طهران –
تؤكد وثائق بعض المؤسسات الحكومية المختصة في ايران و بعيد وفاة الزعيم الايراني اية الله الخميني في عام 1989 على عاملين يمكن ان يهددا الامن القومي الايراني وهما التهديدات الخارجية ( والامريكية اساسا ) وقضية الاقليات والقوميات غير الفارسية في ايران .
ان هذا الامر يظهر مدى اهمية قضية القوميات غير الفارسية في ايران خاصة اذا انتبهنا الى راي عالم الاجتماع السياسي والصحفي البارز حميد رضا جلائي بور في تصنيفه للحركات الفاعلة في المجتمع الايراني حيث يؤكد على وجود حركة اجتماعية وسياسية رئيسية وهي الحركة الاصلاحية و الى جانبها حركات اجتماعية فرعية اخرى اهمها حركة الشباب والنساء والقوميات غير الفارسية .
كما وهناك تفاعل بين هذه الحركات وتلك الحركة الرئيسية بل ونوع من العلاقة الجدلية حيث لايمكن الفرز بينهما تماما .
وهنا يجب ان نذكر انه وعلاوة على القومية الفارسية التي تشكل نحو 47 في المئة من السكان يشكل الاتراك والاكراد والعرب والتركمان والبلوش مجتمعين نحو 53 في المئة من سكان ايران .
نظرة تاريخية
لم تكن ايران ومنذ فجر التاريخ دولة ذات لغة واحدة بل وقبل هجرة الاريين
- وهم اجداد الفرس الحاليين - الى نجد ايران والتي تمت في القرن الخامس قبل الميلاد كانت هناك شعوب اصلية تسكن هذا النجد منذ الالفية الثانية قبل الميلاد منهم العيلاميين والاكديين والاورارتو والكاسيين .. الخ
وقد استمر الوضع بعد الاسلام حيث ترعرعت الثقافة الفارسية والى جانبها ثقافة القوميات الايرانية الاخرى كالعرب والكرد والترك .. الخ
فعلى سبيل المثال يتحدث التاريخ عن سلالات عربية حكمت اقليم الاهواز كالمشعشعيين وبني كعب منتجة تراثا سياسيا وفقهيا وادبيا شكل فيما بعد تاريخ الادب العربي في الاهواز وكفرع من تاريخ الادب الايراني ؛ لمع خلاله شعراء وفقهاء وادباء وحكماء بارزين منهم ابونؤاس الاهوازي ودعبل الخزاعي وابن السكيت الدورقي و ابن معتوق الحويزي و ابوهلال العسكري وسهل بن هارون . . الخ
واما في تاريخ ايران المعاصر وعندما كان العرب الاهوازيون يتمتعون بحكم ذاتي بزعامة الشيخ خزعل بن جابر الكعبي في اطار الدولة القاجارية كان الاتراك الاذريين يشاركون بكل ثقلهم والى جانب الفرس في ثورة الدستور ( 1906-1908) حيث يمكن ان نقول بانهم – اي الاتراك - كانوا القوة الرئيسية التي انقذت تلك الثورة من الانهيار على يد الملك القاجاري المستبد محمد علي شاه والقوى الدينية والسياسية الموالية له . وقد ترك الاتراك الاذريين بصماتهم على اول دستور ايراني وذلك بادخال فقرة تسمح باقامة نوع من الحكم الذاتي المحلي للقوميات الايرانية غير الفارسية . غير ان هذه الفقرة لم ترى النور اثر معارضة القوميين الفرس لها خلال حكم عائلة البهلوي (1925-1979) .
وشهدت القوميتين الكردية والتركية الاذرية انتفاضات شعبية بعد سقوط الشاه رضا البهلوي في الاربعينات من القرن الماضي ادت الى استقرار حكومة مهاباد الكردية بقيادة القاضي محمد وحكومة اذربيجان بزعامة بيشه وري حيث تمتعتا ولمدة عام كامل ( 1945) بحكم ذاتي ؛ غير ان امرهمالم يدم طويلا بسبب هجمات الجيش الشاهنشاهي ضدهما .
وقد تكرر الامر عقب قيام الثورة الاسلامية في عام 1979 حيث شهدت مناطق اذربيجان وكردستان وخوزستان / الاهواز/ و تركمان صحراء حركات قومية غير فارسية و تظاهرات و اعتصامات و اضطرابات واسعة ادت في بعض الاحيان الى صدامات دامية .
ويعتقد المحللون ان حركة القوميات الايرانية لنيل حقوقها تابعة لمتغير قوة السلطة المركزية في طهران حيث عندما تصاب هذه السلطة - ولسبب ما - بالفتور والضغف تتحرك هذه القوميات للمطالبة بحقوقها .
القوميات في عهد خاتمي
فقد شمل نسيم الاصلاح الذي هب على ايران منذ انتخاب محمد خاتمي رئيسا للجمهورية في عام 1997 شمل الشعوب الايرانية غير الفارسية اثر تاكيده المتواصل على تطبيق الدستور الايراني . ومعلوم ان الدستور ينص على بعض الحقوق المتعلقة بالقوميات بما فيها حقها ليكون لديها اعلام مكتوب و مرئي وتدريس لغاتها وآدابها في المدارس .
فعلى الرغم من عدم تدريس اللغات التركية الاذرية والكردية والعربية والتركمانية والبلوشية في مدارس المناطق التي تقطنها هذه القوميات وهذا انتهاك صارخ للدستور ، فان الصحافة تطورت بشكل ملحوظ في عهد خاتمي وذلك قياسا لعهد رفسنجاني وما قبله ، حيث لم يسمحوا انذاك بطبع اي صحيفة غير فارسية باستثناء صحيفة او صحيفتين كرديتين رسميتين .
فحصة الاسد من الانفتاح كان اولا لصالح الاتراك الاذريين ( نحو 20 مليون نسمة ) حيث و علاوة على انشاء مؤسسات مدنية اجتماعية وثقافية في طهران والمناطق التي يقطنونها في شمال غرب ايران ينشرون حاليا 58 صحيفة معظمها باللغتين التركية – الفارسية؛ منها ما يصدره الطلبة الاتراك في الجامعات الايرانية وهي نحو 45 صحيفة تركية – فارسية يتطرقون فيها الى قضاياهم القومية . ثانيا الاكراد – وهم نحو 6 ملايين نسمة - ولديهم بعض المؤسسات المدنية في العاصمة مثل " منتدى الكرد في طهران " و" المعهد الثقافي الكردي " ويصدرون نحو 30 صحيفة كردية او كردية – فارسية (معظمها طلابية) في كردستان والمناطق الكردية الاخرى في غرب ايران.
ولم تتخطى حصة العرب الاهوازيين الصحيفتين ؛ الاولى اسبوعية عربية – فارسية يملكها غير عربي والثانية شهرية ايضا فارسية – عربية ؛ وذلك لاكثر من 3 ملايين عربي وهم السكان الاصليين لمحافظة خوزستان / الاهواز/ . كما واصبح لديهم منتدى في طهران معترف به رسميا يسمي بيت العرب. وكذلك توجد في مدينة الاهواز عدة مراكز ثقافية عربية منها مؤسسة الاحرار ومؤسسة ابن السكيت الدورقي والموسوعة القرانية ومؤسسة النخيل ومؤسسة شمس الجنوب ومؤسسة نور السلام ومؤسسة كارون الثقافية. فهذه المؤسسات و بعض طلبة الجامعات يصدرون بعض النشرات المحلية.
غير ان هذه المؤسسات الثقافية العربية تعاني من المشاكل المالية الحادة و فقدان الدعم الحكومي و قلة الامكانات.
وتقوم النخبة وخاصة طلبة هذه القوميات باحياء الامسيات الشعرية واقامة المهرجانات الموسيقية والثقافية في محافظاتها او في العاصمة طهران ، غير ان الاعلام الرسمي وحتى المستقل منه ( مثل الصحافة الاصلاحية ) يقوم بتعتيم اعلامي لمثل هذه النشاطات. اللهم الا اذا استثنينا تطرق بعض الصحف الاصلاحية – احيانا- لقضايا القوميات وطرح مشاكلها اللغوية والثقافية .
ومن ابرز الاجتماعات هو احتفال الاتراك الاذريين ببطلهم القومي / بابك خرمدين / حيث اخذوا يحتفلون كل سنة ومنذ بضعة اعوام بذكرى مولده في اعالي احدى جبال منطقة اذربيجان الايرانية ويطرحون مطالبهم الثقافية والسياسية هناك بحضور وسائل الاعلام الاجنبية . وقد احتشد في اواخر يونيو - جزيران - من العام الماضي نحو نصف مليون تركي اذري بهذه المناسبة حيث اثار قلق القوميين الفرس .
هل تشكل القوميات قوة فاعلة في المجتمع الايراني ؟
فبالرغم من اعلان الفعاليات الاذرية مؤخرا عن انشاء حزب لهم باسم"جونش بارتيا سي" اي حزب الشمس وقبله اعلان المثقفين العرب عن جمعية سياسية باسم "لجنة الوفاق" غير ان النشاط الثقافي والاجتماعي بين القوميات غير الفارسية هو اوسع بكثير من النشاط السياسي لعدة اسباب . اولا ان الحكومة الايرانية لم تمنح الاحزاب الخاصة بالقوميات ترخيصا رسميا حيث ان الحزبين المذكورين انفا يعملان دون ترخيص وفي اطار محدود جدا . ناهيك عن تفوق الخسارة على الربح في مجال النشاط السياسي خاصة بين القوميات غير الفارسية . و كذلك هناك احزاب كردية قديمة كالحزب الديمقراطي الكردستاني و حزب كوملة لا يتواجدان في الداخل و يعملان من منفاهما في الخارج بسبب مطاردة الحكومة الايرانية لزعماءهما .
كما ويعود تخوف السلطات الايرانية من تشكيل احزاب سياسية متعلقة بالقوميات غير الفارسية الى انشاء سلطات كردية وتركية اذرية وفقا لما ذكرناه انفا والتهويل الذي تقوم به القوى القومية الفارسية في هذا المجال لتخويف شرائح المجتمع الايراني من هذا الامر .
ويبدو ان النشاط الثقافي بين القوميات غير الفارسية هو الغالب في الوقت الراهن حيث يماثل النشاط الثقافي للفرس في الفترة التي تلت الحرب العراقية – الايرانية اي خلال عهد الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني والذي تطور فيما بعد ليفجر طاقات متعددة في المجتمع الايراني ومن كافة القوميات ليشمل المجال السياسي و ليتحول الى حركة اصلاحية في عهد الرئيس محمد خاتمي . ولانستبعد ان تتطور الحركة الثقافية الراهنة بين الشعوب غير الفارسية الى حركة سياسة فاعلة مستقبلا وهذا ما تشير اليه المؤشرات والقرائن . وفي مثل هذه الحالة سيكون لها وزنا سياسيا لا يستهان به .
فعليه ان دور هذه القوميات يبقى ولفترة ما دورا ثقافيا واجتماعيا فحسب وذلك لاسباب ذكرناها وسيكون لها دورا ملموسا في الحياة السياسية الايرانية اذا اصبحت لديها احزاب وفصائل سياسية تدافع عن حقوقها و تعارض الاحزاب الوطنية او تتحالف معها وفقا لمصالحها .
ولاننسى ان كل ذلك سيتم اذا نجحت العملية الاصلاحية بمجملها في المجتمع الايراني واذا تمكنت من تخطي العوائق الجسيمة التي تعترض طريقها والمتمثلة باعمال المتشددين المهيمنين على مواقع هامة في السلطة الايرانية .
ويمكن ان نقول ان حركة القوميات غير الفارسية ترعرت في احضان الحركة الاصلاحية و ان ازدهارها اوحياتها ومماتها تابعا لمصير الحركة الاصلاحية والديمقراطية في ايران .