هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2002 - 2007 / 8 / 9 - 07:21
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
تعاني العدالة, بمعنى السلطة القضائية, في الدولة الديمقراطية, دولة القانون وحقوق الإنسان, من مشاكل عديدة كثيرا ما تكون حادة , وعليه نراها في مركز الاهتمام والأولوية, وموضوع إصلاحات مستمرة لم تنقطع منذ عصر الإغريق. وتصر على مليء مكانها والثبات فيه وتكييفه مع كل مستجد ومستحدث.
مع ظهور الحضارة ظهرت الحاجة للعدالة . ومرت قرون طويلة قبل أن تتحول من مفهوم القرارات التعسفية التي كان يتخذها حاكم يلعب دورا تحكيميا في النظر في القضايا المعروضة عليه , إلى الوصول إلى قضاء الدولة الذي تعلن إحكامه باسم المواطنين طبقا لإحكام النصوص القانونية وضمن إطارها.
في العصور القديمة كان الملك هو الذي يصدر القواعد, و للرواق le tribune سلطة التقاضي. في أواخر عهد الإمبراطورية الرومانية جمع الإمبراطور بيده سلطات التشريع والقضاء وأصبح القاضي الأعلى.
سوف لا نذهب بعيدا في عمق التاريخ لتقديم أمثلة على إصرار الطغاة والمستبدين على إخضاع القضاء لسيطرتهم المطلقة. وسنكتفي فقط بالإشارة إلى أن الملك في العصور الوسطى, الذي يعتبر نفسه الدولة وأنها ليست إلا هو, كان في حالة النزاع بينه و بين المحاكم يستدعي هذه الأخيرة لجلسة بكامل هيئتها, وكان يُعتبر مجرد حضوره حضور كل الامتيازات السلطوية التي يتمتع بها, ويأمر القضاة بتسجيل الأوامر التي يرفض الخضوع لها. فأمام سلطاته الموروثة من قرون كان على القضاة الانحناء والرضوخ.
خلال مرحلة الثورة الفرنسية, التي استوحت مبدأ فصل السلطات من فلاسفة عصر التنوير, مُنح القضاة مكانة جديدة. واكتسبوا سلطة سيادية في إقامة العدالة. ومع ذلك لم يكونوا إلا كما كان مونتسكيو يرى في القاضي " الفم الذي ينطق بالقانون".
وفي عهد الإمبراطورية حرّمت لمادة 5 من القانون المدني على القاضي "النطق بالحكم بطريق الأحكام العامة والأنظمة, في القضايا الخاضعة له للنظر فيها". ولمواجهة استقلال القضاء أخذت الدولة تبحث عن قضاء خاضع لها لتمرير أعمالها. فخلقت قضاء الاستثناء.
وكانت دكتاتورية نابليون تنزع به لإعادة إخضاع القضاء لهيمنة السلطة التنفيذية, وتم له ذلك في كثير من الحالات. واستقر الوضع هكذا طيلة عهد الجمهورية الثالثة. " جمهورية المحامين " (جان فرنسوا بيرجلان و بول لومبار ). Le procès de la justice
ومع ذلك فقد شهدت فترة حكم نابليون الحقوق المكتوبة عن طريق تقنينها codification أي جمعها في مجموعات قانونية Codes. فظهرت عام 1804 المجموعة القانونية الأولى المعروفة بالقانون المدني أو قانون نابليون. تلاها تدوين ونشر قانون الإجراءات المدنية, القانون التجاري. قانون التحقيق الجنائي. والقانون الجنائي. والتي ما زالت مبادئها العامة سارية إلى اليوم . ومنذ ذلك الوقت قام النظام القضائي الفرنسي على حقوق مكتوبة في مجموعات قانونية, عكس ما هو الحال عليه في النظام الانكلوسكسوني common law المبني على أحكام القضاء la Jurisprudenceوعلى نصوص تأسيسية. فالقوانين الفرنسية مُكملة بمراسيم تبين طرق تطبيقها جمعتها مدونات قانونية.
في غياب توازن السلطات أي التنفيذية والتشريعية و القضائية يكون الخلل على حساب السلطة الأقل حضورا, وهي عبر التاريخ السلطة القضائية. ولعل المثال الأكثر وضوحا بهذا الصدد هو إن مبدأ الفصل الذي تحمس له رجال الثورة الفرنسية, بدأ تطبيقه بعد فترة قصيرة يشهد, وعبر المراحل التي اشرنا إليها في مقالات سابقة, تجاوزا عليه, إلى أن أعاد دستور 1946 له التوازن. ومن الغريب أن دستور عام 1958الذي مازال ساري المفعول في فرنسا 1958 اخل بهذا التوازن, من حيث تسمية السلطات, حين تحدث عن " الهيئة القضائية autorité judiciaire ". وليس عن السلطة القضائية, ولكن الواقع يدل على أن هذه التسمية لم تحط من منزلة السلطة القضائية. فقد حاول ديغول خلال فترة حكمه بكاملها تجديد القضاء وتحديثه, شانه شان السلطتين التنفيذية والتشريعية. لان الإصلاح كما كان يراه لا يستقيم إلا إذا كان شاملا. وما زال التعامل اليوم على ان القضاء سلطة وليس مجرد هيئة.
إن جعل القضاء مجرد إدارة مثل باقي الإدارات لا يحرمه فقط من الصفة السيادية, المعترف بها للسلطة التنفيذية والتشريعية, ويجعله سهل المنال وعرضة لتدخلات لا تنتهي من قبل السلطتين المذكورتين, وإنما ينزل به إلى مرتبة انعدام الفاعلية, وفقدان التأثير والثقة والاحترام في عيون المتقاضين وجميع المواطنين القلقين على حقوقهم ومصالحهم وحرياتهم, الحالية والمستقبلية.
أما في الدولة الاستبدادية فان معاناة القضاء ــ حتى لا نقول السلطة القضائية, أو نذهب أكثر بعدا فنقول العدالة ــ هي من نوع آخر. مشاكل ومصاعب لا تعود فقط لأداء المسيرين له, أو للإجراءات, أو الأخطاء في تطبيق النصوص القانونية, أو لمحدودية الاختصاص, مسائل يمكن التغلب عليها بإصلاحات في هذا الشأن أو في ذاك من شؤونه , وإنما هي مشاكل تكوينية تعود لتركيب القضاء نفسه, بشكله الحالي المعيب والعاجز, حيث بات في أس تلك المشاكل وفارزا لها , لتضاف إلى المشاكل الخارجية التي يعاني منها. فالقضاء العادي هجر مكانه كليا, أو يكاد, ليقيم إلى جانب قضاء استثناء صاحب اختصاصات أوسع, ونفوذ غير محدود, وسلطة لا تستمد من سيادة القضاء, وإنما من نفوذ صاحب السلطة التنفيذية وأجهزته, الأمنية منها بشكل خاص, في ظل أحكام عرفية وحالة طوارئ " مستديمة" إن صح التعبير. ومع ذلك يبقى وجود هذا القضاء ضرورة ــ ولو بشكله الحالي, أو بعبارة اصح بشكله الحالي المتعمد وضعه به ــ بالنسبة للمستبد للحفاظ على المظاهر التي هو بحاجة إليها. وعليه فهو مجبر للاعتراف له ببعض الأشكال الخادعة لاستقلاله , لانتحال صفة ليست له وليست فيه, ولا تستقيم أساسا مع وجوده نفسه ــ صفة المحافظ على العدالة ــ حتى ولو انشأ لها هياكل و أدواة وطقوس. استبداد وعدالة !!!؟ .
يقوم إلى جانب المستبد من يروج لأفكاره من داخل جهاز القضاء, ومن بعض المحامين المفترض أنهم رجال الدفاع, أو الدفاع نفسه, الذي يستنفر تلقائيا لأي مساس بالعدالة من أية جهة جاء. فنرى التسطيح, المقصود أحيانا, والانتهازي أخرى, والبليد غالبا, في مقولات إصلاح القضاء. كأن يطلب من القاضي, عن طريق الوعظ, والنصائح العجائزية, بان يتمتع بهذه الصفات و يمتنع عن تلك, ويصغي لصوت الضمير والعقل, ويلتزم النزاهة والإخلاص, ويبتعد عن الرشاوى, ويحتمي بالحكام, ويقيم معه صلات الود, ليحميه من كل مكروه وضغط مادي أو معنوي ويساعده في القيام بمهامه. وبهذا يتحقق العدل ولا يفسد القضاء!! ؟.
وكأن آلاف السنين من التنظيم القضائي. وآلاف الأعمال الفكرية لآلاف رجال الفكر, والقانونيين, والقضاة والمحامين, والمشرعين, الهادفة للإصلاح القضائي, ورفع الظلم والترهيب والترغيب عن رجل القضاء وصولا إلى استقلاله. وكأن معاهد تكوين القضاة وتربيتهم القانونية على مبادئ العدل والاستقامة والنزاهة التي تحميها قوانين أدبيات القضاة, والمؤسسة القضائية وتطويرها لآليات الرقابة, ودرجات التقاضي, في ظل الديمقراطية ومبادئ المشروعية والقانون, والرقابة غير المباشرة للإعلام الحر, والرأي العام الجريء, المعبر عن آراء مواطنين يتمتعون بكامل صفات المواطنية, أحرار متساوون في الحقوق والواجبات, يرون في القضاء إعادة التوازن لأي خلل في تلك المساواة أو الحقوق و المصالح, ورفع أي أذى يلحق بهم ولو كان مصدره الحاكم نفسه. كأن كل هذا لم يمر تحت سمع وبصر دعاة الإصلاح بالشعارات والتداوي بالشعوذة والكلمات التي عفا علها الزمن.
لم يعد القضاء هو القاضي الفرد في زمن البداوة ــ مع شديد الاحترام لروحية البداوة ونقائها وسجايا قضاتها ــ ولم يعد لشيخ أو أمير أو ملك أو رئيس أن يعجم عود رجاله ويختار اصلبهم ويرسله محقونا بالنصائح والإرشادات والتوجيهات ليقضي بين الناس باسمه, فيزرع الأرض عدلا. فقد دخل العالم بأجمعه القرن الواحد والعشرين ولن يفيدنا البقاء بعيدا خلف عتباته.
كيف يمكن المطالبة بجرأة و نزاهة واستقامة القاضي وتحميله وحده وزر أي خلل بذلك, وهو من يعيش منذ ولادته في دول لم تعرف معنى حرية الرأي والدفاع عنه, فالرأي واحد, للحزب الواحد, والأمير الواحد, والزعيم الأوحد. كيف يسلك مسالك الجرأة وقول الحق, وهي جرائم يعاقب عليها بالسجن, أو التغييب الأبدي, أو التهجير في أصقاع المعمورة. كيف سيكتسب مناعة ضد الفساد والرشاوى والانتهازية, وقد أصبحت أدواة التعامل و من أسس الأنظمة التي ترعرع وكبر في ظلها. كيف سيكون حياديا وهو من يشترط لتعيينه أن يكون من المدرسة الحزبية, أو العشيرة, أو الفئة أو الطائفة التي تنبذ كل ما عداها. هل سيكون نزيها وجريئا وقادرا على النطق بالحق من يلتزم صادقا بالدفاع عن أوضاع وأنظمة مثل هذه؟ إلا يُعتبر دفاعه عنها وانتمائه صادقا لها عيب قاتل في حياديته, واصطفاف إلى جانب الفساد؟ أليست مجرد معرفته بذلك وسكوته عليه, تنكر لقيم القاضي ولمفهوم القضاء ؟ .
وأخيرا حتى يمكن الحديث عن قضاء قابل لشغل مكانه ومهامهم هل طرحت, هنا أو هناك في وطننا العربي الكبير, قضايا بهذا الصدد مثل, للإشارة وليس للحصر:
ـ تعزيز استقلال السلطة القضائية.
ـ استقلال القضاء والقضاة.
ـ اعتماد مبدأ جماعية القضاة في تشكيل هيئات المحاكم.
ـ تكوين القاضي على قيم العدالة والاستقامة والنزاهة, و تطويره قانونيا ومهنيا, وجعل الكفاءة وليس الولاء للحاكم معيار تعيينه.
ـ تطوير قانون أدبيات القضاة.
ـ مسؤولية القضاة في حالة الخطأ المهني.
ـ طرق تعيين القضاة.
ـ إقامة علاقات تعاون وتفاهم بين المحامين والقضاة لما فيه حسن سير القضاء.
تجاوز الحديث عن الرواتب والسيارات الفخمة فليس هذا هو الإصلاح. وليس خلق فئة منتفخة ماديا هو ما يحمي القضاء من الفساد, ويعزز قيمه, ويرقى بالأداء القضائي.
هل المواطن العربي في وارد ما يعانيه القضاء أم انه يرى العجز والعيب في شخص القاضي.
هل هو :
ـ على معرفة بعمل النظام القضائي وتنظيمه واختصاصاته؟.
ـ حاصل في كل مراحل التدريس من الابتدائي إلى التخرج الجامعي على معرفة من هذا القبيل؟
ـ يزور المحاكم للاطلاع على أعمالها؟
ـ لا يرعبه اسم المحكمة و يثير الهلع في نفسه كما تثيره فروع المخابرات وأجهزة الأمن؟
وهل المحاكم:
ـ تقوم بتخصيص مكاتب استقبال وتوجيه للمواطن وإرشاده إلى أين يجب التوجه بقضيته؟
ـ توزع كتيبات ومنشورات في مداخل المحاكم وأروقتها, تصدرها وزارة العدل, تعرف المواطن بأنواع المحاكم واختصاصاتها, ودرجات التقاضي والطعن بالإحكام القضائية؟
ـ عدم ترك المراجع صيدا ثمينا لمن لا ضمائر مهنية لديهم لابتزازه لقاء إرشاده أوتضليله؟
هل يقوم رجال القضاء:
ـ باللقاء بالمواطنين ــ في غير أماكن الولائم, والاجتماعات ومراكز الندوات والتوجيه الحزبي ــ
وإلقاء المحاضرات وتبادل الأحاديث, والتعريف بمهنة القضاء وحقوق المواطنين؟
هل تخصص وزارة العدل:
ـ كتيبات ومنشورات توزع مجانا لنشر ثقافة قانونية وقضائية صرفة, بعيدا عن الحزبية والتوجيهات الرئاسية أو الملكية, والشكر والتبجيل؟
ـ مواقع على الانترنت لها وللمحاكم بدرجاتها؟
ـ صحفا متخصصة, أو تطلب إلى الصحف العامة المكتوبة تخصيص مساحات, ولو متواضعة إلى جانب مساحات الفن والأبراج, للقضاء والشؤون القانونية؟
ـ مواد مرسلة للقنوات الفضائية ــ التي لا تجد ما تغطي به بثها, غير المنقطع ليلا نهارا ــ ُيسمع فيها قاض أو محام أو صاحب قضية؟.
وأخيرا ودون أية أوهام, تبقى الحقيقة أن إصلاح القضاء لا يمر إلا عبر الإصلاح الكامل والجذري للدولة. فالدولة الاستبدادية لا يمكن ان تكون دولة العدالة .
إن ما يواجه القاضي العربي لا يواجه مثيله في أية دولة ديمقراطية. ومن هنا الإكبار للشرفاء من قضاتنا في معاناتهم, وفي صمودهم في مهامهم, وتحملهم الأذية, وعدم هجر مواقعهم, ولنا في الشرفاء من كبار قضاة مصر مثلا. د.هايل نصر.
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟