Howard M. WACHTEL
هل اليورو القوي، رأس الحربة للاتحاد الاوروبي الموسع قادر على دك الهيمنة المالية الاميركية القائمة على قوة الدولار المستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟ ليست جديدة في القارة القديمة تلك الرغبة في مقارعة التفوق الاميركي بل هي ترجع الى العام 1967 عندما حاول شارل ديغول الاستفادة من ضعف الدولار واستخدامه خارج الولايات المتحدة اثناء حرب فيتنام لاعادة الاعتبار الى الذهب كقيمة معيارية ثابتة في المبادلات المالية(1).وبالرغم من عدم التصريح بها علنا فان هذه الفكرة نفسها تقف وراء مشروع اليورو ويمكن ان تعود الى الواجهة مع المخاوف الناتجة من الوضعية الامبراطورية والعدائية للولايات المتحدة والتي برزت ابان حرب العراق وادت الى ارتفاع في قيمة العملة الاوروبية مقابل الورقة الخضراء. من هنا انطلقت الفرضيات حول تحول اليورو الى عملة مرجعية في منافسة الدولار لتصبح رأس جسر في وجه الهيمنة الاميركية على المالية المعولمة مما يضع اوروبا على مستوى الولايات المتحدة نفسه في هذا المجال. قبل التطرق الى هذا الاحتمال علينا اولا فهم طبيعة العملة المرجعية. فمن اجل ان يتطور بصورة منسجمة وعلى مستوى كاف، يحتاج النشاط المالي والتجاري الى عملة مقبولة عالميا تختصر في عبارة "السيولة". هذه كانت حال الليرة الاسترلينية في القرن التاسع عشر قبل ان يحل محلها الدولار بشكل تدريجي بعد الحرب العالمية الثانية ليسود اليوم عالم المال. واذا اردنا ان ندرك الحاجة الى وظيفة العملة المرجعية يكفي الانتقال بالذاكرة الى حقبة ما بين الحربين حيث لم يعد بمقدور الليرة الاسترلينية تأمين السيولة على المستوى العالمي وكان النظام المالي الاميركي يمانع في لعب الدور الذي كانت تطلبه منه الاسواق. وكان من اسباب انهيار التجارة الدولية غياب العملة الدولية.ان عملة بلد ما تتحول الى عملة مرجعية لبلدان اخرى عندما يتم تكريسها هكذا من قطاعي المال والتجارة المعولمين بسبب قوتها الاقتصادية والمالية. فتسعى عندها الدول الى الحصول على احتياطي منها يكوّن لها موجودات يمكن استخدامها في اي بلد آخر يقيم علاقات اقتصادية على الصعيد الدولي وراغب هو ايضا في تكوين احتياطي مماثل من هذه العملة نفسها.يحوز بالتالي البلد المصدر لهذه العملة قوة ونفوذاً كبيرين لكنه يتحمل ايضا التبعات. على هذا الصعيد كانت مرحلة ما بعد الحرب ذات دلالة. فلنضع انفسنا عام 1950 مكان وزير للمالية في بلد غير مصدر للعملة المرجعية. سيكون هدفه اجتذاب الدولارات ومراكمة المخزون الذي سيستخدمه لشراء اي منتوج كان في العالم. كيف يتصرف؟ يمكنه ان يبيع منتجاته الى الولايات المتحدة مقابل الدولار وهذا كان مجرد احتمال نظري في ما يخص البلدان الاوروبية طوال عقد او عقدين من الزمن. الخيار الثاني: اجتذاب الشركات الاميركية ودولاراتها الى بلده. هكذا بدأت الشركات المتعددة الجنسية. اما السيناريو الاخير فيقوم على استقبال القواعد والقوات العسكرية الاميركية. تلك كانت بالنسبة للاوروبيين الوسائط الرئيسية لاجتذاب العملة الخضراء وما ينتج منها من نفوذ وهي مشابهة لما نشهده اليوم في بلدان العالم الثالث واوروبا الوسطى والشرقية كما في روسيا وسائر انحاء الاتحاد السوفياتي السابق. في ما يخص بلد المنشأ للعملة المرجعية، تستتبع هذه الامتيازات نوعين من المسؤوليات. اولا عليه ان يكون على استعداد دائم لتأمين سيولة عالمية بحيث تتحرك العملة بكميات كافية في مختلف الارجاء تأمينا للحاجات المالية والتجارية العالمية. ثانيا، عليه ان يكون مستعداً ايضا للعب دور "المدين الاخير" لحل مشاكل الدين حيث تصبح مفرطة. مع المحافظة بالطبع على اطار مستقر نسبيا لقيمة عملته الخارجية والداخلية، اي على معدلات تضخم مقبولة في الداخل وتحرك لقيمة العملة ضمن هامش متوقع مع باقي العملات. في غياب عناصر الاستقرار هذه تتراجع الدول عن اقتناء الاحتياطي بالعملة المفترض انها مرجعية. كي يتمكن اليورو من منافسة الدولار في وظيفته هذه، عليه توفير الضمانات نفسها من استقرار لقيمته الداخلية والخارجية ضمن آجال متوقعة وتسهيل النمو الاقتصادي المناسب. على قاعدة هذين المعيارين فان الامور ليست حاسمة بالنسبة للعملة الاوروبية. بالطبع تتميز منطقة اليورو بانضباط التضخم لكن على حساب النمو بسبب شروط عقد الاستقرار والنمو مع ما يفرضه من سياسات مالية وضرائبية على الصعيد الوطني في كل بلد من البلدان. يفترض تعديل هذا العقد الى حد كبير اذا كان اليورو يطمح الى الوقوف في وجه الدولار.في هذا السياق يكون على العملة الاوروبية ايضا تخطي حاجزين بنيويين. الاول ان البنك المركزي الاوروبي لا يملك اي امكان ليتحول "مدينا اخيرا" عند الحاجة القصوى حيث لا تزال هذه الصلاحية من اختصاص البنوك الوطنية في البلدان التابعة لمنطقة اليورو وداخل حدود هذه البلدان. وبدون هذه الصلاحية يمكن لليورو فقط ان يتحول عملة مرجعية بديلة وبصورة محدودة في الاسواق العالمية. الحاجز الثاني يتمثل في بطء الاصلاحات في علاقة الانظمة المصرفية المتبادلة في اوروبا والتفوق التكنولوجي الاميركي الكبير في هذا المجال. فالمصاريف المقتطعة على المعاملات بين المصارف بين مختلف البدان لا تزال مرتفعة جدا كما انها باهظة داخل كل بلد من البلدان قياسا مع ما يجري في الولايات المتحدة. الفارق التكنولوجي نفسه قائم بين القدرات العسكرية والمصرفية لكل من اميركا واوروبا.والمفارقة انه يمكن ردم هذه الهوة لو اعتمدت بريطانيا اليورو كون ممارساتها المصرفية وقدراتها التكنولوجية هي الوحيدة في العالم القادرة على مناطحة الولايات المتحدة. لكن السؤال ليس مطروحا على المدى القصير لان الحكومة البريطانية ولاسباب وجيهة اختارت البقاء في الوقت الراهن خارج العملة الموحدة. وحتى اذا قررت الانضمام فان المطلوب من اجل منافسة الدولار توحيد الممارسات المصرفية بين لندن وسائر بلدان اوروبا مما ينقل مركز الثقل المالي من فرانكفورت الى لندن. والنتيجتان غير مقبولتين من بلدان منطقة اليورو الحالية. عندما ندرك تماما ماذا يمنع تحول اليورو الى عملة مرجعية بديلة جدية، يظهر لنا كيف ان نقاط ضعف الدولار تقوده بالضبط الى هذه الوضعية. ويتمثل الضعف في استمرار العجز في الحسابات الجارية والبالغ حوالى 500 مليار دولار سنويا من دون أتجاه الى الانخفاض المحتمل(2) اذ المطلوب دخول دائم للرساميل من الولايات المتحدة وآسيا. وفي حال تراجع هذه الرساميل كما حصل في العامين الماضيين(3)، فاننا نشهد تراجعا في قيمة السندات وارتفاعا لمعدلات الفائدة مما قد يتسبب في اضرار جسيمة للاقتصاد الاميركي.هذا السيناريو مرشح للحدوث خصوصا ان هناك سبباً ثانياً يدفع بالرساميل للهرب من الدولار نحو اليورو، وهو فقدان الثقة بطريقة اتخاذ القرارات في واشنطن حيث يتصاعد القلق من جراء النيات الاميركية في السياسة الخارجية. اما لجهة السياسة الضرائبية، فان انفجار العجز في الموازنة العامة ـ 450 مليار دولار عام 2003 اي اكثر من 4 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي مع تفاقم متوقع للـ 2004 (475 ملياراً) ـ يدفع المستثمرين الاجانب الى الاعتقاد بان المخاطر كبيرة والبيئة الاستثمارية اقل استقرارا في الولايات المتحدة مما كانت عليه قبل بضع سنوات. من هنا ظهر التباطؤ في دخول الرساميل الاجنبية الى الولايات المتحدة مما لا يساعد الرأسمال الوطني الذي يعاني من انخفاض معدلات الفائدة. وفي هذه الحال سترتفع معدلات الفائدة في الاسواق ولن يتمكن الاحتياط الفيديرالي من مواجهة هذه النزعة. فالاحتياط الفيديرالي استخدم كل اوراقه من خلال خفض الفائدة الذي قد يتسبب بانكماش نقدي في حال استمرار تدنيه.يطرح هنا السؤال لمعرفة ما اذا كان انخفاض الدولار بالنسبة للعملة الاوروبية سيؤدي الى انخفاض في العجز التجاري الاميركي مع منطقة اليورو مما قد يخفف من ارتهان الولايات المتحدة للرساميل الاجنبية الوافدة. يجب عدم التوهم كثيرا في احتمال زيادة الصادرات الاميركية بسبب ضعف الدولار وانخفاض مقابل للواردات من منطقة اليورو. فالظاهرة ستبقى محدودة لانه خارج قطاعات مثل الزراعة والسيارات والسياحة فان الميزان التجاري قد يبقى مستقرا وذلك لاسباب عديدة.ان المطلوب اولا التزام طويل المدى لتغيير التوجه في القطاع الصناعي الاميركي غير المهيأ منذ عقود للتصدير. فالشركات الصناعية الاميركية اعتمدت على الدوام خططا للاستثمار في الخارج حيث تؤمن الانتاج في كل انحاء العالم وتبيع في الاسواق الخارجية انطلاقا من مواقع الانتاج هذه بدل التصدير انطلاقا من الولايات المتحدة. وفي الواقع فان قسما كبيرا من العجز التجاري ناتج من انزال منتجات مصنعة في الخارج الى السوق الاميركية من قبل شركات اميركية مما يصنف هذه المنتجات في خانة الاستيراد. وتبعا للتقديرات الاكثر جدية فان 45 في المئة من الواردات الاميركية تدخل ضمن هذه الاصناف(4). ان استراتيجيا الشركات هذه محفورة في الحجر ولن تتغير.هناك سبب ثان يمنع توقع تغيرات كبيرة في الميزان التجاري بين ضفتي الاطلسي: ان النمو في الناتج المحلي الاجمالي في الولايات المتحدة اقوى منه في منطقة اليورو مما يشجع عمليات الشراء الاميركية للبضائع الآتية من تلك المنطقة وتخفف من الشراء الاوروبي للمنتجات الاميركية. فلقد اسست ادارة بوش استراتيجيا الدولار الضعيف على حسابات خاطئة لن تعطي النتائج المرجوة بينما كان وزير المال السيد روبرت روبين في حكومة الرئيس كلينتون قد اعتمد سياسة الدولار القوي وهو يعرف انها ستجتذب الرساميل الاجنبية الى الولايات المتحدة. تظهر هذه الوقائع المسؤوليات المترتبة على البلد المصدر للعملة المرجعية والفوائد التي يمكن ان يجنيها من ذلك. كما عليه ايضا تأمين الاستدانة عند الضرورة القصوى ودور البازار العالمي الذي يسبب العجز الكبير في الحسابات الجارية التي يتم تعويضها من طريق الرساميل الاجنبية الوافدة. ان نقاط ضعف العملة الخضراء توفر فرصة تاريخية امام اليورو كي يتحول عملة مرجعية احتياطية شرط تعديل في العمق لعقد الاستقرار والنمو الاوروبي واصلاح الممارسات المصرفية عبر الحدود الاوروبية وردم الهوة التكنولوجية مع الولايات المتحدة في هذا المجال. ان واشنطن ومن خلال ادارة ظهرها الى التعددية العسكرية والمالية والقبول بعجز مالي كبير، ضاعفت من الاهتمام بهذه الفرضية. فالاحتياط المملوك من مختلف البلدان بالدولار الاميركي تراجع قليلا اذ طرأت عملية اعادة توجه متواضعة نحو اليورو في بعض الحسابات ومبيعات النفط الخام. وهذا ما قد يشكل هدفا استراتيجيا للاتحاد الاوروبي لو تمكن من اقناع بلدان مصدرة للنفط بقبول اليورو بدل الدولار وفتح المجال جديدا امام نزاعات من طرفي الاطلسي. والبلد الاقرب الى الاستجابة قد يكون روسيا التي قد تقنع بالتعاون الوثيق مع الاتحاد الاوروبي وربما الانضمام اليه في يوم من الايام.
--------------------------------------------------------------------------------
* استاذ اقتصاد في "الجامعة الاميركية" واشنطن، من مؤلفاته
Street of Dreams - Boulevard of Broken Hearts: Wall Street’s First Century, Pluto Press, Londres, 2003
[1] اتفاقيات بريتن وودز التي انشأت صندوق النقد الدولي عام 1944 لحظت ثباتا في تقلبات اسعار العملة لا تتجاوز نسبة الـ 1 في المائة مقابل الدولار وامكانية تحويل العملة الخضراء الى ذهب على قاعدة 35 دولارا للاونصة.
[2] ارقام تشمل عاما واحدا من حزيران/يونيو 2002 الى حزيران/يونيو 2003 ، صحيفة "الايكونوميست"، 26/7/2003
[3] بحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية فان دفق الاستثمارات الاجنبية المباشرة في الولايات المتحدة تراجع من 131 مليار دولار عام 2001 الى 30 مليار عام 2003.
[4] Tax Distortion in the Global Economy” in Global Tensions, à paraître aux éditions Routletge à Londres
جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم