منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، تتعرض البلاد لعملية نهب منظم مترافق مع سياسة تطويع لكل مكامن القدرة في المجتمع، للحؤول دون أي اعتراض أو ممانعة، من شأنه أن يعيق العملية الجهنمية التي تنفذها قوى الأمر الواقع السورية اللبنانية عبر السلطات المتعاقبة، والتي أدت الى نهب الثروة الوطنية، ومدخرات اللبنانيين، بواسطة سياسات ضريبية عدوانية، تركزت مفاعيلها على الطبقات الوسطى والفقيرة، وعبر العبث في كل القطاعات المنتجة، وقطاعات الخدمات، خدمة لمصالح النافذين في تحالف قوى الأمر الواقع، ما ولّد ثروات هائلة لدى عدد واسع من رموز السلطات المتعاقبة، ومن يدور في فلكهم، بالاضافة الى نسب عالية ذهبت لصالح حماتهم.
ولقد افترض هذا الأمر نهجا عدوانيا، تجاه مؤسسات الدولة الرقابية، وخاصة القضائية، بالاضافة الى تطويع المؤسسة التشريعية، بوصفها المؤسسة الأهم، والمفترض بها والموكل إليها التعبير عن إرادة الشعب اللبناني، وحماية الدستور والقوانين ومصالح البلاد.
وبالترافق مع هذه السياسة الاستباحية تجاه مؤسسات الدولة المتعددة، وتدمير مفهوم المصلحة الوطنية والصالح العام، عملت الجهات نفسها، على شل إرادة المجتمع عبر شتى أنواع القمع والضغط، طاولت الحياة السياسية، والمجالات الاعلامية والثقافية والنقابية، بالاضافة الى انتهاج خيار ثابت مولد لكل أنواع التطرف والانقسام، ومانع لكل احتمالات ومحاولات إنتاج الوفاق الوطني، كسبيل لتفعيل وتقوية العامل الداخلي، ما من شأنه توفير الظروف الموضوعية لتمكين الشعب اللبناني من تقرير مصيره، وإنتاج خياراته النابعة من مصالحه الوطنية والاجتماعية.
إن جملة من العوامل الاقليمية والدولية، حولت الدور السوري في لبنان الى نوع من الوصاية أو الانتداب المتفرد والمطلق. ومن هذا الموقع تمكن من صياغة السلطة وتشكيلها من مجموعة من القوى والشخصيات، أسلست القياد له دون أي اعتبار لا للدستور، ولا للقوانين، متجاوزة في ذلك المصالح الوطنية، وبالتأكيد مصالح غالبية الشعب اللبناني، معلية شأن تقاطع مصالح الوصي مع مصالحها الخاصة.
وهذه الملاءمة جعلت منها قوة سيطرة قهرية، أقرب لمفهوم المافيا منها لمفهوم سلطة دولة.
إن مجمل هذه العملية، دفعت الوطن والشعب الى مهاوي الخطر، وأعادت البلد الى واقع كونه ساحة وورقة مساومة، عبر اضطراره اتباع سياسات لا تتوافق ومصالحه الوطنية، وعبر تعريض اقتصاده لأسوأ عملية نهب أوقعت البلاد تحت عبء مديونية مرهقة. ومجمل ذلك تسبب بأخطر ظاهرة ديمغرافية، يخشى أن تكون غير قابلة للاستلحاق، عنيت الهجرة الكثيفة لأبنائه وخاصة في صفوف الشباب، وتحديدا من أصحاب الكفاءات والمهارات، والتي كان من المفترض أن تلعب دورا كبيرا في إعادة إنتاج واقع جديد بعد حرب أهلية مديدة.
إن أية قوة سياسية متعالية على المصالح الخاصة والحسابات الذاتية، ومعلية لشأن المصلحة الوطنية، ومصلحة غالبية الشعب اللبناني، لا يمكنها إلا أن تضع أولا وأولا، ودون ثانيا، مهمة إنقاذ الوطن، وتخليصه من براثن قوى الأمر الواقع، عبر تحديد موقعها الواضح الى جانب المجتمع، وفي مواجهة هذا التحالف، وخاصة مواجهة مكمن قوته، عنيت الدور السوري والوصاية السورية.
إن الشعب اللبناني أبدى استعدادا كاملا لتحمل تبعات الحرب، والنهوض بالإعمار، وتجديد الاقتصاد، ولكن السلطة استغلت استعداده وتضحياته، لتقوم بأوسع عملية نهب منظم سواء للمال العام المقتطع من مال اللبنانيين الفقراء ومتوسطي الحال، عبر ما يسمى الضرائب، بالاضافة الى استباحة ملكيات الدولة وخيراتها، بالاضافة الى تسخير القوانين لما فيه خدمة مصالح قوى الأمر الواقع المسيطر. ورغم كل هذه التضحيات الطوعية والاضطرارية، ولمزيد من العدوانية والكره، فإن الحد الأدنى من عائدات الضرائب لم يستخدم لصالح غالبية المكلفين. ولهذا السبب تواجه المؤسسات الرعائية، التي من المفترض أن تهتم بالجوانب الرئيسية لحياة الناس، تواجه خطر الاضمحلال والانهيار. الضمان الاجتماعي في خطر. الرعاية الصحية في خطر. التعليم الرسمي بكل مراحله الثانوية وخاصة الجامعية يكاد ينهار. مؤسسات القطاع العام منهوبة، وتواجه أزمات واحتمالات انهيار، أو سياسات تخصيص عالي الكلفة كما الحال في الكهرباء والاتصالات. هذا بالاضافة الى استباحة أملاك الدولة أي أملاك الشعب تحت عنوان الأملاك البحرية والنهرية الخ.. من أمثلة تتوالى كل يوم، وتظهر عمق مفاسد أهل التحالف الحاكم، ومدى عدائهم لمصالح اللبنانيين.
إن واقع هذا الوطن لم يعد مفيدا، لا لمواجهة العدو، ولا لنصرة صديق، وطبعا هو مأساة قائمة لأهله. أما الشعارات الحماسية، والمقولات الخشبية لألسنة السلطات في السلطة، فلا تعدو كونها أصواتا عالية ومبحوحة، ولن تضر لا بإسرائيل، ولا بأميركا. وحبذا لو أنهم أقلوا من شعاراتهم وخطاباتهم، وزادوا، ولو قليلا، منسوب الأمانة لمصالح الشعب، ولاحترام إرادته. فذلك كان ليشكل مساهمة جدية في قدرة البلد على مواجهة الأعداء، وخدمة الجيران والأصدقاء. ومتى كان شعب مستنفد ويائس بقادر على مواجهة التحديات؟
إن ما آلت اليه أوضاع البلاد، لا يمكن أن يسمح بتبرير أو طمس حقيقة الواقع ومسبباته، وأي قوة تزعم التغيير، إن لم تحدد موقعها في مواجهة هذه المسببات، فهي تتحول مهما بلغت فصاحتها الى قوة متواطئة ضد التغيير.
من هذا المنطلق، أقرأ واقع القيادة الرسمية للحزب الشيوعي، أقرأه من خلال الممارسة الطويلة، ومن خلال النصوص المؤتمرية وغير المؤتمرية.
مبكرا كان يفترض بالحزب الشيوعي إجراء مراجعة نقدية شاملة لتجربته، وللمفاهيم التي استندت اليها فكرا وسياسة وصيغا.
ذلك لم يحصل، ما أبقى وعي الشيوعيين ووجدانهم وبعضهم يعيش في حالة من الفوضى والضبابية والتشتت، ويبدو ان ذلك كان مطلوبا، ليسهل للقيادة مساعيها الدؤوبة، للدخول الى مجموعة قوى الأمر الواقع. فمنذ التعيينات النيابية وحتى اليوم، لم تتوقف المراهنات، ولم تتوقف المساومات، ولم يصر الى تحديد الموقع بوضوح تسهيلا لبقاء باب الفرص مفتوحا. ويقال لك: لكننا لم نساعد للدخول، والمحصلة أننا خارج جنة بوطة العائلة السعيدة المولاة.
وألف مرة قلنا لهم ان المأساة هي في قبولكم المتكرر أن تكونوا مرفوضين لا رافضين ولكلا الخيارين تبعات: الأول يبقيك على لائحة الانتظار والثاني ينقلك الى موقع شعبك المتضرر، ينقلك الى الوضوح والمواجهة. الأول يبقيك ضمن مناخات اصطفافات الحرب الأهلية وخارج موقع الصراع الواضح مع تحالف قوى الأمر الواقع وسلطاته المتعاقبة والمتماثلة في سياساتها العدوانية تجاه المجتمع اللبناني.
ومما لا شك فيه، أن الموقع الملتبس لقيادة الحزب، أدى الى خسارة قوى التغيير في المجتمع مواقع مهمة للمواجهة. ألم يؤد ذلك الى خسارتنا للنقابات، وساهم بتسليمها الى براثن المخابرات؟ وقبل ذلك ألم يخرجنا من موقع المقاومة؟ كما أنه أخرجنا من موقع الثقافة والمثقفين ومن اتحاد الكتاب، ومن الموقع الاعلامي، ومن الدور التاريخي في الدفاع عن الحرية والديموقراطية وحقوق غالبية المجتمع وحقها في جو من العدالة الاجتماعية. أما عن السيادة الوطنية وسياسة الوفاق وترجيح كفة الاعتدال وتحديد دور القوى الأمنية، وخاصة الجيش، ودوره في الحفاظ على السيادة، وحماية الحدود الدولية للوطن، فأمور حدّث فيها ولا حرج. وكلها من تبعات عدم الجرأة على مراجعة المفاهيم من جهة وإضمار الرهانات من جهة أخرى.
أما في مستوى نقد النص ولكي لا يطول الكلام فسأعمد الى اقتطاع فقرة من موضوعة رئيسية أسمتها وثيقة المؤتمر التاسع: <<إشكالية بناء دولة ديموقراطية وعصرية في ظل نظام طوائفي>>.
تقول الفقرة: <<من هنا نقول إن العائق الأساس في وجه قيم الدولة التي نريد هو عائق بنيوي داخلي سياسي، وعلى وجه التحديد هو النظام السياسي الطوائفي، والمتمسكون به والمنتفعون منه وليس سوريا>>.
أما ان من عوامل إعاقة بناء دولة علمانية أو لا طائفية، فهو الوعي الطائفي والمكونات الطائفية للمجتمع، فذلك أمر بديهي ويقتضي المعالجة، وإيجاد الآليات المتدرجة الناجعة لمعالجة شاملة لكل النظام اللبناني، بأبعاده الطائفية والزبائنية. ولم يعد مجديا بتاتا ممارسة هواية استنكار الطائفية بصفتها وباء خارجيا، لا يجوز التعامل معها أننا مطالبون أن نسد التقصير التاريخي في فهمنا للمسألة الطائفية في لبنان، وذلك لن يتأتى من خلال الإبداع باقتراح الدولة العلمانية كبديل. إن القوى العلمانية التغييرية العقلانية مطالبة بمعالجة معقدة لهذه المعضلة، وذلك عبر رسم آلية متدرجة تكلمنا عنها بالتفصيل في وثيقة <<قوى الاصلاح والديموقراطية>>.
هذا جانب من المسألة، أما الجانب المطلوب تسريبه من خلال المقولة العلمانية الطهورية، فهو إعفاء سوريا من المسؤولية، مسؤولية الحؤول دون بناء الدولة، وذلك عبر الفصل بين المنتفعين والدور السوري. والطفل في لبنان يعلم أن سادة السلطة الطائفية في لبنان، هم نتاج الإرادة السورية. والانتفاع الأول والأساسي هو انتفاع النظام السوري، وليس الشعب السوري، وفي المرتبة الثانية انتفاع شركائه المحليين. نحن لا نقول إن السيادة والاستقلال وصفة سحرية، ستحل كل معضلاتنا، ولكن مما لا شك فيه، اننا لن نتمكن من القيام بمهمات الاصلاح السياسي والاقتصادي، ما دام هذا النظام محميا من قوى الأمر الواقع. وهل مستحيل علينا العمل، وبشكل متلازم زمنيا وبرنامجيا، في مواجهة قوى وسياسات كل أطراف تحالف الأمر الواقع، وتحديدا القوة الأكثر تأثيرا وحسما لخيارات السلطة؟ لماذا دوما نحاول تجنب الخيار في مواجهة المسببات الحقيقية؟ علما أن المسبب لا يترك لنا الخيار في تجاهله، نظرا لحضوره في كل تفاصيل الحياة السياسية والنقابية والقضائية والادارية للواقع اللبناني.
ويتابع النص ليقول: <<والقول هذا لا يعفي سوريا من مسؤولية إعاقة تطبيق الطائف تطبيقا سليما بحيث يشكل خطوة نحو بناء مثل هكذا دولة>> (أي الدولة المناسبة).
وكان قد سبق هذا الكلام، وفي نفس الموضوعية، كلام آخر يقول بالنص الحرفي: <<وليس صحيحا ان العلة تكمن في التطبيق فقط، بل انها تكمن في نص الطائف وصيغته وهذه محكومة بالفشل>>. دعنا من التناقض بين المقولتين، ألا تحاول المقولة الأولى توجيه دعوة صريحة للدور السوري الى الانخراط العضوي مجددا في تطبيق الدستور؟ علما أن خير ما أتى به دستور الطائف، هو إيقاف الحرب، والنص على تنظيم الخروج السوري من لبنان. ولا يكتفي الرفاق بهذا الحد من إجازة الدور، فيذهب بهم التخيل الحالم تجاه الدور السوري، الى إمكانية المساهمة في تطبيق الطائف تطبيقا سليما، ما من شأنه ان يفضي الى بناء الدولة المنشودة. ولقد سبق هذا القول في المؤتمر الثامن دعوة صريحة بصيغة عقوبة، لكن سوريا لم تنصر القوى العلمانية، وفضلت عليها القوى الطائفية. وكل هذا المنطق يوصل الى طاحونة الرضوخ للوصاية، مع تمن ورجاء في ترشيد هذه الوصاية، لتكون في صالح العلمنة، وبشكل أدق لصالح القوى العلمانية! وهل يعقل ان يتقدم حزب يساري تغييري ويزعم أنه ديموقراطي، أن يتقدم من أعضائه بمقولات تجيز هذا المنطق للتغيير؟
ألم يتعظ الرفاق بعد من تجارب النظام العربي العلمانية الانقلابية؟ ألا يكفينا المثل العراقي حيث تفجر الواقع وكما هو اليوم بعد ثلاثين عاما من حكم البعث العلماني القومي الثوري؟
لم يعد جائزا تمرير المفاهيم عبر دمج الغث بالثمين، والصراع في البلد لا يجوز تصويره وكأنه صراع بين علمانيين وطائفيين. الصراع هو صراع مصالح وليس صراعا <<ايديولوجيا>> مجردا، و<<الطائفيون>> ليسوا جوهرا واحدا و<<العلمانيون>> ليسوا <<جوهرا>> واحدا. الصراع هو صراع سياسي على قضايا ملموسة، واحدة منها قضية الاصلاح المتدرج للبعد الطائفي في النظام، من خلال جملة من الاصلاحات السياسية ومن خلال تعزيز الديموقراطية، وتطوير دور السلطة القضائية وتعزيز التعليم الرسمي، وتخفيف حدة الظلم الاجتماعي، ولكن ذلك كله مشروط بتغيير ميزان القوى الراجح حاليا لصالح تحالف قوى الأمر الواقع السورية اللبنانية على حساب المجتمع اللبناني وعلى مصالح غالبية الشعب اللبناني والشعب السوري.
لم يعد جائزا فك الترابط بين البعد الوطني والبعد السياسي الديموقراطي والبعد الاجتماعي، السيادة هي الشرط الضروري للديموقراطية، وهي الشرط الضروري للإصلاح السياسي، وهي الشرط الضروري للعدالة. وهذا لا يعني أنها تتضمن الأبعاد الثلاثة. ولكن من دونها كيف يمكن لشعب ان يعبر عن إرادته وعن مصالحه وعن حقوقه؟ وكل كلام عن نسبية السيادة في عصر العولمة لتبرير انتقاصها القائم لا يعدو كونه سفسطة تبريرية، فبقدر ما تكون الدولة انعكاسا ديموقراطيا لمحصلة إرادة المجتمع، بقدر ما تكون حامية لمحصلة توازن المصالح في المجتمع. أما حين يفقد المجتمع حقه وقدرته على الاختيار بفعل ظروف قاهرة، فلا بد له من العمل لإزالة هذه الظروف بالأشكال المناسبة لتحقيق أهدافه. ولو أن المقام يسمح لتناولت نصوصا حول الموضوعات العربية حيث تعاود قيادة الحزب تركيز اهتمامها على بناء تحالف عربي شامل من كافة القوى والأطراف القومية والوطنية، دون ان يحدد مواقعها. وذلك في خدمة مقاومة عربية شاملة، ولإعادة الاعتبار الى شعار الوحدة العربية. لم ينس الرفاق شيئا ولم يتعلموا شيئا. ومن أين يأتيهم ذلك، وهم لا يتركون مناسبة إلا ويرددون أن الحياة أثبتت صحة خطهم ومقولاتهم. ولمن لا يرغب في التصديق، فليراقب حجم فاعليتهم وفاعلية زملائهم في الجبهات الوطنية الحاكمة!
ولماذا لا يتفضل الرفاق ويحددون لنا من هي <<كافة>> ومن هي <<القوى القومية>> ومن هي القوى الوطنية؟ وماذا كانت تفعل <<كافة>> طيلة أكثر من ثلاثين عاما؟ وهل يريد الرفاق أن يجددوا لها ثلاثين عاما أخرى لإنجاز التحرير وإنجاز الوحدة الفورية الشاملة القائمة على أساس الديموقراطية والتنمية؟
أتساءل هل يعقل ان تعود قيادة الحزب الى مثل هذه المقولات البالية؟ علما أنهم وقبل أن يحددوا مثل هذه الخيارات، يسردون سبحة من النعوت بحق النظام العربي من عجز وتخلف وامتهان هزائم، حتى إنهم يؤكدون سقوطه التاريخي! وبعد كل ذلك وبلهجة حازمة، يؤكدون على خيارهم بالعمل مع <<كافة القوى القومية والوطنية>>.
إنه الفصام نفسه، الذي يمارسونه في سياساتهم الفعلية على الصعيد اللبناني، سياسات مليئة بالاستدراكات والاسترضاءات المرمزة التي تشوش الوعي العام ويفهمها صاحب العلاقة.
إن هذا الخطاب <<المستعرب>> <<القومجي>> و<<الوطني>>، هو ما يسمونه يسارية في مواجهة المفهوم الجديد لمقولة الانتماء العربي بصفته انتماء حضاريا لا تتوافر فيه مواصفات الوعي الانتمائي الى أمة واحدة، وهو بحد ذاته عامل إيجابي، لو قوبل بمفاهيم عقلانية وغير استيهامية وبسياسات واقعية موضوعية وديمقراطية، تعيد الاعتبار للديمقراطية وللتكامل المصلحي بين الدول العربية، بديلا لديماغوجية الشعار الذي يستر خلفه الطموحات القطرية نحو السيطرة وإسباغ المشروعية الايديولوجية الوحدوية عليها.
كان بودي تجاوز <<المغص>> الداخلي الذي يعصف في أوساط القوى المتصارعة على <<السلطة الحزبية>>، بين القيادة الرسمية وبعض الرموز غير الراغبة في تحولها الى رموز، خاصة أننا في قوى الاصلاح والديمقراطية، رغم أننا لم نعلن أننا تحولنا الى حزب آخر، وإنما قلنا اننا نود أن نكون شركاء في التفكير في عمل تأسيسي لليسار يساهم في إعادة تجديد دوره، رغم عدم إعلاننا ما تفضل ونسبه لي الرفيق سعد الله مزرعاني مع حفظ الرتب والألقاب عن واقع تحولنا الى حزب، فإننا اتخذنا خيار عدم المشاركة في أعمال المؤتمر التاسع لكون القيادة أفشلت الحوار، وأفشلت الحد الأدنى من مستلزمات تحول المؤتمر الى حدث يخدم الهدف الموكول إليه، وذلك من خلال إيجاد السبل والخيارات الكفيلة بإخراجه من أزمته، ليصبح حزبا مفيدا للمجتمع والوطن. وبديلا لهذا الهدف تحول المؤتمر الى ساحة عراك تحكمها <<التطبيقات>> و<<الصفقات>> والنوايا المبيتة خالية من أي نقاش فكري أو سياسي، يعمل الفرقاء المتزاحمون على أبشع نوع من الشحن العصبي المتزمت. ولهذا السبب، ورغم ابتعادنا عن حلبة صراعهم، فألسنتهم لا توفرنا وتستحضرنا عبر المقالات المتجلببة شكلا بالهدوء والموضوعية، وضمنا وفعليا مليئة بالاختلاقات والتشويه، أو عبر المداخلات المكتوبة والمقروءة في المجلس الوطني، وتحديدا في الاجتماع الأخير له، والذي أريد له ان يحاسب الرفيق جورج حاوي مع حفظ الألقاب، فما كان منه إلا ان سلط هجماته علي ناسبا إليّ كلاما مفاده أنني قلت: إن رستم غزالي قد استدعى جورج حاوي وأملى عليه المبادرة وطلب منه تسويقها...
وواقع الأمر أنني لم أهتم بالمبادرة، ولم أتكلم عنها، ولكنني قرأت في جريدة <<السفير>> مقابلة للرفيق جورج يسرد فيها هو شخصيا آلية مبادرته، ويتكلم عن العميد رستم غزالي وعن اتصاله بالقصر الجمهوري لترتيب موعد له وغير ذلك من أمور لست مهتما ولا معنيا بها. وبالعكس من ذلك فإنني مستعد لتفهم الرفيق جورج فيما لو كان هجومه عليّ يفيده في صراعه الداخلي ويوفر له رضى أهل القيادة عليه أو بعضهم على الأقل.
وفي كل الحالات، فهذا النوع من السلوك ليس جديدا لدى جورج حاوي، لا في حياته الحزبية، ولا في حياته العامة. ولست الشاهد الوحيد على ذلك. وبهذا المعنى فهو وسعد الله مزرعاني وبقية المتنافسين متعادلو الكفاءة، ويتمتعون <<بمرونة>> لا حدود لها في التكيف مع الوعاء الحاضن لهم. لقد نأينا بأنفسنا عن صراعكم لاعتبارات تكلمنا عنها كثيرا، فما بالكم تلاحقوننا رغم زعمكم أننا معزولون ولا نمثل إلا قلة قليلة من الناس؟ إننا مصرون على عدم المشاركة في صراعكم غير المشروع وغير المفهوم، خاصة أنه تكرار لمحاولات مشابهة في مؤتمرات سابقة لم تجلب للحزب إلا المزيد من التهميش العام، والتشوه الداخلي. وفي كل مرة ترمون عجزكم على المعارضة الحزبية، ويفترض بنا أن نقدر لكم هذا الإبداع في علم المسؤولية، حيث تصبح <<السلطة>> ضحية المعارضة، ولكن وأمانة لبراءة الاختراع، فعليكم الاعتراف باستعارتكم هذا الاختراع من منطق السلطة اللبنانية التي تحمّل المعارضة دوما مسؤولية الانهيار الذي تسببت به لواقع البلاد، بفعل احترافها سلوك الفساد والاستباحة لحقوق المجتمع غير عابئة بأية محاسبة، طالما أنها مطمئنة لحماية اليد التي حملتها لمرابع السلطة.
()عضو تيار الاصلاح والديموقراطية