نعود إلى أخبار وخلفيات قنبلة بريمر الكيلاني الاقتصادية : فإلى جانب تصريحات "هتلي "التي كشفت لعبة إصدار قرارات بيع العراق للمستثمرين الأجانب ثمة معلومات أكثر خطورة وردت في التسريبات الخاصة والتصريحات العلنية لبعض أعضاء المجلس أفادت بأن موضوع تلك القرارات الاقتصادية أكثر جدية وخطورة وقسوة مما بدا في ظاهر الأمر .
على سبيل المثال ، أعلن وزير المالية كامل مبدر الكيلاني عن استثناء موضوع النفط من الاستثمارات الأجنبية المفتوحة ، وسبب ذلك معروف إذ أن النفط العراقي تم اعتباره غنيمة حرب للولايات المتحدة وأسندت بعض وليس كل مشمولاته إلى شركة أمريكية عملاقة هي " هالبيرتن " التي كان يرأسها نائب الرئيس بوش والصهيوني المتطرف ديك تشيني . ويرى مراقبون آخرون أن عملية استثناء النفط في الوقت الحاضر هي قرار سياسي أمريكي بحت هدفه تأجيل معركة الاستحواذ على الثروة النفطية كاملة حتى تتحسن شروط الفعل السياسي الأمريكي في مواجهة الإتلاف الفرنسي الروسي الألماني ، أما عضو مجلس الحكم المعين السيد " موفق الربيعي " فقد أخبر قناة "العالم " الإيرانية بخلاف ما أعلنه الكيلاني وقال إن ميدان تكرير النفط و عمليات تصديره ليست مستثناة بل هي مشمولة بتلك القرارات .
وهذا يعني أن الميدان الوحيد الذي ظل خارج نطاق عملية البيع للمستثمرين الأجانب هو التنقيب والاستخراج ، وهذا أمر مفهوم إذ أن عرضه للبيع يتناقض " مؤقتا " مع قرارات تأميم الثروة النفطية وسوف يتم الإجهاز على هذا العائق قريبا .
وعلى كل حال،فهذا أمر إن لم يكن قد تم حسمه في صفقة " هالبيرتن " ، فهو لا يمكن أن يكون نهائيا ، و سوف يعرض ما تبقى من فتات قطاع النفط العراقي للبيع لاحقا ولكن بطريقة شيطانية يكون الرابح فيها هو الولايات المتحدة التي قد ترمي ببعض العظام للذيل البريطاني الحليف وبعض دول أوروبا الشرقية المفلسة التي أرسلت بجنودها للمشاركة في احتلال العراق كبولونيا ورومانيا وغيرهما .
أما بخصوص الاستثمار الأجنبي في مجال العقارات والأراضي فقد صرح الربيعي بأن مجلس الحكم المعين وضع شروطا وصفها بالحاسمة لمنع احتمال لجوء بعض المستثمرين الأجانب إلى عملية تأجير الأراضي والعقارات لفترات طويلة تجعلها أقرب إلى الشراء منها إلى التأجير فكان المدى الزمني الذي حدده المجلس لعقود التأجير هو تسعة وأربعين عاما !! ومن المتوقع طبعا أن تكون الفترة قابلة للتجديد ، فما الحاجة إذن إلى الشراء والبيع ؟
أما محاولة المجلس إرضاء وتهدئة الصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال العراقيين الذين ذعروا ذعرا حقيقيا من هذه القرارات المدمرة لهم ولمصالحهم ، فقد جاءت محدودة جدا . لقد أعلن الربيعي عن إن المجلس سيؤسس صندوقا لدعم الاستثمار الوطني برأسمال قدره مائة مليون دولار . وللمرء أن يتساءل : ترى ما قيمة هذا المبلغ أمام الترليونات التي تقف خلف رأس المال الأجنبي الساعي لاقتلاع شامل وعميق للعراق وثرواته ؟ وأية نسبة يشكل هذا المبلغ مقارنة برؤوس الأموال الأجنبية التي تقف خلف مستثمرين يريدون شراء البلد بأبخس الأثمان ؟
وقبل أن نغرق في تفاصيل هذه المجزرة الاقتصادية المذهلة نشير إلى أن جهات قانونية واقتصادية من منظمات وشخصيات عراقية و عربية وعالمية أعربت عن شكوك قوية في مشروعية هذه العلمية ككل ، على اعتبار لا يمكن دحضه ، وهو أن العراق بلد محتل ، وهذا أمر مرسم بقرار من الهيئة الأممية الأعلى أي الأمم المتحدة ، وإن الدولة العراقية قد تم تدميرها تدميرا تاما ومقصودا .وهكذا، فلا وجود لطرف بائع وآخر مشتر بل هناك أطراف أجنبية ناهبة يدعمها مجلس غير شرعي وطرف محلي هو شعب مغيب في بلد محتل ودولة مدمرة تماما .
وبخصوص مجلس الحكم المعين صاحب القرار شكلا ، فينطبق عليه المبدأ الفقهي والقانوني القائل ( كل ما قام على باطل هو باطل ) . بمعنى : أنْ "لاشرعية" الوجود الأمريكي واحتلاله للعراق ينتج عنه "لاشرعية" المؤسسات والهيئات والمنظمات التي شكلها وأشرف على قيامها الاحتلال . وإذا كان الجميع ،بمن فيهم أعضاء مجلس الحكم ، يعترفون بأن السلطة الحقيقية في العراق إنما هي السلطة المؤقتة للتحالف فإن دور مجلس الحكم لا يتعدى إضفاء لمسة عراقية تبريرية على القرارات وعلى العملية بكاملها مما يسهل للولايات المتحدة وحلفائها جريمة نهب الثروة العراقية لعدة أجيال قادمة . إن موافقة الأطراف المشاركة في مجلس الحكم على قرارات بيع العراق للرأسمال الأجنبي هي جريمة فعلية بكل المقاييس وإن مشاركتهم في التمرير والتبرير تجعلهم مشاركين فعليين عما سيحدث للعراق وثرواته في المستقبل القريب .
لقد زعم المدافعون عن منطق الاحتلال ، أن هذه القرارات ضرورية لتمويل وإطلاق عملية إعادة الإعمار وإصلاح الاقتصاد العراقي جذريا و التي ستقوم بها الولايات المتحدة . في هذا الزعم بالضبط تكمن حيلة خطرة ، الهدف منها تضليل الرأي العام العراقي والعربي ، وتقوم هذه الحيلة على عملية خلط مقصود بين عمليتين اقتصاديتين مختلفتين ومتناقضتين : الأولى هي عملية الإصلاح الاقتصادي المبرمج والتدريجي وهي عملية إيجابية رغم خطورتها وذات أهداف تتعلق بإصلاح البنية الاقتصادية وآليات ومسارات النشاط الاقتصادي الوطني كليا أو جزئيا لكي يستفيد وينسجم مع العولمة الاقتصادية المنتشرة والمفروضة قسرا من الدول الغنية على الاقتصاد العالمي ويصد أضرارها ويحد من آثارها السلبية .
وهنا بالضبط تكتسي الملاحظة التي قالتها الباحثة اللبنانية "جوزفين شديد "حول الترابط بين الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الإداري قيمتها الكبرى . إن إصلاحا اقتصاديا واسعا وعميقا في العراق هو ضرورة حتمية بدونها سيكون الوضع أسوأ مما كان عليه في عهد حكم المقابر الجماعية بمائة مرة ،غير أن إصلاحا كهذا يتناقض جوهريا مع المشروع الاحتلالي الأمريكي الساعي الى ابتلاع العراق ورهن اقتصاده بالديون الهائلة لمنعه من التحرر والتقدم وإحراو أية استقلالية . ومن جانب آخر فإن أي مشروع للاصلاح يتطلب وجود مصلحين يعون ما يفعلون ولهم شرعيتهم الشعبية والقانونية ولا نعتقد أن مجموعة الخمسة وعشرين التي استنقاها بول بريمر وسكرتيره هتلي لها من الشرعية ما يؤهلها لاكتساب صفة المصلحين وبكل أسف فبعض هؤلاء قد يصلحون كجلادين كما كانوا في عهد صدام ومطبقين لحكم الإعدام الذي شرع أحدهم وهو أياد علاوي بالمطالبة بإعادة العمل به ز وكأن المحتلين الأمريكان بحاجة فعلا لقرار جديد بإعادة تطبيق حكم الإعدام ! إن أي طفل من ضواحي بغداد يعلم أن الجنود الأمريكان الذين يطبقون حكم الإعدام يوميا بالعراقيين العزل ليس بحاجة الى نخوة البعثي السابق أياد علاوي ودعوته إلى إعادة تطبيق هذا الحكم . ومع ذلك ، فرغم صحة الربط بين الإصلاحين " الاقتصادي والإداري " الذي قالت به السيدة شديد فإن كلامها يبدو ناقلا ولا علاقة له بالموضوع لسبب بسيط جدا وهو إن الكلام يدور في العراق اليوم ليس عن إصلاح اقتصادي بمعنى إعادة تخطيط وتفعيل مفردات الساحة الاقتصادية العراقية بما يخدم عملية ترشيد وترصين الأداء الإنتاجي واكتساب المناعة الداخلية والمرونة الكافية للدخول في العملية الاقتصادية العالمية من موقع المتانة والتفاعل الخلاق ، ومع أن إصلاحا بهذه المعاني لا بد منه ، ولا تقدم للعراق بدونه ، ولكن الكلام كما قلنا يدور عن عملية التكيف الهيكلي من خلال العلاج بالصدمة الغايدارية التي ستنتهي باستباحة البلد وموارده لصالح قوة كونية أعظم وتحويل شعبه إلى بضعة آلف من أصحاب البلايين ينطق باسمهم وباسم مصالحهم اليوم مجلس الحكم المعين وملايين الجياع والمسحوقين ، وليس العراق بأغنى من دول واجهت هذا المصير البائس والأمثلة كثيرة كروسيا ، البرازيل والمكسيك .. الخ .
خلال العملية الثانية ، التي يسميها الخبراء عملية التكييف الهيكلي للاقتصاد والتي جربت على نطاق واسع بعد تدمير وسقوط الاتحاد السوفيتي تم اللجوء إلى ما عرف بـ "العلاج عن طريق الصدمة " ومبتكر هذا العلاج هو رئيس الوزراء الروسي غايدار سابقا وزعيم إحدى المافيات الكبرى حاليا والذي انتهت خططه إلى تدمير الاقتصاد الروسي وخنقه بالتضخم الشامل والمتفاقم وهيمنة المافيات الضخمة على مقدرات البلاد . و بالمناسبة فقد وجهت سلطات احتلال العراق الدعوة إلى "غيدار " هذا لزيارة بغداد المحتلة للاستفادة من خبراته وتجاربه في تحطيم العراق وتحويله إلى صحراء وخرائب . إن الفرق بين الإصلاح الاقتصادي المرتبط عضويا بالإصلاح الإداري و بين التكييف الهيكلي واضح حتى للمواطن العادي الذي لا يفهم الكثير في علوم المال والاقتصاد ، ولكن سلطات الاحتلال وجهازها العراقي للتمرير والتبرير يحاولان الخلط بين العمليتين بهدف تنفيذ العملية الثانية على الأرض والثرثرة في الإعلام عن الأولى .
ومما يزيد الطين بله ، أن ظروفا معينة ستسهل على الأمريكان وأعوانهم تنفيذ هذه المخططات من ذلك مثلا علامات انتعاش طارئة ستظهر على بقايا الاقتصاد العراقي كما يتوقع الخبراء الاقتصاديون بمجرد بداية الاجتياح الاستثماري غير المحدد بسقف مالي أو جغرافي أو زمني ، وقد شبه مساعد عميد كلية الاقتصاد والإدارة في جامعة المستنصرية في بغداد رضا القريشي هذه الحالة من الانتعاش المؤقتة والمتوقعة بـ "صحوة الموت " التي سيغرق بعدها العراق في تضخم خطير يقذف الأغلبية الشعبية في آتون المجاعة والإفقار الشديد وستكرر مشاهد العذاب والتدمير التي رأيناها في البلدان التي صحرتها الرساميل العابرة للقارات كالمكسيك والبرازيل ..الخ .
لقد تحكمت بعض الدول الصغيرة والكبيرة نسبيا وإلى درجات متفاوتة من النجاح في عملية الإصلاح الاقتصادي التدريجي وفتحت الباب أمام الاستثمارات الأجنبية ولكن وفق شروط ومقاييس محددة لا يجوز اختراقها وتجاوزها ولم يحدث في تاريخ الاستثمارات الأجنبية أن فتح الباب وبنسبة مائة بالمائة وفي ظل غياب الدولة المركزية والاحتلال الأجنبي العسكري . ولعل تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة أو تونس أو مصر جديرة بالمقارنة مع ما سوف يحدث على أرض العراق .ففي الإمارات تقرر أن لا تتجاوز نسبة الاستثمار الأجنبي في أي مشروع على أرض الإمارات نسبة 49% وهكذا ضمنت الدولة للمستثمر الوطني نسبة 51% و لهذا كان عائد الاستثمارات هائلا وفاق بعدة مرات العائد الإماراتي من النفط والغاز *.
وللحديث صلة في الجزء الثالث والأخير لنعرف حقيقة الطاعون الأمريكي وعلاجه المقترح !
* اعتمدت في سردي للمعلومات عن تجربة الإمارات العربية المتحدة على رسالة شخصية من كاتب عراقي وطني عاش في تلك الدولة أكثر من عشرة أعوام .