ، ونزعة التعالي، والتعصب ، والاحتكار، ونفي الآخر وإنكار حقوقه الأولية !
كان الرومان بمنزلة استطالة يونانية، واليوم فإن الولايات المتحدة هي بمنزلة استطالة اوروبية. ولقد نهض العصر الاوروبي الاميركي، منذ خمسة قرون، كارتداد فظ عاد بالبشرية الى الوراء، الى عهود الرق والعبودية اليونانية الرومانية. أما أنها حضارة متصلة متواصلة، سادت العالم عبر جميع العصور، ابتداء باليونان وانتهاء بالاميركان، فهذاغير صحيح على الاطلاق. وأما أن واشنطن ، مثلها مثل روما القديمة بالضبط ، تقف اليوم في ذروة قوتها وجبروتها وطغيانها، وفي الوقت نفسه ضعيفة على حافة الهلاك، فهذا صحيح تماماً . لقد بلغت واشنطن حقاً تلك الذروة التي لاصعود بعدها، التي بلغتها روما ذات يوم، والتي لايليها سوى الهبوط السريع!
من أين ينطلق الخلاص ؟
هاهي الأمم اليوم تنوء جميعها تحت وطأة النهب والقهر، وهاهي الجيوش الاميركية والحليفة تخبّ في القارات الخمس ، فارضة إرادتها قسراً ، وقد اختلطت الموازين ، واضطربت المعايير،واضمحلت القوانين، وتعطلت العلاقات والاسواق على نطاق واسع، فبدا العالم المعاصر بدوره كأنما هو مشرف على الهلاك ، ولاأمل يرتجىمن الاوربيين الذين ربما يعادلون الفرس القدامى ، ولا من الصينيين الذين ربما يعادلون الاحباش القدامى، وكذلك لاأثر للمدينة /يثرب، مركز الانطلاق!
أين يثرب المعاصرة ؟ هل هي في آسيا، أم في أفريقيا، أم في اميركا اللاتينية؟ هل يعقل أنها في أوروبا، أم في استطالتها الاميركية؟ من يدري! لابد وأن يثرب المعاصرة موجودة اليوم في منطقة ما، وفي موقع ما، لايأبه له أحد، تصاغ فيها بهدوء وببساطة قوانين وعلاقات العصر القادم القائمة على العدل والحق ، وإننا لنرجو مخلصين متلهفين أن يكون لأمتنا شرف خدمة البشرية جمعاء مرة ثانية، بالإسهام الرئيسي في تخليصها من براثن وأنياب هذا الوحش الخرافي الذي أنتجه العصر الاوروبي الاميركي !