|
نقد التسامح الخالص
عصام عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 2002 - 2007 / 8 / 9 - 07:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
فى عام 1965 صدر كتاب بعنوان "نقد التسامح الخالص" ، يحتوى على مقالات ثلاث حررها ثلاثة فلاسفة ، هم : روبرت بول فولف ، بارنجتون مور وهربرت ماركيوز . ومع تباين آرائهم إلا أنهم متفقون على أن التسامح ، نظرياً وعملياً ، ما هو إلا قناع يخفى حقائق سياسية تتسم بالرعب والفزع ، وخلاصة رأيهم أن التسامح ينطوى على نقيضه وهو عدم التسامح وهذه هى اشكالية التسامح ، التي تحلق بقوة كالروح المستحضرة في سماء النقاش الأكاديمي الدائر في أوروبا اليوم . وهو يذكرنا بكانط وكتابه العمدة "نقد العقل الخالص" ، الذي أحدث ثورة كوبرنيقية في مجال الفكر . فإذا كانت الغاية من نقد العقل عند كانط ، الكشف عن "الوهم" الكامن فى عقل الإنسان الذى يدور حول قدرة هذا العقل على "اقتناص" المطلق . فالغاية من نقد التسامح الكشف عن "الوهم" الكامن فى الأنظمة السياسية التى تزعم أنها تتسم بالتسامح وهى ليست كذلك . فقد حدد "إعلان مبادئ التسامح" الصادر عن اليونسكو فى سنة 1995 ، التسامح ، بأنه : "ليس فقط مجرد التزام أخلاقى وإنما أيضاً ضرورة سياسية وقانونية" . ومن هنا فإن التسامح فضيلة وممارسة تجعل السلام ممكناً بين الشعوب ، باستبدالها الصريح للحرب باللاعنف ، بحيث يتحول إلى تسامح نشيط يمتلك حق العمل علي تحييد الشعوب ووقايتها وحمايتها وتربيتها ، فى ممارستها السياسية والمؤسسات الاجتماعية ، وخصوصاً عن طريق الأسرة والتربية وثقافة السلام . ومادام أفق السياسة مرتبطا بممارسة السلام الاجتماعى والمدنى ، فإنه مرتبط بالتسامح . إن ممارسة التسامح مبدأ للتعايش ولاحترام الآخر ، سواء حدد كصديق أو كخصم أو غير ذلك ، فإنه يشارك مثلنا تماماً فى الحياة العامة حيث تتقابل الآراء والمبادئ عن طريق "المسافة المناسبة" التى يهيئها العقد الاجتماعى أو الميثاق الوطنى ، ويعد لها حسب مختلف المصالح المتعارضة بالقول والفعل . هنا يكمن مدلول الوفاق أو التعاون الذى يربط التسامح بالسلام واحراجاته ، وتنسج الحدود التى تسمح ببروز أخلاق سياسية ، وبإمكانية ابتكارها . فالتسامح ليس كلاماً معسولاً نغلف به الاختلافات الواقعية للآراء والمعتقدات ، وإنما ممارسة فعلية لهذه الاختلافات فى إطار تعاقدى يزاول فيه المختلفون اختلافهم دون عنف أو فرض أو قهر . وحسب الفيلسوف الفرنسى "ادجار موران" فإن التسامح ضرورة ديمقراطية ، لأن الديمقراطية تتغذى من صراع الأفكار ، وتندثر بصراع الأجساد . والديمقراطية هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية : وهى مبادئ لا يمكن ضمانها إلا فى نظام تمثيلى برلمانى . وهذه المبادئ لا تعود إلى اليونان كما يبدو للوهلة الأولى ، وإنما إلى ثلاثة فلاسفة محدثين هم : جون لوك فيما يخص المبدأ الأول ، ثم جون لوك ومونتسيكيو فيما يخص المبدأ الثانى ، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث . أما المبدأ الأول فهو مبدأ "التسامح" ، ويلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية ، والفلسفية والدينية ، بشرط ألا تؤدى هذه المعتقدات إلى إشاعة الاضطراب أو الفوضى فى الساحة العامة للمجتمع . وينص المبدأ الثانى على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث : التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية . فالسلطة التشريعية هى التى تصدر أو تبلور القوانين ، والسلطة التنفيذية هى التى تطبقها أو تحولها إلى واقع ، والسلطة القضائية هى التى تعاقب من ينتهكون هذه القوانين حتى ولو كانوا من رجال السلطة نفسها . وهذا المبدأ يهدف إلى إقامة دولة الحق والقانون ، وهى تختلف عن الدولة السابقة القائمة على القوة فقط أو البطش والطغيان . وأما المبدأ الثالث الذى لا يمكن لأى ديمقراطية أن تنهض وتستمر بدونه فهو مبدأ "العدالة" . فالديمقراطية الحقيقية لا ينبغى أن تكتفى بكونها ديمقراطية شكلية مفرغة من المساواة والعدل .. فماذا تفعل الحرية إذا كانت الجماهير جائعة لا تملك قوتها ؟ . بيد أن تراث الديمقراطية الليبرالية ، خاصة فى انجلترا والولايات المتحدة ، أدرك ضرورة وجود أحزاب المعارضة القانونية . ويعنى ذلك أن على حزب الأغلبية أو الأكثرية واجب التسامح مع حزب الأقلية المهزوم ، ومن دون سياسة "التسامح" يمكن لسلطة الأغلبية فى وقت معين أن تؤدى إلى الدكتاتورية ، وتنتهى فكرة الديمقراطية . هذا التسامح يعنى ، فيما يعنيه ، أن القرارات والإجراءات التى تتخذها الأغلبية ، بما فيها سن القوانين ، يمكن أن تظل موضع انتقاد الجماهير . هكذا نجد أن الديمقراطية الليبرالية تفرز التسامح وترعاه أيضاً ، وأن التسامح بدوره يحافظ على الديمقراطية من أن تتحول إلى نقيضها (الدكتاتورية) وخطرها المتمثل فى الشمولية والدوجماطيقية والعنف . ذلك أن أية محاولة لإعطاء قرارات الأغلبية صفة (الإطلاق) تعنى انكار طبيعتها المشروطة . والتسامح يوفر المعيار الذى يمكن به لقرار الأغلبية أن يفهم ويفسر . ففى ممارسة الديمقراطية تحترم الأقلية قرارات الأغلبية ، بما فى ذلك طاعة القوانين التى سنت . لكن هذا لا يعنى الموافقة كل الموافقة على هذه القرارات ، فيظل للأقلية الحق من خلال وسائل الإعلام فى أن تطالب بتعديل القرارات التى تم إصدارها فى فترة انتخابية أخرى . ولذلك يجب أن تكون قرارات الأغلبية ذات طبيعة قابلة "للتسامح" . أضف إلى ذلك أن الإمكانية القانونية فى تشكل أغلبيات جديدة يعنى أنه ليس للأغلبية فى أى وقت الحق فى أن تفعل كل ما فى وسعها لمنع مثل هذا التغيير ، حتى وإن لم تكن راغبة فيه . فعلى النقيض من ذلك ، ينبغى للأغلبية الحاكمة أن تقبل هذه الإمكانية على أنها مسألة مبدئية . وأنها لعلامة على ما يمكن أن يدعى تسامحاً بنيوياً فى جمهورية ديمقراطية أن يسمح قانونياً بتغيير الحكومة وأن يصبح التغيير ممكناً فى الواقع . والشروط اللازمة لهذه "المسئولية الحقيقية" هى حرية الإعلام والنشر مع حرية التنظيم والتظاهر . من هنا يصعب الفصل بين "التسامح" وبين الديمقراطية والتعددية .. فمع التعددية يحيا الاختلاف ومبرراته ، حيث يقبل الجميع داخل المجتمع الديمقراطى مبدأ التسامح وحق الاختلاف الذى تفرضه اللعبة السياسية . وإذا أردنا تكريس التسامح وتأصيله ينبغى أن نعمل على ترسيخ الديمقراطية ومؤسساتها . ان التسامح هو أكثر من مجرد القبول بالآخر ، إنه الاعتراف بالحق فى التباين ، وقبول الحق فى الخطأ كحق من حقوق الإنسان ، وعدم منع الآخرين ، أو إكراههم على التخلى عن آخريتهم Otherness وتلك هى أهم مقومات المجتمع المدنى الحديث , وفي ذلك يقول كارل بوبر : "يؤمن الغرب بأشياء عديدة مختلفة ، بأشياء طيبة وأشياء خبيثة ونوعية هائلة من الأفكار قابلة للوقوع فى الخطأ ، والتسامح . فبعد أن أنهك الصراع الدينى والمدنى انجلترا أصبحت مستعدة لأن تسمع من لوك ، وغيره من رواد التنوير ، مجادلات عن التسامح الدينى ، وأن تقبل مبدأ أن الدين المفروض بالقوة لا قيمة له ، واستطاعت الديمقراطيات المعاصرة بروح التعددية أن تحترم اعتقادات الناس من كل صنف ، بآرائهم ومعتقداتهم المتباينة "فالمجتمع التعددى هو الإطار الضرورى لتحقيق المعانى والأهداف السياسية " .
#عصام_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قاضي العالم الأعلي
-
أزمة الحداثة
-
الأخلاق والدين
-
الدين في النطاق العام
-
ما قبل ويست فاليا .. بعدها
-
خطوط الانفلات
-
الدين في حدود العقل
-
تحولات عميقة
-
عنف لا أحد
-
الصمت بين الكلمات
-
دريدا والإله تحوت
-
إعادة محاكمة سقراط
-
ثقافة الانتقام
-
التعصب وسنينه
-
تفكيك الأصولية والهوس الديني
-
الأصولية .. هنا وهناك
-
الهوس الديني والفتن الطائفية
-
الإيمان والعلم
-
موت الحداثة في مصر
-
اختفاء البكوش
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|