قبل إسبوعين أصدر عدد من الأخوة العراقيين، وأنا منهم، نداءً يطالبون فيه مجلس الحكم الانتقالي بإعادة العمل بحكم الإعدام بحق المجرمين الذين يستحقونه بعد أن ألغاه "السفير بول بريمر (الحاكم المدني لقوات التحالف) وذلك للمساهمة منه في تجاوز انتهاكات حقوق الانسان التي كانت سائدة ايام حكم النظام السابق". جاء هذا النداء على أثر تصاعد وتيرة الإجرام في القتل والإغتصاب ونهب الممتلكات وهتك الأعراض واختطاف الأطفال والنساء والتخريب. وقد بلغ الفلتان الأمني والإيغال في الجريمة واستهتار المجرمين حداً إلى أن يقوم القتلة بعرض خدماتهم (قتلة للإيجار) علناً في الساحات العامة دون خوف.
وقد أثار هذا النداء سجالاً ذكياً وحضارياً في أوساط المثقفين المخلصين للقضية العراقية، بين معارض ومؤيد. وفي مداخلتي هذه لا أريد مناقشة أعوان النظام الذين يطالبون بإلغاء هذه العقوبة، لا بدوافع حضارية وإنسانية وإن ادعوا بهما، وإنما محاولة منهم لإنقاذ المجرمين البعثيين الذين ساموا شعبنا سوء العذاب خلال أربعة عقود من حكمهم البغيض. فهؤلاء، لم نسمع منهم صوتاً عندما كان البعثيون يملؤون العراق بالمقابر الجماعية فهمهم الوحيد هو إنقاذ المجرمين من الجزاء العادل. لذا فهذا الكلام غير موجه إلى هؤلاء الأدعياء، وإنما أريد به مناقشة الأخوة الذين تفضلوا بمساهمات موضوعية جادة وبدوافع الحرص على مستقبل العراق الجديد.
يمكن إيجاز نقاط المعارضين للإعدام بما يلي:
1- الإعدام عقوبة غير حضارية تخلت عنه البلدان المتحضرة.
2- الجرائم أكثر في البلدان التي مازالت تمارس عقوبة الإعدام مما في البلدان التي ألغته.
3- إلغاء عقوبة الإعدام في العراق له تأثير إيجابي كبير على العالم العربي.
4- العمل بعقوبة الإعدام يمنع الدول الأوربية من تسليم المجرمين من أعوان النظام إلى العدالة في العراق.
5- تصاعد الإجرام بعد سقوط النظام يعود إلى تساهل قوات التحالف مع المجرمين.
6- عدم السماح لمجلس الحكم بالقيام بدوره الكامل والفعال في فرض الأمن وملاحقة المجرمين.
أما المؤيدون لعودة حكم الإعدام فلهم مبرراتهم التالية:
1- حكم الإعدام عامل ردع للمجرمين يمنع الآخرين من ارتكاب المزيد من الجرائم.
2- حكم الإعدام أو إلغائه لا علاقة له بالمستوى الحضاري للدولة.
3- إعدام القتلة تؤيده الديانات السماوية في تحقيق العدالة (النفس بالنفس والسن بالسن والعين بالعين...).
أعتقد أننا نتفق على حقيقة وهي أن حياة الإنسان هي أعلى قيمة في الوجود يجب أن تحترم. كذلك أعتقد أن عقوبة الإعدام هي ليست أشد عقوبة لمرتكب الجرائم الكبرى مثل قتل الأبرياء المتعمد. بل إن السجن المؤبد بمصادرة حرية المجرم مدى الحياة، هو أشد عقوبة من الإعدام، لأن الإعدام يتم في لحظات، بعدها لا يشعر المعدوم بأي شيء وكأنه لم يولد. ولكن السجن المؤبد هو عبارة عن تعذيب مستمر مدى الحياة.
كذلك يجب التأكيد على أن عقوبة الإعدام التي نتحدث عنها ونطالب بها ليست من أجل الانتقام من المجرم أو إلحاق أذى الموت به. فالموت في رأيي غير مؤذ. وكما وصفه الحكيم سقراط بأنه نوم بدون أحلام. وهناك فلاسفة كبار مثل البرت كامو، اختاروا الموت بملء إرادتهم. لا بل هناك عيادات طبية في دول متحضرة مثل هولندا، تقوم بتنفيذ الموت الإختياري وحسب الطلب. وهناك قطاع واسع من الناس في الدول الغربية تطالب بإصدار قوانين تبيح الموت الإختياري (يوثينازيا euthanasia) لمن يريد. أذكر كل هذا لأثبت أن الموت ليس عقوبة شديدة، بل السجن المؤبد أشد عقوبة. وقد سبق لي أن كتبت مقالاً بخصوص التعامل مع مجرمي النظام المقبور بعنوان (نريدهم أحياءً) أكدت فيه على ذلك.
ولعل القارئ الكريم يسأل، إذاَ لماذا تطالبون بعودة عقوبة الإعدام؟
الغرض الأساسي هو كعامل ردع وخاصة في مجتمع صار العنف جزءً من ثقافته وعملت حكومته الفاشية المقبورة على نشر الجهل وتدمير الإخلاق وتفتيت النسيج الإجتماعي. فأية عقوبة دون الإعدام تعتبر نوع من السياحة للمجرمين. فمعظم المجرمين هم من الجهلة ومن فلول النظام الساقط ، وأشد ما يخافونه هو الموت وليس السجن المؤبد. لأنهم يعتقدون بعودة النظام للحكم فيطلق سراحهم ويكافئهم على جرائمهم كأبطال. والرسائل التي تصلني من العراق تفيد أن البعثيين في الأيام الأولى بعد السقوط، فروا كالجرذان خوفاً من الملاحقة وانتقام الناس منهم فاختفوا في بيوتهم مذعورين. ولكن ما أن تأكدوا من لين سياسة الأمريكان اتجاههم وخاصة بعد إلغاء عقوبة الإعدام من قبل بول بريمر، حتى خرجوا يتبجحون عارضين عضلاتهم في مظاهرات يقومون بها في النهار ويرتكبون جرائم القتل والإختطاف وإرهاب الناس والتخريب في الليل. كذلك عرفنا شجاعة البعثيين بعد أن انقلب عليهم حليفهم عبدالسلام عارف عام 1963 كيف فروا مذعورين.
كما وأتفق مع الرأي القائل بأن حكم الإعدام في أي بلد لا علاقة له بالحضارة. فأمريكا تطبق هذه العقوبة وهي دولة ديمقراطية متحضرة. فأمريكا هذه تنتج 75% من المخترعات الحديثة بينما نسبة سكانها لا تتجاوز ال 5% من سكان العالم، ومعظم الفائزين بجائزة نوبل هم من أمريكا. لذلك لا يمكن الطعن أو الشك بالمستوى الحضاري لهذا البلد إلا من قبل أولئك الذين أعمت آيديولوجياتهم المتحجرة بصرهم وبصيرتهم.أما كون نسبة الجرائم في أمريكا أعلى مما في الدول الأوربية التي ألغت فيها عقوبة الإعدام، أعتقد أن معظم الجرائم التي تحصل في أمريكا هي من نوع التي لا تشملها عقوبة الإعدام أصلاً، فإلغاء هذه العقوبة لا يغير من نسبة الجرائم في هذا البلد.
أما القول بأن حكم الإعدام يمنع الدول الغربية من تسليم المجرمبن إلى العراق، هذا غير صحيح، فهذه الدول ذاتها تسلم المجرمين إلى أمريكا وفيها حكم الإعدام كما ذكرت. كذلك نداءنا هو أحد وسائل الضغط على مجلس الحكم والإدارة المدنية لقوات التحالف على العمل الجاد ومضاعفة الجهود في التعامل المجدي مع المجرمين وعدم التساهل معهم وأن يعمل مجلس الحكم كل ما في وسعه للقيام بدوره بشكل كامل.
إن أغلب المناهضين لحكم الإعدام من العراقيين (عدا أنصار النظام المقبور) ينطلقون من نوايا حسنة ومواقف مفرطة في المثالية. فأغلبنا نعيش في الغرب ونريد أن نطبق على العراق ما هو مطبق في المجتمع السويدي مثلاً، ناسين أن لكل بلد ظروفه وثقافته وتقاليده، خاصة العراق الذي يمر الآن في أشد فترات التاريخ عنفاً وهياجاً وصخباً. ففي مجتمع تشرب بالقيم العشائرية في الثأر والانتقام وبعد أن عمل النظام المقبور على إحياء النزعة القبلية، فلا يمكن أن يهدأ أهل الضحايا قبل أن يروا قتلة أبناءهم قد تلقوا جزاؤهم العادل. وعندما ألغيت عقوبة الإعدام يأس أهل الضحايا وعزموا على الانتقام من قتلة أبنائهم بأنفسهم. ولذلك تصاعدت عمليات القتل الثأري في العراق بعد إلغاء عقوبة الإعدام. ويمكن معرفة عدد القتلى من سجلات الطب العدلي في بغداد. إذ نقلت صحيفة أمريكية أن في شهر تموز وحده بلغ حوالي 750 قتيلاً أغلبهم بالرصاص في الرأس والصدر وبدوافع أخذ الثأر. إن إلغاء الإعدام دفع الناس على أن يأخذوا القانون بأيديهم والانتقام من المجرمين بأنفسهم دون محاكمة. وفي هذه الحالة، يتم حرق الأخضر بسعر اليابس. فأيهما أفضل، إعدام عشوائي من قبل أهل الضحايا بدون محاكمة ينال حتى الأبرياء، أو إعدام إنتقائي وفق القانون لمن يستحقونه من المجرمين بعد محاكمات أوصولية قانونية؟ في رأيي الجواب واضح.
وأخيراً، فهذا الإجراء، حكم الإعدام، الذي نطالب به هو مؤقت، إلى أن تهدأ الأمور ويعود الأمن والاستقرار للبلاد وبعد ذلك يمكن إعادة النظر في إلغائه أما عن طريق البرلمان المنتخب أو استفتاء شعبي. وعندها أكون من أول المؤيدين لإلغائه، فلسنا متعطشين للدماء والانتقام. نعم نتمنى أن يكون العراق مناراً للحضارة ونموذجاً يحتذى به في المنطقة في إلغاء عقوبة الإعدام ونشر قيم الديمقراطية والتسامح ولكن كل شيء يجب أن يأتي في وقته المناسب دون حرق المراحل. فالقفز يؤدي إلى السقوط وإلغاء عقوبة الإعدام يؤدي إلى القتل العشوائي.