د. سيّار الجميل
مؤرخ واكاديمي عراقي / كندا
مشهدان حقيقيان يعكسان حالات البؤس
قبل ايام راقبت على احدى الفضائيات سيدة عراقية مثقفة تتهادى كلمى حزينة بين الانقاض التي خلفتها الحرب المأساوية الاخيرة في قلب بغداد وقد جلست تتبادل الحديث مع شباب من العراقيين الجدد والذين من يراهم يقول بأنهم من طلبة الجامعات ، ولكن من يسمعهم ويتأمل في ما كانوا يقولونه سيتألم فعلا وسيفكر كثيرا في هذا الذي انتجه عهد سياسي جائر انتج جيلا قد كفر حتى النخاع بكل قيمه واعتباراته وهو في اقصى حالات التمرد والعصيان ضد الحياة وجمالياتها ويعلن كراهيته لكل شيىء في وطنه الذي اغترب عنه كثيرا بعد ان كان الاباء والاجداد ملتصقين به التصاقا لا فكاك منه ! نعم ، شباب تجدهم عندما اجابوا تلك السيدة المثقفة أنهم لا تهمهم اية قيم ولا يهمهم اي وطن ولا ارض ولا وجود اسمه العراق .. والسبب لأنهم ولدوا ونشأوا وعاشوا في بؤس شديد .. انهم يعلنون على رؤوس الاشهاد انهم يسرقون ويسلبون وينهبون لأنهم كانوا ببساطة شديدة من المحرومين ! نعم ، تضوروا جوعا ولأنهم لم يأكلوا كما كان حكامهم يأكلون بملاعق من ذهب وانهم كانوا يشربون ماء اجاجا والعائلة الحاكمة تشرب ماء قراحا في اوان مرصعة بالاحجار الكريمة !
جعلني هذا " المشهد " استرجع ذاكرتي قليلا عما كان يعانيه العراقيون في الماضي ، اذ يكفي ان استشهد ما سجله المؤرخ حنا بطاطو في كتابه الشهير نقلا عن محاضر جلسات الدورة العشرين للاجتماع الاستثنائي لمجلس النواب للعام 1937 عندما نقل عنه قائلا : " روى نائب من البصرة حادثة جرت له مع جندي فلاح ، فقال : منذ عشرين يوما عندما كنت عائدا في زورق صغير من قرية حريد الى البصرة ، قابلت جنديا على ضفة النهر ، فأخذته معي .. وفي الطريق ، وبينما كنا نتحدث .. وجدته في غاية الاستياء من تجربته كجندي . حاولت بمختلف الوسائل ان افهمه أهمية واجب خدمة الانسان لوطنه .. وكانت اجابته لي : عمّي شنو وطن ؟ ليس عندي كوخ اعيش فيه ولا احد يسمح لي برعي جاموستي حتى في الاهوار " ! واعلق قائلا : ان الصورتين في اعلاه تعبران عن كبت عميق جدا ينتج عنفا قويا وانه مهما فعل كل من هذا وذاك من جرائم ، فهو يعّبر عن ثورة داخلية تتفجر في اعماقه ويريد اسماعها للاخرين بشتى الوسائل اللامشروعة !
من الذي يهدد مستقبل العراق أيضا ؟
ان بين هذين الزمنين للصورتين في اعلاه قرابة سبعين سنة لا اعتقد ان سايكلوجيات ذلك البعض المقصود من العراقيين قد تغّيرت ولا اهواءهم قد تبدلت ، ولا سلوكياتهم قد تعّدلت .. انهم برغم كل الصدمات وهول الاحداث وقساوة التاريخ ، لم يتعلموا شيئا ذي بال بل وقد ازدادت حدة تناقضاتهم وافترقت شدة ولاءاتهم واضطربت ادوات تفكيرهم بسبب سطوة المظالم التي يعانون منها وبسبب افتقار اجواء الحرية التي لا يمكنهم ان يعيشوا من دونها ، فالتاريخ يعلمنا بأن العراقيين يحاربون بلا هوادة من اجل حرياتهم التي قد تصل الى حدود العبث واللامعقول .. ان ما حدث من التمردات الاجتماعية لا السياسية طوال القرن العشرين ومازال يحدث في اماكن معينة من العراق يقّدم الينا امثلة تاريخية ساطعة على انه يعاني من اخطر المشكلات .. وبرغم اجماع كل العراقيين على مبدأ التغيير السياسي الذي كان يعد ولم يزل هدفا اساسيا من اجل استعادة حياة العراق الطبيعية ومن ثمّ مكانته التاريخية ، الا ان المجتمع لم يزل مبتلى باجناس من العراقيين الذين لهم صعوباتهم الشديدة وخصوصا في اماكن معينة ومحددة جغرافيا وبشريا ! وسيبقى العراق مهددا من قبلهم قبل غيرهم كونهم افتقدوا مصالحهم ومناصبهم وعلاقاتهم كمراكز قوى بقيت مستحوذة على السلطات منذ اربعين سنة بالضبط ..
ان المشكلة الاساسية لا تكمن في الجوع والعري وفقدان الاساسيات .. بل لأن هناك سلوكا غريبا في طبائع قسمات من المجتمع سمتها عدم الاقتناع ولا القناعة ولا الاكتفاء ولا الرضى ولا القبول ولا الثبات ولا الوضوح . واعتقد بان مصدرها افتراق الولاءات والتماهي مع اعتبارات شتى متشاطرة ومتنافرة بعيدا جدا عن وطن اسمه العراق ! وطن يلبسونه حسب موديلات العهود السياسية المتنوعة سواء كانت ملكية ام جمهورية .. بل وصلت قيمة الدكتاتور اكبر في حجمها وقوة شظاياها من الوطن نفسه وامجاده ! السؤال الان : هل ان هذه السلوكيات سببها صدام حسين ؟ اجيب : بأن صدام حسين نفسه كان من نتاج ذلك المصدر ومنتجا له في آن واحد .
متى يعرف العراقيون انفسهم ؟
ان بحوثا ودراسات وكتابات عدة قد انجزت ونشرت حول العراق والعراقيين ، ولكن لم يزل الموضوع بحاجة الى اثارة المزيد من الاشكاليات وتقديم المزيد من المعالجات وباللغة العربية كي يتسنى للعراقيين بالذات معرفة انفسهم بانفسهم ، اذ من الصعب جدا ان تقنع عراقيا بما يقدّمه غيره عنه ، ومن الصعب جدا ان تقنع عراقيا بما يخالفك فيه بالرأي ، فالمسألة اكبر من كونها مسألة وعي يمكن تبديله بسهولة او مسألة رأي يمكن تمريره بيسر وبساطة .. او انها قضية ثقافية او عادة اجتماعية يمكننا ان نغيرّها على مهل شديد كما يعتقد الامريكيون .. المسألة اخطر بكثير مما نتصور ، ذلك انها نزوعات سايكلوجية في الاساس وتمتد موروثاتها المعقدة الى اقدم العصور واود هنا ان اشير بأن الاختلاف السياسي والفكري ليس مردّه الاحساس بالكرامة والعزة بالاثم ابدا بقدر ما هو نزعة متأصلة في الاعماق ولا يمكن معالجتها بأوصاف تسمّي نفسها بمشروع فكري او بورشة عمل او بشكليات ديمقراطية او بحريات تافهة او مبدأ عفا الله عما سلف .. ان الذي اعتقد بجدواه حقا يكمن بتأسيس ثورة تربوية وقانونية في العراق وتبديل تفكير الناس وتغيير سلوكياتهم من خلال مناهج ذكية وادوات علمية واحكام قانونية .. وان اي اسلوب آخر بما فيه اشباع الحاجات سوف لن يكفي ابدا ما دامت هناك نزعات صارخة للتفرد وضياع متعدد للولاءات وتسطيح كامل للرغبات ، علما بأن كل الموبقات هي التي ينتجها صراع انسجام الحواضر بتخلف الارياف !
المثالب والغايات
ويا ويل لذاك النفر من ابناء جلدتهم في احقادهم السياسية كما علمتنا اياها مختلف العصور .. ان واحدهم مستعد لايصالك الى حبل المشنقة بعد اتهامك او تكفيرك بسهولة اذا اختلفت معه في الرأي ! وآخر مستعد لقتلك والتمثيل بك فرادى وجماعات اذا ما خرجت عن طوعه ! ويا ويل لتلك الجماعات من المتسلطين اذا استخدموا سلطاتهم مهما كانت نوعيتها ! والعراقيون يعجزون تماما في الاتفاق على رأي واحد وزعيم واحد وقرار واحد وهدف واحد .. وانني اليوم انتظر دورهم في انجاز دستور موحد ودائم للبلاد في غضون فترة زمنية محددة ، وسنرى ان كانوا فعلا عند مسؤولياتهم لتحديدهم بانفسهم ما يريدونه لمستقبلهم ! لقد بقوا سنوات طوال وهم منقسمون سياسيا ازاء معارضة خصمهم صدام حسين من دون ان يتحدوا ابدا في مواجهته ، وكانوا مثلا يضرب بهم العرب في التعاسة والتفرقة والعداء ، ولولا مشاركة الاخر لما استطاعوا ان ينجزوا شيئا ذي بال في مؤتمراتهم .. ولا ادري كم يحب ذلك البعض ممارسة السلطة وتقلد المناصب، انهم يسعون سعيا حثيثا نحو المناصب العليا عسى يحظون بالوزارات والقيادات والرئاسات والادارات والسفارات والنيابات والوجاهات .. الخ من المناصب التي يبتغون منها الجاه والمال تحت مسميات شتى .. وانهم لا يعترفون بجهود آخرين من غيرهم وتتحكم بمثل هكذا بشر جملة ركامات من الانويات والجهويات والعصبيات والقبليات والعشائريات والمحسوبيات والمنسوبيات التي عرفوها منذ ان تأسست المملكة العراقية .. وكثيرا ما اجدهم يعبرون عن ذلك بوسائل شتى غير مستحبة على الاطلاق .. انني اتساءل عن اسماء عراقيين وضعت دماءها فوق راحتها منذ السبعينات والثمانينيات والتسعينيات وهي تقارع دكتاتورية صدام حسين وقد انزوت اليوم من دون ان نسمع لها اي ذكر ابدا ! لماذا ؟ ما الذي احبطها ؟ من الذي سرق منها نضالها القاسي ؟ من الذي جعلها تتأسى على كل جهادها من دون ان يذكرها احد هذه الايام ؟ اسألكم جميعا : اين هم اولئك العراقيون الشجعان والعراقيات المتصلبات ؟ من الذي اغتال تاريخهم وقطف ثمارهم ؟ نعم ، لابد ان نعلم بأن هناك من العراقيين من هو مستعد ان يقطف ثمار غيره علنا من دون اي خجل ولا اي اخلاق ! سنوات طوال واشخاص اعرفهم شخصيا يشتمون واحدة من ابرز جرائد العراق في الخارج ويشتمون صاحبها ورئيس تحريرها المستقل ومنهم ادباء وشعراء كبار واساتذة جامعات ومختصين عراقيين .. ويسمونه باسوأ النعوت وينتقدونني وغيري من الناس كيف كنا ننشر في جريدته ( ) مقالاتنا حتى جعلوا اسماءنا في اللائحة السوداء .. واليوم اجد اسماء اولئك النفر من المنافقين التسلطيين تزين اركان تلك الصحيفة ، واذا عاتبت المحرر يجيبك قائلا : بأننا في عصر الحريات ! وينسى بأن ثمة مبادىء تحكم اخلاقيات المهنة ، اذ لا يمكن ان يتساوى الناس في تقييمهم قبل سقوط النظام او من بعد سقوطه ! فالكافر لا يؤمن حتى يعلن توبته على الملأ ، ويعترف بما كان يفعله ويهدد من خلاله ..
بقايا وترسبات
ان العراقيين مستعجلين جدا ، اذ لا يفكرون بأن التركة التي خلفها العهد السابق من ورائه هي ثقيلة جدا ولا يمكن ان تتبدل الامور رأسا على عقب في غضون ايام او اشهر .. انها بحاجة الى سنوات طوال هي بمثابة فترة نقاهة تؤسس فيها كل الاسس والمنطلقات .. انني مؤمن ايمانا شديدا بقدرات العراقيين اللامحدودة في الابداع والتنمية والتحضر .. انني مؤمن بأن الخير لابد ان يسبق الشر في ترسيخ نفسه عند العراقيين .. انني مؤمن بأن السفينة سوف لن تغرق اذا حظيت بربابنة حكماء واذكياء واوفياء يدركون كيف ينبتون الارض العراقية وكيف يسوسون العراق بعيدا عن نهب ثرواته وعن التسلط على ابنائه .. انني مؤمن بأن عملية ترضية كل العراقيين من اصعب المهام الشاقة ولكنها سبيل لا رجعة عنه .. كنت اتأمل كما يشاركني اصدقاء من العراقيين المثقفين ان يغرق العراق بعد سقوط الحكم السابق بالخيرات وبكل ما حرم العراقيون منه على مدى عقود طويلة من السنين وهذا لم يحدث .. كنا نتأمل بعد حصول التغيير ايقاف اي تداعيات خطيرة على وجه السرعة كالذي يحدثه الانقلابيون باغلاق الحدود ومنع التجول واعلان الاحكام العرفية وحكم الطوارىء .. وهذا لم يحدث ابدا ! ان العراقيين جميعا بحاجة ماسة الى من يوفر لهم الحياة الامنة والحياة الطبيعية قبل المغازلات السياسية والشكليات البليدة والاعلاميات المهيجة للعواطف .. ان العراقيين لديهم ما يكفي من اموالهم المحتجزة التي كان لابد ان تستغل مباشرة في كسب قدراتهم العملية بعيدا عن المناورات وانفلات الامور ! ان المتمردين لا تردعهم العقوبات ولا القساوة فيها بقدر ما يسكتهم اشباع الحاجات .. ولابد من توفير فرص عمل مهما كانت الاوضاع كي ينشغل الناس بعملهم بدل حالات البطالة الصعبة .. انهم بحاجة الى ان يشعروا بطعم التغيير ويتذوقون حلاوة الامن والاستقرار .. وكم احببت ان يقرأ من يتسلم حكم العراق تاريخ العراق القريب والبعيد ليدرك مستلزمات اساسية وكيفيات اجرائية في ضبط الامور في الحياة العادية ، فكيف سيكون الامر بعد حكم جائر بشع لشعب يعيش حياته باحاسيسه وافكاره واقداره .. شعب لا اعتقد ابدا ان يكون هناك شبيه له في هذا الوجود وخصوصا في تنوعاته وامزجته وغرائبه وعجائبه وتمردات اجناسه .. اتمنى من كل ابناء جلدتي العراقيين الشرفاء ان لا يغسلوا ايديهم من وطن بسبب حفنات بائسة من المتمردين والمتخلفين والمنافقين والسارقين المجرمين .