تقتضي مصالح النظام الربوي العالمي، في جميع الأزمنة، بقاء أوضاع الأمة العربية في أساسياتها على ما هي عليه: مجزّأة محتلة، ومتخلفة مذعنة! والديكتاتورية الأميركية العالمية هي من يتولى اليوم مهمة الحيلولة دون خروج العرب من أسر الترتيبات الاستعمارية التي فرضت عليهم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. وقد وضعت المخططات التنفيذية لإبقاء العرب في الأسر تحت عناوين مخادعة ومضللة أبرزها: الحفاظ على الهدوء والاستقرار والأمن! هذه المفردات التي لا يملّ الأميركيون وأتباعهم ترديدها، مضافاً إليها الدعوة إلى "ضبط النفس" كلما ردّ العرب على العدوان ردّاً مناسباً. غير أن هذه المفردات التي يتسترون وراءها فقدت كل معنى، ولم يعد هناك من يجهل أن الهدوء يعني صمت الأمة، والاستقرار يعني عطالتها، والأمن يعني إذعانها، وضبط النفس يعني أن لا تدافع عن نفسها!
ثلاثة أنساق دفاعية هجومية
لقد تبنت الإدارة الأميركية كل ما من شأنه ضمان "الهدوء، والاستقرار، والأمن، وضبط النفس" في الوطن العربي الكبير، واعتمدت في ذلك على ثلاثة أنساق متتالية، دفاعية هجومية، وهي:
النسق الأول هو النظام الرسمي العربي، الذي يفترض به ضمان صمت الأمة وعطالتها وإذعانها، بحيث لا تأبه لاحتلال بعض أقطارها، ولا للحدود والسدود التي تمزقها وتسجنها، ولا لعمليات السلب والنهب المعلنة التي تسلخ جلودها!
والنسق الثاني هو الكيان الصهيوني، الذي يفترض به التحرّك على الفور ضدّ أي نظام عربي يفكر بالخروج على الترتيبات الاستعمارية، وضدّ أية أخطار يتعرّض لها نظام منضبط، وتجعله عاجزاً عن ضمان الهدوء والاستقرار والأمن وضبط النفس، إضافة إلى مهمته المفتوحة لإفناء الشعب الفلسطيني!
والنسق الثالث هو القوات الأميركية، بصواريخها البعيدة المدى، وبوارجها وحاملات طائراتها، وقواتها البرية، التي يفترض بها أن تزجّ تباعاً عندما تفوق التطورات طاقة النسق الأول والثاني!
وبالطبع، فإن الأمل معقود على الاكتفاء بالنسق الأول، فإذا احتاجوا للنسق الثاني فتلك مشكلة، وتدخّله يجب أن لا يطول، أما إذا احتاجوا لتدخل النسق الثالث فتلك مصيبة يتوجب عليهم الخروج منها بأسرع ما يمكن!
الأنساق جميعها في الميدان !
لقد حدث أن ترتيباتهم، المرعية على مدى قرن من الزمان تقريباً، تتعرض اليوم لأخطار حقيقية بسبب فشلهم في النيل من صلابة ومناعة البنية الداخلية للأمة، فقد تطورت هذه البنية تطوراً صحياً مستقلاً جعلها في منأى عن تأثيراتهم، ومع أنهم يحرصون دائماً على استخدام أنساقهم الثلاثة الواحد تلو الآخر، وعلى إظهارها مستقلة عن بعضها تماماً، فقد اضطروا هذه المرّة للزّج بها جميعها في الميدان، وهذه علامة تاريخية سلبية، ليست في صالح الأميركيين ونظامهم الربوي العالمي، مهما أبدوا من ضروب القوة والجبروت!
إن النسق الأول منخرط اليوم في الميدان، بجموده وصمته على الأقل، حيث الجمود والصمت يشكلان موقفاً لا يستهان بفعاليته الميدانية في بعض الظروف! وإن النسق الثاني منخرط بدوره في الميدان، إنما في صفوف النسق الثالث، بعد أن أعلنت رسمياً وحدة الموقف والمصير بينهما، وهي الوحدة التي طالما حرصوا على إخفائها ونفيها طوال العقود الماضية! أما النسق الثالث الأميركي فهو منهمك في ساحة العراق التي وصفها الرئيس الأميركي بأنها جبهة الحرب الأولى في العالم!
عندما يصبح الشعب حزباً!
إن التطورات التي استدعت نزول الأنساق الثلاثة إلى الميدان ليست بالهينة ولا الطارئة، فقد حققت جميع المعارك المحدودة، الناقصة، المتفرقة، التي خاضتها الأمة على مدى القرن الماضي، تراكماً هائلاً في معارفها وفي إمكاناتها وفي أدائها، وهو ما تعبر عنه اليوم بوضوح في الساحتين الفلسطينية والعراقية، حيث الأمة تتجسّد حقاً بهذين الشعبين البطلين، وحيث ذلك يعني جاهزيتها في جميع أقطارها لخوض مواجهات مماثلة. وأي برهان على ذلك أوضح من تحوّل أضعف حلقاتها، الشعب الفلسطيني، إلى حزب سياسي عالي الكفاءة، وإلى جيش ثوري رائع الأداء؟ إن الشعب الفلسطيني بكامله، بنسائه وأطفاله ورجاله، قد تحوّل إلى حزب سياسي وجيش ثوري، فهل حدث من قبل أن شهد العالم شعباً يتحوّل بكامله إلى حزب وجيش؟ إن كل بيت فلسطيني هو مكتب من مكاتب هذا الحزب الفريد، وإن كل أسرة هي خلية من خلاياه، ناهيكم عن أنهم جميعاً جنود في جيشه! أما عن الفعالية السياسية والعسكرية، فإن العالم لم يشهد من قبل طفلاً لم يتجاوز العقد الأول من عمره يعترض الدبابة العملاقة مواجهة بحجارته، فتصرعه الدبابة الجبانة، ولم يتوقع أبداً رؤية طائرات الفانتوم والأباتشي تشنّ غاراتها على مدني فلسطيني واحد أعزل، أو على منزل يضم أسرة، فكأنما هي تهاجم جيشاً في معسكر! فأي نصر ميداني للأمة، في نطاق المرحلة الراهنة، أعظم من هكذا نصر، عندما نتأمل في دلالاته المستقبلية القاطعة؟ وأية خيبة يمنى بها المعتدون، وأي عار يجلّلهم؟
التفوق السياسي والتفوق المادي
لقد فشلوا في ترسيخ حالة الاحتلال والتجزئة والتخلف، وفي ضمان بقائها واستمرارها إلى الأبد، وذلك بفضل التطور السياسي الذي وحّد رؤية الأمة لواقعها ولأعدائها، وهو ما تعبّر عنه الوحدة الوطنية الصلدة في كل من فلسطين والعراق.وبديهي أن التفوق السياسي بمضامينه الروحية والنفسية والفكرية التي توحّد الأمة ينتصر على التفوق المادي العسكري الأجوف، وهذا عين ما نشاهده في فلسطين على مدار الساعة. فالاحتلال الاستيطاني الصهيوني يبدو اليوم للعالم أجمع كأنما هو بدأ تواً وليس قبل نصف قرن. وبينما تثبت جميع الوقائع الملحمية اليومية بما لا يقبل المماحكة أن الفلسطينيين هم أصحاب البلاد، تثبت الوقائع ذاتها أن الصهاينة مجرّد قوات احتلال أجنبية! وبينما يستمر تواصل أبناء الأمة العربية، رغم الحدود والسدود، فيلتقون من جميع الأقطار ويتدارسون معاً أوضاع ومستقبل أمتهم الواحدة، يعلن بعض الصهاينة عن إفلاس المشروع الصهيوني، وينطلق بعضهم الآخر كالمجنون، يفتش عن مخرج عسكري خارج فلسطين، بالإغارة على الأراضي السورية أو اللبنانية مثلاً، متوهماً أن ذلك يمكن أن يخرجه من مأزقه، وغير مدرك أن الظروف التاريخية تبدّلت، بفضل تطوّر بنية الأمة العربية، وبسبب فقدان العمق العسكري الدولي للكيان الصهيوني أهميته الحاسمة!
مصير رأس الجسر الصهيوني!
بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر، وبتاريخ 12/6/1974، كتب الصحفي الصهيوني دان بن عاموس في مجلة "هاعولام هازيه" المقطع التالي:
- "توصلت أخيراً إلى أن التجربة الصهيونية أفلست، وأستطيع إثبات ذلك، فهل كان من المفيد والمجدي أن نترك عدة "غيتوات" لنبي واحداً كبيراً ؟ بعد حرب يوم الغفران أصبحت من كبار المتشائمين، لأن فرص السلام انتهت، والعرب لن يقبلوا بنا أبداً كرأس جسر غربي، لذلك، وبعد أن ذاقوا حلاوة انتصار جزئي، فإنهم لن يستريحوا حتى يحققوا تصفيتنا من وسطهم. قد يعقدون اتفاقات معنا، وقد يتعايشون معنا لخمس أو عشر سنوات، وسوف يتعلمون من أخطائهم السابقة، وفي النهاية يجمعون كل قواهم لتصفيتنا تصفية أبدية. إن على كل إنسان عاقل أن يفكر بالهجرة والاندماج في أماكن أخرى. ولماذا يجب أن نهتم بأمة يهودية ؟ لماذا لا يفكر كل شخص بنفسه؟ أنا شخصياً، لو كنت في سن العشرين أو الثلاثين، لغادرت منذ زمن بعيد، لكني في سن لا تسمح لي ببدء حياة جديدة"!
لا أدري إن كان دان بن عاموس لا يزال حياً، وأعتقد أنه لو كان يشهد ما يحدث اليوم لكتب كلاماً أكثر أهمية بصدد إفلاس المشروع الصهيوني، رأس الجسر الغربي، وبصدد نهوض الأمة العربية الذي ظهرت مقدماته واضحة في فلسطين والعراق.