|
كيمياء المشاعر - قطط حمراء و فئران زرقاء
إبراهيم إستنبولي
الحوار المتمدن-العدد: 2003 - 2007 / 8 / 10 - 07:52
المحور:
الطب , والعلوم
في يوم من الأيام ، عندما كنت اعمل طبيباً متمرناً في مشفى كاشينكو ، احضروا فتى على أبواب المراهقة . لم يكن يقاوم عندما راحوا يغيرون ملابسه ، لكنه كان طوال الوقت ينظر إلى ما حوله و يلقي نظرة عابرة على أرضية المكان . كانت تنعكس على وجهه علامات الخوف تارة ، و علامات الحيرة تارة أخرى . و وفقاً لإجاباته القصيرة كان يمكن التخمين أنه لم يكن يعرف بشكل جيد إلى أين جاءوا به . كان قلبه يخفق بسرعة ... أما والدته المرتعبة فلم تستطع أن تشرح شيئاً بالشكل الكافي . بصعوبة استطعنا أن نفهم ما يلي : كان صبياً كجميع الصبيان ، سليم البنية تماماً و فجأة جاء في مساء أحد الأيام و هو بحالة هياج و اضطراب شديد . راح يضحك ليلاً و صار يركض في الغرفة يحاول القبض على فئران ما ، متسائلاً لماذا هي الفئران زرقاء اللون ... - ماذا ترى ، يا كوليا ؟ ابتسامة ارتباك و قلق ، صمت ... نظرة كلها خوف و فضول تتجه إلى جهة ما وراء السرير ، كما لو يراقب شخصاً ما متسللاً ... مَن هناك ؟ يصمت . يوضع في سرير في غرفة خاصة تحت المراقبة .. يستلقي بهدوء ، أحياناً ينتفض ، يتطلع حوله ، يحاول ضرب شخص ما على السرير ، يستكشف تحت السرير ... و أخيراً يسحب الغطاء عليه حتى رأسه بالكامل و يغفو . في صباح اليوم التالي : - دكتور ، هل يمكنني أن أسألكم متى سيتم تخريجي من هنا ؟ سلوك طبيعي تماماً . فقط بعض الكسل و بعض الإحباط . اصابتني حيرة . هذا لا يشبه الفصام . و الإهلاسات البصرية يمكن أن تصادف في حالة الإدمان الكحولي – مع تطور ما يسمى بالذهان الكحولي Alcoholic Delirium . و لكن لا ينطبق بتاتاً على تلك الأعراض . و مع ذلك قلْ لنا ماذا شاهدت ، يا كوليا ؟ لا شيء مهم ... مجرد فئران كانت في البيت . فئران سوداء . و هنا ؟ هنا قطط . قطط حمراء . صراصير . و الآن ؟ لم أعد أرى شيئاً . كان كوليا قليل الكلام . لم نفهم شيئاً . لا بد لنا من الاستعانة بقسطنطين ماكسيميتش . ها هو يمشي مستقيماً ، أشيب الشعر ، بعينين سوداوين حزينتين ، يعرج ببطء وسط المرضى ، يجلس على السرير و يتكلم بهدوء مع كل مريض عن شيء ما . طيار في السابق . في البداية كانت الحرب ، أصيب بجروح . ثم دراسة الطب و التخصص بالأمراض النفسية . طبيب ممارس لا يهتم بالمناصب و بالراتب . و ببساطة رئيس قسم الحالات الحادة . يمتاز بصفتين مدهشتين : الأولى – يتحدث مع كل مريض كما لو أنه ، أي قسطنطين ماكسيميتش ، يعرفه منذ زمن بعيد ، و بالتالي تنشأ لدى المريض ردة فعل كما لو أنه هو الآخر ، أي المريض ، يعرف الدكتور منذ زمن بعيد ؛ الثانية – خلال 3 – 4 دقائق ينشأ انطباع و كأن الحديث استمر لأكثر من ساعة ، فالمريض راض و صار يشعر كما لو أن قسطنطين ماكسيمويتش هنا لأجله بالضبط . يا له من فن . قطسنطين ماكسيميتش ، من فضلكم انظروا ... هكذا هو الأمر . أنا تمعنتُ لكنني لم أشاهد . لقد تطلعت في العينين و لم أرَ الحدقتين . لقد بقيتا متوسعتين طوال النهار مع أن الذهان لم يعد موجوداً . أما قسطنطين ماكسيميتش فقد اخرج الجواب ، كما الأبرة عن طريق الخيط ، من حدقتي كوليا . مجرد سؤال – سؤالين في الصميم ، و كل شيء أصبح واضحاً . لقد كان المذنب هنا – الأتروبين Atropine . عقار معروف يستخدم لتخفيف الألم الناتج عن القرحة المعدية . و هو يسبب توسع شديد في الحدقتين . مساء في باحة المنزل أخرج رفيق كوليا عبوة صغيرة و قدمها مقترحاً تجريبها : سوف تكون كالسكران . كوليا شربها دفعة واحدة بدون تردد ( علماً أن الجرعة العلاجية – بضعة نقاط فقط ) . يمكن تخريجه بعد يومين . اكتبوا قصة المرض . كان يمكن أن تنتهي القضية بشكل أسوأ . من المصادر الطبيعية للأتروبين - نبات ست الحسْن ( البلادونا ) ، نبات الداتورة ( البنج ) . و هناك نبات آخر ، يحتوي على الأتروبين ، قدّم للبشرية شخصية معروفة بشكل جيد للجميع : العجوز التي التهمت فطور السيكران ، الأكثر براءة ، على الأرجح ، من بين الوسائل الحديثة المستخدمة في أبحاث الذهانات الاصطناعية . بالمناسبة ، إن تاريخ الكيمياء العقلية أو Psycho- chemistry لم يبدأ من هذه العجوز بتاتاً ، بل على الاغلب قبل ذلك بكثير . راح الجنود المسلحون يتمرغون على الأرض كالوحوش ، و هم يضحكون كالمجانين ، يصرخون ، يشوهون وجوههم و يتحدثون بعبارات بذيئة جدا – هذا ما حدث مع جنود القائد الروماني انطونيو قبل حوالي 1500 سنة . كما راحوا يقلبون كل حجر يصادفونه في الحقل . ربما هم أيضاً راحوا يبحثون عن تلك الفئران الزرقاء . لقد تسمم الجنود إذ تناولوا نبات البنج . إنه مصدر طبيعي لمادة الأتروبين و قد اطلقوا عليه في القرون الوسطى اسم " نبات الشيطان " أو " نبات السَحَرة " . إلا أن جنود أنطونيو لم يكونوا أوائل المجرّبين لمادة الأتروبين . فقد كانت مشعوذات ديلفي ، كما يُعتقد ، يتنبئن تحت تأثير البِلادونا ، و أن تسمية " أتروبين " بحد ذاتها مشتقة من اسم إلهة المصير عند اليونان القدماء ، التي تقوم بقطع خيط الحياة البشرية . لقد استخدموا الأتروبين في أوروبا بهدف التسميم ، من أجل الابتزاز ، للتمويه و إدعاء المرض ، من أجل استخراج الأسرار الدفينة – بكلمة واحدة ، إن عدد الحالات التي كان يستخدم فيها الأتروبين كبير جدا . و بالمقارنة مع هذا السيرة الغنية ، فإن الاستعمال المعاصر للأتروبين في حالة الألم تبدو عملاً نفعياً بائساً Bad Utilitaris . كما استخدمه الهنود في أمريكا و كانوا يلقبون المدمنين على عقاقير الأتروبين – " الجثث الحية " ... يجب القول أن الهنود قدموا مساهمة محترمة جدا في علم الأدوية النفسية المعاصر . فهم أول مَن دخّنوا التبغ ، كما كانوا أول مَن جرّب استعمال المواد الأخرى ، التي صارت مشهورة في أوروبا فيما بعد .
المسيح و الصبّار
" هل شربتَ أو أعطيتَ آخرين ليشربوا البيوتلْ و ذلك من أجل الكشف عن أسرار أو إيجاد أشياء مفقودة أو ضائعة ؟ " – هذا السؤال كان من بين الأسئلة التي كانت السلطات الكاثوليكية تطرحها على الهنود عند وعظهم بعد أن تم احتلال المكسيك من قبل المستعمرين الأسبان . و قد كان الهنود يطلقون اسم البيوتلْ على نوع خاص من الصبار و على العقار المستخرج منه . كان العقار يحتوي على مادة الميسكالين Mescaline ، التي تسبب حالة شبيهة بالسُكْر مع تهيؤات بصرية عجائبية . كان الاستيك يعتبرون البيوتلْ من مصدر إلهي . لذلك سارعت السلطة الجديدة ، الكاثوليكية ، إلى اعتبار البيوتلْ " مصدر كل الشرور " أو " أصل الشيطان " . ( كان الشيطان في ذاك الزمن يجسِّد كل ما هو غامض و مريب من الناحية الايديولوجية ) . و مع ذلك لم يتقيد الهنود بالحظر . و بالفعل كيف يمكن الإمتناع عن الوسيلة التي تحمي من الأخطار و الأمراض ، و تمنح الحظ و الشجاعة و العمر المديد ، و إذا ما تمت خياطته إلى الزنار ، فإنه يجبر أي حيوان متوحش إلى الهروب ؟ استمر الهنود في تناول البيوتلْ بشكل سرّي ، و في بعض مناطق أمريكا لا زالوا يستخدمونه إلى الآن . و قد انتهى الأمر في النهاية بطريقة الصفقة Сompromiss . فقد تحول الصبار إلى أحد رموز السيد المسيح . و إلى اليوم يمكن أن نشاهد كيف أن الهنود يصلِّبون على صدورهم بمجرد أن تقع أعينهم على البيوتلْ . و خلال هذه الفترة راح البيوتلْ – ميسكالين ينتقل إلى المستشفيات و معاهد البحوث و ذلك اعتباراً من تسعينيات القرن العشرين .
" رأس دانتي في الجهة اليسرى "
... بقعة زرقاء على الموقد . تتحول إلى ضوء أزرق متوهج يغطي كل شيء في الغرفة . و لمعت علبة السجائر كالكركهان ( الأماتِسْت ) . إحساس ضاغط بقرب الإصابة بلوثة الجنون و مع ذلك هناك فضول المراقب الحيادي . كل ما يجري يبدو غريباً و لا أهمية لـه . تملأ كل المساحة البصرية مياه خضراء ، و فيها تنغل ملايين الكائنات الحية الدقيقة . غناء في الأذُنين . غياب الرغبة في الحركة . أسماك بلون كارنجي تطير في الهواء ... عند محاولة مدّ اليد و ملامسة الطبيب المتفحص تتطاول الأصابع كالأفاعي . فجأة يختفي كل شيء . العودة من صالة الرؤية إلى حيث الضوء النهاري . هذه هي المعاناة ، التي عاشها أول فنان يوافق على الخضوع للتجربة بتناوله المسكالين في مركز الأبحاث . فنان آخر قام برسم إهلاساته الشخصية بعد أن تناول المسكالين . كانت اللوحة تشبه إلى حد لا يطاق منظر الأوعية في قعر العين . " كان الشاي مالحاً . و اللعاب صار طعمه رائعاً لدرجة كنت سأطلب قنينة أخرى منه لو أنه كان خمراً " – هكذا نقل انطباعاته شخص آخر ، طباخ ، بعد أن خضع للاختبار . قام الطبيب غوتمان بتناول المسكالين بنفسه . راح يشاهد عدداً من السيارات الصغيرة التي تغير شكلها باستمرار ، دون أن تتحرك من مكانها . بعد مرور ثمانية أعوام من تناول المسكالين تكررت نفس الرؤية بدون مسكالين - في حالة الإرهاق الشديد و على أثر تناول مشروب كحولي . أما المدمن الكحولي فقد صرّح بعد تناول المسكالين ما يلي : " يوجد فيَّ شخصان – سكران و غير سكران ، أنا أشاهد نفسي غير سكران ، و الآخر – سكران ؛ أنا نفسي الثاني ، أكافح لكي اُخرِجَ السكرانَ مني " . تظهر عند مريض الفصام هلوسات من تلقاء ذاتها بدون مساعدة المسكالين . كانت الأصوات تأتيه من الخارج و تشتمه بكلمات بذيئة و تتهمه بجرائم حكومية قاسية ؛ لم تكن الأصوات البطيئة في داخل الرأس أفضل من الخارجية من حيث المضمون ؛ أما الأصوات السريعة داخل الرأس فقد كانت تثرثر كلاماً غير مفهوم . بعد تنوال المسكالين صمتت جميع الأصوات ! و لم تعد تظهر أية إهلاسات بصرية . لقد اقترب المريض بعد تناول المسكالين إلى الحالة الطبيعية لفترة قصيرة . و أخيراً ، تجارب عالم الأدوية الفرنسي روييه Ruieh ، التي أوردها ل . ل . فاسيلييف في كتابه " الإيحاء عن بُعد " . " تم اختبار تأثير البيوتلْ على مهنس شاب Т. ثم حاولت السيدةС أن توحي لـه عن بُعد هلوسة بصرية – تمثال نصفي للشاعر دانتي . بعد ثلاث دقائق أعلن الخاضع للاختبار ما يلي : " رأس دانتي توجد بشكل واضح في الجهة اليسرى " . بعد ذلك ، و بنفس الطريقة ، أوحي لـه شكل إهلاسي للذئب . أعلن الواقع تحت الاختبار : " غابة ؛ شعور بالوحدة ؛ هناك ذئب ينظر إليَّ " . كما نلاحظ ، إن البيوتلْ استطاع أن يثبت حضوره في أوروبا و من زوايا مختلفة جداً . لقد كانت له مشاركة هامة في الفن و قد تخطاها إلى مجال التخاطر عن بعد ( و سوف يتم الحديث عن التخاطر في واحد من الفصول اللاحقة ) . لكننا نمتنع مبدئياً عن التعليقات و نعود إلى التاريخ .
الخيانة الكيميائية
بعد الصبار تنتظرنا هنا الفطور . و من جديد – الهنود . " كانوا يشربون الشوكولاته و يأكلون الفطر بالعسل ... بعضهم كان يرقص ، يبكي ، أما الآخرون ، الذين حافظوا على بعض وعيهم ، فقد ظلّوا في أماكنهم و راحوا يتمايلون برؤوسهم . في رؤاهم كانوا يراقبون كيف هم يقتلون في المعارك ، كيف تلتهمهم وحوش مفترسة ، كيف يأخذون العدو أسيراً ، يصبحون أغنياء ، يخونون أزواجهم ، كيف تكسر رؤوسهم ، يتحولون إلى حجارة أو يغادرون الحياة بسلام ، يسقطون من علو يعادل ارتفاع البيت و يموتون ، و عندما ينتهي مفعول الفطر ، كانوا يقصون لبعضهم البعض محتوى رؤياهم " . لقد روى القس الفرانسيسكاني بيرناردينو دي ساهاغون Bernardino de Sahagun في كتابه " التاريخ العام لأسبانيا الجديدة " الصادر في عام 1546 ، عن عقار آخر مقدس قامت الكنيسة الكاثوليكية بالاعلان عن اعتباره من " نتاج الشيطان " . الفطر السحري تيونانكاتل Theonankatl . لقد وجدوا رسوماً حجرية لـه في غواتيمالا ، في زمن حضارة المايا التي كانت قائمة قبل آلاف السنين . تحت قبعة الفطر يوجد مغروساً في الساق رأس صغير قريب بشكله من رأس الفأر أو حتى رأس إنسان ؛ الوجه ينظر إلى الأعلى قليلاً ، بطريقة متوحشة بعض الشيء و بحذر . إنها الروح . و قد تكررت القصة مع هذا الفطر : بعد إعلان حظره من قبل الكنيسة فإن تأثيره المرتبط بالسحر لم يختفِ ، لكنه أصبح سرياً . لقد أخفى الهنود سرَّ التيونانكاتل عن الإنسان الأبيض حوالي 400 سنة ، و بطريقة ذكية بحيث أن أحد علماء النبات الأمريكيين اتهم عام 1915 القس الاسباني بارتكاب الخطأ . إذ أكد أن بيرناردينو دي ساهاغون قد خلط بين الفطر و مسحوق البيوتلْ . إلا أن العلماء اكتشفوا رأس الخيط في الثلاثينيات من القرن العشرين . فقد قام علماء الإثنيات ، الذين زاروا الأماكن البعيدة من جنوب المكسيك ، بالاطلاع على الطقوس المرتبطة بالتيونانكاتل . لقد قرر الإنسان الأبيض أن يجرّب بنفسه . فقام الامريكي وايسون بالاشتراك مع هنود إحدى القرى النائية بممارسة ذاك الطقس السحري . إذ تناول اثني عشر فطراً في كوخ ضيق ، حيث كان الهنود يجلسون حول المذبح في المعبد . و أمام المذبح راحت عجوز ساحرة تتمتم التعاويذ بدون توقف . كانت تتكرر بإصرار في الرؤى الخيالية للأمريكي زخارف هندسية تشبه إلى حد غير معقول زخرفات الثقافات الهندية . كان ذلك في عام 1955 ، و بعد عامين تجرأ عالم الكيمياء النباتية السويسري هوفمان من تناول 32 فطراً مجففاً بالكامل و ذلك في المختبر الذي كان يرأسه . ( في ذلك الحين كان خبراء الفطور الفرنسيين قد تعلموا زراعة فطر التيونانكاتل كما هو الأمر مع فطر الـشمبانيون ) . " بعد مرور نصف ساعة تغير كل شيء من حولي بدرجة مدهشة ، و اكتسب طابعاً مكسيكياً . كنت أفهم أن معرفتي بأن المكسيك هي مصدر هذه الفطور ، يجعلني قادراً على رؤية لوحات مكسيكية بالتحديد ، ولذلك سعيت عن وعي لأن احتفظ بتصوري الصحيح عن العالم المحيط . و لكن ، بالرغم من كل جهودي ، فإن محاولاتي أن أرى أشكالاً و ألواناً عادية قد باءت بالفشل . سواء مغمض العينين أو بعينين مفتوحتين ، كنت أشاهد تزيينات هندية مع ما يميزها من تمازج في الألوان . و عندما انحنى الطبيب فوقي كي يقيس التوتر الشرياني ، فقد تحول أمامي إلى كاهن من الأزتيك ، الذي يقوم بتقديم القربان ، و لِما كنتُ دُهشِت لو أنه ظهرت في يده سكين من الأوبسيدان ( الزجاج البركاني ) . و على الرغم من كل جدية التجربة ، فإنني لم أستطع الإمتناع عن اللهو و الضحك عند رؤيتي كيف أن وجه زميلي المعروف لي صار يشبه وجه الهندي . و بعد حوالي ساعة و نصف من تناول الفطور ، فإن طغيان المشاهد الداخلية – و قد كانت في أغلبها ، مشاهد مجردة ، لوحات تتغير بسرعة من حيث الشكل و اللون – قد وصل إلى حدٍّ كبير ، بحيث أنني خشيتُ أن أذوب و أضيع في دوامة الأشكال و الألوان . بعد ست ساعات تقريباً انتهى الحلم . أما أنا فلم يكن لدي أي تصور عن مدة تلك الحالة ، التي فقدت فيها الإحساس بالزمن . و قد كانت العودة إلى الواقع المحيط بمثابة العودة إلى الوطن من عالم آخر لكنه حقيقي تماماً " . لقد استخلص هوفمان من الفطر المادة الكيميائية الفعالة و أعطاها اسماً " بسيلوسايبين Psylosypin " ( من الاسم العلمي باللغة اللاتينية للفطر " Psylosipes " ) . و عندما قام بتحليل التركيب الكيميائي للبسيلوسايبين ، فقد اكتشف معلومة في غاية الأهمية . تبين أن " البسيلوسايبين " يشترك في تركيبه الكيميائي مع " مصدر الطاقة " للخلايا العصبية عند الإنسان ! إن أساس البنية في ذلك " المصدر " هو مركب الايندول Indol – المادة العضوية ، التي تقوم بدور العمود الفقري بالنسبة للكثير من المركبات الهامة بيولوجياً ، و بشكل خاص تلك التي تستخدم الخلايا العصبية . هذه القرابة تدفع للتفكير بالاستبدال ! أليس من الممكن أن يكون البسيلوسايبين قادراً على دخول الخلايا العصبية كمفتاح غريب في قفل غير مخصص له ؟ أليس وارداً أنها تحدث تقليداً ( تنكراً ) كيميائياً ؟ إن البسيلوسايبين ، المسكالين و المواد الأخرى ، التي تسبب حدوث الذهانات الاصطناعية ، قد حصلت على هذه التسمية " بسايكو – ميميتيك Psycho-mimetic " ( من الكلمة الإغريقية " mimeo " - أي أمثل ، أتصنع ) . كما يسمون هذه المواد " مُسبِّبات الإهلاس Hallucinogens " . جميعها تقريباً تحتوي في أساسها الكيميائي على مركب الإندول . إن البسياكو – ميميتيك هذه ، و هي تحل مكان المصدر الطبيعي " للطاقة العصبية " تعبر ، على الأرجح بطريقة الغدر ، إلى الآليات الحميمية للتبادل الحاصل في الخلايا العصبية . يمكن مقارنة تأثيرها بتأثير المضادات الحيوية على الجراثيم . فالمضادات الحيوية شبيهة جداً من حيث التركيب بالمواد ، التي تستخدمها البكتيريا ؛ و لذلك فإن أنظمة التمثيل في البكتيريا " تلتقطها " بكل رحابة " دون أن تلاحظ " الفخ المنصوب لها . و هذه المواد تختلف عن الطبيعية قليلاً فقط ، لكن هذا القليل يسبب حصاراً لتبادل المواد في البكتيريا و بالتالي قتلها . و كيف الحال مع " مولدات الذهان " ؟ إن ذاك " القليل " عندها يسبب اضطراباً في عمل العصبونات ... إن الرغبة كبيرة لمعرفة : هل رؤية الـزخارف ( الأورنامينت ) الهندية عند وايسون و هوفمان هي مصادفة أم لا ؟ بكلمات أخرى ، هل هي ناتجة عن تأثير كيميائي صرف أم لعبت دوراً محورياً عملية التوجيه النفسي المسبق ؟ من الصعب أن نعرف الجواب . لكن الاحتمال الأخير يبدو أكثر رجحاناً . في الوقت الحالي إن البسيلوسايبين أصبح من " المقيمين " الدائمين في مشافي و مختبرات العالم ، و إن اللوحات النفسية الناتجة عن استخدامه ليست أقل تنوعاً عن تلك التي تحدث تحت تأثير المسكالين . بالنسبة للبعض يحدث إكتشاف " الجمال السامي " ، " مغزى الأشياء " ؛ عند آخرين ينشأ ببساطة شعور بالقرف . البعض ينغلق على نفسه ، بينما آخرون ، كما حدث مع الكاتب الفرنسي ميشو ، يميلون إلى المصارحة إلى درجة " إنقلاب كلي إلى الخارج " . لقد شرح ميشو ذلك فيما بعد بأن فقَدَ المستقبل عنده أية قيمة بعد تسممه بالبسيلوسايبين . أما بخصوص الزخرفات الهندية ، فإنها لم تظهر فيما بعد ، على ما يبدو ، عند أحد . بل كانت المواضيع تتغير : أحد الخاضعين للتجربة في أحد المختبرات صار يسمع أصوات هاندل و موزارت . إن إحدى الخصائص الأساسية لمنظومة الفكر ( النفس ) عند الإنسان – أنها فريدة ، لا تخضع للتكهن ، أو بالأحرى من الصعب توقعها بشكل كامل . النفس – هي نوعاً ما عبارة عن ارتجال موسيقي Improvisation Music ، إنها تشبه اللحن المتدرج في تطوره . و هل يمكن لصاحب الخيال أن يعرف إلى أين ستقوده مجموعة متصلة من الأصوات ؟ و مع ذلك هو يعرف ، و أصابعه ذاتها تشعر على أي مفتاح يجب أن تضرب ، و كل صوت يُولد على نهاية الأصبع السابق . من الصعب أن تُكررَ الفعل حتى لو أردت : في أحسن الأحوال ستكون مجرد تغير لموضوع واحد ، لكنه تغيرٌ متنوع ، يبتعد بالتدريج عن النموذج الأصلي . إن ميزة العقل هذه تحيّر بعض الباحثين ، و ليس الباحثين فقط ، بل و جميع الناس الذين يفكرون بشكل جامد ، بشكل تقني ، ذلك أن الفرادة تخيفهم و يصعب عليهم الوقوف بوجهها . لكن إذا ما فكرنا ، أليس فيها يكمن مغزى الطموح الدائم نحو المستقبل ؟ أليس نمو مستوى العقل هو ، بالاضافة لأشياء أخرى ، عبارة عن زيادة في مقياس الفرادة ؟ مَن سيتمكن في يوم من الأيام من حساب هذا الثابت " الزئبقي " ؟ لقد تم في تاريخ الكيمياء النفسية تسجيل نتائج باهرة جداً لمختلف التجارب ، التي قام بها البشر و الوحوش في مطبخ الطبيعة الكيميائي الهائل . فقد تم فيها جمع مختلف المطابقات الكيميائية المدهشة ، التي تختفي تفسيراتها ، على الأرجح ، خلف مدوّنات تأريخ نشوء الحياة . أين هي جذور الشغف القاتل للقطط – المدمنة على الفاليريان Valerian ؟ ما هو المغزى من هكذا شغف يجبر الحيوانات السكرانة على الدوران بشكل جنوني هناك ، حيث تم سكب بضعة نقاط من الشراب؟ يجب الافتراض أن القطط لم تكن قد عرفت الفاليريان في الطبيعة قبل أن يُدلّها عليه الإنسان ، إذ لو كان عكس ذلك لما كانت استمرت في الحياة . إن هذا العقار المهدئ ، الذي تم اختباره دون أن يشكل ضرراً على الإنسان ، يجعل القطط مجنونة و لا تعود تذكر أي شيء آخر ، كما هو الحال مع الفئران المخبرية في تجارب أولدز – السلك المزروع في " الجنة " الدماغية . بماذا يمكن تفسير ذلك ؟ يبدو فقط بأن جزيئة الفاليريان تمتلك جاذبية كيميائية قوية جداً نحو " النعيم " في دماغ القطط . و قد انتظر هذا التطابق العفوي في الطبيعة لحظته المناسبة . ألا يعتبر التأثير المهدئ اللطيف لشراب الفاليريان عند الإنسان - الكابح " لجهنم " – عبارة عن ظلّ باهت لحفلة " الجنة " التهتكية ( Orgium ) عند القطط ؟ نلتقي مع الفطر العجيب أيضاً في صفحة من تاريخ البلدان الاسكندنافية . فقد حفظت الذاكرة الشعبية قصص المحاربين الشجعان لحد الجنون (البيرسيرك ) – أي الجنود الذين يحاربون و هم عراة الصدور ( من كلمة ber serk “ - " عاري الصدر " ) . فما هي الفطر الذي كان يأكله جنود الـBer serk لكي يبعثوا الغضب الاصطناعي في نفوسهم ، فقد بقي الأمر غامضاً ، و لكن بالتأكيد إن الأمر يتعلق بنوع من التسمم و بنشوء حالة ذهانية . كان يحدث ترفع حروري ، انتفاخ في الوجه مع تبدل اللون ، و كان المحاربون يعوون كالوحوش الكاسرة ، يعضون دروعهم و يندفعون إلى ضرب و قتل كل مَن يقع في طريقهم : الدواب و البشر ، الأعداء و الأصدقاء . و قد استمر الأمر على هذا المنوال إلى أن تم صدور قرار ملكي خاص بمنع ظاهرة الـBerserkism و صاروا يعاقبون عليه بشكل صارم . و كان العقاب يطال ليس المدمنين فقط بل و مَن يساعدهم في الحصول على ذلك . و كان يُطلب من المحيطين بتكبيل المقاتلين المتسممين على الفور . بعد هذه الإجراءات الحاسمة اختفت ظاهرة الـBerserkism . إن الكيمياء النفسية تؤثر ، على الأرجح ، على البشرية بدرجة أعمق و أدق ، مما سبق لنا أن نتصور . و كيف سيكون الوضع لو أننا حذفنا نظرياً المخدرات و الكحول من تاريخ البشرية ؟ من الصعب أن نتخيل ذلك ، لكن يمكن الافتراض أن اللوحة العامة للطباع ، للأخلاق كانت اختلفت تماماً عن الحالية و كحد أدنى إلى تلك الدرجة ، التي تختلف معها ذهنية الصاحي المتوسط عن ذهنية المدمن المتوسط . و ربما أكثر من ذلك بشكل كبير . " البيرة تحول البشر إلى أغبياء و كسالى " – صرّح بسمارك ، حاكم البلد الذي يستهلك سكانه البيرة أكثر من أي بلد آخر . فماذا يمكن القول عن البلدان ، التي يستهلكون فيها مشروبات كحولية أكثر تركيزاً ؟
ملاحظة : هذه مقتطفات من فصل من كتاب مترجم عن الروسية للطبيب و الباحث فلاديمير ليفي و قد صدر عن دار الفرقد بدمشق منذ أيام تحت عنوان " رحلة صَيد وراء الفكرة " . المترجم إبراهيم إستنبولي
#إبراهيم_إستنبولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إسحاق بابل I. Babel - دي ساد الثورة الروسية
-
يفغيني الكساندروفيتش يفتوشينكو Yevgeni Yevtushenko- ... أكثر
...
-
لا حياة لمن تنادي .. أو عبثية الكلام
-
كل شيء يغرق في الرياء - قصائد للشاعر الروسي بوريس باسترناك
-
قصائد للشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين - بمناسبة ذكرى رحي
...
-
آخر فرسان العصر- بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل رسول حمزاتوف
-
كتاب لكل العصور
-
ليلة القدر في الشعر الروسي ؟ - تنزّل الملائكة و الروح فيها .
...
-
تعليقات سريعة حول قضايا راهنة
-
ما بين التزوير و التضليل ... توضيح
-
طرطوس و المقاومة ... و عماد فوزي الشعيبي
-
أحلام = شيطانية = صغيرة
-
ديموقراطية .. غير شعبية - نص شبه أدبي
-
المواطن السوري ما بين الهم و القبح
-
تفاصيل صغيرة في قضايا كبيرة - من دفتر يوميات
-
لا تقاوموا الشر
-
و يحدثونك عن الإصلاح ! نهاية التضليل ؟
-
كلمات بلا عنوان
-
بعض الملاحظات على المشهد السياسي العام
-
قوة الصمت و لغز النوم
المزيد.....
-
مارس هذا النوع من التمارين الرياضية.. تحمى نفسك من الزهايمر.
...
-
هاتثبت وزنك.. نصائح سهلة التطبيق تحميك من السمنة
-
لقطات جوية ترصد جفاف البحيرة الطبيعية الوحيدة في صقلية
-
أغاني كرتون مسلي على تردد قناة عمو يزيد تي في 2024 على الأقم
...
-
كارثة صحية تهدد البصرة: مطالبات عاجلة لإنقاذ المدينة من طوفا
...
-
احم طفلك من المخدرات.. تسبب البلاهة والنسيان وتدمر الذاكرة
-
بالأرقام.. هل حطمت مقابلة رونالدو و -ميستر بيست- الإنترنت كم
...
-
نصائح فعالة لتقوية مناعتك في ظل التقلبات المناخية وتساقط الأ
...
-
الكشف عن شكل الفوتون لأول مرة في تاريخ الفيزياء
-
300 مليار دولار.. تعهدات مواجهة تغير المناخ تقل عن مشتريات م
...
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|