عدنان الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 2000 - 2007 / 8 / 7 - 10:02
المحور:
الطبيعة, التلوث , وحماية البيئة ونشاط حركات الخضر
مقدمة -
صدق من قال ان كل ظاهرة في الحياة تحمل نقيضها. وصدق الذي قال ( رب نافعة ضارة ). ثم ( وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ).
فبعد اختبار القوة التدميرية الرهيبة للقنابل الذرية الأمريكية عام 1945 , حيث تم مسح مدينتين يابانيتين من خارطة الوجود, هبت البشرية وعلماؤها في المقام الأول داعية الى حظر السلاح النووي والتوقف عن تطويره وأنتاجه. وبدل ذلك ركزت هذه الدعوات على تطويع الذرة وحصر استخدامها في المجالات السلمية كمحطات انتاج الطاقة الكهربائية العاملة بقوة انشطار الذرة الذي يتم في قلب المفاعلات الذرية. كذلك في الطب لمعالجة الأورام السرطانية وفي مجالات الأبحاث العلمية المنوعة وفي الزراعة والصناعة, وهكذا اتجهت جهود العلماء المختصين والمهندسين بشكل مكثف لتصميم المفاعلات النووية المختلفة في قدراتها والمنوعة في بنائها الهندسي كما يوضح الجدول الأتي (1) .
يبين هذا الجدول المواصفات الأساسية لأوسع المفاعلات النووية انتشارا , المصدر ( 1 ).
1- AGR المفاعل المبرد بالغاز. مهديء النيوترونات : الغرافيت.
2-BHWR المفاعل المبرد بالماء الثقيل المغلي. مهديء النيوترونات : الماء الثقيل نفسه .
3- BWR المفاعل المبرد بالماء الخفيف العادي. مهديء النيوترونات : الماء الخفيف نفسه.
4- FBR مفاعل التوالد السريع ( أنظر المصدر الثاني حول تفصيلات هذا النوع من المفاعلات النووية.
5- GCFBR مفاعل التوالد السريع المبرد بالغاز.
6- HTGR المفاعل المبرد بالغاز عالي درجات الحرارة. المهديء : الغرافيت .
7- HWGCR المفاعل المبرد بالغاز. المهديء : الماء الثقيل.
8- HWLWR المفاعل المبرد بالماء الخفيف. المهديء : الماء الثقيل.
9- LWGR المفاعل المبرد بالماء الخفيف. المهديء : الغرافيت.
10- LMFBR مفاعل التوالد السريع المبرد بمنصهر فلز الصوديوم عادة.
11- OMR المفاعل المبرد بمركب عضوي يلعب كذلك دور المهديء.
12- PHWR المفاعل المبرد بالماء الثقيل الواقع تحت ضغط عال, يقوم كذلك بدور المهديء ( مبرد ومهديء معا ) .
13- PWR المفاعل المبرد بالماء الخفيف المضغوط - للحيلولة دون غليانه - ويقوم بالدورين معا : مبرد ومهديء .
14- SGR المفاعل المبرد بالصوديوم السائل ( المنصهر). مهديء النيوترونات هو الغرافيت , وهو شكل من أشكال عنصر الكاربون .
النفط والذرة
لكي نفهم طبيعة علاقة الربط بين النفط والذرة علينا أن نتصدى لمعرفة المشاكل البشرية والبيئية والأقتصادية الناجمة عن استخدام المفاعلات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية. تقول بعض الصحافة العالمية (3) أنه بعد الحادث النووي الذي وقع في مفاعل الثري مايل آيلاند Three Mile Island عام 1979 والذي أدى الى تسرب نشاط اشعاعي ملحوظ جراء خلل طرأ على أنظمة التحكم الآلي الذاتي بأجهزة التبريد, صرح أحد قادة حملة معارضة المشاريع والمفاعلات النووية في جمع من المتظاهرين في ألمانيا الأتحادية ( يومذاك ) :
(( اننا نمثل الرمل في ماكنة الأقوى, لكننا سنحول تلكم الماكنة الى جماد )).
وبالفعل, فقد نجم عن المناقشات الحادة والجدل المتصل حول السلامة من المخاطر النووية تلكؤ ملحوظ في نمو ونشاط الصناعات النووية في العالم. فضلا عن كساد السوق العالمي والتضخم والبطالة وانكماش سوق النفط العالمي والطاقة, الأمر الذي ساهم في جعل الصورة العامة أكثر سوادا. لكن في بعض الأقطار المتطورة صناعيا سجلت الصناعة النووية قفزات محسوسة. فلقد تزايد الطلب على الكهرباء المتولد من الطاقة النووية ( مفاعلات الطاقة ) في أوربا واليابان والمعسكر الشرقي ( سابقا ) بشكل ثابت حتى بات من المتوقع أن يتضاعف هذا الطلب حتى آواخر القرن العشرين ( القرن الماضي ) . ولا غرابة في هذا ما دامت الطاقة النووية هي المنافس الأكبر المأمول للنفوط المستوردة ومصدر الطاقة الأسرع نموا في العالم.
وفي عالم اليوم بالذات باتت موضوعات السلامة من أخطار الأشعاعات النووية ومشاكل التخلص من النفايات وبقايا التحولات النووية من الأمور ذات الخطورة التي تشغل بال الكثير من الناس مختصين وغير مختصين. وأغلب هذه المشاكل لم يزل دون حل مرض ونهائي يستجيب لمتطلبات وشروط ومقاييس السلامة العامة. جعل هذا الموضوع بالذات كلفة بناء محطة نووية لأنتاج الطاقة الكهربائية أكثر بكثير من تصورات المخططين والمهندسين ومن يهمهم الأمر, وخاصة حكومات البلدان الفقيرة أو تلك التي لا نفط تحت أراضيها أو في أعماق مياهها الأقليمية. هذا فضلا عن الديون وفوائدها الباهظة التي تثقل كاهل هذه الحكومات والبلدان وتكاد أن تقصم ظهور البعض منها. لكل هذه الأسباب مجتمعة توقف تطور الصناعات النووية في الولايات المتحدة الأمريكية أو يكاد (3) . وخلافا لهذه الصورة وسعت بمزيد من الحذر دول أوربية كألمانيا وبريطانيا مؤسساتها النووية. كذلك فرنسا واليابان حيث أسستا مشاريع جديدة لمحطات نووية لأنتاج الكهرباء. أما الأتحاد السوفييتي ( سابقا ) فان حماسه, كما يلاحظ الخبراء, لبناء المفاعلات النووية يوازي حماسه لأنتاج الصواريخ .
لقد تضررت دول الأوبك كثيرا جراء النمو الطاريء على مشاريع الطاقة النووية
( البديل الأكبر للنفط ) ولسوف يزداد هذا الضرر في المستقبل. ففي تقديرات بعض خبراء الطاقة (3) هبط انتاج النفط في دول الأوبك خلال السنوات العشر
( 1974 - 1984 ) بمقدار أربعة ملايين برميل في اليوم نتيجة للزيادة المطردة في انتاج الطاقة النووية. قد لا يكون هذا هو السبب الوحيد لكنه على أية حال يبقى واحدا من الأسباب. فالعامل السياسي والمضاربة في أسواق النقد العالمية ( صعود وهبوط أسعار الذهب والدولار الأمريكي ) وزيادة منتوج النفط في بعض البلدان والتوسع في حفر وأكتشاف آبار جديدة. ثم تقنين وترشيد استهلاك النفط ومشتقاته في بعض البلدان المتطورة فضلا عن التقدم الكبير في بناء مكائن الأحتراق الداخلي ولا سيما السيارات.
لقد سبق وأن تنبأت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا بأن انتاج الطاقة النووية سوف يتضاعف بما يوازي انتاج عشرة ملايين برميل من النفط يوميا. أي ما يوازي قمة انتاج العربية السعودية لوحدها في اليوم الواحد.
قطعت بعض بلدان العالم الثالث كالهند وكوريا الجنوبية والأرجنتين أشواطا بعيدة في مجال تطوير الطاقة النووية. غير أن بلدانا أخرى قد أرهقتها الديون المستحقة وفوائدها المؤجلة حتى أنها باتت عاجزة عن صرف المال اللازم لبناء أو تطوير التكنولوجيا النووية. فعلى سبيل المثال نرى أن كلا من البرازيل والمكسيك قد أرجأتا أو صرفتا النظر عن مشاريع نووية كانتا قد شرعتا في بنائها فعلا. هذا في حين أن بعض الحكومات الغربية تبدي الكثير من المخاوف والكثير من الحذر تجاه بيع التقنيات عالية التطور لأقطار العالم الثالث خشية أن تستخدم لأنتاج الأسلحة النووية بدل استخدامها لأنتاج الطاقة الكهربائية.
الوضع في فرنسا : تختلف قوة الصناعة النووية في أوربا من قطر لآخر. فالوضع في فرنسا مثلا يتميز بأعلى درجات الدينامية. وتعتبر مشاريعها النووية من أنجح المشاريع في العالم , ذلك بسبب التزامها بأنموذج واحد لا غير فيما يخص بناء هذه المشاريع. فعند حظر تصدير النفط خلال أزمة عام 1973 ( بعد حرب أكتوبر في الشرق الأوسط ) جهزت محطات القوى النووية في فرنسا ما يساوي واحدا بالمائة من مجمل احتياجاتها للطاقة الكهربائية , في حين وفر النفط وحده 70 % من هذه الأحتياجات . أما اليوم فان الطاقة النووية توفر ما يوازي 50 % من مجموع احتياجات فرنسا للكهرباء. وتشير الحسابات الى أن هذه النسبة قد قفزت فعلا الى 75 % بحلول العام 2000. لم تأت هذه النتائج التي لا نظير لها اعتباطا, فلقد ساعدت المصادر الطبيعية نفسها على تطوير قدرة فرنسا النووية حيث أن لديها نسبة 2.5 % من مجموع احتياطي اليورانيوم في العالم. لكم رغم ذلك يرى بعض المراقبين أن دينامية المشروع النووي الفرنسي معزوة الى التخطيط البعيد المدى الذي توجهه الدولة وتسيطر عليه بشكل مركزي. ثم اعتماد فرنسا وبشكل أساسي على تصميم واحد من المفاعلات النووية هو مفاعل ويستنكهاوس ذي الماء المضغوط :
Westinghous Pressurized Water Reactor ) PWR )
الذي أجيز لشركة Creusot - Loire
لقد استطاعت فرنسا انتاج واحلال أجزاء هامة رخيصة الأمر الذي عجزت عنه دول كثيرة اعتمدت سياسة تنويع مصادر التوريد من جهة وتصنيع قطع الغيار من الجهة الأخرى, الأمر الذي كلفها الأموال الطائلة.
ولعل من الطريف أن نذكر أن كلفة الكهرباء في فرنسا خلال شهر شباط (فبراير)
عام 1984 كانت أقل بمقدار عشرين في المائة منها في أي بلد أوربي آخر. المقارنة بالطبع بين كهرباء محطات القوى النووية فقط. ونتيجة لكل هذا فان فرنسا تعاني من تخمة في الطاقة النووية. وللتخلص من هذه " التخمة " شرعت الحكومات الفرنسية مبكرا بالتخطيط لتصدير الكهرباء الى باقي الأقطار الأوربية باعتباره سلعة تجارية رابحة.
لعب العامل السياسي - الأجتماعي دورا بارزا في نجاح خطط ومشاريع فرنسا النووية. وعلى رأس هذه العوامل غياب المعارضة المحلية القوية لهذه المشاريع. كما لعب الرئيس الفرنسي الأسبق ( فاليري جيسكار ديستان ) على أوتار الحس الوطني الفرنسي المتطرف اذ دأب على التصريح خلال سبعينيات القرن الماضي أن استقلال فرنسا سيكون في خطر محدق ان هي اعتمدت على مصادر الطاقة الأجنبية. وكان تجاوب المواطنين كبيرا مع مثل هذه المواقف.
كان الوضع مختلفا تماما في أقطار أوربية أخرى حيث أن سياسات نووية مماثلة كانت أقل فعالية ولاقت القليل من القبول . ففي ألمانيا الغربية يومذاك درجت الحشود الهائلة من المتظاهرين على تنظيم مسيرات احتجاج ضد الطاقة النووية أمام بوابات المفاعلات النووية. كما حملت الأيام أمورا تدعو للعجب. فالمعارضة المكثفة لنشر صواريخ حلف الناتو النووية في ألمانيا قد صرفت الناس عن معارضتهم اليومية المألوفة للمفاعلات النووية. وقد دلت استطلاعات وجهات نظر الجماهير أن نسبة الثلثين فيهم تؤيد سياسة بناء المفاعلات النووية رغم معارضتها لنشر الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى على أراضي ألمانيا.
الوضع في بريطانيا : يتميز الوضع في بريطانيا بمفارقة طريفة تتجلى في غياب المحتجين والمتظاهرين رغم بقاء مشاكل الأمن وسلامة المواطنين. فالمقف يتسم بلغط شديد وملح فيما يخص منشآت ( سيللافيلد ) لمعالجة الوقود النووي المستعمل الواقعة في منطقة شمال غرب ( كمبريا ). لقد تم تأسيس هذا المصنع أساسا من أجل حل معضلة التخلص من الفضلات والنفايات النووية. وانها لمعضلة حقا لأنها ستبقى طويلا دون حل جذري شاف نظرا لما تواجهه من مشاكل فنية جمة لا حصر لها. فقد أدى مرة طرح فضلات مشعة في البحر الآيرلندي الى زيادة النشاط الأشعاعي في المنطقة الى ما فوق المعدل المألوف للأشعاع الطبيعي
Natural Background بمقدار ألف مرة وعلى مسافة تغطي خمسة وعشرين ميلا على طول ساحل هذا البحر. كما ساهم أحد برامج تلفزيون مدينة يوركشاير البريطانية في تصعيد الأزمة اذ جرى التصريح بأن معدل الأصابة بمرض السرطان ما بين أطفال المنطقة المحيطة والقريبة من هذا المصنع سيكون عشرة أمثال الأصابات المتوقعة بين سواهم من الأطفال الذين يعيشون في مناطق أخرى بعيدة عن مثل هذا المصنع. ان من شأن حوادث مؤسفة من هذا الصنف فرض قيود مشددة , ولتلافي مخاطرها يتطلب الأمر المزيد من التوظيفات المالية. لذلك يفضل بعض معارضي مشاريع الطاقة النووية الرجوع الى استخدام الفحم الحجري والتخلص كليا من المفاعلات النووية. لكن ولسوء الحظ ان انتاج الفحم في بريطانيا وبقية الأقطار الأوربية عالي الكلفة وبشكل غير معقول. لقد شرعت بريطانيا في التفاوض مع كل من فرنسا وألمانيا وايطاليا وبلجيكا وهولندا من أجل انتاج مشترك لمفاعلات التوالد السريع التي تكلف عادة ضعف ثمن أي مفاعل عادي , لكن ميزتها الكبرى أنها تستهلك البلوتونيوم وقودا. ثم أنها هي نفسها تقوم بتوليد هذا العنصر من كمية قليلة من عنصر اليورانيوم.
تستخدم هذه المفاعلات اليوم في بلدان كثيرة لأنتاج البلوتونيوم النقي الضروري لصنع القنابل النووية. ومعروف أن المئات من المحطات النووية المستخدمة لأنتاج الكهرباء في العالم والعاملة في أكثر من عشرين بلدا تنتج سنويا عدة أطنان من البلوتونيوم (1) . ان بامكان مفاعل أبحاث بسيط بطاقة خمسين مليون واط / ساعة أن ينتج من البلوتونيوم في عام واحد ما يكفي لصنع قنبلة نووية واحدة. وكانت هذه بالضبط حجة اسرائيل في قصف وتدمير المفاعلات النووية العراقية في حزيران ( يونيو ) عام 1982. ما كانت هذه المفاعلات معدة أساسا الا لأجراء الأبحاث العلمية رغم كونها من نوع مفاعلات التوالد السريع
Fast Breeding Reactors .
يمكن الحصول على البلوتونيوم النقي من المفاعلات العاملة باليورانيوم المشعع بالنيوترونات البطيئة حسب مسلسل التحولات النووية الأتية :
يورانيوم 238 + نيوترون واحد = يورانيوم 239
يورانيوم 239 --- يشع دقيقة بيتا / يتحول الى عنصر آخر هو النبتونيوم 239
نبتونيوم 239 ---- يشع دقيقة بيتا / يتحول الى بلوتونيوم 239 .
الأرقام المذكورة بازاء هذه العناصر تمثل أعدادها الكتلية ( كتلة كل منها ) .
يمكن كتابة مسلسل سياق تغير أعدادها الذرية ( أي عدد ما في نواها من بروتونات) كما يلي :
يورانيوم 238 ويورانيوم 239 = 92 بروتونا
نبوتونيوم 239 = 93 بروتونا
بلوتونيوم 239 = 94 بروتونا
ان من شأن انتشار مفاعلات الطاقة الكهربائية ومعرفة تقنيات معالجة الوقود النووي لأستخلاص وتركيز الكميات اللازمة لصنع الأسلحة النووية ( وايسرها هي طريقة الطرد المركزي ) ... ان من شأن ذلك أن يفتح الطريق واسعا أمام امكانيات انتاج كميات متزايدة من عنصر البلوتونيوم واتساع احتمالات استخدامه لتصنيع الأسلحة النووية .
المفاعلات النووية في اليابان : خلافا للموقف العام من التسلح النووي , فقد دفعت معجزة ما بعد الحرب الأقتصادية في اليابان الى التعجيل في تطوير مشاريعها النووية الخاصة التي لم تلاق أية معارضة جادة . وعليه فقد طورت الحكومة اليابانية برامجها النووية بسرعة قصوى حتى أن اليابان اليوم تحتل المرتبة الرابعة في العالم من حيث قدراتها على انتاج الطاقة النووية بعد الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وروسيا . وشاءت الصدفة أن يكون رئيس الوزراء في عام 1984 ( ياسو هيرو ناكاسون ) من أوائل مؤيدي هذا النهج اذ كان رئيسا للجنة الطاقة الذرية اليابانية في الخمسينيات وساعد آنذاك على تثبيت البرنامج النووي الياباني وجدولة تطويره الزمنية . كما أنه كان عازما على توسيع المنشأت النووية كيما تكون قادرة على توفير أكثر من ثلث احتياجات البلد للطاقة حتى آواخر القرن الماضي .
أفاق المسألة في بلدان العالم الثالث
المشاريع النووية في البلدان النامية هي في حدودها الدنيا اذا ما قورنت بالنمو السريع والفعال في الأقطار الأوربية .
يعتبر العديد من قادة العالم الثالث أن الطاقة النووية هي من الضرورات القصوى, فضلا عن كونها مسألة اعتبار وطني ومن مقومات الشخصية القومية لهذا البلد أو ذاك . لكن كان هنالك دائما ما يحول دون بلوغ هذه الطموحات المشروعة كالعجز عن التسديد بالعملة الصعبة وعدم القدرة على شراء براءات الأختراع , ثم النقص الخطير في الملاكات والعناصر الوطنية المؤهلة لأدارة وادامة مشاريع الطاقة الذرية العالية التعقيد . وما دام الكلام منصبا على أقطار العالم الثالث فلا بد من ذكر تايوان وكوريا الجنوبية والهند وباكستان وأفريقيا الجنوبية ثم الأرجنتين باعتبارها مشغولة فعلا ببرامج نووية عالية التطور . وحسب بعض الأحصائيات فان منتوج الطاقة في هذه البلدان مجتمعة يشكل نسبة 6 % من مجموعه في العالم.
تتهيب بلدان العالم الثالث أمام تجربة البرازيل التي مزقتها الديون الخارجية , اذ أقدمت احدى حكوماتها السابقة على تنفيذ مشروع بناء تسعة مفاعلات نووية بحلول عام 1990 . لكن التضخم وارتفاع أسعار الفوائد المستحقة على الديون الخارجية من البنوك العالمية ورداءة نوعية التجهيزات المشتراة قد عطلت البرنامج تعطيلا تاما . فرغم مرور اثنتي عشرة سنة على الشروع ببناء المحطة النووية الأولى في البرازيل المسماة ( أنغرا رقم واحد ) ... ظلت المحطة غير قادرة على العمل . كما تعين على حكومة البرازيل دفع مبلغ 1.7 مليون دولار أمريكي لشركتين ألمانيتين لقاء المحافظة على التجهيزات المخزنة من التلف والصدأ (3) .
المكسيك مثال آخر لدول العالم الثالث . فلقد تسبب نقص الطلب على نفوطها في جعلها تدنو عام 1982 من شفير الخراب المالي . الأمر الذي أضطر السلطات المسؤولة الى صرف النظرعن مشاريعها وطموحاتها النووية حتى أن مفاعلها النووي الأول في منطقة Laguna Verde قد ترك يتآكل تحت الأجواء المالحة . ولا تستثنى الفليبين وآمالها النووية العريضة من هذا المأزق النووي . فقد اكتشفت أن مفاعلها النووي الأول قد أنشيء في منطقة قريبة من بقعة معروفة بتعرضها للزلازل مما أدى الى تأجيل تشغيله وما يترتب على ذلك من زيادات مستمرة في أسعار الكلفة . ولم تنفع جهود المهندسين المختصين في اخراجه الى حيز الوجود .
يقرر نقاد القوة النووية ان مقاييس السلامة هزيلة في أقطار العالم الثالث بوجه خاص وهم على حق . فالحادث الذي وقع مرة في أحد مفاعلات الأرجنتين المصنعة هناك قد أكد صحة مثل هذا الرأي , اذ بينما كان أحد الفنيين يقوم باجراء احدى التجارب أخطأ في اتباع الطريق السليم لتبريد قلب المفاعل مما أدى الى ارتفاع درجة حرارة هذا القلب الحاوي على الوقود النووي فانبعثت عنه موجة اشعاع مركزة لم تدم الا لثلاثة بالمائة 3% من الثانية لكنها كانت كافية للقضاء على هذا الفني بالعلة الأشعاعية وحروق الأشعاع .
المأزق الأمريكي
خلافا لأزدهارالقدرة النووية في أوربا , نراها في مأزق حقيقي في أمريكا . فلقد تم الغاء حوالي مائة مشروع نووي تم التعاقد عليها أو أنها كانت فعلا تحت الأنشاء . كما لم يتقدم أحد بأي طلب لأي مشروع نووي منذ عام 1978 .فالتكاليف الباهظة وبطء التنفيذ رفعت أسعار بعض المنشآت النووية الى أكثر من عشرة أضعاف التقديرات الأولية (3) . يضاف الى هذا ركود الطلب على الكهرباء في عموم الولايات المتحدة الأمريكية مما تسبب في اهمال التوقعات والتصورات التي تم تبنيها خلال أعوام السبعينيات الأولى بشأن طلبات المصانع والمنشآت النووية . وماذا كانت النتيجة ؟؟ بالنسبة للشركات المصنعة : خسائر فادحة فيما لو قررت الغاء المشاريع غير المكتملة , وخسائر أكثر فداحة لو قررت المضي في تنفيذ المشاريع القائمة . يقول أحد خبراء الطاقة في واشنطن (( القوة النووية مسألة مغلقة في الولايات المتحدة الأمريكية )) . هذا ما قاله ( كريستوفر فلافين ) من معهد World Watch in Washington في واشنطن . ومهما تكن المتاعب والمصاعب فان صناعة الطاقة النووية الأمريكية ستستمر في النمو ما دامت المفاعلات الخمسين الحالية قيد العمل . ولكن هذه الصناعة قد أصيبت بخيبة أمل من شأنها أن تؤدي الى الغاء المزيد من طلبات بناء المؤسسات النووية . ففي السادس عشر من شهر كانون الثاني ( يناير ) عام 1984 صرحت شركة انديانا للخدمات العامة Public Service Co. of Indiana أنها ألغت مشروعا نصف كامل فتحملت خسارة مقدارها بليونين ونصف البيليون دولارا . وبعد مضي يومين فقط على هذا القرار سحب مجلس لجنة التنظيم النووية ترخيصا منح لشركة كومنولث أديسون في شيكاغو Commonwealth Edison of Chicago
لبناء منشآت بكلفة 3.35 بليون دولار بسبب الخلل في مقاييس وشروط السلامة.
يعزو بعض الخبراء كساد سوق الطاقة النووية في أمريكا الى الأسباب التالية :
1- انتقال الأشراف العام من لجنة الطاقة الذرية الأمريكية الى لجنة التنظيم النووية التي وضعت شروطا جد قاسية لتأمين السلامة العامة من وجهة نظر الشركات التي تتولى صناعة وتنفيذ المشاريع النووية مما أدى الى رفع أسعار الكلفة . ومما زاد في الطين بلة سوء ادارة هذه الشركات.
2- أما السبب الهام الثاني فهو تفتت تركيب الصناعات النووية في أمريكا اذ تساهم عدة شركات فرعية وأخرى رئيسة في تنفيذ مشروع واحد الأمر الذي يؤدي الى رفع أسعار الكلفة الأجمالية للمشروع من جهة , والى المزيد من التأخير في التنفيذ من جهة ثانية . الأمر في أوربا هو بالتأكيد على الضد من الوضع في أمريكا . ففي أوربا هناك مؤسسات مركزية للتخطيط القومي تنفذ مشاريع نووية فعالة مع القليل والنادر من الأخطاء والعيوب .
3- غياب الأنموذج القياسي لتصاميم المفاعلات في أمريكا , الأمر الذي أدى الى بروز مصاعب تكنولوجية متعددة تفوق بكثير المتوقع منها في أوربا .
بناء على كل هذه التحليلات يخلص البعض (3) الى الأستنتاج أن على أمريكا أن تأخذ درسا من أوربا , وأن تأخذ درسا آخر من أخطائها هي . فتصميم نموذجي قياسي واحد من شأنه أن يوفر الكثير من النفقات من جهة وأن يختزل الأخطاء الفنية التي غالبا ما تواجهها المنشآت النووية من الجهة الأخرى .
المصادر:
1- G.R. Choppin and J. Rydberg (( Nuclear Chemistry, Theory and Applications )) , Pergamon Press 1980 . Chapter 19 + 21 .
2- (( الأنسان والذرة )) . تأليف جلين سيبورغ ومساعده وليام كورليس . ترجمة زكريا أحمد البرادعي . الناشر : مكتبة الوعي العربي / 1971 .
3- Newsweek , Number 7, February 13 , 1984 . PP.40-43.
#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟