د. سّيار الجميل
كاتب واكاديمي ومؤرخ عراقي / كندا
الصحافة : رسالة اخلاقية
لقد علمّونا منذ ان كنا صبيانا في مدارس العراق الرصينة قبل عشرات السنين بان من العيب جدا ان تصل المرء رسالة ايا كانت من الرسائل من دون الرد عليها بما يجب او تكليف احد بالقيام بما يتطلبه الامر .. وهذه الاخلاقيات معروفة في كل انحاء العالم ومجتمعاته المتحّضرة .. وكان اباؤنا واجدادنا القدماء قد عرفوا بأدب المساجلات والرسائل الخلاق حتى وان كانت الخصومة بينهم تصل الى عنان السماء ! ولم اجد أحدا في مجتمعات الغرب التي عايشناها وتعلمنا منها الكثير الا ويعتبر هذا " الجانب " مسؤولية اخلاقية قيمية تحاول جهدها ان تحترم الرأي الاخر مهما كانت الاثمان .. ولعل العرب اليوم وفي ظروف يعيشونها من التعاسة وفوضى القيم وعصر الكراهية والتمزقات قد افتقدوا جملة من قيمهم الحضارية والاخلاقية ، بعد ان اختلطت مجتمعاتهم اختلاطا عجيبا وبدأت البداوة والتخلف تزحف بكل عناصرها القاتلة على اجمل ما توارثناه في مدننا العربية الجميلة وحياتها النهضوية الحديثة التي اسسها الاباء والاجداد من ذوي العقليات الحضرية المتمدنة !
نعم ، ترتبط الصحافة كواحدة من المهن الحرة المعاصرة بوجوب توفر الاخلاقية العالية في التعامل مع خصوصيات المجتمع ومختلف شرائحه وشرايينه .. ومع جميع شخصياته ونخبه وفئاته ، كما انها ترتبط رسميا بقوانين النشر والمطبوعات في التعامل مع الدولة ومختلف مؤسساتها واجهزتها والتي تصدر فيها تلك ( المطبوعة ) من اجل ضمان حقوق الجميع وحرياتهم السياسية واحترام الكلمة والرأي الاخر بمنتهى الشفافية .. ولما غدت الصحافة العربية اليوم في الدواخل والشتات ميدانا مسيئا ورديئا من الانشائيات والاكاذيب وحشو الكلام والتلفيقات والمفبركات السريعة ووسائل كسب الرزق السريع ولكل من هب ودب سواء كان ذلك تحت وطأة السلطات في الدواخل العربية او في ظل العبثية وفقدان الضوابط في الشتات ، فغدت العديد من الصحف العربية تسيطر عليها جماعات معينة تتفق في عبثيتها ولا مهنيتها وانها تسيىء يوما بعد آخر لاخلاقيات المهنة المقدسة اساءات جسيمة بالغة من دون اي روادع رسمية او تقاليد اجتماعية او اية اعتبارات اخلاقية !
التجربة العربية المريرة معروفة النتائج سلفا :
وبهذا الصدد ، اود ان انشر على الناس صورة من رسالة كنت قد ارسلتها الى رئيس تحرير صحيفة عربية شهيرة قبل شهر ، ثم ارسلتها ثانية قبل اسبوعين ، وبواسطة البريد الالكتروني من دون ان اتلق اي رد ومن حقي الان ان اثير هذا " الموضوع " علانية من دون ان اذكر اسمه الكريم او اسم صحيفته لاعتبارات قيمية احملها ، فربما اسعف الموضوع بكلمة من جنابه يعلمني فيها باحاطته علما ، وان تكون هذه في الحقيقة اشارة على اهتمامه بشؤون ما يدور في مؤسسته ويقّدر الكتاب والمؤلفين العرب حق قدرهم ، ولكن المشكلة ليست فيه او في صحيفته الموقرة ، وهذه هي مشكلتنا العربية عموما اذ يكمن الخلل في بعض طواقم من محررين عرب يمثلون طابورا من البلادة والسفاهة والاثم والعدوان مذ صنع البعض من رؤساء التحرير العرب لأنفسهم امبراطوريات ونصبوا من انفسهم اباطرة منذ خمسين سنة مضت ، وهم يمارسون الدكتاتورية الاعلامية بحق الحياة العربية السياسية والاعلامية والثقافية وكل الموبقات ، وقد جعلوا من انفسهم اوصياء مهرة على دول وانظمة وحكام ورؤساء دول ومسؤولين ووزراء وفنانين وكتاب وقراء.. الخ يلمعّون اوجه هؤلاء ويسودون اوجه اولئك .. من دون اية اعتبارات تحكمهم ولا قوانين نشر تردعهم ولا نفقات او ارتزاقات تتوقف عن حساباتهم .. الخ ولكن ؟؟
باتت الحاجة ماسة عند العرب اليوم للعمل من اجل اجراء تحولات جذرية في حياتنا الاعلامية العربية المليئة بالموبقات والاسرار القميئة . وعليه ، اكتب هذا من اجل التعّرف على نموذج قريب لما يدور في كواليس بعض الصحف العربية الشهيرة ولأسباب مشروحة في الرسالة المرفقة ، فربما لم تصل رسالتي الى الرجل بعد ان غيبوها عنه ، علما والحق يقال ان مواقف هذا الرجل الذي خاطبته من مأساة الشعب العراقي نظيفة وعادلة وصادقة مقارنة بمواقف غيره من رؤساء التحرير والمحررين العرب الذين اتخذوا من المسألة العراقية مطية لالاعيبهم وتجنياتهم وكل رداءاتهم وسوء اخلاقهم ورمي اوساخهم من اجل مصالح أنوية وشخصية وسياسية ومرتزقات معينة .
فماذا تضمنت " الرسالة " ؟
لقد تضمنّت " الرسالة " مقدمة سمحت لنفسي ان اعبر للسيد رئيس التحرير بشكل شخصي عن بالغ احترامي وتقديري لمواقفه وكتاباته المبدئية ، وقد اعلمته بأن رسالتي هذه ليست ضده شخصيا .. كلا ، وانما ضد اجراءات وسياسة بعض محرري صفحات جريدته الغراء التي نريدها دوما رصينة ومحترمة ولها صيتها ومكانتها في الاعلام العربي المعاصر . وعليه ، فلقد اعلمته بأنني فوجئت قبل قليل ان جريدته الغراء قد نشرت لي يوم 18 اغسطس 2003 مقتطفات مختصرة من مقالة لي ردا على مقال كتبه الاخ السيد مدير تحرير جريدته . ولقد بقيت مقالتي 17 يوما لينشر مختزلا منها يوم 18 منه وكان لدي الحق بعد الانتظار ان انشر مقالتي في مكان آخر ، وفعلا نشرتها في صحيفة عربية شهيرة قبلت ان تنشر ردي نظرا لتقديرها اهمية الموضوع .. ولم اكتب الى السيد رئيس التحرير رسالتي بسبب نشر ردي مشوها في ( بريد القراء ) ولكنني ارسل رسالتي هذه له لأعلن بأن ما نشروه باسمي كان قد شوه عن عمد وسبق اصرار ليس بسبب موقف شخصي ، بل من اجل ان يشوهوا الحقيقة العراقية الناصعة التي اردت ايصالها بالرد على مجموعة من التخرصات العربية السيئة ضد العراق والعراقيين . ويبدو ان السيد مدير التحرير قد اختزل ما اردت قوله والرد به ، علما بأن جريدتهم الغراء قد نشرت ردا كاملا لآحد الاخوة العرب بعد يومين على مقال الاخ مدير التحرير نفسه من دون ان يبخسوا حق كاتبه ولم يقللوا من مكانته ولم يتلاعب السيد المحرر به ، ولم يتأخر الرد طويلا .. فلماذا تخالف جريدتهم قواعد النشر المتعارف عليها في قوانين المطبوعات كلها ؟ ام ان هناك لعبة مزدوجة في تقييمهم للكتاب العرب المعاصرين وهذا ما نجده يزداد يوما بعد آخر في حياتنا العربية المعاصرة بسيطرة مافيات معينة تعشش في دواخل بعض الصحف العربية الكبيرة وتنشر ما يروق لها ان تنشر وتمنع عن النشر او تشّوه عن عمد وسبق اصرار لمواد ومقالات ما لا يروق لها من الكتاب العرب او مالا يروق لمزاجها من اعمال آخرين وخصوصا من الكتاب العراقيين الاحرار الذين لم يرتبطوا يوما بنظام صدام حسين ، وحاشا لجريدتهم ان تكون مثل تلك الصحف والمجلات العربية المعروفة !!
مطلوب : الاستقلالية والحيادية والامانة في الصحافة العربية وعند الصحفيين العرب
ان اي مادة صحفية سياسية تنشر في اي جريدة ومجلة ووسيلة اعلام معّرضه للرد والرد على الرد .. وكل مادة تعبر عن رأي معين ، وخصوصا اذا ما كان سياسيا ، معرضة للاخذ والرد حسب المتعارف عليه في اصول النشر وقوانين المطبوعات للعالم اجمع ، فكيف بقضية سياسية حساسة تخص العراق والعراقيين ويكتبها كاتب عربي له موقف غير حيادي ابدا من المسألة العراقية وتداعياتها الخطيرة في حين يشّوه ردي عليه وانا ابن تلك القضية ككاتب عراقي يزعم ان له احترافه بالموضوع منذ اكثر من ثلاثين سنة ؟ فلابد ان تراعي صحفنا العربية اليوم هذا الجانب من الحريات الفكرية والسياسية ، وان لا تقمع ما يصلها من ردود وتمارس مصادرتها للاراء المخالفة وتفرض وصايتها على الجميع تحت حجج واهية والا فلتقفل ابوابها بدل استسلامها لرأي واحد احادي تحتكره وتريد فرضه على الاخرين تمشيا ما مع يتطلبه هذا منها او ما ينفقه ذاك عليها ، وان تسكت عن شعاراتها في الحرية والرأي الاخر !
لقد امتلكت الصحيفة الزاهرة عبر مسيرتها الطويلة والتي تشرفت بالكتابة فيها منذ ولادتها عندما كنت اقيم في بريطانيا في بداية الثمانينيات تاريخ زاهر في التعامل مع قرائها الذين كانت لا تغيب عنهم في كل صباح ، أو مع ما كان يصلها من مواد ، ولقد كان رئيس تحريرها السابق عند نشأتها والذي دعاني للكتابة في جريدته، يمتلك خصلتين رائعتين : اولاهما انه لا يهمل اي رسالة تصل الى يديه من اي من كان ، اذ يقوم بالرد عليها بقلمه او من خلال سكرتيرته او من خلال دائرة التحرير وثانيهما اشرافه الشخصي على كل حرف يصدر في جريدته التي يرأس تحريرها قولا وفعلا .. أما ان تعمل تلك الجريدة اليوم على تشويه الرأي وتقلل من شأن بعض الكتاب العرب المعاصرين وتبرز لبعض آخر لأسباب شخصية او سياسية او فكرية .. فهذا ما يقلل من شأنها عندهم جميعا ، فللمطبوعات اخلاقياتها العالية في النشر – كما تعلمون - .. علما بأن الاعلام العربي اليوم برغم كل تفاهاته وتشوهاته ومافيات العديد من صحفه ومجلاته وارتزاقات كتابه الشهرية ووضاعة بعض فضائياته على مدار اربع وعشرين ساعة يوميا ، فهو اعلام يسير الى نهاياته المحتومة بولادة جيل جديد يحترم الكلمة ويقّدس الحريات ويخشى القانون ويراعي المشاعر ويتقبل الاراء ويتعلم من الاخر في عصر نحلم بأن تمارس فيه الشفافية بأقصى درجاتها وسيختلف حتما في مناهجه وتربوياته وقيمه واراداته واعتباراته عما كان عليه الحال في القرن العشرين !
وأخيرا : ماذا قلت للسيد الرئيس ؟
وأخيرا : قلت للسيد رئيس التحرير الموقر بانني اذ ارسل رسالتي ولا يهمني ان ينشرها ام لا ، فلابد ان اعلن رفضي الشديد لمثل هذه التصرفات علما بأن حياة الاعلام العربي المعاصر سوف لن يتوقف ابدا من دون جريدة معينة بذاتها ، فهو يعج بالصحف اليومية والمجلات الاسبوعية والمطبوعات الدورية والمواقع الالكترونية والمحطات الفضائية .. كما ان حياة الثقافة العربية سوف لن تتوقف ابدا من دون مشاركتي المتواضعة فيها ! وتمنيت عليه ان لا تكون رسالتي قد ضايقته ابدا ، فمن حقي المشروع ان اعلمه بموقفي معترضا لما قد حصل سواء كان ذلك ضدّي بالذات شخصيا ككاتب عراقي حر ليس له الا ابتغاء الحقيقة والمجاهرة بكلمة سواء من اجل وطنه ام انها كانت ضد قضيتي العراقية وطنيا والتي تمر اليوم باخطر مراحلها التاريخية .. وقد انكشفت عند مطالع القرن الواحد والعشرين ادوار الامة العربية المجيدة ازاء العراق والعراقيين بكل جلاء ووضوح ويا للاسف الشديد .. مع اسمى التقدير للعرب الاوفياء واحياء للامل المنشود من اجل عروبة نقية جميلة لم تلوثها ادران المصالح والسياسات والاحقاد
.