|
قراءة في كتاب عزيزسباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق- - 6
جاسم الحلوائي
الحوار المتمدن-العدد: 2007 - 2007 / 8 / 14 - 11:31
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
قراءة في كتاب عزيز سباهي "عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي" 16 "الحزب يحيط نفسه بمنظمات ديمقراطية جماهيرية"، هذا هو عنوان الفصل الثالث من الجزء الثاني من الكتاب. ويستهله الكاتب سباهي في الصفحة 43 وما يليها بما يلي: " إستند الحزب لنشر سياساته بين جماهير الشعب وتعبئة القوى حوله الى إنشاء منظمات ديمقراطية جماهيرية تعنى بالمشاكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تواجه فئات واسعة من السكان، على أن تكون هذه منظمات ديمقراطية وليست حزبية. لكنه ولكي يضمن سيرها وفق الخط الذي يرسمه هو، جعل على رأس هذه المنظمات الديمقراطية كوادر حزبية معتمدة. لم تكن السياسات التي سار عليها إزاء هذه المنظمات تتطابق تماماً. ففي ميدانين خاصين هما حركة السلم والدفاع عن حقوق المرأة جاءت تختلف قليلا من حيث التقيّد بالقيادة الشيوعية، أو على الأقل كانت الحال هكذا في الواجهة الأمامية للمنظمة، أما مفاصل التحرك والتنفيذ فقد ظلت في أيدي الكوادر الشيوعية المعتمدة. لكنها في المنظمات الأخرى، كالطلبة والشبيبة والعمال، كانت الكوادر الشيوعية تتولى قيادتها." ويشرح الكاتب بالتفصيل كيف تم تشكيل تلك المنظمات وطبيعة مهامها وأبرز قادتها. وأجد من الضروري التوقف هنا عند التنظيم النقايي العمالي، الذي واجه إشكالات هامة كانت موضع صراع داخلي وإنتقاد الحزب لاحقأ. عمد الحزب الشيوعي في أوائل الخمسينات الى تكوين لجان نقابية في المعامل وتحشدات العمال دون أن تكون مجازة. وكانت هذه اللجان تتحدث بإسم العمال وتفاوض الإدارات بإسمهم. وفي خريف 1951، شكلت"النقابات" مجلسا مركزيا وأقامت مكتبا دائما لها، وإنضمت الى هذا المكتب نقابات عمال السيكاير وسواق السيارات وعمال المطابع والنجارة والخياطة والبناء وأطلق عليه إسم "المكتب الدائم لمجلس نقابات العمال". وكان جميع أعضائه شيوعيين وقد نشط هذا المكتب في عقد الإجتماعات لتوعية العمال، ولتنظيم الحركة الإضرابية. كذلك شارك هذا المكتب القوى السياسية الوطنية في الدعوة الى الإضرابات العامة لتأييد قضايا الشعب الوطنية والقومية. غير أن الحكم الرجعي عمد الى غلق المكتب المذكور. فعمد الحزب الى تكوين مكتب موحد سري يدير نشاط العمال وينسقه. وقد حاول الحكم الرجعي من جانبه أن يحتوي الحركة العمالية النقابية، وألف لهذا الغرض ما دعاه ﺑ"الجبهة القومية العمالية" ضمت نقابات شكلتها الحكومة لهذا الغرض لعمال الأحذية والخياطة والميكانيك وسواق السيارات. إلا أن العمال النقابيين الذين يتلقون توجيههم من الحزب رفضوا التعاون معها، وظلوا ينظرون الى العمال المنظوين تحت لوائها كمجموعة من وكلاء للحكم. (1) أعتقد كان من المفيد أن يشير الكاتب سباهي هنا، مجرد إشارة، الى أن الحزب خطأ لاحقاً عدم إنضمام العمال للنقابات المجازة رسمياً. ويعد سباهي القارئ بتناول الموضوع عندما يحين وقته. وارى من المفيد توضيح موقف الحزب من هذا الأمر رغم ما في ذلك من إستباق للأحداث، لأن تعابير مثل "ألفت الحكومة" بدلا من "أجازت الحكومة" و"وكلاء الحكم" قد توحي للقارئ بأن موقف العمال من النقابات المجازة كان صحيحاًً. في إجتماعين كرسا لمراجعة سياسات الحزب عقدا في حزيران وتموز 1955، بعد إنتخاب الرفيق سلام عادل سكرتيراً للجنة المركزية، تناول الإجتماع النشاط الجماهيري. ويذكر سباهي في الصفحة 164 ما يلي حول القضية إياها: " توقفت اللجنة المركزية في هذين الإجتماعين عند سياسات الحزب الجماهيرية، ولاحظت إنه يسير في سياسة يسارية إنعزالية، نشأت عن القيادة الفردية وخرق المبادئ الأساسية التي يقوم عليها الحزب. وأعطت مثالا على ذلك الموقف الذي وقفه الحزب من الحركة النقابية، ولجوئه الى العمل السري في العمل النقابي، ونفور العمال الشيوعيين من العمل في النقابات العمالية المجازة لأن قياداتها لا تحظى بإحترامهم، في وقت تنعدم فيه فرص النشاط النقابي القانوني. ودعا تقرير اللجنة المركزية جميع الخلايا الحزبية في المعامل لتكريس جزء هام من نشاطها للعمل في هذه النقابات وتنشيطها، وفي ذات الوقت السعي لإجازة نقابات جديدة أخرى، لاسيما في التحشدات العمالية الكبيرة كالنفط والسكك والميناء." 17 وتناول الكاتب نشاطات جماهيرية وسياسية كثيرة جرت في عهد قيادة الرفيق بهاء والممتدة من حزيران 1949 حتى إعتقاله في نيسان 1953، وذلك في الفصول: الثاني والثالث والخامس. وأفرد الفصل الرابع لإنتفاضة تشرين الثاني 1952، والتي سأتوقف عندها لاحقاً. ومن أبرز تلك النشاطات هي إضرابات عمالية عديدة في البصرة وبغداد قام بها، على سبيل المثال لا الحصر، عمال الميناء والسكك الحديدية والنفط في البصرة، وعمال الغزل والنسيج والسيكاير في بغداد. وكانت هذه الإضرابات تلقى الدعم والعطف من الجماهير المحيطة بالمعامل والقريبة لمواقع الإضرابات. وتكررت الإضرابات العمالية في القواعد العسكرية البريطانية رغم أن القوات البريطانية العسكرية واجهت العمال المضربين بالرصاص وقتلت أربعة منهم في قاعدة الحبانية. وكانت هناك تحركات فلاحية ثورية من أشهرها إضرابات وتمردات فلاحي (عه ربت) وبانيخيلان و(ده ره دوين) وهورين شيخان وورماوه في السليمانية عامي 1950 و1951، وتمرد فلاحي آل إزيرج في العمارة عام 1952. وقد كان الحزب الشيوعي في صلب هذه الإحداث وفي طليعة بعضها. وكانت هناك مظاهرات أيضا. كانت الأولى خاطفة في الأول من أيار 1951، لم تضم أكثر من 150 متظاهراً. أما أول مظاهرة جماهرية فقد جرت لتشييع جثمان نعمان محمد صالح، السجين الشيوعي الذي توفي أثر مشاركته في الإضراب عن الطعام، الذي أعلنه السجناء السياسيون في السجون المختلفة ومنها سجن بغداد، حيث كان الشهيد يقضي فترة محكوميته. وأسهم الحزب مع الأحزاب الوطنية الأخرى في الدعوة الى الإضرابين السياسيين اللذين حصل الأول في 14 تشرين الأول 1951، تاييدا لنضال الشعب المصري ضد الإحتلال البريطاني. والثاني في 19 شباط 1952 إحتجاجا على إتفاقية النفط (المناصفة) الذي عقدتها الحكومة العراقية مع شركات النفط الأجنبية. وقد شمل الإضراب الأخير عدداً من المدن ورافقته تظاهرات وإصطدامات عنيفة مع البوليس. وكان للتعاون بين القوى السياسية الوطنية خلال الإضراب أثره في تكوين لجنة الإرتباط بين الأحزاب الوطنية في 17 تشرين الثاني 1952، التي شارك فيها الحزب الشيوعي من خلال حركة أنصار السلام، دون ذكر إسمها صراحة، الى جانب حزب الجبهة الشعبية الموحدة والوطني الديمقراطي وحزب الإستقلال.(2) 18 وكما أشرت قبل قليل، فإن الكاتب سباهي يخصص فصلا كاملاً لإنتفاضة تشرين 1952 بإعتبارها إحدى مآثر شعبنا الخالدة. كانت العوامل الإقتصادية والسياسية التي فجرت غضب الشعب العراقي بوجه حكامه وأسيادهم الإمبريالين في وثبة كانون 1948، هي نفسها التي فجرت إنتفاضة تشرين. وجاءت العوامل الإضافية لتعمق عزلة الحكام وإنسلاخ العديد من عناصرها وإنضمامها الى صفوف المعارضة. وكان المد الثوري في إيران الذي رافق تأميم النفط، واشتباك حكومتها بقيادة الدكتور محمد مصدق مع شركات النفط الأجنبية التي هي ذاتها التي تستحوذ على نفط العراق، تأثير هام على معنويات الشعب العراقي. وجاء سقوط النظام الملكي العميل في مصر وإقامة النظام الجمهوري حافزاً إضافيا لإنتفاضة الشعب. وجاءت النضالات الجماهيرية التي أشرنا اليها وكذلك نضال مختلف الأحزاب الوطنية العلنية، بما في ذلك مذكرتها التي كانت تعبر عن مطالب الشعب الأساسية والمباشرة، لتشكل المقدمات المباشرة للإنتفاضة. ولم تكن الإنتفاضة مفاجئة لأي من طرفي الصراع، وقد تنبأ الحزب الشيوعي العراقي بها، قبل وقوعها بأسابيع، في العدد (13) من نشرة الحزب الداخلية "الإنجاز". وقد جاء فيها ما يلي: "إن حركتنا الوطنية الديمقراطية تطورت وتعاظمت، رغم الإرهاب الفاشي والدكتاتورية السافرة ضد الشعب. فبينما كان هناك، في عامي 1949 و1950، أزمة للحركة السياسية الثورية في بلادنا، نجد اليوم مداً متعاظماً للحركة الثورية وأزمة عنيفة للرجعية ونلمس بوادر إنتفاضة شعبية للإطاحة بالحكم الدكتاتوري ولإنتزاع الحريات الديمقراطية وتحقيق مطالب الشعب" (3) وإنطلقت الشرارة من إضراب طلبة كلية الصيدلة والكيمياء في بغداد في 26 تشرين الأول إحتجاجاً على حماقة عميد الكلية الذي أجرى تعديلاً غريباً على نظام الكلية، وإنتهى الإضراب يوم 19 تشرين الثاني بإلغاء التعديل وإبعاد العميد بمنحه إجازة مؤقتة. وقد إقترن إنتهاء الإضراب بإعتداء دبرته الأجهزة القمعية ضد عدد من أعضاء لجنة الإضراب. وأدخل الجرحى المعتدى عليهم الى المستشفى. وأدى ذلك الى هيجان الطلاب وتجدد الإضراب فورا. ويصف سباهي، معتمداً على مصادر مختلفة، يوميات الإنتفاضة وصفا وافياً بما في ذلك حملة الإعتقالات التي شملت، طبقاً لإحصائيات وزارة الدفاع، 2999 شخصا. حكم من بعد على إثنين منهم بالإعدام وعلى 958 بالسجن والغرامات، والكفالات على المئات. وكان من بين المعتقلين عدد من الساسة، من وزراء ورؤساء أحزاب وقادتها ونواب وصحفيين. ويخلص سباهي في ص70 وما يليها الى مايلي : "أخفقت إنتفاضة تشرين في تحقيق أهدافها. ولكن على خلاف ما كان يحلم به الحاكمون، لم يؤد ضرب الإنتفاضة وإنزال الجيش الى الشارع، وهو إجراء لم يسبق أن أقدمت عليه الفئة الحاكمة من قبل، الى إستكانة الجماهير وكسر معنوياتها، بل العكس، ظلت الجماهير تشعر إنها أرعبت الحكام، وإنها إستطاعت في بحر ثلاثة أيام فقط أن تسقط وزارتين . وإنها جردت خصمها من كل ما يستتر به وبات يعتمد على آخر ورقة يملكها، أي الجيش، ( بعد أن هزمت قوات البوليس ليومين متتالين، وفرضت جماهير بغداد سيطرتها على الشارع ، ولم تعد هناك حكومة تدير البلد. جاسم) وإنها ورقة غير مضمونة... كذلك فقد خرجت القوى الوطنية منها وهي أكثر تقارباً من بعضها على خلاف ما حدث في وثبة كانون الثاني 1948." وعندما يقيّم الكاتب سباهي دور الحزب في الإنتفاضة يشير الى أن الإنتفاضة إندلعت ومرت كالإعصار العنيف في ثلاثة أيام فقط، وقد تصرفت الجماهير فيها بعفوية بالغة، ومثلها تصرف الشيوعيون وقيادتهم الى حد ما في كل الأمور، وحتى أخطرها شأنا، كانت تطرح وتتخذ بشأنها القرارات وتنفذ... وما كان بالوسع أن يكون الأمر غير ذلك حين تُزج كامل قيادة الحزب في غمرة المظاهرات العاصفة. ولم تكن هناك فرصة لتأمل الأحداث. لذلك عجزت هذه القيادة من أن تزج في المعركة في الوقت المناسب جماهير المدن الأخرى. ويشير سباهي كذلك الى أن الهتاف بإسقاط النظام الملكي وبحياة الجمهورية على كونه يستجيب الى مزاج الجماهير الغاضبة ساعتها، ويأتي في وقت يؤكد البلاط في كل يوم على فساده وتحوله الى عقبة أمام تقدم البلاد، إلا أن هذ الشعار كان فوق ما تحتمله القوى التي يتحالف معها الحزب يوم ذاك... ومع أن الحزب كان يدخل في إتفاق مع الأحزاب الوطنية الأخرى في إطار (لجنة الإرتباط)، فإنه كان ينفرد في الشارع بإتخاذ القرارات ويطرحها على الجماهير مباشرة حتى لو كانت هذه القرارات تتعلق بتلك الأحزاب مثل المطالبة بتشكيل حكومة برئاسة كامل الجادرجي مع توزيع المقاعد الوزارية وإعلان ذلك على الجماهير دون علم الوزارة ورئيسها!؟ (4) 19 ينثر الرفيق عزيز سباهي في الفصل الثالث والذي يسبقه أيضا، تقييماته لإداء قيادة الرفيق بهاء الدين نوري بشكل لاتساعد القارئ على الخروج بفكرة وإنطباع واضحين. فهو يذكر بأنه "لم يكن الحزب يعمل وفق خطة محسوبة في ميداني النشاط السياسي والعمل التنظيمي. وكما يعترف هو(بهاء) في مذكراته، بأن وضع خطة كهذه كان فوق مستواه." ص 36. في حين يذكر سباهي في مكان آخر ما يفيد بأن قيادة بهاء كانت تتمتع بقدرة جيدة على التخطيط. فقد جاء في الصفحة 55 من الكتاب ما يلي: " في العامين الأولين من قيادة بهاء الدين نوري تركز إهتمامه في إعادة بناء الحزب وإيجاد الإستقرار التنظيمي والعمل على توفير الإنتظام في إصدار جريدة الحزب المركزية وتحسين طبعها وتوزيعها والعناية بالنشر الحزبي بوجه عام. وحتى ذلك الحين كان الحزب قد إبتعد عن الدخول في نضالات جماهيرية مكشوفة. وعندما توفر له قدر ضروري من الإستقرار وإنتظام العمل إنصرف الى تعزيز نفوذ الحزب بين الجماهيرعن طريق المنظمات الديمقراطية الجماهيرية على النحو الذي رأيناه في الصفحات السابقة. حتى إذا تحقق له ذلك قرر الإنتقال التدريجي، كما يقول، الى النضالات الجماهيرية. وكنا قد المحنا الى أول عمل من هذا النوع، المظاهرة الخاطفة التي أشرنا اليها في الفصل السابق. تم تدرج بتنظيم الإضرابات العمالية...الخ". وتتناقض الفقرة الثانية مع الأولى وتظهر الرفيق بهاء بمستوى سياسي وتنظيمي لم يدعيه هو ذاته لنفسه، كما هو واضح من الفقرة الأولى. إن مثل هذا التخطيط والتدرج يحتاجان الى نضج وخبرة كانتا تنقصان قيادته، التي إتسمت عموما بالعفوية والتجريبية. أما الإنجازات التي تضمنتها الفقرة فهي صحيحة ولكنها لم تكن نتيجة للتخطيط. فهناك وقائع تدحض الرأي الوارد في الفقرة والقائل: " في العامين الأولين من قيادة بهاء الدين نوري تركز إهتمامه في إعادة بناء الحزب وإيجاد الإستقرار التنطيمي. وهذه بعض الأمثلة التى تفند ذلك : * بعد حوالي الشهرين من وصول بهاء الدين الى بغداد باشر بالنشر الداخلي لرفع معنويات المناضلين. وبدلا من الإكتفاء بالنشر الداخلي لحين إستقرار الوضع القيادي وتضميد جراحات الحزب، قام بعمل دعائي في غير وقته، كاد أن يقضي على المركز الجديد قضاءً مبرماً. فقد أصدرت قيادته منشوراً تحت عنوان (بيان الحزب الشيوعي العراقي حول الوضع السياسي الراهن)، وقررت توزيعه على نطاق واسع. "فجن جنون الأمن العام ونشر مفارزه في جميع أنحاء العاصمة أثر توزيع المنشور" حسب تعبير بهاء في مذكراته. وكان هادي سعيد أحد مساعدي بهاء، الذي لم يلتزم بتدابير الصيانة، صيداً سهلاً لتلك المفارز. وأدى إنهياره الى وقوع بهاء وزكي وطبان ورؤوف بيد البوليس. وقد تمكن بهاء بالكاد من الإفلات، بعد أن خاض معركة غير متكافئة بالأيدي والأرجل مع البوليس. وأعتقل رؤوف وكذلك زكي بعد إصابة الأخير بطلق ناري في ساقه عند محاولته الهرب. بعد هذا الحادث بقي بهاء وحيدا في المركز الجديد، بعد إعتقال وإنهيار أقرب معاونيه هادي سعيد وزكي وطبان. ونظراً لحصول الأمن على معلومات وافرة عن بهاء، قرر الأخير الإنسحاب الى كركوك مع بضعة رفاق. وكانت هذه خطوة هامة جدا خطاها بهاء، ضمنت إستمرار المركز القيادي، وهذا أهم ما كان يحتاجه الحزب على الإطلاق. وكانت لهذه الخطوة بالغ الأثر على مواصلة الحزب على مسيرته. وكما لاحظنا فإن بهاء لم يفكر بهذه الخطوة سابقًاً، وإنما أرغم عليها. وهكذا أدت مغامرة إصدار بيان عام وتوزيعه على نطاق واسع وما نتج عن ذلك من مضاعفات أضرت بالحزب، الى إتخاذ خطوة معقولة، وهي إنسحاب بهاء من العاصمة، فإنطبق على الحالة المثل المشهور "ربّ ضارة نافعة". (5) * ولم يبتعد الحزب في العامين الأولين عن الدخول في نضالات جماهيرية مكشوفة، كما جاء في الفقرة الثانية. فقد جاء في كتاب سباهي ص39 مايلي: " بيد أن أهم ما إستجد في هذا الشأن، هو أن جماهير الشعب ذاتها قد شرعت تتحرك بتحريض من الشيوعيين. وجاءت باكورة تحرك الجماهير إضرابات العمال... حتى إذا حل عام 1950 (أي قبل أن يكمل بهاء عامه الأول في قيادة الحزب. جاسم) كانت الإضرابات العمالية قد تتابعت في البصرة وبغداد بين عمال السكك و(كري مكنزي) في البصرة وعمال الغزل والنسيج والسيكاير في بغداد". * وليس بعيداً عن تقييم قيادة بهاء الدين لتلك المرحلة، يمهد سباهي لإنتقاله الى فصل مكرس للمنظمات الديمقراطية الجماهيربة بما يلي: "كان الحزب، كما لاحظنا في الفصل الأخير من الجزء الأول، قد أشار في رسالة وجهها الى حزب توده الشقيق في ايران الى أن تحليله للوضع الدولي والداخلي يبشر بمد ثوري جديد في القريب. وقد صدق ظن الحزب. إستنادا الى هذا إنطلق من أجل أن يستوعب هذا المد في منظمات جماهيرية مختلفة. فإلى أي حد أصاب أو أخطأ في توجهه هذا؟" ص40. وهنا يدورالحديث حول فترة أوائل الخمسينات ولم تكن قيادة الحزب على هذا المستوى السياسي والتنطيمي كي تتنبأ وتخطط على مدى طويل نسبيا، ولم يدع بهاء ذلك لنفسه. ولم يستند بهاء الى ما جاء في تلك الرسالة، لأنه كان يرى بأن هناك "في عامي 1949 و1950، أزمة للحركة السياسية الثورية" (كما ورد ذلك في الموضوع المرقم 16)، وليس مداً ثورياً. إن الرسالة المشار اليها ارسلتها قيادة حميد عثمان التي أعتقلت في حزيران عام 1949 ولا علاقة لها ببهاء وتقديراته ومنطلقاته لتشكيل منظمات ديمقراطية جماهيرية في عام 1951 ولاحقاً. ولا أستبعد بأن حميد عثمان كان يتصور بأن المد الثوري قريب جداً، ربما بعد بضعة أشهر. وأستند في رأيي هذا هو أن عثماناً لم يكن بمقدوره التمييز بين المد والجزر في الحركة الوطنية والثورية. فقد كان يرى مداً ثوريا في عام 1955، أي في ذروة جزر الحركة الوطنية التي لم تتمكن من التصدي الفعّال لإحباط مساعي الحكومة لعقد حلف بغداد. ولم يشخص عثمان هذا الجزر ، بل كان يرى أن هناك غلياناً ووضعاًً ثورياً ناضجاً للقيام بإنتفاضة. " لقد أعطى أمراً إلى لجنة بغداد للقيام يإنتفاضة تطيح بحكومة المراسيم والإرهاب وحلف بغداد..."! (6) ويبدو بأن الإسراف في الحذر وشيوع روح التطـّير لفترة طويلة من الزمن، والسخط على السياسات اليمينية التي سارت عليها قيادة مالك سيف من جهة، واليسارية التي شاعت في الحركة الشيوعية العالمية بتأثير السياسة الستالينية، من جهة أخري، كانت من العوامل المساعدة التي عززت الميل نحو التطرف اليساري في سياسة الحزب الشيوعي العراقي في تلك الأيام، كما عمقت من روح التشدد الإنعزالي والتعامل الإنفعالي الذي طبع سياسات وسلوك قيادة بهاء وأصحابه. (7) لايذهب الظن بالقارئ بأن الرفيق عزيز سباهي إقتصر في تقييمه لقيادة الرفيق بهاء الدين على ما مر بنا، فقد تناول بالنقد، الى جانب إنجازاتها الكبيرة، جميع أخطاء تلك القيادة وسلوكها الفردي البيروقراطي ونهجها الإنعزالي. فقد جاء، على سبيل المثال لا الحصر، في الصفحة 57 وما يليها من كتاب عزيز ما يلي: " لقد كان التشديد اليساري يطبع كامل سياسات الحزب وخطابه الى الجماهير، والفردية تغلب على تنظيمه وسياساته. صحيح أن الحزب قويّ وتوسعت القاعدة الجماهيربة التي تسنده، وتعددت المنظمات الديمقراطية التي تلتف حوله، لكن هذا التعاطف الجماهيري كان دون ما يؤمل أن يحصل عليه في تلك الفترة... وكانت نشريات الحزب تعنى بالجملة الثورية دون محتواها الحقيقي، وكثيرا ما أدخل الحزب في أدبه السياسي، في خطابه الى الجماهير، أوصافاً وتعابير لم تكن الجماهير تفقه معناها، بل لم يدرك كاتبها نفسه ما تعنيه. وفي مذكراته يعترف بهاء أنه كان يصف هذا أو ذاك بالتروتسكية أو التيتويه دون أن يدرك تماماً ما تعنيه هذه الأوصاف ، وهو القائل: [ومن المرجح أن تحليلاتي للوضع في ذلك الوقت كانت تستند الى خليط من المسائل الواقعية ومن الأفكار العقائدية الجامدة المأخوذة من الكتب، على الأقل بالنسبة لبعض الأمور.] أما في حياة الحزب الداخلية فإنه عجز، بسبب السياسة ما فوق اليسارية، عن أن يوجد الإستقرار الداخلي في منظمات الحزب". "وحتى حين أعلن عن تكون اللجنة المركزية في عام 1952 فإنه إتخذ هذه الخطوة [لتجميد مطالب بعض المنظمات في الحزب لتشكيل لجنة مركزية. وبغرض تخدير يقظة تلك المنظمات وصرف إنتباهها عن ذلك المطلب الهام، وبالتالي لغرض تثبت القيادة الفردية للحزب]. ويلاحظ هنا أيضاً أن بهاء الدين نوري لم يضم الى لجنته المركزية أياً من الشيوعيين في السجون بمن فيهم من كان عضواً أو مرشحاً للجنة المركزية منذ أيام فهد وليس على موقفه في التحقيق أية شائبة". ص60. "ويذكر كريم أحمد إن هذه "اللجنة المركزية" لم تجتمع ولو مرة واحدة، إنما كان يجري السكرتير مشاوراته مع أعضائها كل على إنفراد..." ص59. ويعقد سباهي مقارنة طريفة بين قيادة بهاء الدين نوري وحميد عثمان وما يهمنا منها هنا، هو ما يخص بهاء لإعطاء تفسير أوضح للنجاحات التي تحققت في عهده. يقول سباهي في الصفحة 155 من كتابه ما يلي: " كانت مشكلة الحزب تكمن في قيادته، فلو قارنا وضع الحزب عام 1952 ووضعه في الفترة التي نتحدث عنها (1955)، نجد أن على رأس الحزب في الحالة الأولى(بهاء) كانت هناك قيادة متياسرة، وفردية المنحى، لكن حسها السياسي توافق آنذاك مع إرتفاع في مزاج الجماهير الثوري ، وأعطى تياسرها لإنتفاضة الجماهير في تشرين الثاني زخماً خاصاً أرعب الرجعية وأقلق دوائر الإستعمار". وفات الكاتب سباهي أن يضيف، وكان تياسرها وفرديتها سببا في تقديم الحزب تضحيات غير مبررة، في صفوف كوادره وأعضائه، جراء تحدي الأحكام العرفية بمظاهرات معزولة، وكان إنحرافها كذلك أحد أسباب فشل إنتفاضة تشرين الثاني 1952 في تحقيق أهدافها الرئيسية، وفي مقدمتها إقامة حكومة وطنية ديمقرطية. ولكن بالمقابل أعطت الإنتفاضة دروسا للجميع، وفي مقدمتها ضرورة إقامة جبهة وطنية راسخة، وضرورة إنحياز الجيش الى جانب جبهة الشعب. وكان لهذين الدرسين أهميتهما في إنتصار ثورة 14 تموز المجيدة.
(1) راجع سباهي. المصدر السابق. ص44 وما يليها. أنظر كذلك بهاء الدين نوري. مصدر سابق. ص124. (2) راجع سباهي. المصدر السابق. ص 56 و65. (3) بهاء الدين نوري. مصدر سابق.ص158. أنظر سباهي . مصدر سابق.ص61.. (4) راجع سباهي. المصدر السابق. ص72 ـ 74. (5) راجع بهاء الدين نوري. مصدر سابق.ص 94 وما يليها. (6) ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد. "سلام عادل ، سيرة مناضل" الجزء الاول. الطبعة الثانية، دار الرواد للطباعة والنشرـ بغداد ص87.. (7) راجع سباهي. المصدر السابق.ص36.
يتبع
#جاسم_الحلوائي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيز سباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق
...
-
قراءة في كتاب عزيزسباهي -عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراق-
...
-
تعليق على مقال - كيف عشت الحقيقة -
-
هل كانت تحالفات الحزب الشيوعي العراقي كارثية؟
-
حسن عوينة مناضل .. يُقتدى
-
كتاب - لحقيقة كما عشتها
-
التراث الإشتراكي في مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي
-
حول تغيير إسم الحزب الشيوعي العراقي
-
ملاحظات على مشروع برنامج الحزب الشيوعي العراقي
-
ملاحظات على مشروع النظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي
-
رسائل عزيزة
-
نبذة مختصرة عن مدينة كربلاء
-
سنوات بين دمشق وطهران ( 6 )
-
سنوات بين دمشق وطهران 5
-
سنوات بين دمشق وطهران 4
-
سنوات بين دمشق وطهران - 3
-
سنوات بين دمشق وطهران - 2
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|