أمام استفحال التردي الإداري الذي نشهده في مؤسساتنا , وعلى نطاق واسع , تطرح أسئلة كثيرة ـ يومياً ــ تتعلق بحسن أداء هذه المؤسسات , بما يخدم مصلحة مواطننا , وبالتالي انعكاس ذلك على المصلحة الوطنية , بعامة , انطلاقاً من بدهية العلاقة الوثيقة بين هاتين المصلحتين اللتين هما أصل أية مصلحة ...!
ولا يخفى على المواطن السوري الذي بات يرى بأم عينيه استشراء الفساد , ان هذا الواقع الذي آلت إليه مؤسسات كثيرة في بلدنا هو ليس قدراً لا خلاص منه البتة , بل من الممكن ــ وضع آلية محكمة , يمكن بالاعتماد عليها وضع حد للكثير من مظاهر الفساد والفوضى , أو لأقل التسيب الإداري وبدهي , أن واقع الكثير من المؤسسات في بلدنا قد انحدر إلى صورة مزرية , لم تعد تطاق البتة , وهذا ما يدفع كل غيور علىبلده , وإنسانه , للاسهام في تسليط الضوء على هذا الواقع البائس , بغرض تجاوزه , وخلق حالة تستعيد لمواطننا صورته المطلوبة , هذه الصورة التي تعرضت للكثير مما يشوبها , الأمر الذي بات يحول دون قيام مواطننا للعب دوره , كما ينبغي . بل ولينعكس ذلك على العلاقة بينه وكل المؤسسات الحكومية ,إذ يعيش حالة اغتراب ، تجعله يدفع ضريبة هذا الخلل , من خلال تبادل الأدوار بين ما هو ثانوي وما هو رئيس ومؤكد أن الأمثلة المشخصة موجودة في ذهن كل مواطن , إذ ان قيام أي مواطن بسداد أية ضريبة لخزينة الدولة , يتطلب منه هدر ساعات من وقته يومياً في انتظار مبدعي سلسلة التواقيع المختلفة , ولا أتحدث عن إجراءات أية معاملة . فهي ذات شجون بكل تأكيد , ولعل أية إحصائية لحساب الوقت الذي يذهب هدراً بشكل يومي , وبالتالي بشكل سنوي , وراء إجراءات من هذا النوع , يمكن القيام بها خلال ومضة عين في ظل الأتمتة , ان هذا الوقت سيبلغ سنوات ضوئية وعلى حساب تطور وتقدم هذا الوطن ، ناهيك عن ان أية برهة كهذه إنما تجبل بحرق أعصاب المواطن المسكين ...!
وطبيعي ان مثل هذه الممارسات تتم في أكثرية المؤسسات في ظل إدارات بيروقراطية , أو فاسدة , لا تولي أية قيمة للمواطن , بل ودون أن تدرك أن هذه المهمة التي تتنطع للقيام بها , إنما هي ــ في الأصل ـ خدمية , بل وبعبارة أكثر وضوحاً : هي من أجل خدمة هذا المواطن ، وهي بالتالي ليست ترفية , أو بمثابة مكافأة ممنوحة له , لاعتبارات لم تعد تمتلك فحواها وجدواها , انطلاقاً من صوابية فكرة أن هذا الوطن ملك لسائر أبنائه , دون أن يكون هناك أي تباين في سلم التراتبية في المواطنة , إلا من خلال الاحتكام إلى بارومتر الانتماء الوطني , أصل كل انتماء طبعاً .
ان جملة ما سبق , ليدعو إلى الحديث , وبكل وضوح وصراحة عن ضرورة اختيار ــ المسؤول ـ عن أية مؤسسة , انطلاقاً من توافر سلسلة مقومات شخصية معرفية فيه , لا سيما بعد تأكد فشل تجربة الحكم بصلاحية الشخص من خلال انتمائه الحزبي , المجرد ، لا سيما وان الحزبية قد لا تعني الأيديولوجية بالضرورة ....! لقد أصبح العمل في المجال التربوي الملاذ لكثيرين من الباحثين عن الراحة , ممن يتقاضون رواتبهم في مطلع كل شهر , ويتبؤون مهمات إدارية , بدءاً بموجه المدرسة ومروراً بمديرها وليس انتهاء بالموجهين :التربوي أو ألاختصاصي ,بل ومدير التربية نفسه ...! .
شخصياً أعمل في سلك التربية منذ حوالي ربع القرن من الزمان , وحتى هذه اللحظة, إذ أقوم بتدريس مادة اللغة العربية في معهدي إعداد المعلمين والمدرسين في القامشلي , وأتفاجأ سنوياً بانضمام أسماء جديدة إلى طابورالعاطلين المكلفين بهذه المهمات , ومما يؤلم بحق هو أن كثيرين من هؤلاء يعدون من أفشل الزملاء في المهنة , بل والأكثر بعداً عن استيعاب العملية التربوية , وهذا ما سينعكس بالتالي على آلية العمل في هذا المجال . مازلت أذكر أحد طلابي بعد ان سجلت عليه مأخذي حول لامبالاته بالدروس , وقولي له بالحرف : ترى كيف سأثق بان تقوم بتعليم واحد من ابنائي مستقبلاً!؟. لكنه لم يتلكأ في الرد علي وبثقة عالية بالنفس قائلاً : من قال لك أنني سأصبح معلماً , فأنا سأتخرج (( مديرمدرسة ))في أسوأ احتمال ...؟ وحقاً , لقد وضعت هذه المهمات التربوية الحساسة في أيدي كثيرين من عديمي الموهبة والكفاءة والتجربة والثقافة , لذلك , فان مكاتبهم تتحول إلى أوكار وفخاخ لاصطياد ((المعلمات والهدايا وسرقة أجزاء من رواتب المعلمين والمعلمات ــ تحت ضغط حاجة هؤلاء ــ لدفع اجور فواتير هواتفهم الخلوية, وطاولات شرابهم في المطاعم , بل وسوى ذلك ... طبعاً.
ان كل ما أشرت إليه هو غيض من فيض , مما قد يحدث في أروقة أطهر و اقدس مهنة إنسانية ووطنية على الإطلاق , وهذا ما يرتب على كاهل المجتمع ضريبة قاسية من الصعب التخلص من نتائجها . , وليس أدل على هذا الكلام من أن المدرسة التي هي البيت الثاني للتلميذ وموئل الثقافة , والمقوم الأكثر فعالية لسلوكه , ستلعب دوراً عكسياً تماماً في ما يخص الشخصية التي تتوجه لإعدادها وبناء على مثل هذه المقدمة , فانه لم يعد مدعاة للاستغراب أن نبصر ما حولنا من طوابير المفسدين الذين يتعاملون مع كل ما حولهم بمحض انتقامية , سواء أكان شرطياً في مخفر , أو موظفاً في مكتب ,أم مديراً , أم مسؤولاً رفيع المستوى, نتفاجا بأنه نهب أخضر مؤسسته ويابسها على حد سواء .. وهذا ما يلزم ــ بالتأكيد ــ التفكير الجدي بعملية إصلاح شاملة , لا تقتصر على إحدى مكوناتها : الإدارية والاقتصادية, فحسب , بل تشمل الميدان السياسي , أيضاً ضمن معادلة غير قابلة للتجزيء , بادئين قبل كل شيء , بالإصلاح التربوي , من خلال معالجة فورية لا سيما في ما يخص الموقف من الكادر الإداري في هذا المجال ...و قلب المقاييس غير الناجعة ,رأساً على عقب ،يحدو إلى ذلك هاجس الحرص على بناء الإنسان على أفضل شكل ...
عود على بدء
لعل من دواعي التفاؤل ــبحق ــ هو ما نشهده الآن ــ في وسائل الاعلام المحلي ــ وبشكل عام . من بداية توجه واضح لمناقشة كثير من الامور التي كان التطرق إليها من قبل يعد من ضروب المحرم والممنوع , ولعل فتح ملف ــ لآلية الافضل لاختيار المسؤول ــ يجيء امتداداً لمثل هذه الرؤية التي بدأت تتبلور تدريجاً في اعلامنا بعد أن كانت مدار حديث المواطن ضمن اطار محدود, وغير رسمي .. ! وإذا كان من الصعب تحويل سدة المسؤولية ــ صغيرة كانت أم كبيرة ــ إلى حقل تجارب , والمضيء وراء الخيال لمعرفة حجم وحقيقة ما نهب من ثروات الوطن والمواطن فإن ــ المواطن ــ ليعرف تماماً ــ هؤلاء المسؤولين الذين أدوا مهامهم بكل اخلاص ووفاء ــ على قلتهم ــ وهم محط احترام عامة المواطنين طبعاً. كذلك ان توافر جدية الرقابة بالاضافة إلى تخير ذوي الأيدي البيضاء النظيفة المعروفين بالنزاهة ــ ميدانياً ــ شريطة أن يكون هذا مقروناً بالكفاءة والتجربة والمراس ونكران الذات , واستبيان آراء المواطنين ذوي العلاقة بهذه الدائرة أو تلك ,كرقابة شعبية حقيقية بعيدة عن الكيدية ،وكتابة التقارير المغرضة التي عانينا منها جميعاً ! إذ أن عريضة تحمل تواقيع وشهادة مئة معلم كحد ادنى ــ على سبيل المثال ــ في أن مدير التربية الفلاني غير صالح لاداء مهمته ,ينبغي أن تؤدي على القيام الفوري بعزله ، وتعيين بديل عنه ،يحس أن مهمته هي خدمة زملائه مادام أن انجاح العملية التربوية هي هدف الجميع أولا ًوأخيراً ...! وهذا يرتب على مدير أية مؤسسة عدم إغلاق باب مكتبه أمام المراجعين ، لأن ادارة المكتب لا تعني ممارسة الوجاهة العصرية . واستعراض المكانة الشخصية دون خدمة وتحقيق أهداف هذه المؤسسة ..! كما ينبغي معرفة أن هذه الحالة التي نريد لمسؤولناــ أياً كان ــ أن يتحلى بها لا يمكن أن يتحقق بمجرد وضع خطط ورقية , وقرارات , وتوصيات , فحسب , بل هي بحاجة دائمة إلى نشر ثقافة تؤكد أن قيمة المسؤول إنما تكمن في إذلاله المصاعب أمام مراجعيه من المواطنين , وان نجاحه مرهون بمدى التفاني في خدمتهم , لا العكس , كذلك لا يمكن لوسائل الاعلام ـ وخطط الحكومة ــ وحدها أن تخلق مثل هذه الحالة المبتغاة , بل تتطلب متابعة دائمة من خلال اعتماد مبدئي المجازاة والعقاب , وفق أسس صارمة ودقيقة تستطيع في نهاية المطاف خلق ما يمكن أن أوسمه هنا ب: أخلاقيات المسؤول ــوهو عبارة عن محض عنوان كبير , يستدعي تضافر الحوارات المطولة حوله , بغرض إعادة تأسيس أو أعتبار لهذه الضالة التي نحن أحوج إليها في هذه المرحلة الأكثر حرجاً ....