|
في أصل خراب الديمقراطية والوطنية في المشرق
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2014 - 2007 / 8 / 21 - 10:47
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ثمة مسلمة ضمنية غير مفحوصة في الدعوة الديمقراطية التي هيمنت في أوساط المثقفين والناشطين العرب منذ أكثر من ربع قرن: إن التطابق بين الديمقراطية والوطنية مسألة بديهية لا إشكال فيها، أو إن بلداننا الراهنة أطر طبيعية للتحول الديمقراطي. والحال، يبدو ذلك تبسيطيا في أحسن الأحوال، وخاطئا بالمرة في أسوئها. يبدو كذلك أنه يصدر عن افتراض أن بلداننا تعاني من مشكلة الاستبداد فقط، وأن هذا استبداد محض، محايد وطنيا واجتماعيا. ليس الأمر كذلك. طوال عقود كان لبنان البلد الديمقراطي العربي الوحيد. لكن الديمقراطية اللبناني عانت على الدوام من آفتين خطيرتين: انقسام اللبنانيين، وقد تفجر صراعا أهليا عنيفا غير مرة؛ والحضور الكثيف لقوى خارجية قريبة وبعيدة في الشأن اللبناني، وهو ما يعبر عنه بكلمة "ساحة" التي لطالما استخدمها لبنانيون وغير لبنانيين في وصف البلد الصغير. وفي المجمل كان اندماج اللبنانيين الوطني من جهة، واستقلال بلدهم بشؤونه وعن غيره من جهة أخرى، كانا منقوصين بشدة. هذه حالة عدم توافق بين الديمقراطية والوطنية نكتفي هنا بتسجيلها. سورية، جارة لبنان وشبيهته في أمور عديدة، سلكت طريقا سياسيا مختلفا. حاز البلد على تماسك سياسي ظاهري لا يقارن بنظيره اللبناني. وفي الوقت نفسه كان حضور القوى الخارجية في الداخل السوري معدوما. لكن، بالمقابل، كان النظام السياسي في سورية، الذي لطالما فاخر بوطنيته ("الوحدة الوطنية" والاستقلال عن القوى الخارجية) بعيدا عن الديمقراطية بأي تأويل لها، وغرق طوال أزيد من عقدين في آخر القرن السابق في طغيان دراكولي مخيف. كان العراق قبل الاحتلال الأميركي من نموذج سورية. استقلال عن الخارج وانفراد بالداخل يسمى "وحدة وطنية" أيضا. كشف الاحتلال الأميركي أن المجتمع العراقي كان ممسوكا أكثر مما هو متماسك. واليوم النظام السياسي العراقي يقوم على انتخابات حرة وتمثيل شعبي، لكن المجتمع العراقي منقسم بشدة وفقا لخطوط مذهبية وإثنية، والبلد محتل وفاقد لاستقلاله، وفعل قوى خارجية متصارعة كبير فيه. وحتى لو انسحب الأميركيون اليوم، فإن من المتوقع أن يكون نفوذ إيران والسعودية، وبدرجة ما سورية وتركيا وإسرائيل، فضلا عن أميركا ذاتها، حاضرا بقوة. ما الذي نستدل عليه من هذه الأمثلة لثلاث بلدان مشرقية؟ ألا يبدو أننا نرصد تنافيا بين الديمقراطية والوطنية؟ أن الديمقراطية تقترن باستقلال محدود واندماج داخلي ضعيف ومخاطر نزاعات أهلية؟ وأن الاستبداد قرين الوطنية وكفيل الاستقلال والاندماج (ولو أن الاندماج فوقي، والاستقلال انفراد نظام سلطة مغلق بالحكم)؟ العبرة الظاهرة من هذه الأمثلة أن الديمقراطية تفضي إلى تبعثر اجتماعي ووطني من جهة، وإلى انفلاش الداخل ونفاذ قوى خارجية إليه من جهة أخرى. العبرة أيضا أن الوطنية صنو قمع التعدد السياسي، وأن هذا يشف في كل الحالات عن تعدد أهلي. كأنما لا مجال لكسب الديمقراطية والوطنية معا. لماذا؟ أين الخلل؟ النموذج الضمني الذي يوجه تفكيرنا السياسي هو الدولة - الأمة الغربية، ونظيراتها تنتشر في كل مكان من العالم، في أميركا الجنوبية وفي آسيا، وبعض أفريقيا. فلماذا تشكل الدول هناك إطارا لتطور ديمقراطي متماسك بدرجات معقولة، فيما يبدو التطور هذا مفتتا للدول عندنا، وتبدو حماية الدول، مؤسسات حكم وكيانات سياسية تاريخية، مقتضية للدكتاتورية؟ السر في الدولة. ذلك أن التحول الديمقراطي في أقطار أوربا الرئيسية كان مسرحه دولا راسخة ككيانات وكمؤسسات حكم، وكانت الدول مقرا للوطنية، صانعة للاندماج وممثلة للسيادة الدولية للأمة. في هذا الشرط تكون فرص التطابق بين الديمقراطية والوطنية أكبر. وهذا لا ينطبق على دولنا لسببين كبيرين. أولهما حداثة الدولة في المشرق. فلم يكن أي من بلدان المشرق الشامي العراقي والجزيرة العربية مقرا لدول أو حاملا تقليد دولة طوال قرون أو أكثر. وهي تاليا لا تتوفر على رموز تخص الدولة أو ذاكرة دولة، ما يجعل كيانات الدول هشة وشخصياتها ضعيفة. وهو ما ألجأها إلى رموز التاريخ العربي (اليرموك، القادسية، حطين، خالد، صلاح الدين..)، لكنه هو ذاته قديم ومنقطع طوال ما يزيد على ألف عام كانت كافية لضمور ملكة الدولة عند العرب (خلافا للأتراك والفرس مثلا). عدا ذلك لا يمنح الاندراج في تراث عربي عابر للأقاليم للدول القائمة شرعية بقدر ما يسلبها منها. تقوم شرعية الحكم السوري، وهو نموذج أقصى فحسب لغيره، على إنكار شرعية سورية ككيان لمصلحة كيان عربي شامل مفترض. بلى، ما كانت السلطات السورية المتعاقبة جادة في قضية العروبة السياسية، لكن عقيدتها القومية المعلنة تقف عائقا أمام تطوير وعي ذاتي متسق للدولة والوطنية السورية. وليس غير هذا يرتفع بسورية من واقع كامد إلى مرتبة فكرة وقيمة ورمز يتماهى فيها السوريون على اختلاف منابتهم الأهلية. وفي خط مواز لتعويض فقرها الرمزي جنحت الدول المشرقية جميعا إلى رفع حكامها إلى مرتبة رموز مقدسين. هذا يناسب الحكام طبعا، لكنه يسهم في أبقاء الدول الحديثة في حالة إدقاع رمزي مطبق. وتعويضا عن ضحالة الذاكرة الوطنية لجأت حكوماتنا إلى العودة إلى ذاكرة عربية مركبة بصورة مفارقة تاريخيا من هداية دينية وأخلاقية في العهد النبوي والراشدي، ومن مجد عسكري أموي، ومن ازدهار حضاري عباسي، مع أمثُلة مفرطة في جميع الحالات. وفي خط مواز هنا أيضا جرت موازنة تباعد هذه الذاكرة عنا بنزوع إلى اعتبار تاريخ بلداننا بدأ مع عهد الحاكم الحالي. هذا كان واضحا جدا في سورية (التاريخ بدأ عام 1963، وبدايته الحقيقة عام 1970) والعراق. أما السبب الكبير الثاني فيتمثل في التدويل العمق للشرق الأوسط، والريع الاستخراجي الجاذب له والريع السياسي المتولد عنه. ويوفر الريْعان فرصة لاستقلالية غير مستحقة لنظم الحكم عن مجتمعاتها، ولنمو غير متكافئ للجهاز السياسي والبنى الاقتصادية والاجتماعية المحلية. وحماية هذه الاستقلالية تقتضي إما الاستناد إلى عصبيات داخلية أو إلى حماة خارجيين أو إليهما معا. وفي الحالين إلى احتلال الدولة من قبل الطواقم الحاكمة. هذا محقق في جميع دول المشرق العربي بلا استثناء واحد. وبمقتضى هذا الشرط تعاني الدولة في منطقتنا من تشوه عميق، بالنظر إلى أن دوامها مقرون بتمكنها من فنون السياسة الأهلية، وجمعها بين تفكيك مجتمعاتها (فلا تتماسك ذاتيا) و"إمساكها" أو منعها من الانفراط (بما يجعل السلطة القسرية مبدأ تماسكها الوحيد)؛ أو هو مشروط باندراجها في خطط وترتيبات وتحالفات خارجية. ليس استقرار نظم الحكم في بلداننا إلا ثمرة هيمنة عصبوية داخلية أو تبعية خارجية. مفهوم تاليا أن دمقرطة هذه الدول تفتح الباب لاستقلال العصبيات التي كانت تشكو من الهيمنة، واتجاه هذه إلى الاستناد إلى حلفاء خارجيين يرجحونها في علاقة التنافس والإقصاء الطبيعية مع عصبيات أخرى. ولن تكون الوطنية هنا إلا إيديولوجية تخفي الانشقاقات الاجتماعية وتعادي الديمقراطية وترعى العداء للأجنبي. وهنا المشكلة اليوم. فالديمقراطية قد تفضي إلى انقسام وطني واجتماعي صريح وإلى فتح بلداننا ساحة للاعبين إقليميين ودوليين. لكن "الوطنية" تغدو مجرد غلالة مهترئة لانقسام وطني محقق ولارتباطات إقليمية ودولية تضمن دوام نظم الحكم، فوق اقترانها باستبداد فاحش. وحين تكون الديمقراطية مشكلة والوطنية مشكلة فمعنى ذلك ربما أننا دخلنا طور أزمة مفتوحة، قد تتفجر هنا أو هناك في أي وقت.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقييم ائتلاف -إعلان دمشق-
-
في شأن النقد والتضامن ودور المثقفين
-
هل نعرف الطائفية؟ تعقيب على ملف الآداب عن -الطائفية في الوطن
...
-
بعد قرن السياسة، أقرن للثقافة والدين في عالم العرب؟
-
علمانيون، ديمقراطيون، وإسلاميون؛ لكن أين الأمة؟!
-
أفكار في شأن العنف والهيمنة والمعرفة
-
تصور أولي للمشكلة الدينية والإصلاح الديني
-
أيام مشكلة الدولة ولياليها في المشرق العربي
-
-أمة وسط- في المشرق؟!
-
هل العلمانية ممكنة في بلد واحد؟
-
تراجع السياسة الوطنية وصعود السياسة الأهلية
-
تحقيب تاريخي بلا تاريخ: تعقيب على تعقيب بكر صدقي
-
في شأن مشكلات العرب الواقعية ومشكلتهم الثقافية
-
الإصلاح السياسي وإعادة بناء الهوية الوطنية في سورية
-
بصدد بعض الأصول الأخلاقية لعنفنا..
-
نظرات أولى في أطوار التاريخ السياسي الإيديولوجي المشرقي المع
...
-
أية أكثرية جديدة لحل المشكلات الطائفية؟
-
حين تكون المذابح أداة سياسية.. السياسة تموت!
-
في نقد العلمانية والديمقراطية أو مشكلتا الدين والدولة
-
في عقلانية الدول وغبائها المرشح، في أغلب الظن، أن يستمر طويل
...
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|