تبرهن الوقائع الكبرى على مدى عشرات ومئات السنين الماضية أن أهداف هذا النظام الربوي العالمي وحكوماته المتوالية تبقى في أساسها، وفي جميع المراحل، واحدة، إنها استعباد الأمم وليس تحريرها، والسيطرة على الأسواق والمواد الخام، ويبقى الأسلوب الرئيس لتحقيق ذلك هو العمل العسكري الذي هو في جوهره عمل تجاري محسوب بدقة، حيث يتوجب على العمليات الحربية استرداد تكاليفها بسرعة، مضافاً إليها الأرباح القطعية المباشرة، والأرباح المستمرة الطويلة الأمد التي تحققها السيطرة! ولكن، يحدث أن شعباً من الشعوب ينجح في المقاومة، وفي جعل الاشتباك المسلح يدوم أكثر، وتكاليفه تزداد أكثر، وفي جعل النتائج التجارية المتوقعة من العمليات العسكرية العدوانية غير مؤكدة، بل غير ممكنة، عندئذ ينقلب الموقف ضدّ المعتدي المرابي، الذي يجد نفسه في ورطة أمام شركائه وبلاده، ويصير همّه إيقاف الخسائر على الأقل وتأمين الانسحاب بصورة لائقة.
أمثلة عن العنف والاستحواذ
في عام 1919، عقب الحرب العالمية الأولى، كانت الدول الاحتكارية الربوية تسيطر عسكرياً على مستعمرات بلغت مساحتها 97.8 مليون كيلو متر مربع، تشمل 72% من مساحة الأرض، ويعيش عليها 1235 مليوناً من البشر، أي 69.4% من سكان العالم آنذاك، فكان عدد سكان المستعمرات البريطانية يزيد 8.5 مرّة عن عدد سكان بريطانيا، وكانت مساحة المستعمرات تزيد 232 مرة عن مساحة بريطانيا، أما فرنسا فكان عدد سكان مستعمراتها يزيد عن عدد سكانها بنسبة 16.6 مليون نسمة، ومساحة المستعمرات تزيد 19 مرة عن مساحة فرنسا !
وفي عام 1971، كان استهلاك العالم من الطاقة في حدود 7 مليارات طن. إن حجم الاستهلاك في كل دولة هو معيار القوة، وهو الذي يعطينا الدليل القاطع على حجم السيطرة والاستحواذ الذي تمارسه وتحققه دولة من الدول. لقد توزعت كمية الطاقة تلك، في حينه، بين مناطق الاستهلاك العالمي، على النحو التالي:
- 2500 مليون طن طاقة، للولايات المتحدة الأميركية منفردة.
- 2000 مليون طن طاقة، للاتحاد السوفييتي وبلدان حلف وارسو والصين الشعبية.
- 2000 مليون طن طاقة، لأوروبا الغربية واليابان وكندا واستراليا.
- 500 مليون طن طاقة، لبقية دول العالم، أو ما سمّي بالعالم الثالث.
لقد كان متوسط الاستهلاك السنوي من الطاقة للفرد الواحد في البلدان الصناعية في حدود 6000 كغم، أما في بلدان العالم الثالث، أي أربعة أخماس البشرية، فكان في حدود 300 كغم، فالنسبة كانت 1 إلى 20، ولا نعتقد أن هناك ما هو أكثر بلاغة وتأثيراً من هذه الأرقام لوضع سياسات التحرر والاستقلال للبلدان المظلومة، فالاستقلال والديمقراطية هما التساوي النسبي بين الأمم في استهلاك الطاقة بكل ما يعنيه ذلك من تطور وتقدم.
الحرب الخاصة، والحرب المباشرة
بعد الحرب العالمية الثانية، وابتداء من نهاية أربعينات القرن العشرين، تبدّل وضع المستعمرات سياسياً، غير أن وضع السيطرة والاستحواذ لم يتغيّر، بل ازداد سوءاً في الواقع، حيث نهضت دول مستقلة إسميّاً وشكلياً، تعتمد على الولايات المتحدة الأميركية في ميادين الاقتصاد والمال والدفاع والسياسة. لقد حافظت الإدارة الأميركية على جوهر الوضع الدولي معتمدة على مساندة القوى والإدارات المحلية في المستعمرات السابقة، وهي أعطت الكثير من تلك الدول جميع الشكليات الخلاّبة، التي تدغدغ وتخدّر المشاعر الوطنية، من مظاهرالاستقلال والديمقراطية، غير أن المهمة الرئيسية للجيوش الوطنية كانت نقيض المظاهر، فهي قمعت دائماً، بمنتهى القسوة، أية حركة وطنية حاولت التصدّي لجوهر الوضع الذي لم يتبدّل فيه شيء عن أيام الاستعمار المباشر. وقد حدث أن الجيوش المحلّية، المدعومة من واشنطن، اشتبكت مع شعوبها في حروب طويلة أطلق عليها الاستراتيجيون الأميركيون وصف "الحرب الخاصة"، والتي هي، بالطبع، حرب بالنيابة عنهم، مثل حرب فيتنام في مراحلها الأولى. وعندما تفشل الحروب الخاصة كان الأميركيون يسارعون إلى الميدان، ويأخذون على عاتقهم دوراً حربياً مباشراً، يتعاظم أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم، ثم يدخل نفقاً مظلماً لا نهاية ولا مخرج له إلا بالتراجع، وهذا عين ما حدث في فيتنام.
إن الفشل الذي تمنى به الحروب الخاصة والجيوش المحلية يعود إلى ضعف أساساتها الاجتماعية، وإلى عزلتها السياسية، واللجوء إلى الحروب المباشرة لا يبدّل شيئاً في الأساسات الاجتماعية والسياسية الوطنية، والجيوش الأجنبية تدخلها متوجسة وقلقة، فهي مهما كان مستوى تفوقها المادي العسكري سوف تخسر الحرب بالتأكيد عندما يواجهها الشعب بأكمله، وسرعان ما يتحوّل المشروع التجاري المقنّع بالحرب وبالشعارات المضللة، إلى مقامرة مروّعة للتجار الذين لا همّ لهم سوى الربح، وإلا فاسترداد التكاليف على الأقل!
الحرب في فلسطين والعراق
تبرز الأهمية العظمى لثبات واستمرارية حركة التحرر الوطني الفلسطيني في تلخيصها وتجسيدها العملي الميداني للإرادة العربية التي يراد لها أن تبقى غائبة. وغني عن القول أن الوطن العربي لا يتسع لإرادتين، وأن سيادة الإرادة الأميركية الصهيونية تقتضي غياب الإرادة العربية، والعكس بالعكس. إن الأمة العربية، وإلى أن تمتلك لحظتها التاريخية، تعبّر عن وجودها وتبرهن عن حيويتها وجدارتها من خلال الثبات المؤثر لأبنائها الفلسطينيين، ولذلك نرى الدعم المادي والسياسي العملاق للصهاينة من قبل كبريات الشركات الأميركية والحكومة الأميركية، فهو دعم في مستوى إبقاء الأمة العربية غائبة، أي أن الصهاينة يحاربون الأمة العربية نيابة عن الأميركيين والنظام العالمي، وهذا ما يفسّر لنا قدرتهم على احتمال التكاليف الباهظة، وممارساتهم العسكرية الإجرامية الفظيعة التي تبدو أضخم بما لا يقاس مما يقتضيه إخضاع شعب شبه أعزل، أما الفلسطينيون فإنهم يقاومون نيابة عن الأمة العربية!
وفي العراق، اعتقد الأميركيون أن الحروب الضخمة والحصار المحكم الرهيب على مدى عشرين عاماً قد جعلت الشعب العراقي خانعاً وخاضعاً سلفاً، وأنه قطعاً سوف يرحّب بهم كمحرّرين. وبالطبع، هم كانوا وراء حروب الخليج التي دمّرت المنطقة وهيأتها لتكثيف وجودهم، وهم أيضاً كانوا وراء المعاناة الداخلية للشعب العراقي، حيث الحصار كفيل بتعطيل الحياة الطبيعية وإشاعة نقيضها، غير أن الشعب العراقي فاجأهم وأذهلهم بوعيه وصلابته وعمق مشاعره الوطنية والقومية، حين برهن منذ اللحظات الأولى عن إدراكه بالكامل لحقيقة مخططاتهم وأهدافهم الربويّة التجارية المقنّعة بقناع الحرب من أجل التحرر والديمقراطية.
إن الأميركيين، الذين شعروا بخطورة ما أقدموا عليه، واكتشفوا خطأ حساباتهم، يحاولون الآن تلافي ذلك بالعودة إلى أسلوب "الحرب الخاصة" إن أمكن، يخوضها العراقيون والعرب ضدّ أنفسهم بالنيابة عنهم، ويحاولون رشوة الدول ببعض الغنائم كي ترسل قواتها إلى العراق، تحت راية الأمم المتحدة، لتدعم قواتهم المحتلة! لقد وعدوا المموّلين والشعب الأميركي بحرب خاطفة أشبه بالنزهة، وبعائدات خرافية سريعة، وعائدات خرافية دائمة، وإذا بالحرب تبدو كأنما هي لم تبدأ بعد جدّياً حتى اليوم، وها هم الموّلون وأهالي الجنود القتلى يبدأون الاحتجاج والصراخ، فهل تستطيع الإدارة الأميركية تلافي ما حدث من مفاجآت أربكت مشاريعها، أم أن الشعب العراقي لن يمكنها حتى من استرداد التكاليف؟