|
-أمتان-: حكم ذاتي إسلامي في ظل دولة علمانية، أو العكس!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2017 - 2007 / 8 / 24 - 11:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يفترض العلمانيون مثالا ثابتا لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة يقوم على الفصل بينهما. ويعترض الإسلاميون بشدة على فصل الدين عن الدولة، ويقررون أن الإسلام لا يقوم دون دولة؛ فالدولة ركن من أركانه، ومن أنكر حاكمية الله السياسية فقد أشرك به، كما يقول سيد قطب. قد يبدو الفريقان غير متكافئين، وربما يُظن أن الفريق العلماني ضئيل الوزن قياسا إلى الفريق الإسلامي. غير أن التقابل بين علمانيين وإسلاميين مصطنع، والتقابل السليم هو بين من يرغبون في العيش في ظل دولة عادية، تشبه دولنا الحالية، لكنها أقل فسادا واستبدادا؛ وبين من يريدون "دولة إسلامية" تعرف نفسها برفض العلمانية، أو دولة "علمانية" بالمعنى المذهبي للكلمة والمعادي للدين. ونرجح أن الأولين أكثرية كبيرة، وأن أنصار الدولة الإسلامية قلة، وربما لا يزيدون كثيرا على أنصار الدولة العلمانية المذهبية. صحيح أنه ثمة تنظيمات إسلامية ربما تتمتع بشعبية لا بأس بها في غير بلد عربي، لكن قسطا قد يكون الأكبر من ولاء الجمهور لها ينبع من المخزون الرمزي الإسلامي الذي تنجح هذه الحركات في الاستحواذ عليه أكثر من غيرها من جهة، وإلى معارضتها سلطات فاسدة وقمعية لا مبدأ لها من أي نوع من جهة ثانية، وربما أخيرا إلى التزام اجتماعي وأخلاقي ترتاح قطاعات من الجمهور العام إلى سنده الديني. وتقديرنا المبني على ملاحظة حية ومتابعة فكرية وسياسية معتدلة أن هذا لا يترتب عليه حتما ولاء لفكرة "الدولة الإسلامية"، خلافا لما توحي به قراءة أدبيات الفكر الإسلامي المعاصرة. هذه الأدبيات تجعل "الدولة الإسلامية" جزءا من صفقة كلية، بحيث لا يسعك أن تكون مسلما دون أن تشتري "الدولة الإسلامية" أيضا. يصح وصف ذلك بأنه اختطاف إسلاموي للإسلام. وإنما بفعل اطلاع على بعض هذه الأدبيات، وبالتحديد كتب ممثل "الوسطية الإسلامية" الأشهر، الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، سوف تقترح هذه المقالة تمرينا للتفكير في شأن العلاقة بين الدين والدولة، ينطلق من واقع حقيقي مؤكد ويسهل اختباره.
ليست الأمة إسلامية! الواقع: ليس جميع سكان بلداننا، أعني جميع بلدان العالم الإسلامي بلا استثناء، مسلمين؛ وليس جميع مسلميها مؤمنين. هذا يعني فورا أن لدينا في كل بلد من بلداننا "أمتان": "أمة المؤمنين" الذين توحدهم الرابطة الدينية، وأمة أخرى تعرف بإيمان مختلف أو بعدم الإيمان. ومن البدهي أن تفضل هذه ما استطاعت أن تعيش حرة ومساوية لغيرها في الحقوق والسياسة والسيادة. الأمر ببساطة أن "الأمة"، في أي من بلداننا القائمة أو فيها جميعا، ليست "إسلامية"، حتى لو كان أكثر سكانها مسلمون. الأمر أيضا أن مجتمعاتنا منقسمة انقساما لا ريب فيه في شأن الدين وموقعه في الحياة العامة وعلاقته بالدولة والنظام السياسي. لكن لنتلبث قليلا عند مسألة إسلامية "الأمة". في سورية، مثلا، نسبة من غير المسلمين، مسيحيون بصورة خاصة. وثمة أيضا مسلمون غير سنيين (علويون، دروز، اسماعيليون، شيعة..). وهناك نسبة من غير العرب، أكراد بصورة خاصة، يتحدد سلوكهم السياسي بانتمائهم القومي الذي يبلغ اليوم ذروة غير مسبوقة. فهل يشكل المسلمون السنيون العرب جماعة دينية موحدة؟ أبدا. إنهم يتوزعون على متدينين وغير متدينين، على علمانيين وإسلاميين، كذلك على مؤمنين عاديين ومؤمنين مذهبيين أو إسلاميين، فضلا عن توزعهم على شرائح اجتماعية، على مدن وأرياف، وتحدد توزعاتهم هذه سلوكهم العام بهذه الدرجة أو تلك كما في مجتمعات الأرض جميعا. ولقد مضى وقت كان تمثيل السوريين بالقومية والطبقة والإيديولوجية فيه أظهر بكثير من تمثيلهم بالدين والطائفة. ولا ريب أن التمثيل هذا، وهو ليس حصريا اليوم بالذات، سوف يتراجع بدوره في وقت ما. ثم إنه في سورية كما في غيرها مسلمون بالمعنى الثقافي أو السوسيولوجي للكلمة، لكنهم ليسوا مسلمين بالمعنى المعياري. هذا واقع موجود في المجتمعات الإسلامية جميعا بلا ريب. وأي فكر إسلامي يتجاهله ولا يعترف به يحكم على نفسه بالجهل الاجتماعي والتطرف السياسي. قد يقال إن لسورية والمشرق الشامي العراقي وضع خاص، فهي بلدان متعددة إثنيا ودينيا ومذهبيا. لكن هل السعودية خلاف كذلك؟ وحتى لو نسينا ملايين من المقيمين في السعودية دون أن يكونوا من مواطنيها، وبين هؤلاء مسيحيون عرب وغربيون، وبينهم متحدرون من جماعات مذهبية إسلامية غير سنية، فماذا بشأن الشيعة والزيديين السعوديين؟ وهل صحيح أن "الإسلام" (السني، الحنبلي، الوهابي) يستغرق وحده هوية السعوديين تماما؟ وماذا عن التمايزات القبلية في أوساطهم؟ وماذا عن تباينات إيديولوجية وسياسية تميز قطاعات منهم عن التوجه الرسمي السياسي الديني؟ هذا دون أن نقول شيئا عن أن انخراط السعودية في العالم المعاصر لا يكف عن توليد انقسامات متنوعة، اجتماعية وثقافية وجيلية ومهنية..، توجه المواقف العمومية للناس المنخرطين فيها، ولا تنتظم حول المحور الديني وحده، بل لعله ليس أساسيا فيها. هذا وقائع لا تهتم بها وسائل الإعلام، لكنها هي الحاسمة في شأن مستقبل البلد. أما الإمارات وقطر والكويت فسكانها الأصليون أقلية منذ الآن، وهم مرشحون لأن يصبحوا أقلية ضئيلة بعد عقيدين من السنين. هل ستغني "الماهية العربية الإسلامية" للإمارات والكويت وقطر وقتها عن "وجود" المجتمعات هذه في التاريخ؟ وهل سيبقى هذا الشرط دون انعكاسات سياسية بعيدة المدى؟ وهل مصر والسودان، والمغرب وتونس والجزائر..، أقل تنوعا؟ ومعلوم أيضا أننا، المسلمين، نعيش أكثريات في دول تتجاوز الخمسين، وأن فرضية "الأمة الإسلامية" منفصلة عن الواقع من وجه كثرة الدول، قدر انفصالها عنه من وجه افتراض أننا، في بلداننا القائمة، مسلمون ليس إلا. لماذا إثبات هذا النقطة مهم؟ لأن تمثيل "الأمة" معرفيا بـ"الإسلام" يقود من كل بد إلى تسهيل تمثيلها سياسيا بالإسلاميين. هذا ما يفضله الإسلاميون بعامة، الذين ربما يقرون بوجود غير مسلمين في مجتمعاتنا، لكن دون أن يمس ذلك الركن الجوهري في عقيدتهم: الأمة مسلمة. وهو ما يفضله غربيون، إعلاميون وسياسيون ومثقفون، لأن كسلهم الذهني يسكن إليه، ولأنه يناسب تعزيز هويتهم الخاصة، كما يستجيب لعقيدة "صراع الحضارات" الضمنية عند كثيرين بينهم. ويشترك الطرفان في نزعة اسمية، تجعل من الوصف الإسلامي لمجتمعاتنا هوية ثابتة ونهائية وحصرية لها؛ يشتركان أيضا في نزعة لا تاريخية، تميز من يفكرون في المجتمعات العيانية كهويات أو "حضارات"؛ يشتركان أخيرا في نزعة مثالية بالمعنى الفلسفي للكلمة، تُعلي من شأن ماهية المجتمعات المفترضة على وجودها التاريخي. والحال مجتمعاتنا إسلامية بالمعنى الوصفي للكلمة، بمعنى أن أكثرية سكانها مسلمون. وهذا لا يترتب عليه شيء محدد سياسيا، خلافا لما يظن الإسلاميون، بمن فيهم السيد عبد المنعم أبو الفتوح، عضو مكتب الإرشاد في جماعة "الإخوان المسلمين" المصرية، الذي نسب إليه سيد القمني في هذا المنبر قوله إن "الدولة الإسلامية" هي الدولة "التي تعيش فيها أغلبية مسلمة"، ورتب على ذلك أنه "عملاً بالمبدأ المنحاز للأغلبية فإنها تكون دولة مسلمة وديمقراطية في آن معاً"! هنا قفزتان استدلاليتان غير شرعيتين. فكون أكثر سكان بلد ما من المسلمين لا يرتب أبدا أن تكون الدولة تلك إسلامية إلا بمعنى وصفي ومحايد سياسيا، معنى نطبقه على دولنا الحالية، بما فيها تركيا ومصر وسورية وتونس..، التي تشترك كلها في عضوية منظمة المؤتمر الإسلامي مثلا. ثم ما من ضمانة في أن دولة يحكمها الإسلاميون ستكون ديمقراطية لمجرد أن أكثرية السكان مسلمون. هذه برهنة شكلية، تفترض أنه يمكن التقاط الأكثريات السياسية من أغصان شجرة الواقع البرية لمجتمعاتنا، دون شغل تربوي وسياسي وثقافي وقانوني. إن أكثرية سكان دولنا عرب، ويحكمها عرب، لكنها ليست ديمقراطية. ثم إن رد الديمقراطية إلى حكم الأكثرية مرشح، في غياب ضمانات دستورية ومؤسسية (حقوق الإنسان، استقلال السلطات، ضمانة حقوق الأقليات..)، لأن ينتكس إلى ما كان يسميه جون ستيوارت مل "طغيان الأكثرية". ولعله أمكن لأبي الفتوح أن يقيم تطابقا بين أكثرية إسلامية "طبيعية" وبين حكم الأغلبية الديمقراطي لأن الإسلاميين يصدرون عن تصور إجرائي للديمقراطية، مبني هو ذاته على افتراض إسلامية الأمة. وهم يميلون بعامة إلى اختزال الديمقراطية إلى ترتيبات شكلية لا غرض لها غير التصديق على الماهية الإسلامية للأمة. لذلك الديمقراطية هنا دون شخصية ودون ثقافة، ودون روح. الشخصية والثقافة والروح مصدرها شيء خارج الديمقراطية وقبلها: "الإسلام". لا يخفي "الإخوان المسلمون" السوريون، مثلا، انحيازهم إلى مفهوم إجرائي للديمقراطية: "نعني هنا، وفي كل مكان نعلن فيه تبنينا للنهج الديمقراطي تلك الديمقراطية الإجرائية والآليات الديمقراطية المرتبطة بها" ("المشروع الحضاري الإسلامي لسورية المستقبل"، 2004، ص 24. صدر المشروع ذاته مع تنقيحات طفيفة مطلع عام 2005 بعنوان "المشروع السياسي..") على أن "المشروع.." يذكر الآليات التالية: "الحكم النيابي الدستوري" و"التعددية الحزبية والانتخابات الحرة وصناديق الاقتراع". وهي إجراءات منفتحة سياسيا، تعكس درجة من الانفتاح السياسي والنفسي بلغها الإخوان السوريين في السنوات الماضية (قبل أن يندفعوا في خطة سياسية مرتجلة بتحالفهم مع عبد الحليم خدام...). غير أن مشروع الإخوان مخترق بتناقض عميق بين التغييرية السياسية والمحافظة الثقافية والاجتماعية والتربوية. وهذا يجعل مفهومهم للديمقراطية شكليا وواهن الركائز. .. ولا نصدر من جهتنا في إنكار إسلامية الأمة عن نزعة عداء موتورة للإسلام، نجدها سقيمة ولا طائل من تحتها. ولا عن عداء أعمى للإسلاميين، جدير بدوره بكل نقد. نصدر بالأحرى عن تفطن إلى واقع مجتمعاتنا العياني، وهو واقع مركب، متغير تاريخيا، دنيوي و"علماني"، يمتنع على المصادرة باسم الهوية أو باسم الدين أو باسم الأمة. ولا نرى في هذه، صراحة، غير استراتيجيات سيطرة سياسية، لا تختلف في شيء عن مصادرة المجتمع السوري، اليوم، باسم العروبة البعثية. وهذا واقع تعرفت عليه شخصيا بالتجربة والممارسة والصراع، لا بالتأمل ولا بالهوى والانحياز الذاتي. والعبرة المتواضعة التي أظنني خرجت بها من ذلك التعرف تتلخص في أن نقد التمثيلات السياسية للمجتمع السوري دون نقد تمثيلاته المعرفية التي ترده إلى "قطر عربي" بمعنى جوهري وغير تاريخي، هو مسلك اختزالي معرفيا ومتهافت منطقيا واستبدادي سياسيا. وليس من المتسق عقليا أن ننتقد تمثلا معرفيا أحاديا، التمثيل البعثي، لنوالي تمثيلا معرفيا أحاديا آخر، الإسلامي. من الممكن والضروري أن يكون نقد البعثية نقدا لكل البعثيات، والإسلامية واحدة منها بالتأكيد. والخلاصة أن مجتمعاتنا الراهنة مكونة من مسلمين وغير مسلمين، مؤمنين وغير مؤمنين؛ وإذا حصرنا تفكيرنا في المحور الديني، فسيكون مقبولا القول إن لدينا أمتان، "أمة المؤمنين"، و"أمة" أخرى تعرف نفسها بإيمان مختلف أو بتحديدات فكرية وسياسية واجتماعية مغايرة. ويفترض أن الأمتين معا تشكلان "أمة المواطنين" في هذه الدولة أو تلك. وقد تشكل "أمة المؤمنين" أكثرية "أمة المواطنين"، إلا أن هذه تبقى متميزة عن تلك.
حرية الاعتقاد: نعم أم لا؟ لكن من هم المؤمنون؟ هل إن المؤمن هو فقط من يريد عيش "حياة إسلامية كاملة"، بما في هذه "دولة إسلامية"، حسب السيد القرضاوي؟ وأي نوع من الحياة الإسلامية؟ وفي ظل أي نموذج للدولة الإسلامية؟ قلنا إننا نرجح أن المؤمنين المتطلعين إلى دولة إسلامية أقلية، قد تكون مهمة، لكن تبقى أقلية في أكثر البلدان الإسلامية. هناك بالمقابل مسلمون لا يرغبون في العيش في ظل "الدولة الإسلامية"، إن كان الخيار لهم. وهو ما ينطبق، يقينا، على جميع غير المسلمين، وعلى جميع المسلمين من مذاهب إسلامية أخرى. فمن المستبعد أن يرغب غير المسلم أو المسلم من مذهب مختلف في العيش في "دولة إسلامية". وهذا، بالمناسبة، أمر يتعين أن يستوقف ذوي الألباب من الإسلاميين. لدينا، إذن، الوضع التالي: لا يريد المؤمنون الإسلاميون العيش في دولة غير إسلامية، ولا يريد غير المسلمين وغير المؤمنين وبعض المؤمنين العيش في دولة إسلامية. فإذا كنا نريد تجنب العنف والإكراه في حياتنا العامة، توجب أن نفكر في نظام للدولة يضمن للمسلمين المؤمنين أن يعيشوا إيمانهم كاملا دون إكراه غيرهم، ولغير المسلمين وغير المؤمنين.. أديانهم أو الحياة التي يرتضون دون أن يفرضوها على مخالفيهم (ونظام الدولة هذا هو "التمرين الذهني" الذي سوف نقترحه في القسم الأخير من هذه المقالة). المبدأ الذي لا يمكن التخلي عنه في هذه الحالة هو حرية الاعتقاد، لا لأنه شرط الدين ذاته كما سنقول فيما بعد، ولكن لأن نقيضه هو الإكراه والعنف، وهو نقيض الافتراض الذي نبني عليه هذه المناقشة. نفترض بالطبع أن "النقاش" و"العنف" نقيضان، وأن من يفضل تحكيم العنف مستغن عن النقاش، وأننا نتناقش كيلا نتقاتل. وحرية الاعتقاد شرط، نلح على القول إنه لا ينطبق على غير المسلمين من الكتابيين، بل على المسلمين أيضا؛ وليس على المذاهب الإسلامية الأخرى، بل على "مذهبنا" كذلك، سواء كان سنيا أو شيعيا أو درزيا أو علويا... إلخ. أي أن من ولد لأبوين مسلمين، ثم فقد إيمانه لسبب ما أو تحول إلى إيمان آخر، محمي بمبدأ حرية الاعتقاد وله الحق في أن يختار لذاته. بعبارة واضحة، تناط حرية الاعتقاد بالأفراد وليس بالجماعات الدينية أو المذهبية. هذا ما يبدو أن الإسلاميين يرفضونه. يقرون بحرية دينية للمسيحيين واليهود ضمن السيادة الإسلامية، لكن موقفهم من حريات الجماعات المذهبية الإسلامية غير واضح في أحسن الأحوال، وتكفيري في أسوئها. فإذا كان ثمة من يعتبر الشيعة كفارا، والشيعة ينازعون السنة على الشرعية الإسلامية، فما بالك بموقفه من جماعات تفرعت من الجذع الحضاري الإسلامي، ولا تنازع على الشرعية الإسلامية كالعلويين والاسماعيليين والدروز..؟ وما بالك أولاً بموقفه من المسلمين السنيين ميلادا، ممن فقدوا إيمانهم أو ممن لا يقرونه على صيغة إيمانه؟ وفقدان الإيمان واقع تجريبي محقق، حتى في أوساط من كانوا إسلاميين حركيين. السؤال المعياري في هذا المقام: هل يتمتع المسلم السني بحرية الاعتقاد في دولة إسلامية تقوم على الإسلام السني؟ وهل يتمتع المسلم الشيعي بحرية الاعتقاد في دولة تقوم على الإسلام الشيعي؟ هنا مربط الفرس. هنا، وليس في أي مكان آخر. وهذا سؤال يحتاج إلى إجابة قاطعة، دون جمجمة أو غمغمة. هل تقبل بحرية الاعتقاد، بما فيها حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد وحرية التحير في مسائل الاعتقاد، أي "الإلحاد" و"الارتداد" و"اللاأدرية"؟ نعم أم لا؟ إذا كان الجواب بلا، فلن يكون الحَكَم إلا القوة وحدها: إذا حكم الإسلاميون فسيفرضون عقيدتهم بالقوة على الجميع، وسيعتبر من فقدوا إيمانهم أو بدلوه "مرتدين"، يستتابون وقد يقتلون. ولن يكون إلا منصفا أن يتوسل غير الإسلاميين القوة لتجنب هذا المصير. فما دام العنف هو الحكم، فمن لن يحتكم إليه؟ ومن بلغ به الخور حد تسليم رقبته للنطع دون مقاومة؟ ومن ثم، فإما أن نطرد العنف من حياتنا الدينية (والسياسية طبعا)، أو أن يكون العنف ملكا مشاعا للجميع. وربما تستطيع دكتاتورية دينية أو دنيوية احتكار العنف وقتيا، لكن ما إن تضعف حتى يندلق العنف من يدها، ويستحوذ عليه من يشاء ويقدر. هل "الجاهلية" غير هذا؟ حرب من يقدر ضد من يشاء؟ بلى، سيد قطب على حق في كلامه عن جاهلية القرن العشرين. لكن الإسلامية المعاصرة، تلك التي تستهلمه بالخصوص، هي واحد من ثلاثة أقانيم للجاهلية هذه، إضافة إلى الدكتاتوريات ("الطواغيت") الحاكمة والقوة الأميركية الإسرائيلية في "الشرق الأوسط" ("المستكبرين"). ونلح على مبدأ حرية الاعتقاد لأنه مبدأ لاتساق العقل قبل أي شيء آخر. إذ لا نرى كيف يمكن أن يستقيم دين أو سياسة أو أخلاق دون إقراره الحاسم والنهائي. ولنا عودة إلى ذلك. .. فإذا كانت الإجابة بنعم؟ هذا عز الطلب، وسنبني عليه مقتضاه أدناه. ولكن المشكلة أنه ليس ثمة جهات إسلامية مسموعة الكلمة تجيب بنعم، وتتحمل المسؤولية الدينية والفكرية والسياسية عن هذه الإجابة. وهو ما يحيلنا إلى وجوب تكون مرجعية إسلامية موحدة ومستقلة عن السلطات القائمة، مرجعية قوية الشخصية تؤسس استقلاليتها لصدقيتها وجدارتها الدينية. فليس غير مرجعية كهذه، واثقة من شرعيتها، يمكن أن تتقبل حرية الاعتقاد وتدافع عنها. وهذا احتمال يستجيب لتطور "الصحوة الإسلامية"، في بعديها الحركي والفكري. إذ يخيل لنا أن انتهاء "الصحوة" إلى تكون كهنوت إسلامي قد يكون البديل الأوفى عن استيلائها المدمر على السلطة أو عن دمارها الذاتي. على أن هناك احتمالا آخر: أن تنحل المرجعية في "الأمة"، ويغدو كل واحد من المؤمنين مركز إيمان حر، أي أن ينتشر الدين في أمة المؤمنين، دون الحاجة إلى تشكل كهنوتي فج قائم حاليا، لا يتطور إلى مؤسسة دينية مستقلة، ولا يرتضي ترك الناس لإيمانهم و"فتاوى قلوبهم". ولدينا انطباع بأن بعض رجال الدين الإسلامي يدركون تناقضات التدين والتفكير الإسلامي المعاصر، بالخصوص تهافت نظرية الحاكمية والموقف من مبدأ حرية الاعتقاد، لكنهم لا يجرؤون على مقاربتها والدفاع العلني عنها بسبب سهولة عزلهم وتعبئة الجمهور المتدين ضدهم، وربما تكفيرهم. فتناثر السلطة الدينية وتبعثرها من جهة، واستتباعها من قبل نظم الحكم من جهة أخرى، يترك أمام أكثر المشتغلين بالشأن الديني بابا واحدا مفتوحا على سعته للحفاظ على شرعيتهم، باب المزايدة والتشدد في شرائط الإيمان وكمال الدين. لا أرضية للاعتدال أو لوسطية إسلامية مجددة لهذا السبب المؤسسي، أعني غياب المؤسسة الدينية الموحدة والمستقلة. يبقى الاعتدال في مثل هذه الحالة مزاجا شخصيا أو نية ذاتية. أو إيديولوجية متطرفة موضوعيا وبنيويا على غرار "وسطية" القرضاوي، المعتدلة ذاتيا فحسب. وفيما يلي سأقتبس من الشيخ الفقيه سطورا مطولة تبرهن على تطرف وسطيته من جهة، وتمهد من جهة أخرى لاقتراح "كونفدرالية دينية" أو اعتقادية، كتمرين ذهني من أجل التدرب على التفكير في وضعنا الديني السياسي الراهن. وكما أشرت فوق، اشتغلت هذه المقالة بعد قراءة كتب له.
"الوسطية الإسلامية".. متطرفة! يقول الدكتور القرضاوي: "إن طبيعة الإسلام باعتباره منهجا يريد أن يسود ويقود ويوجه الحياة، ويحكم المجتمع، ويضبط سير البشر وفق أوامر الله، لا يظن به أن يكتفي بالخطابة والتذكير والموعظة الحسنة، ولا أن يدع أحكامه ووصاياه وتعليماته في شتى المجالات إلى ضمائر الأفراد وحدها، فإذا سقمت الضمائر أو ماتت، سقمت معها ماتت تلك الأحكام والتعاليم" ("من فقه الدولة في الإسلام، ص ص 18-19). وقد ساق القرضاوي هذه السطور برهانا منه على أن الدولة "جزء لا يتجزأ من نظام الإسلام، الذي امتاز بشموله للزمان والمكان والإنسان" (ص 14). وسنلاحظ عابرين أن الشيخ يثق بـ"الدولة" أكثر مما يثق بضمائر المؤمنين! ودولة القرضاوي الإسلامية "دستورية"، لكنها "ليست مخيرة في الالتزام" بدستورها، إذ ليس هو إلا القرآن (ص 33). و"ما من قوة في الأرض تملك أن تغير من أحكام الله الثابتة شيئا" (ص 58). وبعد أن يقرر أن "الإسلام لا يكون إلا سياسيا"، يقول: "المسلمون مجمعون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة، والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة" (ص 90). هذا بعد أن كان الشيخ قد قرر أن "الحريات التي يتغنى بها الناس في عصرنا، ويحسبونها من مبتكرات الثورات الحديثة في الغرب كالثورة الفرنسية وغيرها، قد سبق الإسلام ببيانها والدعوة إليها، وقامت الدولة المسلمة برعايتها وإخراجها من حيز النظرية إلى حيز التطبيق" (ص 49). وبرهانا على ذلك يقول الدكتور القرضاوي إن "الإسلام" قرر الحرية الدينية لمن يعيش في كنفه من مخالفيه كاليهود والنصارى والمجوس، وسمح لهم بحرية الاعتقاد وحرية التعبد (..) بل سمح لهم أن يتناولوا من الأطعمة ما يؤمن هو بحرمته ورجسيته مثل لحم الخنزير(..) وهي قمة في التسامح لم يصل إليها دين" (ص 49). حقا! هل هناك مجتمعات تكره أحدا على أن لا يأكل إلا ما تأكل هي؟ واضح أيضا أن مفهوم القرضاوي للمجتمع "طائفي"، فمجتمعه مكون من أديان ومذاهب لا من أفراد، وحوامل الاعتقادات والحريات هم جماعات معرفة بأديانها وشرائعها لا أفراد معرفون بحقوقهم. والأحزاب الشرعية في دولة القرضاوي الإسلامية هي تلك التي "تعترف بالإسلام- عقيدة وشريعة- ولا تعاديه أو تتنكر له"، ولا "تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولملته، أيا كان اسمها وموقعها" (ص 148). وهذا يذكر بمشروع قانون للأحزاب في سورية البعثية أعلن عنه عام 2005، اشترط أن تعترف الأحزاب بمبادئ ثورة 8 آذار (الانقلاب العسكري الذي مكن حزب البعث من الاستيلاء على السلطة عام 1963)، والدستور الذي يجعل من حزب البعث قائدا للدولة والمجتمع! ولا نحيل إلى المشروع البعثي من باب التجمّل، بل لنكشف عن منطق مشترك يصدر عن شهوة السلطة، ولنقول إن دولة شيخنا الإسلامية ستكون دولة بعثية، بحزب واحد و"جبهة وطنية تقدمية" إسلامية، لكن بعقيدة مقدسة، و"حالة طوارئ" معلنة سماويا، وستكون معارضتها أشد كلفة، وسجونها أشد وحشية من تلك التي خبرها الإسلاميون قبل غيرهم في سورية البعثية. (هذا ما نبنيه على أقوال الشيخ؛ السياسات المحتمل ممارستها قد تكون مختلفة كثيرا، أشد اعتدالا في الغالب). وفي كتاب آخر، يقرر الشيخ: "سيظل الحماس والاندفاع – إلى حد العنف أحيانا- ما دام أهل الخير مبعدين وأهل الشر مقربين، وما دام المعروف ضائعا، والمنكر شائعا، وما دام الإسلام يعيش غريبا في أوطانه، مضطهدا بين أهله! وما دامت شريعته معطلة، وقرآنه مهجورا، ودعاته الأصلاء معزولين عن مواطن التأثير والتوجيه" (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص 13-14). يعني "بالعربي الفصيح" سيدوم الاندفاع، وربما العنف، إن لم يغد "الإسلام" في السلطة. ونضع تعبير الإسلام بين قوسين لنقول إن فكر الإسلامين يقوم على تغذية الالتباس بين الإسلام دينا وتاريخا وإطار انتساب رمزي وثقافي، وبين برنامج سياسي خاص يقضي بأن السلطة لهم دون غيرهم تحت طائلة الكفر، بما يتيح استملاك الدين والسلطة معا لمصلحة الإسلاميين. وحول "المرتدين" يقول الشيخ الوسطي: "يدخل في معنى المرتدين [من] ترك الإسلام إلى الشيوعية، أو الوجودية، أو المسيحية، أو اليهودية، أو البوذية، أو البهائية، أو غيرها من الأديان والفلسفات، أو خرج من الإسلام ولم يدخل في شيء، بل ظل سائبا بلا دين ولا مذهب" ( في فقه الأقليات المسلمة، حياة المسلمين في المجتمعات الأخرى، ص 93). (كلمة سائب تطلق على البهائم المنفلتة، واعتبار من "لا دين له" مثل البهيمة ليس غريبا على "فكر" الشيخ). ثم يضيف: "والإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه، حتى إنه لا يعتبر إيمان المكره ولا يقبله، لكن من دخله بإرادته الحرة لم يجز له الخروج عنه" (ص 94) لماذا؟ أليس هذا إكراها؟ وهل يكون الدين "ألعوبة" (حسب تعليقات مشايخ مصريين على مقالة لمفتي مصر نشرت مؤخرا في "واشنطن بوست" الأميركية يقرر فيها حرية العقيدة في الإسلام، بما في ذلك "الارتداد"، حسب تحقيق عن الأمر نشرته "الشرق الأوسط" في 2/8/2007) إذا تركه من فقدوا إيمانهم به أم إذا أكرهوا على البقاء فيه؟ وإذا كان ترك الدين يعني أنه "ألعوبة"، ألا يعني البقاء القسري فيه أنه سجن؟ ومن أحكام "الارتداد" في الدنيا، عدا الجزاء الأخروي حسب القرضاوي: "أن المرتد لا يستحق معونة المجتمع الإسلامي ونصرته بوجه من الوجوه، ولا يجوز أن تقوم حياة زوجية بين مسلم ومرتدة، أو بين مرتد ومسلمة، لا ابتداء ولا بقاء، فمن تزوج مرتدة فنكاحه باطل، وإذا ارتدت بعد الزواج فرق بينهما حتما، وهذا حكم متفق عليه بين الفقهاء، سواء من قال منهم بقتل المرتد رجلا كان أو امرأة وهم الجمهور، أم من جعل عقوبة المرتدة الحبس لا القتل، وهم الحنفية" (ص 94 أيضا). وكان اعتبر أن "الشيوعي الذي عرفت شيوعيته يعتبر في حكم الإسلام مارقا مرتدا زنديقا" (ص 90). وبخصوص غير المسلمين، يقول: "الشريعة الإسلامية – التي هي مرجعنا الأوحد في شؤوننا كلها- تصف غير المسلمين بأحد وصفين لا ثالث لهما، وهما: مسالم ومحارب. فأما المسالم فالمطلوب منا أن نبره ونقسط إليه [السيادة لنا طبعا!]، وأما المحارب فالمطلوب منا أن نحاربه ونقابل عدوانه بمثله" (الإسلام والعنف: نظرات تأصيلية، ص ص 34-35)؛ وفي مجال الثقافة، يقرر الدكتور القرضاوي أن "الانفتاح الحق هو الذي يبقي على هوية الأمة وثوابتها، ويأخذ ما يؤخذ من غيرها، دون أن يمس جوهرها" (ثقافتنا بين الانفتاح والانغلاق، ص 6). لكن لماذا قد يمس الانفتاح "جوهر الأمة"؟ لا جواب. ومن نافل القول أن الجوهر هذا هو "الإسلام" وليس حرية المواطنين. ويرى الشيخ أن "المفروض أن تكون ثقافة الأمة في خدمة دينها، لا في مواجهته، وإلا مزقت الأمة من داخلها شر ممزق". (ص 7) "الأمة" إسلامية طبعا. ومن أسس "ثقافتنا" الاعتراف بالله "ربا خالقا" و"إلها معبودا" و"حاكما أعلى" (ص 19)، وهو ما يكشف عن تأثر ممثل الوسطية بمنظر التكفيرية الأبرز، المرحوم سيد قطب. ويبيح الشيخ لـ"المسلم الناضج الراسخ في إيمانه وعلمه أن يقرأ ما يشاء من الفلسفات ويطلع على ما شاء من الثقافات، ومنها الثقافة الغربية الحديثة، ثم يقتبس منها ما يلائم عقيدته ومفاهيمه عن الوجود وعن المعرفة وعن القيم، وما يتفق مع نظرته إلى الألوهية وإلى الكون والإنسان والحياة والتاريخ" (ص 44)؛ لكنه لا يخبرنا من يقرر بلوغ المسلم درجة النضج التي تبيح له قراءة ما شاء والاطلاع على ما شاء. ويبلغ من انفتاح الذهن أن يقرر أن "لا مانع" من الشعر الحديث "إذا كان مضمونه معبرا عن هوية الأمة وثقافتها على ألا يطغى على الشعر العمودي، الذي تميزت به الأمة" (ص 60). ما يعني أن شيخنا وأمثاله هم الأصلح لتقييم شعر محمود درويش وسعدي يوسف ومحمد الماغوط وغيرهم، لتقرير مدى تعبيره عن "هوية الأمة وثقافتها"! ولا ينكر الشيخ إلا أن "يشط واحد من القصاصين" فيتجاوز "الخطوط الحمر" و"القيود التي يفرضها دين المجتمع" (ص 60). ويعرف "المثقف الحق" بأنه الذي "يرعى الثوابت [ثوابت الأمة] ويحترمها"، فـ"المفروض أن تمتزج الثقافة بالدين، بل أن تكون في رحاب الدين" (ص 61). والانفتاح المحذور في عقيدة الشيخ هو "الانفتاح قبل النضج" (ص 71)، ويؤكد على "المنع والتشديد من الانفتاح قبل الرسوخ والتمكن والنضج" (ص 73)، هذا كي يقف المثقف المسلم "على أرض صلبة، وتتكون لديه مناعة ضد أية مكروبات مؤذية". وبينما لا يحدد الشيخ من يتولى "المنع والتشديد"، ومن يختبر "الرسوخ والتمكن والنضج"، فإنه يندب "الحراس الأمناء الأيقاظ بعقل الأمة وضميرها، أن يحافظوا عليهما من الاختراق، وأن يقفوا بالمرصاد لمواجهة هذا الغزو الخطير" (ص 79)، هذا قبل قرار ختامي: "الإسلام مستغن بذاته عمن سواه" (ص 96). وفي كتابه "الإسلام والعلمانية وجها لوجه"، يعتبر الشيخ الدكتور الفقيه الكاتب أن "التفريق الجازم بين ما هو دين وما ليس بدين من شؤون الحياة المختلفة (..) معنى غريب على الفكر الإسلامي، والحياة الإسلامية" (ص 3)، وأن "المجتمع المسلم ليس مجتمعا سائبا، ولا مجتمعا علمانيا (...) لهذا يرفض الردة ويعاقب عليها، حفاظا على هويته" (ص 28). وبكلام يذكر بالشعار البلشفي الشهير "لا حرية لأعداء الحرية"، يقول الشيخ إن "الإسلام" يحافظ على "حرية الفكر، لا حرية الكفر" (ص 31)، دون أن يعلمنا من يحدد ما هو فكر وما هو كفر. ويمضي شيخنا: "ولهذا يكون المسلم، الذي يقبل العلمانية- مهما تكن معتدلة متساهلة- في جبهة المعارضة للإسلام، وخصوصا فيما يتعلق بتطبيق الشريعة، التي جاء بها كتاب الله تعالى، وسنة رسوله" (ص 67). ولا يلبث أن يرى أن العلماني "الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة من الأساس (..) مرتد عن الإسلام بيقين، يجب أن يستتاب (...) وإلا حكم عليه القضاء بالردة، وجرد من انتمائه للإسلام، أو سحبت منه "الجنسية الإسلامية"" (ص 67). ويتساءل: "ما دمنا مسلمين، رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن إماما، فمن البدهي أن نحتكم إلى الإسلام، فيما نختلف فيه" (ص 72). لكن من قال إنـ"نا" مسلمون؟ وبعد أن يقرر أن الإسلام "عقيدة وشريعة، وعبادة وقيادة، ودين ودولة، ومصحف وسيف"، يحكم بأن القضية، "قضية شمول الإسلام، أو عدم شموله، ولا يفتي فيها إلا الإسلام نفسه، قرآنه وسنة نبيه، وهدي الراشدين من خلفائه، وإجماع المجتهدين من أئمته" (ص 72). هل يترك هذا لمن لا يشارك القرضاوي قناعاته غير الخضوع أو الهجرة؟ ألا يفتح ذلك لكل مذهب باب التقرير التحكمي بأنه الأصلح ما دام كل ما يحتاجه هو أن يفتي لنفسه؟ هل من علاقة بين المختلفين في مثل هذه الحالة غير الحرب والإكراه؟ ويمضي مؤلف "الإسلام والعلمانية وجها لوجه" إلى القول: "ويقرر فقهاؤه ["الإسلام"] بالإجماع: أن شريعته حاكمة على جميع أفعال المكلفين، وتصرفاتهم الخاصة والعامة، ولا يشذ منها فعل واحد، دون أن تعطيه حكما من أحكامها الخمسة المعروفة" (ص 73). هذا يعني أن "الأصل في الأفعال أن تتقيد بالحكام الشرعية"، وهو مبدأ يبدو فقيها، اطلعت عليه في مادة وصلتني بالبريد الإلكتروني من "محمد سليم الكواز" الذي عرف نفسه بأنه مؤلف "كتاب الشورى". فإذا كان ثمة مبدأ كهذا، وكلام الشيخ القرضاوي يفيد هذا المعنى بلا ريب، تقوضت فكرة الحرية من أساسها وتعذر أن يكون لها أصل إسلامي، خلافا لما كان الشيخ قرره، بلاغيا كما رأينا. أيا يكن، فإن الإسلام الفقهي مضاد للحرية بكل وضوح، بل إن إنكار الحرية مسلمة أساسية في بنائه الذي يقوم على الضبط الشامل لـ"أفعال المكلفين". والحال إن "الإسلام السياسي" هو إسلام فقهي حصرا في تصوراته القانونية والسياسية. وإذا كان ذاك منشغلا بالسلطة كهدف، فإن هذا، الإسلام الفقهي، منشغل بإنتاجها وتشريعها. يعلن المؤلف أيضا: "إن من طبيعة الإسلام أن يكون قائدا لا مقودا، وسيدا لا مسودا؛ لأنه كلمة الله، "وكلمة الله هي العليا" ولهذا فهو "يعلو ولا يعلى" (ص 93). ويأخذ على العلمانية أنها "لا ترى المجاهرة بترك العبادات، التي هي من أركان الإسلام العملية، شيئا يوجب المحاسبة والمؤاخذة، بله العقوبة، التي أجمع عليها فقهاء الإسلام، فيمن يصر على ترك الصلاة، أو منع الزكاة، أو إفطار رمضان، حتى إنهم اتفقوا على تكفير من ترك شيئا منها (...) لإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة" (ص 102). (كتب الشيخ القرضاوي المحال إليها صادرة جميعا عن دار الشروق القاهرية، في طبعات متعددة غالبا). اقتباسات طويلة جدا، لكن ما كان ممكنا اختصارها بالفعل، فعذرا.
روبوتات ورعة! واضح أن الشيخ يصادر على إسلامية الأمة، وأن الإسلام دولة، والشريعة قانونها، والالتزام بها من صنف التزامات المواطن في الدولة الوطنية. فمن لا يصلي يعاقب، ومن يعترض على "دستور الدولة" "مرتد". وفي كتبه التي اقتبسنا منها، يتجنب الشيخ القول بأن "المرتد" يقتل، لكنه يحيل إلى "إجماع الفقهاء" بشأنه، و"الإجماع" هذا معقود على القتل كما هو معلوم. نعود إلى القول إن "وسطية" القرضاوي متطرفة واقعيا، لأن "الإنسان الفقهي" الذي لا تتصور غيره مثالا للمسلم وللإنسان هو في حقيقة الأمر روبوت ورع، مبرمج على أوامر ونواه تضبط جسده وضميره وعقله وقلبه، وكل حركة وسكنة تعرض له، كائن فاقد للعفوية ومعدوم الحرية تماما. اقرأ الصفحات 73- 75 من كتاب "الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي"، التي يتحدث فيها عن "تطبيق الشريعة"، لترى أن هذه تبدو مشروع هندسة اجتماعية كلية وهندسة جسدية كلية، تفرض انضباطا متشددا على سلوك الفرد، وتستعمر جسده وروحه بالأوامر والنواهي والتحليلات والتحريمات، تشمل "تصرفاته الخاصة والعامة، ولا يشذ منها فعل واحد".. فلا تترك فيه مكانا لضمير مستقل وقلب شخصي، كما تسيطر على المجتمع نظاما، وتكتسح الفضاء الاجتماعي بشاراتها وشعاراتها ورموزها فلا تقبل منافسا فيه. والواقع أن وسطية القرضاوي، وتشكيلات الإسلام الحركي بصورة عامة، تتحرك في فضاء "الباراديغم" القطبي: المجتمع جاهلي، الإسلام هو الوحيد المؤهل لقيادته وإخراجه من الجاهلية، "المجتمع المسلم" في لغة قطب ("الإسلامي" في لغتنا اليوم) يقوم على أن لله وحده القوامة والسلطة والحاكمية والربوبية والإلوهية، إذن ينبغي "تطبيق الشريعة"، وفرض السيادة الإسلامية. ومن يعترض على ذلك "كافر". والكلام على الإنسان الفقهي والشريعة كهندسة اجتماعية وجسدية كلية يقودنا إلى أن التصور المؤسسي للإصلاح الديني، وقد دافع عنه كاتب هذه السطور في غير مادة، لا يكفي. كما لا يكفي نفي الإكراه، وقد دافعت عنه أيضا. ثمة حاجة إلى تجديد فكري أصيل، قفزة في الفكر، تتيح اجتراح نظريات جديدة في التأويل وفهم الخبرة البشرية. أما التأويل بالمعنى الشائع فلا يكفي أيضا، وستكون التأويلات الجديدة دون قفزة فكرية تضمن اتساقها أشبه بثمار جديدة على أغصان يابسة. ولا مجال كذلك لاصطناع نظريات جزئية جديدة لأغراض تأويلية ضيقة، تقرب "الإسلام" من "العصر"، وتتكتم على عقائد وأحكام شرعية إسلامية متقادمة، على غرار ما نشهد لدى مفكرين إسلاميين مخلصين. ولست الآن على بينة من مضمون التجديد الفكري المأمول، لكني أسلم بإمكانيته، ولعله سيكون موضوع اشتغال لاحق.
الاعتدال المستحيل إذن، بينما قد يفضل الإسلاميون المعتدلون قراءة تحررية للإسلام، تقوم على أن "لا إكراه في الدين"، فإن هشاشتهم المؤسسية، الهشاشة المؤسسية للاعتدال، تجعلهم ضعفاء أمام المتطرفين. إن التطرف وحده يتفصد من التبعثر المؤسسي للإسلام، و"الوسطية الإسلامية" شظية منه. ويبدو لنا أن الاعتدال متعذر على أرضية الفكر الإسلامي المعاصر، بقدر ما إن هذا فكر طرف اجتماعي فحسب في مجتمعاتنا، لكنه مبني على توهم أن "الإسلام" حامل للإجماع ومستودع للكلية. إن الاعتدال أصعب بكثير من التطرف، وهو يحتاج إلى إبداع وتجديد فكري وثقافي، فيما التطرف هو ما يتولد "طبيعيا" عن حال الفكر والعمل الإسلامي اليوم. وفيما عدا السبب المؤسسي وطرفية الإسلاميين، ربما ينبع التطرف من واقع أن الفكر الإسلامي لا يعترف بالجدارة المعرفية لمفهوم الواقع، ولا بجدارة الإنسان، مطلق إنسان، بالحرية، ولا بكون التاريخ مكونا للطبيعة الإنسانية أو إن الطبيعة الإنسانية تاريخية. وهذا قضايا تستحق بعض التوسع، لكن لا مجال لذلك هنا. ويعتقد كاتب هذه السطور أن التدين الإسلامي بحاجة إلى إعادة هيكلة عميقة وشاملة، لا يمكن لأساسها أن يكون غير حرية الاعتقاد، أي كما لا نمل من التكرار، حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد وحرية الحيرة في الاعتقاد. وهذا في الواقع مبدأ لسلامة العقل وسلامة الاعتقاد معا. فالعقل لا يُسيغ فرض الإيمان بالقوة، أي بتوسل الخوف واللاأمن. هذا ليس لأن إيمانا يتحصل بالإكراه يخلعه المكرهون في أول فرصة، ولكن لأن إيمان غير الأحرار إيمان غير حر، مشوب بالعبودية وملوث بالخوف والاتضاع وبخس القيمة. وهل من ريب في أن أرفع الإيمان ما يكون اختيارا، وأدناه ما يفرض قسرا؟ وإذا كان ثمة كثير من الإسلام في مجتمعاتنا المعاصرة وقليل من الإيمان الحي، فلأن هذا لا يعيش دون حرية، فيما ألف "الإسلام" أن يعيش في غيابها. ألا نرى كثرة المسلمين وقلة بركتهم؟ ثم إن حرية الاعتقاد هي شرط الاعتقاد ذاته، شرط سلامته والإخلاص له. هذا بدهي إلى درجة أن الاجتهاد في إثباته أقرب إلى العبث. فالاعتقاد غير الحر ليس اعتقادا بكل بساطة. ولذلك فحرية غير المؤمنين هي معيار حرية المؤمنين، وحرية اللاتدين هي مقياس سلامة دين المتدينين. والمجتمع الذي فيه ملحدون هو ذاته المجتمع الذي فيه مؤمنون حقيقيون. فإن فقد الملحدون وغير المؤمنين حريتهم، فلن يقف أي حاجز دون تآكل حريات المؤمنين والتلاعب بها، وفقا لما يقرره من نصبوا أنفسهم وكلاء عن حاكمية الله. حرية الاعتقاد شيء لا تنازل عنه، لأن العقل ينهار من دونها. معلوم، على أية حال، أن أكثرنا مسلمون لأنهم وجدوا آبائهم على ملة الإسلام. ولربما فضل أكثر أكثرنا أن يبقوا على ملتهم، كانتساب أو كإيمان حي، لو كان لهم الخيار. لكن في هذه الحالة فقط يكون إيمان المؤمنين منهم قويا وانتساب المنتسبين متينا. معلوم أيضا أن الأحرار الذين يفقدون إيمانهم هم أنفسهم من قد يهتدون إليه. وفقدان الإيمان واستعادة الإيمان بعد ابتعاد عنه تجربتنا معتادتان في مجتمعاتنا المعاصرة. وتقتضي إعادة هيكلة الإيمان الإسلامي حول حرية الاعتقاد تجاسر العقل الإسلامي على التفكير المتحرر الذي ينفتح على موارد فكرية وفلسفية وأخلاقية وحقوقية متنوعة، ويجدد التفكير في مفهومي الله والفطرة، لكن مع التحلي بالفضيلة التي لطالما أطراها القرآن في المؤمنين: الصبر. الصبر من أجل ألا نخرج بتلفيقات فجة. هذه عملية لا غنى عنها، رغم أنها قد لا تعطي ثمارا قبل جيلين أو ثلاثة، أي ما ينوف على نصف قرن وما قد يستغرق قرنا.
"كونفدرالية دينية"؟! إذن، كيف ننظم حياتنا السياسية التي يتهددها اليوم العنف في ظل انقسامنا إلى إسلاميين ولا إسلاميين، إلى أمة مؤمنين وأمة مواطنين؟ حالة التفكير والتدين الإسلامي اليوم لا تقدم حلا متسقا ذاتيا ومنسجما مع الواقع. هناك نصف حل هو التمرين الذهني الذي نقترحه هنا: يعيش المسلمون المؤمنون في كيان مستقل ذاتيا، "يطبقون الشريعة"، ويعيشون نمط الحياة الذي يرتضون لأنفسهم، وتقر لهم الدولة بحق تطبيق ما يرون أنها حدود الله..(ولو كان في ذلك غض من سيادتها)، هذا بينما يعيش غير المسلمين وغير المؤمنين.. في إطار علماني تنتظمه قوانين وضعية، تكفل حرياتهم الدينية والسياسية. يتعلق الأمر بكونفدرالية دينية كما هو بيّن. وهي ليست ذلك الحل العظيم، إنها أفضل فقط من دولة يفرض فيها الدين بالقوة أو ينتقص فيها من كمال إيمان المؤمنين. وإن شئنا مصارحة إخواننا الإسلاميين فإن ولايتهم الإسلامية ستكون مثل ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، بلدا يعمل سكانه ما استطاعوا على الفرار منه، حتى لو أن أكثرهم اختاروه بحرية عند تأسيسه. وأول من يفر منه هم المؤمنون الحقيقيون، أولئك الذي يفوق البعد الروحي في دينهم البعد الرمزي المتعلق بالهوية، ويتفوق الإيمان لديهم على هوى السلطة. إذ أن الولاية الإسلامية ستكون مثالا لدولة بلا حرية. دولة كلها رموز دينية، لكن بلا دين حقيقي. سيرفض الشيخ القرضاوي نشوء ولاية إسلامية مستقلة ذاتيا ضمن كيان علماني، لأن الإسلام يقود ولا ينقاد، يعلو ولا يعلى عليه، كما يقول. الحل في هذه الحالة هو فرض الدولة الإسلامية بالقوة، ما يبيح القوة لخصومها ضدها، وما يجعل العنف حكما كما قلنا، وهذا واقع نعيشه أو نعيش التوجس منه اليوم. أو قد يكون الحل تقسيم بلداننا دينيا. دولة للإسلاميين، ودولة لغير الإسلاميين. وليس إلا مرجحا أن ينتج تقسيم الدول والمنافسات السياسية الدينية عن حروب دينية وصراعات طائفية وكوارث لا تحصى، أو يقود إليها، ويبدو أننا مقبلون على أفق كهذا، وقد تخال أحيانا أنه ما من شيء يتيح لنا تجنبه. والحال، لقد آل الإسلام المهيمن اليوم، بما فيه "الوسطية الإسلامية"، إلى قوة تمزيقية وعنفية بلا جدال بسبب هذا التعنت ورفض الاحتكام إلى منطق عقلي بشري مشترك. ونتوجس من أنه لا يزال أمام مجتمعاتنا الكثير من الكوارث قبل إصلاح دينها وعلاقتها به. هذا مؤدى تمرين للتفكير، ساقنا إليه حال الفكر الإسلامي اليوم كما قلنا، بالتحديد سعيه لإقامة "دولة إسلامية" ورفض إناطة حرية الاعتقاد بالأفراد. وما دمنا نمرن ذهننا، وما دام الإسلام حسب القرضاوي "يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم" (من "فقه الدولة..."، ص 90)، فلم لا نفكر في دولة تقوم على الحاكمية الإلهية، أو تدين السيادة فيها للإسلاميين، لكن فيها إقليما مستقلا ذاتيا تصان فيه حرية الاعتقاد؟ لنضرب صفحا عن أية مشكلات دولية تواجه الدولة التي يحكمها الإسلاميون، مشكلات ستتولد بالضرورة من التقاء لا ديمقراطية النظام الدولي مع عدم التزام الإسلاميين المحتم بمبدأ المسؤولية الدولية (لكونهم يمارسون سياسية عقيدية)، ولنفكر ما سيكون شكل العلاقة بين قطاعي الدولة، ذاك الإسلامي الذي له السيادة أيضا وذاك العلماني المستقل ذاتيا. إذا التزم الإسلاميون بـ"ميثاق" الدولة الكافل لاستقلال ذاتي للقطاع العلماني مؤسس على حرية الاعتقاد، فإننا نرجح بشدة أن يكون هذا القطاع أشبه ببرلين الغربية وسط ألمانيا الشرقية: مكان يتسرب إليه أكثر سكان "الجمهورية الإسلامية"، وليس دارا يقصدها "كل مؤمن يريد الهجرة إليها من ديار الكفر والظلم والانحراف" (القرضاوي، من "فقه الدولة..."، ص 21؛ ودار الشيخ القرضاوي هذا تشبه "إسرائيل إسلامية"؛ فنظيرتها اليهودية المعاصرة أيضا تجعل من نفسها وطنا لليهود في كل مكان كي يتحرروا من الظلم والانحراف واللاسامية!). فإن نصب حولها جدار عازل، فروا إليها بأحلامهم. وعلى أية حال، هذا يعود بنا إلى نموذج دولة الإكراه الاعتقادي والسياسي. وهو نقيض الافتراض الذي بنينا عليه المقال، والذي لا جدوى ولا معنى لنقاش متسق دونه. معلوم فوق ذلك أن دولة تقوم على الإكراه، دينيا أم سياسيا، هي دولة لا يطور سكانها ولاء حقيقيا لها، ويتحينون الخلاص منها، كما نعرف من نماذجها "العلمانية" القائمة. فالبديل عن دولة ذات قطاعين هو دولة تقوم عل العنف، وهو الوضع المدمر للدولة والدين والمجتمع، والذي يفترض أننا نعمل من أجل تفاديه.
دور قيادي للدين؟ كيف نتجنب هذا الأفق القاتم؟ أشرنا إلى الحاجة إلى تمثيل معرفي أكثر واقعية وتاريخية لأحوالنا الراهنة. نشير أيضا إلى نقطة أساسية: إذا قاد الدين، الإسلام أو غيره، المجتمعات المعاصرة فسوف يحطمها. الدين غير مؤهل اليوم للتعامل بمرونة وانفتاح مع المسائل الزمنية والعالمية التي تقتضي إدراكا مزامنا للمستجدات ووعيا متكونا بالتفاعل مع الواقع الذي يتعاطى معه. هذا تتفوق فيه أية إيديولوجية عصرية على أي دين، لأنها مزامنة لمشكلات الواضع المعاصر ومشاكلة لها ومتكونة معها ومجايلة لها. وهذا الإدراك ليس إلا "العقل"، هذا الذي يقرر الشيخ وهبة الزحيلي، أنه "لا يعد مصدرا من مصادر الفقه الإسلامي عند فقهاء الشريعة، لأنه لا يحقق العدالة والمثالية المطلوبتين في القانون ذاته" (تجديد الفقه الإسلامي، الدكتور جمال عطية والدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، إعادة طبع عام 2002، ص 164؛ جدير بالتنويه أن الدكتور عطية يعترض على رأي الزحيلي هذا). وهذا لا يعني أن الدين "يُقاد" أو "يعلى" عليه، بل إنه يجري في مضمار مختلف، ليس مضمار القيادة والسياسة، وإنما مضمار الهداية والإيمان والروح. ولا يصدر هذا الموقف، وهذه المناقشة ككل، عن فلسفة معادية للدين أو للإسلام وحده، بل عن تصور أن الطبقة الدينية من الوعي البشري قديمة، وتتعامل مع مستوى من وجود الإنسان وتشكيلات من خبراته وتجاربه مختلفة عن المستوى المتصل مباشرة بالشؤون والتغيرات الزمنية، والمتصف بالمرونة والنسبية والتجريب والتغير، والذي ينظر إلى هذه الصفات كأشياء إيجابية وقيمة، فيما هي من وجهة نظر الدين علائم نقص وقصور. الطبقة المزامنة للمشكلات الواقعية، "العقل"، هي الطبقة القيادية، التي تمكن المجتمعات البشرية من التوجه في التاريخ بالدرجة المناسبة من السلاسة. وهي قيادية بالضبط لأنها "سطحية"، و"وجودية"، أما السياسة الماهوية أو "سياسة الأعماق" فهي سياسة متهافتة ذاتيا، تحطم المجتمع المحكوم كما فعلت طالبان، قبل أن تتحطم هي أيضا. وبالمقابل الدين احتياطي روحي ومعنوي ورمزي لا غنى عنه، وقد يجري تسييله أوقات الغزو الخارجي أو الطغيان الداخلي العنيف، فإذا دام سيلانه أغرق المجتمعات وخربها. لذلك أيضا لا يصح تسييس الدين، وحين تسيسه الظروف القاسية فإن المصلحة، مصلحة الدين ومصلحة الدولة، تقتضي نزع التسييس عنه بأسرع ما يمكن. إن "ما هو صالح لكل زمان ومكان"، وفقا للقولة الشائعة عن المبادئ الإسلامية، لا يمكن أن يكون زمانيا ومكانيا، أي سياسيا وتاريخيا. هذا المحتفظ بصلاحية مطلقة متصل حتما بمطالب الروح المتعالية على التاريخ واختلاف المجتمعات. إذاً، كلا، الدين غير مؤهل للقيادة اليوم. ويأمل المرء أن لا نضطر لتجريب قيادته، لأنها ستكون باهظة الكلفة على الحياة البشرية وعلى الدين ذاته. كلا أيضا، وعذرا من الشهيد (بحق) سيد قطب، ليس "المنهج القرآني" الذي "صنع الأمة المسلمة أول مرة" هو الذي "يصنع الأمة المسلمة في كل مرة يراد فيها أن يعاد إخراج الأمة المسلمة للوجود كما أخرجها الله أول مرة" (أعتمد على نسخة إلكترونية). فلأن "المنهج" نجح أول مرة قبل 1400 عاما، فلن ينجح مرة أخرى. ولن "ينهض آخر هذه الأمة" بما "نهض به أولها". سيكون تجريب ذلك باهظا أيضا. إن تخصيص الشيخ القرضاوي "للإسلام" بالقيادة والعلو يذكر بالدور القيادي الذي كان الحزب الشيوعي السوفييتي خص نفسه به، وتبعته فيه الأحزاب الشيوعية في كل مكان. والدور هذا في الحالين "قبلي"، غير قابل للاختبار موضوعيا؛ إنه شيء "يفتي فيه الإسلام لنفسه" كما كانت تشهد به الشيوعية لذاتها. وليس إلا بديهيا إذن أن يتشكك "الإسلام" والشيوعية بالديمقراطية. بدلا منها ثمة الحاكمية الإلهية ودكتاتورية البروليتاريا، أو الدكتاتورية الدينية وحاكمية الحزب الشيوعي.
تواطؤ علماني إسلامي! يبقي أن الفكر السياسي الحديث في ديارنا، والإسلامي منه، مدعو إلى الاشتغال على التمييز بين أمة المؤمنين وأمة المواطنين، الأمة السياسية والأمة الدينية، في وصفه الأساس الذي تقوم عليه السياسة والدولة العلمانية. إن تمايزهما الواقعي قائم، يحجبه النقاش حول الدين والدولة والعلمانية أكثر مما يظهره ويجلوه، وتستفيد منه النظم الاستبدادية أكثر من أي طرف اجتماعي آخر في بلداننا. ومن شأن أية سياسة أو نظام سياسي يغفل واقعة التمايز هذه أو يرفض أخذها باعتباره العملي أن يكون دكتاتوريا بالضرورة. فشريعة أمة المؤمنين لا يصح، عقلا وخلقا وسياسة، أن تكون قانونا لغير المؤمنين. وكلام القرضاوي على "جنسية إسلامية"، المأخوذ بدوره عن "معالم في الطريق" لسيد قطب (وهو نظير سلامي لكتاب لينين "ما العمل؟"، وستكون المقارنة بين الكتابين جمة الفائدة)، لا يستقيم إلا إذا قامت دولة مؤمنين تمتحن عقائد أفرادها وتسقط جنسيتها عمن لا يتفق معها، هذا إن لم تعدمه. فكرنا السياسي مطالب أيضا ألا يستعجل تلفيق حلول لمشكلاتنا الدينية السياسية المعقدة. هناك فجاجة في الطرح العلماني السائد. فجاجة فكرية وسياسية وثقافية ورمزية. منبعها هو اعتبار الدين شأنا يخص المتدينين وحدهم، وأنه يكفي أن ينصرف الدين عن الدولة كي تنحل المشكلة. هذا خاطئ. فإذا كان التصاق الدين والدولة واقعا محققا كما تقرر للعقيدة العلمانية المتداولة فإن فكهما القسري عن بعضهما، دون إعداد تمهيدي صبور، يمكن أن يكون داميا ومخربا لهما معا. وجوهر هذا الإعداد هو "إصلاح ديني" يطور استقلالية الدين وقابليته الانفصالية عن الدولة، ويقوي شخصيته فيجعله أمنع على الاستخدام السياسي. ويرصد المرء في هذا الصدد "تواطؤا موضوعيا" بين العلمانيين والإسلاميين. إذ يرفض الطرفان معا الاشتغال على الدين. الأولون لأنهم مكتفون بفصل الدين عن الدولة وليكن بعد ذلك ما يكون، والآخرون لأن "الإسلام" لا يشكو من شيء عندهم وهو "مستغن بذاته عمن سواه"، على رأي شيخنا القرضاوي. يشترك الطرفان أيضا في اعتبار الدين شأنا يعني المتدينين وحدهم. لكن لا. الدين، الإسلام، شأن يخص جميع المشتغلين بشؤون العامة، الثقافية والسياسية والأخلاقية والدينية. ويتعين أن يكون الجميع معنيون بتطوير مقاربات جدية، ناضجة، راقية، لتنظيم حياتنا العامة على أسس تضمن استقلال السياسة والدين والثقافة عن بعضها. وهو ما يقتضي نقد السيكولوجيا العلمانية السائدة التي تتقلب بين موقفي القنوط والعدوانية حيال الدين، وهما موقفان يصدران عن ضعف الثقة بالنفس عند العلمانيين، ويشتركان في البرانية حيال الدين ورفض التفاعل معه. التعاطف في مقاربة الشأن الديني مطلوب، لا يتقدمه غير مطلب استقلال الذات عن الدين كموضوع. إن المواقف الانفعالية والنزقة، ضد الدين أو معه، تفسد النقاش العام وقلوب أصحابها، ولا تفيد في إصلاح الدين أو مساعدته على إصلاح ذاته. لكن الغمغمة والتشويش وتجنب الوضوح لا تفيد أيضا. لا مفر من انفصال الدولة عن الدين والدين عن الدولة. لكن الأرجح أن هذا ثمرة جهد فكري وسياسي وثقافي كبير وليس "الحل" الجاهز. ولعل ذلك وحده ما سينقذ "الإسلام"، عكس ما يخشى الإسلاميون، وعكس ما يأمل العلمانيون المذهبيون. وقد يكون الانفصال ضحكة التاريخ الأخيرة، ساخرا من جزع الإسلاميين على دينهم ومن لهفة العلمانيين على عزله في آن معا.
من أجل ثقافة متسقة وقوية الشخصية كان سائقنا في هذه المقالة هو طلب الاتساق الفكري والأخلاقي. لا يستقيم المنطق القرضاوي والقطبي إلا بحذف الواقع والتاريخ والحرية، إلا بافتراض أن الإنسان روبوت تقي، قابل لبرنامج اسمه "الإسلام". ومما نعرفه من تجارب القرن الفائت، ومن خبرة شخصية ضئيلة، فإن الإنسان قابل للبرمجة فعلا، أكثر من أي كمبيوتر، لكن ليس دون استئصال جذري لحريته، ودون أن يمسي وغدا حقيرا لا أخلاق له. لكن قد يقال إن المهم ليس ما يقوله الإسلاميون، بل ما يمارسونه أو يضطرون إلى ممارسته بفعل ضغوط متعددة المصادر، من نظم الحكم القائمة، من قوى اجتماعية وسياسية وفكرية مغايرة في مجتمعاتنا، من ما يقضي به منطق السياسة، من الغرب، من "العصر". قد يكون هذا صحيحا، لكنه خطأ كبير فيما نرى إذا كان المقصود به أن نقد الإسلامية المعاصرة عديم الأهمية. والحال، إذا كنا ننتقد الفكر الإسلامي اليوم فلأننا نصبو إلى الاتساق، الاتساق الذاتي لتفكيرنا، وإدخال شيء من النظام والاتساق عل الواقع. هذا شغل المثقفين الذي يعرف هويتهم. إنهم معنيون بعقلنة الواقع، بجعله شفافا، ما يعني بالضبط جعله يمشي على رأسه لا على قدميه، إن حاكينا لغة هيغل. بلى، يمكن أن "يعتدل" الإسلاميون في الممارسة، لكن هذا اعتدال بخس، ذاتي، من نوع اعتدال الشيخ القرضاوي، فيما يبقى تكوينهم وتفكيرهم متطرفا. هذا التكوين هو ما يولد منظمة "القاعدة"، وما يجعل الإسلاميين "المعتدلين" عاجزين عن نقدها نقدا صريحا وعلنيا. لو واكب فعل التطورات الواقعية الذي لا نستهين به فكر واع لذاته ولموضوعه (الإسلام..)، أما كان ولادة تشكيل كالقاعدة متعذرا؟ أو أسهل إدانة على الأقل؟ ثم إننا لا نتحدث عن الواقع كقوة عنيدة، تجبر العناد البشري على اللين؛ نتحدث عنه بالأحرى كشرط يتعين أن يدرك وينار وينظمه الفكر ويضبطه، كموضوع للعقل يتفاعل معه وينضبط به الفاعلون العامون، نحن والإسلاميون وغيرنا، فيغدو "عقلا موضوعيا". لكن من يدافعون عن الاعتدال الذي يفرضه "الواقع" ويبادر إليه، لا يعنون الواقع العقلاني والشفاف والواعي بذاته هذا، بل اضطرارات برانية ومؤقتة، تلزم بسلوك معين، لكنه قد ينقلب في أي وقت إلى نقيضه. أما انتقاد الفكر الإسلامي المعاصر وكشف اعتباطه وتناقض منطقه واقتضائه للعنف وفقدانه للاتساق الذاتي وتعارضه مع الواقع المعاين.. فهو ما يمكن أن يسهم في جعل الاعتدال الاضطراري اعتدالا اختياريا وغير عكوس. بعبارة أخرى وأخيرة، يتعين أن ينفتح نقد الإسلاميين على تكوين ثقافة جديدة، أرفع مستوى وأكثر اتساقا، كي يمكنه أن يسهم في صنع الاعتدال وتنشيط حياة عامة، سياسية وعقلية، مستقرة وقابلة للتطور في مجتمعاتنا المعاصرة.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في أصل خراب الديمقراطية والوطنية في المشرق
-
تقييم ائتلاف -إعلان دمشق-
-
في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين
-
هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن
...
-
بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
-
علمانيون، ديمقراطيون، وإسلاميون؛ لكن أين الأمة؟!
-
أفكار في شأن العنف والهيمنة والمعرفة
-
تصور أولي للمشكلة الدينية والإصلاح الديني
-
أيام مشكلة الدولة ولياليها في المشرق العربي
-
-أمة وسط- في المشرق؟!
-
هل العلمانية ممكنة في بلد واحد؟
-
تراجع السياسة الوطنية وصعود السياسة الأهلية
-
تحقيب تاريخي بلا تاريخ: تعقيب على تعقيب بكر صدقي
-
في شأن مشكلات العرب الواقعية ومشكلتهم الثقافية
-
الإصلاح السياسي وإعادة بناء الهوية الوطنية في سورية
-
بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..
-
نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المع
...
-
أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
-
حين تكون المذابح أداة سياسية.. السياسة تموت!
-
في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة
المزيد.....
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|