تُبذل في هذه المرحلة الحرجة من حياة الشعب العراقي محاولات كريهة, جادة ومكثفة تهدف إلى إثارة مشكلات اجتماعية وخلق الصراعات والنزاعات حولها ودفع الأمور بالبلاد نحو وجهة خاطئة ومشوهة لا يتحملها المجتمع بأوضاعه وتوتراته العصبية والنفسية والصحية الراهنة. وأن استمرت هذه المحاولات ونجحت نسبياً في ما تهدف إليه, فستكون لها عواقب وخيمة على الشعب العراقي وعلى مستقبل البلاد الديمقراطي والمنطقة. لهذا يفترض مواصلة التحري والكشف عنها وفضح نوايا منظميها والتصدي لمروجي الفتن والصراعات الدامية المحتملة في البلاد. ن المعلومات المتوفر التي تعبر عنها تصريحات ومؤتمرات ونشاطات مختلف القوى السياسية في العراق وخارجه, وخاصة في الدول المجاورة ليس بالضرورة من قبل
حكوماتها, إلى أن مثل هذه المحاولات تبذل من عدة قوى فكرية وسياسية وعقائدية تعاني من اختلالات كبيرة وبعيدة كل البعد عن العصر الراهن وعن فهم الواقع والمتغيرات الجارية في العالم, إضافة إلى إنها يتعذر عليها التعرف السليم على ما يحتاجه الشعب لتطوير البلاد بعد أن تحرر من عبودية الدكتاتورية.
نشير في أدناه إلى تلك القوى التي تشكل اليوم وغداً خطراً كبيراً على وحدة نضال الشعب العراقي وعلى المجتمع المدني الديمقراطي الذي يسعى إلى إقامته:
1. بقايا غير قليلة من قوى نظام صدام حسين المنهارة والتي تنظم اليوم عمليات تخريبية واسعة ضد المنشآت العراقية وضد قوات الاحتلال, ولكنها في الوقت نفسه تسعى إلى تطوير علاقات خاصة بقوى إسلامية متشددة تنحدر من أصول مذهبية وهابية. وتحاول أن تلعب بشكل غير مباشر على الوتر الطائفي وتركز جهودها في العمل من أجل تعبئة الجماهير من أتباع المذهب السني في مناطق غربي بغداد أو إرسال بعض عناصرها إلى مناطق أخرى لأغراض إثارة الفتن والتخريب.
2. بعض القوى القومية اليمينية الشوفينية المتطرفة التي تتشكل من عناصر قومية وبعثية وإسلامية متشددة تتباكى على المشروع القومي الصدامي الاستبدادي المقيت في العراق, والتي تدعي خشيتها على وحدة القطر العراقي من الوقوع تحت هيمنة الشيعة الشعوبية التي لا تريد التقدم والازدهار للأمة العربية!كما تدعي خشيتها على وحدة العراق من الشعب الكردي الذي تدعي أنه يريد الانفصال رغم تأكيدات القوى أسياسية الكردية بعدم وجود مثل هذا الهدف. وهكذا فهي تروج وبشكل غير مباشر لوجهة معينة في الصراع في العراق, وجهة طائفية غير مباشرة تشوه حقيقة الموقف في العراق أولاً, وتشوه حقيقة الموقف القومي ثانياً, وبالتالي فهي مستعدة للعمل مع كل القوى التي تريد استعادة السلطة السياسية في البلاد.
3. تنظيم القاعدة الذي يسعى إلى التحرك في العراق متخذاً منه مركزاً جديداً لمواجهة الولايات المتحدة وإجبارها على التراجع في العراق وأفغانستان. وقوى تنظيم القاعدة تتحرك صوب العراق من بلدان مجاورة, وخاصة من السعودية وسوريا ولبنان والأردن وإيران. إلا أن تحركها لا يستهدف الأمريكان فحسب, بل وبقية المذاهب الإسلامية التي تختلف معها من مواقع المذهب الوهابي المتشدد والراديكالي. وهي تقوم بتنفيذ عمليات ضد أتباع المذهب الشيعي وعلماء المذهب المعتدلين باتجاه تأجيج الصراع وإشاعة الفوضى في البلاد. وهذه القوى تتشكل من عراقيين عرب وأكراد من جهة, ومن عرب قادمين إلى العراق من الدول العربية المجاورة. ومخاطر هذه الجماعة كبيرة لأنها, من حيث الجوهر لا تختلف عن جماعة صدام حسين, إذ أنها تتميز بالقسوة البالغة والاستعداد للقتل الجماعي والتدمير الشامل, وهي تعتبر هذا الأسلوب هو الطريق المناسب الذي يوصلها إلى السلطة.
4. جماعة السيد مقتدى الصدر ذات الاتجاهات المذهبية الطائفية المتشددة التي تسعى إلى فرض الفكر الديني المذهبي الواحد على الدولة والمجتمع وتحويل المواطنات والمواطنين من الأديان الأخرى إلى رعايا من أهل الذمة. وهي بذلك تسعى إلى جعل أتباع الأديان الأخرى رعايا من الدرجة الثانية والثالثة. ويبدو أن هذه الجماعة تعيش الماضي في الحاضر وتتمنى استعادة الماضي, في حين أنها تدرك استحالة ذلك. ومع ذلك تبدو هذه الجماعة أنها مستعدة إلى استخدام كل الأساليب والأدوات لتحقيق ذلك. ويبرز سلوك هذه الجماعة الطائفي في مواقفها المناهضة لأتباع المذهب السني حيث تحسبهم جميعاً على النظام السابق, وكأن الجماهير الواسعة من أتباع المذهب السني لم تكن طيلة العقود المنصرمة عرضة لقسوة واضطهاد وقمع النظام الاستبدادي, بما في ذلك جماعات كبيرة من سكان المحافظات التي يقوم البعض من سكانها بعمليات عسكرية تخريبية. وما حدث في البصرة من تجاوزات على بعض مكاتب السنة يؤكد هذه الوجهة التي تدفع باتجاه طائفي خطر ومشوه. ورغم صواب الموقف العام الذي يتخذه السيد مقتدى الصدر من الوجود الأمريكي في العراق ومطالبته بالانسحاب, إلا أن هذا الموقف يدخل ضمن مفهوم "كلمة حق يراد بها باطل", إذ أنه يريد بها تعبئة الناس حوله ويدفع بالصراع وجهة خاطئة ويساهم في تفتيت القوى السياسية في هذه المرحلة الحرجة, خاصة وأن له مواقف لا تختلف عن مواقف الجماعات الإيرانية المحافظة إزاء المسألة الكردية, إذ لا يعاملون على أساس شعب كردي بل على أساس أن الجميع مسلمون وليس لهم الحق في حكم فيدرالي في دولة إسلامية يكون أساسها الرابطة الدينية وليست الرابطة القومية. وهو بذلك يشطب على دروس وعبر التجارب الحزينة والمليئة بالكوارث التي عاشها الشعب العراقي عموماً والشعب الكردي والأقليات القومية خصوصاً منذ بدء الاحتلال الإنكليزي للعراق عام 1917 حتى سقوط النظام الدموي في بغداد في نيسان/أبريل 2003.
5. بعض الأفراد الذين يقومون بعمليات فردية ضد قوات الاحتلال نتيجة سقوط أفراد من عوائلهم بنار القوات الأمريكية أو البريطانية عن طريق الخطأ أو بسبب الحملات المناهضة للعمليات التخريبية. وهي لا تدخل ضمن إطار تلك الجماعات ولكن يمكن أن تستغل من قبلهم في غير صالح استقرار الوضع, وتتحمل قوات الاحتلال تبعات تلك الأعمال غير المسؤولة.
إن المجموعات الفكرية والسياسية المتطرفة الأربعة السالفة الذكر, سواء اعتمدت الفكر القومي - البعثي أو الفكر الديني - المذهبي - الطائفي, هي التي, كما يبدو لي, تلعب اليوم أدواراً متباينة وذات أهداف مختلفة, ولكنها تلتقي وتشارك جميعها في تشكيل المليشيات شبه العسكرية, القادرة على اقتناء السلاح بسبب كثرة وجوده في العراق وبين السكان, كما أن تجارة السلاح في السوق السوداء رائجة تماماً, إضافة إلى إمكانية تهريب الأسلحة من إيران إلى العراق عبر الحدود الطويلة بين البلدين. إنها تقوم اليوم بإشاعة الفوضى والخراب والموت في كل مكان وتسعى إلى تفجير الصراعات الدموية على صعيد العراق كله. وعلينا أن ننتبه إلى إنها تريد إثارة المشكلات في المناطق التي يمكن أن تشتعل النزاعات فيها بسهول مثل كركوك. أن أنها تعمد إلى الإساءة إلى الدين الإسلامي واتهام أفراد من قوات الاحتلال بذلك تماماً كما كانت تفعل في فترة حكم قاسم واتهام الشيوعيين بذلك, كما ورد عند السيد حسن العلوي في كتاباته عن فترة حكم قاسم.
إن قابلية هذه الجماعات على النمو والتكاثر كبيرة في المرحلة الراهنة, بسبب مجموعة من العوامل. نشير فيما يلي إلى أبرزها:
1. تراجع الوعي السياسي والاجتماعي في صفوف المجتمع العراقي, وخاصة في صفوف الفئات الكادحة والفقيرة من السكان بسبب الانغلاق الحقيقي الذي عاش فيه الشعب العراقي وغوص هذه الفئات العميق في الغيبيات واعتماد الشعوذة وأعمال السحر للخلاص من الواقع القائم وانتظار الفرج من المآسي التي كانت تعيش فيها, دون أن تكون قادرة على خوض النضال الفعلي للخلاص من أوضاعها البائسة.
2. الوجود الدائم لعلماء ورجال الدين الذين كانوا في احتكاك مع السكان رغم كل المصاعب التي كانت تواجههم ورغم اضطرار نسبة غير قليلة من المناضلين السياسيين المسلمين المعتدلين منهم ومجموعات من المتطرفين إلى مغادرة الوطن والعيش في الخارج أو العمل السري, في حين أجبرت القوى التقدمية والديمقراطية على الغوص العميق في السرية أو مغادرة الوطن أو الصعود إلى جبال كردستان والنضال من هناك, كما في حالة الشيوعيين العراقيين, إضافة إلى مناضلي الأحزاب الكردية الديمقراطية وبعض القوى السياسية الأخرى, مما قلل من دور وتأثير هذه القوى على الجماهير الواسعة, وبالتالي أصبحت الجماهير الواسعة عرضة لتأثير القوى المتطرفة من رجال الدين من أمثال السيد آية الله كاظم الحسيني الحائري والسيد مقتدى الصدر.
3. الاضطهاد الذي تعرضت له جمهرة واسعة جداً من أتباع المذهب الشيعي من قبل نظام الاستبداد, سواء تلك الجماعات التي فرضت عليها الهجرة قسراً أو التي زجت في السجون والمعتقلات, التي تقترب معاناتها من معاناة المعتقلين في المعتقلات النازية لليهود والنوريين والسلافيين والشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين والمسيحيين المناهضين للفاشية. وقد قتل في فترات مختلفة عشرات الألاف من بنات وأبناء العوائل الشيعية, مما يجعل الحقد كبيراً ويمكن أن يحول الضحية إلى جلاد في لحظة سريعة, وهو أمر بالغ الضرر ومرفوض قطعاً. وفي ما عدا ذلك فقد تعرض الشعب الكردي إلى مصائب لا حصر لها, ومنهم الأكراد الفيلية. والجماعة الأخيرة شيعية المذهب. كما تعرضت الأقليات القومية, التركمان والآشوريين والكلدان, إلى محن غير قليلة في ظل النظام السابق. ولا شك في أن البعض القليل من الجماعات الأخيرة مستعدة ذاتياً في أن تتحول في لحظة معينة من كونها ضحية حقاً إلى جلاد لا يختلف كثيراً عن صدام حسين وعصابته. وفي هذا خطر كبير على المسيرة الديمقراطية للبلاد, في حين أن الأكثرية الكردية ترفض صيغة الانتقام والتحول من ضحية إلى جلاد.
تقع على عاتق القوى الديمقراطية العراقية بكل أطيافها مسؤولية كبيرة ومهمة ومعقدة ولكن لا مناص منها. فالقوى المشار إليها في أعلاه تريد دون أدنى ريب:
أ. إقامة نظام قومي شوفيني بوجهة طائفية مبطنة, ويتميز بالاستبداد السياسي والاضطهاد القومي والعنصرية البغيضة إزاء القوميات الأخرى. وقد ظهرت هذه النظم لأول مرة في العراق في انقلاب شباط/فبراير عام 1963 وانقلاب عام 1964 ثم في انقلاب 17-30 تموز/يوليو 1968 حتى سقوط النظام في التاسع من نيسان/أبريل 2003.
ب. وإما إقامة دولة دينية مذهبية طائفية متطرفة لا تختلف كثيراً عن الدولة القائمة حالياً في إيران والتي تريد العودة بنا مئات السنين إلى الوراء, دولة استبدادية ترفض الفكر والرأي الآخر, وترفض مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة, وتجدها دخيلة على مجتمعاتنا "الإسلامية", وهي بالتالي تضع العراق على طريق التخلف والخراب والصراع القومي والطائفي وعدم الاستقرار. والشيء المهم اللافت للانتباه أن الغالبية العظمى من الشعب العراقي, و86% من أتباع المذهب الشيعي, ترفض إقامة نظام "إسلامي" على الطريقة الإيرانية, وتفضل النظام السياسي الديمقراطي. وهي منبثقة في ذلك من تجربتها والتجارب المحيطة بها.
إن العراقيات والعراقيين أمام مرحلة معقدة من النضال الفكري والسياسي, خاصة وأن قوات الاحتلال الأمريكية والبريطانية ترتكب يومياً ما يكفي من الأخطاء التي تسمح لمثل هذه القوى بالنمو والتكاثر. ولا تريد الإدارة الأمريكية أن تفهم بأن العراق ومنذ ستة شهور يعيش في فراغ سياسي, فراغ السلطة, وفي أجواء الفوضى والعبثية, وأن سلطات الاحتلال لا يمكنها ولا يجوز لها أن تحل محل العراقيات والعراقيين في إدارة شؤون البلاد, وأن عليها أن تترك نهجها الراهن في ممارسة الهيمنة الكاملة على العراق ولا تسمح لدور سياسي واقتصادي وعسكري فعال في العراق لمجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة, بدلاً من أن تلعب دور الشرطي غير المرغوب به وتلحق بذلك أضراراً فادحة بالشعب العراقي كله.
إن الولايات المتحدة الأمريكية متخبطة بين إسترتيجيتها الدولية وتكتيكاتها الفاشلة في العراق والتي ستجلب المزيد من عدد القتلى في صفوف الأمريكيين وزيادة الفوضى واتساع قاعدة المناوئين للوجود العسكري الأمريكي, إضافة إلى تزايد عدد القتلى بين صفوف المواطنات والمواطنين. إن إقامة دولة ديمقراطية فيدرالية وعلمانية في العراق لا يمكن أن تتم على أيدي الأمريكيين وبالطريقة التي تمارسها حالياً بعيداً عن الجماهير الشعبية صاحبة المصلحة بذلك وبعيداً عن القوى السياسية العراقية. فالطريقة التي تعالج بها الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال الوضع في العراق تزيد من عدم ثقة العراقيات والعراقيين بالإدارة الأمريكية وبأهدافها في العراق وتساهم في تعقيد الوضع السياسي والاجتماعي والأمني.
إن وحدة القوى الديمقراطية العراقية, العربية منها والكردية وأوساط الأقليات القومية والمتنورين من علماء الدين والأوساط الثقافية والاجتماعية والفنية والرياضية العراقية, هي الضمانة الحقيقية لمنع تطور الأوضاع باتجاه دراماتيكي يقود إلى قيام أحد الاحتمالين اللذين أشرت إليهما في أعلاه والعواقب الوخيمة التي يمكن أن تلحق بالجميع. إن السياسة التي تمارسها الإدارة الأمريكية يمكن أن تتحول إلى مستنقع عميق ونتن للقوات الأمريكية ما لم تبادر إلى تغيير نهجها وأساليب عملها ومواقفها من الشعب وقواه السياسية الوطنية, ما لم تتعامل مع الواقع الجديد بأسلوب ونهج سياسيين.
إن على القوى الديمقراطية العراقية, بما في ذلك القوى الدينية المعتدلة, التي تلتزم بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, أن تدرك بما لا يقبل الشك بأن عليها ممارسة الضغط السياسي بشدة واستمرارية على الإدارة الأمريكية وفق الاتجاهات التالية:
1. الموافقة على دور أكبر للأمم المتحدة في العراق ولقواها العسكرية بدلاً من الانفراد غير المرغوب به للقوات الأمريكية - البريطانية.
2. منح مجلس الحكم الانتقالي صلاحيات كاملة في نشاطه المتعدد الجوانب بعيداً عن التدخل الفظ في شؤون القوى السياسية العراقية, ومنح الحكومة العراقية المؤقتة التي تشكلت أخيراً, صلاحيات كاملة لتمارس واجباتها وكامل مهماتها الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وتأمين مستلزمات إنهاء فترة الانتقال وإنهاء الاحتلال.
3. وفي حالة عدم الموافقة على منح الصلاحيات المطلوبة يفترض أن يقدم المجلس بكامل أعضائه, وكذلك الحكومة المؤقتة, الاستقالة الجماعية من مجلس الحكم الانتقالي والحكومة, إذ لم تعد المساومة مقبولة بعد مرور ما يقرب من ستة شهور على نهاية الحرب, وينبغي أن تصان كرامة وإرادة وحقوق وواجبات مجلس الحكم الانتقالي والشعب العراقي, ولا يجوز للسيد بريمر إعاقة هذا الدور بطلب من الإدارة الأمريكية وصقورها من المحافظين واللبراليين الجدد.
كنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى أن القوى الإرهابية تقوم اليوم بقتل الجنود الأمريكان, وأنها ستنتقل إلى القوى والأحزاب السياسية العراقية لتمارس الإرهاب ضدها وتغتال أبرز قادتها وتشيع الفوضى والقلق والخوف من المستقبل بين صفوف الشعب العراقي. وهي في نشاطاتها التخريبية لا تختلف عن السياسات القمعية التي مارسها النظام إزاء الشعب, كما لا تختلف عن النهج القمعي الإرهابي للجماعات الإسلامية السياسية المتطرفة والتي ما يزال يعيشها الشعب الجزائري أو الجرائم البشعة التي ارتكبتها جماعة القاعدة في نيويورك وواشنطن. وها نحن نرى بوضوح أنها تحولت وبسرعة كبيرة صوب العراقيين فأصابت شخصية دينية وطنية معتدلة, وبالتالي يمكن أن تفجر معها صراعات أخرى بين الجماعات الدينية المختلفة في النجف وفي غيرها من المدن العراقية.
إن الفترة الراهنة مناسبة جداً لممارسة الضغط الفعال على الإدارة الأمريكية, إذ أنها تعيش محنة واضحة رغم الغطرسة ومحاولة عدم الاعتراف بوجودها أصلاً. كما أن دول مجلس الأمن الدولي تمارس ضغطاً مستمراً على هذه الإدارة للتراجع عن الرغبة في السيطرة المطلقة على العراق واعتباره محمية أمريكية لا غير, تماماً كما برز ذلك في القانون الذي أصدره الكونغرس الأمريكي في عام 1998 ووقعه بيل كلنتون باسم قانون "تحرير العراق", وكأن العراق إحدى الولايات الأمريكية المحتلة, ورفض كلنتون في حينه تنفيذه, ولكن نفذته الإدارة الجمهورية الجديدة في عام 2003.
وفي الوقت الحاضر تزداد الضغوط على الإدارة الأمريكية ليس من النواب الديمقراطيين فحسب, بل ومن بعض الجمهوريين من حزب الرئيس الأمريكي بوش. ويمكن أن يكلف هذا الضغط في حالة عدم الاستجابة له من جانب بوش الابن خسارته في الانتخابات القادمة لصالح الديمقراطيين. وهو أشد ما يخشاه الرئيس الأمريكي الحالي. وتتحمل القوى الديمقراطية العراقية مسؤولية الإجابة عن السؤال التالي لكي تستطيع التغلب على المصاعب التي تواجهها وتكون جريئة, ووفق الطرق السلمية, في مواجهة سلطة الاحتلال:
ماذا يريد الشعب وماذا تريد الإدارة الأمريكية, وإلى أين سينتهي بنا الأمر؟
أثناء متابعة تطور الأوضاع والأحداث الجارية في العراق منذ سقوط النظام الاستبدادي والطاغية صدام حسين في التاسع من شهر نيسان/أبريل 2003 حتى الوقت الحاضر سيجد الإنسان نفسه أمام مجموعة من الحقائق المهمة التي تستوجب الدراسة المعمقة واستخلاص الاستنتاجات منها من أجل مواصلة المسيرة. وأبرز هذه الظواهر وأكثرها حساسية وأهمية تبدو لي في واقع الاختلاف الشاسع جداً والفجوة المتسعة باستمرار بين ما تريده الإدارة الأمريكية وسلطة الاحتلال في العراق, وبين ما يريده الشعب العراقي وقواه السياسية بالنسبة إلى مختلف المهمات الأكثر جوهرية والتي تمس مباشرة مصالح الشعب والوطن. علماً بأن هناك نقطة لقاءٍ رئيسية بين الشعب والإدارة الأمريكية, بغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء ذلك, هي محاربة فلول الطاغية صدام حسين والمجموعات الإرهابية التي تعيث في العراق تخريباً وتدميراً وقتلاً. وفي هذه النقطة التي يتم اللقاء عندها تختلف الرؤية في أسلوب وسبل الخلاص من هذه الفلول والجماعات التي بدأت تنظم نفسها بصورة واضحة. ولا نريد أن نغفل قول البعض بأن الإدارة الأمريكية يهمها استمرار الفوضى ليتسنى لها إنجاز ما تريده ولكي تبقى قوات الاحتلال أطول فترة ممكنة في العراق.
في مقدمة أهداف غالبية الشعب العراقي وأوليات نضاله في المرحلة الراهنة تتصدر النقاط الأساسية التالية التي لا خلاف عليها بين جميع القوى السياسية العراقية الوطنية, وأعني بها ما يلي:
= إعادة الأمن والاستقرار والحياة الطبيعية إلى البلاد وإلى حركة المجتمع.
= توفير مستلزمات العيش الكريم, وبشكل خاص إعادة بناء البنية التحتية وضمان توفير المزيد من فرص العمل للعاطلين حالياً والذين يشكلون نسبة عالية جداً من السكان القادرين على العمل والراغبين فيه.
= توفير مستلزمات زيادة استخراج وتصدير النفط الخام لصالح تأمين الموارد المالية الضرورية لمواصلة وتوسيع عمليات إعادة البناء, وكذلك توفير النفط والغاز الطبيعي لمنشآت مصافي النفط ومحطات تعبئة الغاز, وحمايتها من محاولات التخريب المستمرة.
= تأمين مستلزمات تدفق رؤوس الأموال الأجنبية للمشاركة في عملية إعادة البناء, وكذلك الحصول على القروض وتأجيل دفع المستحق من الديون التي بذمة العراق أو التعويضات المفروضة عليه, والعمل من أجل إصدار قرارات من الدول المعنية بإلغائها.
= مباشرة الحكومة العراقية المؤقتة أعمالها لتحقيق هذه المهمات وغيرها.
= البدء بتشكيل اللجنة الخاصة بوضع مسودة الدستور الدائم وقانون الانتخابات العامة والانتهاء السريع من فترة الانتقال وإنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية.
أما أولويات الإدارة الأمريكية فتختلف تماماً عن أولويات الشعب العراقي. فالولايات المتحدة جاءت إلى العراق وفي جعبتها خطة إستراتيجية كاملة لأغراض التنفيذ وضعتها مجموعة الصقور الأمريكية وغالبيتها في الحزب الجمهوري, منذ نهاية الثمانينات وبداية العقد الأخير من القرن العشرين. وكان السيد بريجينسكي, العضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي, قد صرح مرة في حوار له مع قناة الجزيرة مشيراً إلى أن الولايات المتحدة هي الإمبراطورية الجديدة لهذا القرن الجديد, وأن لها أهدافها, وهي لم تبدأ بعد بتحقيق تلك الأهداف. وأكد بأن الولايات المتحدة تملك كل الإمكانيات لتحقيق ما تسعى إليه. ومن الخطأ الفادح تصور أن
شخصاً أو مجموعة عراقية استطاعت أن تقنع الإدارة الأمريكية بشن الحرب ضد العراق, إذ كان التخطيط للحرب قد تم منذ سنوات وكان المخططون ينتظرون الفرصة السانحة لشن الحرب التي جاءت مع وفي أعقاب الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.
لا شك في أن الولايات المتحدة تسعى للبقاء في العراق أطول فترة ممكنة, ولكن ليس بهذا الحجم من القوى العسكرية, وإنها تتحرى عن الصيغة المناسبة لهذا الوجود, والتي حاول طرحها لها السيد أحمد الجلبي باقتراحه إقامة قواعد عسكرية في العراق, بخلاف إرادة المجتمع العراقي. كما أنها تعمل لضمان تدفق النفط الخام إليها مباشرة ودون عراقيل وضمان ذلك عبر عقود طويلة الأمد, وكذلك تسلم مسؤولية ومهمة إعادة إعمار العراق على المدى الطويل وابتداءاً من الآن, إضافة إلى ضمان الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة لحماية "مصالحها الحيوية!" في العراق والمنطقة بأسرها, واعتبار المنطقة كلها محمية أمريكية بطريق غير مباشر وعبر اتفاقيات سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية وأمنية غير متكافئة.
لقد كان قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 لسنة 2003 صريحاً وواضحاً في الموقف من العراق. وقد صدر هذا القرار في ضوء واقعين, وهما أن الولايات المتحدة شنت الحرب دون موافقة مجلس الأمن الدولي وهذا خرق فاضح للائحة الأمم المتحدة أولاً, ولكن في أعقاب الحرب نشأت في العراق فوضى وعبثية وحرق وتدمير وخرائب هائلة وضعت الولايات المتحدة مجلس الأمن الدولي أمام الأمر الواقع أيضاً لحماية الناس, أي اعتبار العراق بلداً محتلاً من أمريكا وبريطانيا, وعليهما حماية العراق وفق نصوص اتفاقية جنيف بهذا الصدد من جهة أخرى. ويبدو لي بأن الولايات المتحدة وبريطانيا كان في مقدورهما ابتداءاً منع وقوع كل ذلك وحماية الوزارات والمتاحف والدور ومحطات الكهرباء من عبث المخربين, ولكنها لم تقم بذلك, بل كان الجنود الأمريكيون يصرحون علناً دع الناس تعيش حريتها وهم يرون كيف تسرق المحلات والمتاحف والوزارات والمستشفيات دون أن يحركوا ساكناً ويتصدوا لهم, وكأن السلب والنهب والتخريب وإشعال الحرائق والقتل جزء من إحساس الناس بحريتهم. وكان التساؤل عادلاً: عن أية حرية كان يتحدث الجندي الأمريكي وهو يرى حدوث تلك الأفعال البشعة؟ ومع ذلك فأن القرار يقضي بأن تعمل الدولتان المحتلتان على صيانة أمن واستقرار السكان وممتلكاتهم, والذي لم يحصل حتى الآن, بل ما زالت الأمور على حالها والتخريب وحجم القتلى في زيادة كبيرة نتيجة العمليات الإرهابية التخريبية. كما يقضي القرار التعجيل بإنهاء فترة الانتقال والتعاون مع الشعب العراقي لإنجاز هذه الفترة, في حين يعج الشارع العراقي ومجلس الحكم الانتقالي بالشكوى المرة من تصرفات سلطة وقوات الاحتلال يومياً.
من تابع المظاهرات التي خرجت يوم استشهاد مجموعة كبيرة من العراقيين, ومعهم السيد محمد باقر الحكيم, في جامع الأمام علي في النجف تأكد بالقطع أن الجماهير الغاضبة قد رفعت صوتها مطالبة بما يلي:
= الإدانة الشديدة لكل القوى الإرهابية المخربة التي تقوم بتلك الأعمال الدنيئة ضد الشعب العراقي وإثارة الفوضى في البلاد.
= الاحتجاج الشديد ضد سلطة وقوات الاحتلال التي عجزت حتى الآن بكل قواتها وخبرائها وأمنها عن حماية أمن وسلامة المواطنات والمواطنين في الكثير من مدن الوسط والجنوب وتطالب بتحسين الموقف الأمني والحماية على نطاق العراق كله.
= تسليم مجلس الحكم الانتقالي مسؤولية الحفاظ على أمن البلاد ومطاردة القوى المخربة ووضع حد للجرائم البشعة التي ترتكب في البلاد. إضافة إلى أهمية بدء الحكومة بتنفيذ القرارات. ويفترض هنا التعاون مع الشعب العراقي وقواه السياسية لضمان المسألة الأمنية. أي حماية الشعب بقوى الشعب.
= حماية حدود العراق الطويلة مع الدول العربية والدول المجاورة, إذ منها يتسرب المخربون الإرهابيون لينفذوا جرائمهم البشعة بحق الشعب العراقي. ولا يقضي إيقاف حركة التنقل عبر الحدود مع البلدان المجاورة من وصول الإرهابيين إلى العراق, إذ أنهم يستخدمون الطرق السرية الجبلية والصحراوية, وهي التي يفترض أن تراقب أيضاً.
إننا أمام وضع شديد التعقيد والحساسية, وعلينا تقع مسؤولية منع تحويل الأنظار عن التناقضات والصراعات الرئيسية صوب الصراعات غير المبدئية والمفتعلة, الصراعات الطائفية. وعلينا خوض النضال لمنع حصول ذلك, ومنع تكريس الحلول الطائفية والتوزيع الطائفي على المستويات والمجالات المختلفة.
برلين في 3/10/2003 كاظم حبيب