أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عاطف أحمد - العلمانية والدين: محاولة لتحديد المفاهيم















المزيد.....


العلمانية والدين: محاولة لتحديد المفاهيم


عاطف أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 611 - 2003 / 10 / 4 - 06:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


 

   أبرز الحوار الذى يجرى بين العلمانيين والدينويين (أى الذين ينظرون لتديين الحياة المدنية)، الحاجة إلى تحديد المفاهيم الأولية لكل من العلمانية و الدين. فتحديد المفاهيم يتيح للطرفين أن يريا مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بصورة أوضح، وربما يمهد لإيجاد لغة مشتركة للحوار تجعله أكثر فاعلية
 وفيما يلى محاولة لتحديد المفاهيم من وجهة نظر علمانية، تتناول مفهوم العلمانية، ومفهوم الدين، وطبيعة ونطاق فاعلية كل منهما فى الحياة البشرية، ومواضع الالتقاء والافتراق بينهما، وتقدم تصوراً للكيفية التى يمكن بها فض الاشتباك بينهما، وللخلفية التاريخية لحدوث ذلك الاشتباك.
(1) العلمانية أو العلمنة
نشأ مفهوم العلمنة لوصف العملية التاريخية التى حدثت فى المجتمع الأوربى فى نهايات العصور الوسطى، والبدايات الأولى للعصور الحديثة، والتى مازالت مستمرة حتى اليوم، حيث تكونت طبقة اجتماعية كانت فى البداية تجارية ثم أصبحت رأسمالية صناعية، راحت تشكل داخل المجتمع تدريجيا دائرة اقتصادية مستقلة، ثم أصبحت قادرة على تشكيل دائرة سياسية مستقلة ومنفصلة عن الدائرة الدينية: وفى موازاة ذلك أخذت تتشكل دائرة ثقافية (فكرية وأدبية وفنية) مستقلة أكثر فأكثر عن الدائرة الدينية:و قد رافق ذلك كله تطور وارتقاء فى البحث العلمى أدى إلى تغير فى صورة العالم والانسان، وإلى ابداعات تكنولوجية غيرت أسلوب الحياة فى المجتمع.
 وشهد الوعى الانسانى تحولا جذريا من الاهتمام بالمسائل الأخروية التى لا تنتمى إلى هذا العالم، إلى الاهتمام بالحياة الانسانية على الأرض. وتمت هذه العملية منذ البداية من خلال صراع اجتماعى سياسى وفكرى مع القوى المهيمنة على المجتمع فى العصور الوسطى: الدينية والسياسية.
  هذا التحول فى الوعى الانسانى وما نتج عنه من تغير فى نمط الحياة الانسانية، والذى تم من خلال إبعاد الهيمنة المعرفية للسلطة الدينية هو ما يسمى بالعلمنة.وهي عملية ذات جوانب و مستويات متعددة لذلك وصفها علماء الاجتماع والمشتغلون بالثقافة بطرق مختلفة وفقا للجانب أو المستوي الذي يتم التركيز عليه, وللزاوية أو المنظور الذي يتم تناولها من خلاله, ثم وفقا لتعريفهم للدين .
  فبريان ويلسون , مثلا , وهو المنظر العلماني البارز, يعرفها بأنها " العملية التي تؤدي إلي أن يفقد التفكير الديني والممارسات و المؤسسات الدينية فاعليتها الاجتماعية ". وهو تعريف يشير إلي أن اهتمام ويلسون الأساسي إنما كان الكيفية التي توقف بها الدين عن أن يكون فعالا في النظام الاجتماعي.
 بينما لو عدنا إلي الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع , كونت و دوركايم و فيبر,فسنجد أن اهتمامهم الرئيسي كان يدور حول مدي التحول العلماني الذي حدث في المجتمعات الصناعية الحديثة.حيث كانوا ينظرون إلي العلمنة باعتبارها المحصلة الحتمية للتحديث. فهم يفترضون أن المجتمعات حين تجري عليها التحولات العلمية التكنولوجية المعقدة, فإن الأفراد فيها سوف يتوقفون عن الاعتماد علي المعاني والتفسيرات الدينية ويستبدلون بها التفسيرات العقلانية لفهم العالم والحياة. ومثل هذا التحليل ينطوي علي نظرة للدين باعتبار أنه يمكن أن يكون ,مصدرا للمعرفة, ولو بصورة جزئية .
 وهذا الموقف من الدين ,هو أيضا ما يتبناه كل من بيرجر و لوكمان في كتابهما "البناء الاجتماعي للحقيقة" ,حيث يذهبان إلي أن المجتمعات البشرية جميعا تتسم بوجود عالم من المعاني يتبناه الأفراد ويعتقدون أنه النظرة الصحيحة والموضوعية للعالم.وقد كان عالم المعاني, في الماضي, يتشكل أساسا من الدين باعتباره المرجعية العليا للحقيقة.ولم يحدث أن اهتزت تلك المكانة المعرفية للدين إلا في العصر الحديث ,حين أخذت النظرة العلمية تشكل تحديا خطيرا للرؤية الدينية للعالم. ولذلك يري بيرجر أن العلمنة يمكن النظر إليها علي أنها إحلال تدريجي لمنظومة معرفية معينة ثبتت فعاليتها محل منظومة أخرى فقدت تلك الفعالية.
 ولعل أهم عامل مفرد أدي إلي العلمنة هو عقلنة التفكير في كافة أمور الواقع الملموس.وهي العملية التي عزاها فيبر في كتابه " الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية " إلي طبيعة متطلبات عملية التصنيع الرأسمالي التي اتسمت , بالنزعة الفردية وبالتنظيم البيروقراطي بالإضافة إلي العقلانية. ولعل هذه العوامل مجتمعة هي التي أدت إلي علمنة مختلف مجالات الواقع, خاصة في الغرب الأوربي و الأمريكي.

 وقد حدد شينر في بحث له عن الصيغ المختلفة للعلمنة كما استخدمها السوسيولوجيون في أبحاثهم الميدانية, بأنها تتراوح بين ست صيغ هي:
1- انحسار نفوذ الدين: حيث أخذت الرموز والمعتقدات والمؤسسات الدينية تفقد فعاليتها الإجتماعية,
2- الامتثال للعالم الدنيوي , حيث بدأت الحركات الدينية تتجه نحو الاهتمام "بهذا العالم" أكثر من اهتمامها "بالعالم الآخر".
3- فك الارتباط:حيث نري أن المؤسسة الكنسية أخذت تفقد وظائفها لصالح مؤسسات أخري, وأنها أصبحت أقل تأثيرا في المجالات الأخلاقية و السياسية.
4- تغير مكانة المعتقدات و المؤسسات الدينية: فما كان يفسر من قبل علي أنه حادث بفعل القوي الإلهية , أصبح يفهم علي أنه من صنع البشر.
5- نزع القداسة عن العالم:فالتفسيرات العقلانية والعلمية أصبحت لها الأولوية علي التفسيرات الدينية.
6- تحول المجتمع من حالة القداسة إلي حالة العلمانية:بمعني أن الدين تخلي عن موقعه المركزي وقبل بأن يكون مجرد فلسفة من بين فلسفات أخري مطروحة في سوق الأفكار.
ولعل بإمكاننا , من خلال قراءتنا لتلك التحديدات , أن نري أن لدينا عدة مستويات لتناول مسألة العلمانية: المستوي الفردي؛ والمستوي المؤسسي ؛ والمستوي الاجتماعي. لكن بإمكاننا أيضا أن نري أن ثمة أشياء مشتركة بين تلك التحديدات علي اختلافها.
 إذ يمكن تصور أن العلمانية هي مسألة تتعلق أولا: بمحاولة الدين الخروج من النطاق الشخصي والحياة الداخلية للأفراد( وهو نطاقه الطبيعي كما سيتضح لاحقا) إلي نطاق الواقع الخارجي بمختلف مجالاته في المجتمع بل وحتى في المجال الطبيعي ذاته.
   وتتعلق ثانيا: بالنمو المعرفي ( العلوم الطبيعية,والاجتماعية والإنسانيات) وبالتطور التكنولوجي وتأثيراته علي أسلوب الحياة الاجتماعية وعلي الشعور العام بإمكانية السيطرة علي الواقع والتحكم المتزايد في تطويعه لصالح الإنسان,؛ ثم تأثيرات ذلك كله علي عقلنة الفكر والسلوك الإنساني.
                   
 
  والعلمانية بذلك هي مفهوم نسبى، يكتسب معناه من خلال موقف معين: هو وجود سلطة ما، تبدو فوق بشرية: بمعنى أنها تتحدث باسم عقل أعلى، تفرض معارفها ومعانيها على مجالات الحياة المختلفة فى المجتمع. و هي تمثل محاولة للتحرر من هذه السيطرة.
   والعلمانية تكتسب لدينا حالياً طابعاً نظرياً جدالياً بوصفها مفهوماً يؤسس لعملية إبعاد الدين عن السيطرة على مجالات الحياة المدنية المختلفة، والتى هى بطبيعتها تقع خارج نطاق الدين . ولأن المنظرين لسيطرة الدين على الحياة المدنية، يعتبرون أنفسهم ممثلين للدين، فهم لا يرون فى العلمانية سوى أنها لادينية بمعنى أنها ضد الدين كدين، وقليل منهم من يبرز الوجه الحقيقى للعلمانية باعتبارها دفاعا عن استقلال الحياة المدنية ضد أى سيطرة معرفية تدعى أنها فوق بشرية.
العلمانية إذن ليست منافسة للدين، وليست مذهباً أو تياراً فلسفياً وليست نظرية معرفية، ولا هى نظرية فى علم من العلوم
  وإنما هى: موقف يتعلق بشروط المعرفة والممارسة البشرية وتنظيمها وممارستها بعقل مستقل عن أية سلطة معرفية ذات مرجعية فوق بشرية( أى متجاوزة للفعالية البشرية).
 
2- هذا بالنسبة للعلمانية , فماذا عن الدين؟
ما يشير إليه استعمالنا لكلمة "الدين"، وما هو مشترك بين معظم الديانات: الديانات الوثنية وديانات الوحى، أن الدين يتكون من :
- موضوع تقديس أو معتقد إيمانى،
- طقوس وشعائر،
- سلوكيات أخلاقية معينة
  ففى الاسلام مثلاً موضوع التقديس هو قوة متعالية فوق بشرية، فوق طبيعية، قادرة على كل شئ، خالقة للوجود، خيرة، متحكمة وموجهة لحياة البشر، هى "الله".
  والطقوس والشعائر العبادية هى فى الاسلام: الصلاة، الصيام، الزكاة، الحج.
  أما السلوكيات الأخلاقية المعينة فتتمثل فى الالتزام بالوصايا الخلقية، والامتناع عن المحرمات.
وهذه المكونات تترابط وظيفيا فيما بينها: فالطقوس والشعائر: تعمل على إدماج الحقيقة الاعتقادية فى الممارسة الحياتية وعلى ادخالها فى الكيان البشرى،
 أما السلوكيات الأخلاقية فهى تعمل على ضبط الرغبات(الغريزية خاصة) والتعالى عليها فى اتجاه الولاء للحقيقة الاعتقادية
 والمعتقد الدينى يتميز بأنه:
- تسليمى: يتكون من مسلمة تبدو يقينية فى ذاتها بالنسبة لمن يعتنقها، لا تنـشأ من الاستدلال المنطقى، ولا من الوقائع التجريبية، فهى فكرة يقينية مفارقة للواقع المحسوس، يسلم بها تسليما.
- ذاتى: يعبر عن شعور داخلى، ويكون عادة مصحوبا بشحنة انفعالية تجعل الارتباط النفسى به وثيقا.
- نظام مغلق: بمعنى أن العقائد حينما تتبلور تصبح مكتفية بذاتها، وتنشئ عالما معنوياً ورمزياً خاصاً بها، يستبعد عوالم المعتقدات المغايرة.
وللدين وظيفة أساسية لدى معـتـنقيه فهو:
أولا: يمنح الانسان شعورا عميقا بالمعنى والغاية من وجوده فى العالم وشعوراً بالاتصال مع الطبيعة من حوله، وشعوراً بأنه موضع رعاية وعناية.
ثانيا: يجيب على التساؤلات التى ليس باستطاعة العلم أن يجيب عليها، ويقدم تفسيرات للأحداث التى تقع للانسان خارج إرادته.
ثالثا: يغذي الوعي الجمعي بدلالات ورموز المعنى مما يسهم في توحيد المتخيل الاجتماعى ويعمل كأحد عناصر التماسك الاجتماعي.
 إذن هناك تمايز بين نطاق الدين وبين نطاق الموقف العلمانى: فنطاق الدين يتميز بأنه: ذاتى معنوى يتعلق بعالم المعنويات، ويبنى على قناعة ذاتية، لا تقبل الاثبات والنفى، ولا التحقق التجريبى أو المنطقى، ويلبى الاحتياج للمعنى الشامل للوجود الانسانى، ويمنح الانسان موضوعاً للولاء الروحى وشعوراً بالرعاية الكونية.
أما نطاق الموقف العلمانى فيتميز بأنه: موضوعى واقعى: فهو يتعلق بفعالية الانسان فى الواقع المحيط، ويبنى على معارف قابلة للاثبات والنفى، وقابلة للتحقق التجريبى والمنطقى، ويلبى الاحتياج للسيطرة على الطبيعة، وعلى الواقع الاجتماعى، وتوظيف معطياتهما لتلبية الحاجات الانسانية الواقعية.
  فلا يوجد إذن تناقض حقيقى بين المعتقد الدينى وبين الموقف العلمانى، بمعنى أن الواحد منهما لا يسـتبعد الآخر، فما يوجد هو اختلاف لا تناقض، وهذا الاختلاف ذاته،   لأنه اختلاف في الطبيعة والوظيفة ونطاق الفعالية،فإنه يصبح هو ذاته مصدر الامكانية المفتوحة للتوافق بينهما، لأنه يجعلهما- أي الممارسة الدينية والممارسة العلمانية- غير متنافستين على السيطرة على نفس المجال.
 رغم ذلك فالاختلاف بينهما مطروح فى واقعنا الفعلى على أنه تناقض حقيقى، بحيث يبدو أن كلاً منهما يسـتـبعد الآخر بالضرورة.
 ومصدرهذا التناقض المفتعل، هو محاولة المؤسسة الدينية والمنظرين الدينيين، السيطرة على ما هو خارج نطاق الدين: أى على المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والمعرفية والفنية والشخصية: أى على كافة مجالات الفعالية الانسانية باسم الدين.
وهذا الموقف الذى يضفى على الواقع الانسانى والطبيعى طابعا دينيا، ويتحدث فى أمور الدنيا بلغة الدين، ويسـتخف بحقائق العلوم الانسانية والاجتماعية والطيعية وبأدواتها ومناهجها فى فهم الواقع وتطويعه لتلبية الاحتياجات الانسانية، وبحق الانسان وقدرته على فهم واقعه وتنظيم أمور حياته, وحقه فى أن يبحث ويتساءل ويعتقد ويعبر بحرية، والذى يقرأ النصوص المقدسة فيؤولها على نحو يتيح له الهيمنة على السلطة السياسية،ويضيف إليها نصوصا أخرى يرفعها إلى مرتبة التقديس ليتسنى له الإفتاء فى كل الأمور، هذا الموقف ليس دينيا في حقيقته الجوهرية، ويحتاج إلى اسم يدل عليه ويميز بينه وبين المعتقد الدينىوالمارسة الدينية الخالصة، ويمكننا- إلى أن نجدإسما أفضل- أن نسميه الموقف" الدينوى". وبذلك فالموقف العلمانى يتناقض مع الموقف الدينوى وليس مع المعتقد الدينىأو الممارسة الدينية.
                     *
 علي أننا نسمع أصواتا تعلو معلنة أن الاسلام دين ودنيا، لا بمعنى أن الدنيوى قد تميز عن الدينى، واكتسب استقلالية خاصة؛ وإنما بمعنى أن الدنيا قد أصبحت هى أيضا دينا أو يجب أن تكون كذلك.
 
  ومثل هذه المقولة تطرح السؤال حول طبيعة التشريعات الدينوية التى وردت فى القرآن، كيف نقرأها وكيف نفهمها؟... وأعتقد أن قراءة تلك النصوص فى إطار تاريخها الخاص، ومن خلال السياق الاجتماعى- الثقافى الذى وردت فيه، يمكن أن يلقى الضوء على طبيعتها.
  فالقرآن ورد فى صورة آيات متفرقة على مدى عشرين عاما، ورافق عملية انتقال عرب الجزيرة من البداوة القبلية إلى التوحد فى إطار اجتماعى أوسع تتحقق المساواة داخله وفقا للانتماء الدينى، وكانت هذه العملية، تتطلب، بالاضافة للعقيدة والعبادات، تنظيمات خاصة بجماعة المسلمين تحقق لها التماسك الاجتماعى وتجعلها تكتسب آليات استمرارها ونموها. وقد وردت التشريعات الدنيوية فى القرآن فى هذا السياق، لتؤدى هذه الوظيفة فهى:
1- لا يمكن استنتاجها لا منطقيا ولا وظيفيا من العقيدة، بمعنى أنها لا تلزم عن العقيدة الدينية لزوماً منطقيا، ولا ترتبط بالعقيدة وظيفياً مثل العبادات.
2- موضوعاتها دنيوية بحتة،فهي تتعامل مع مجالات فى الحياة الانسانية تغطيها جميعا مباحث العلوم الانسانية والاجتماعية.
3- نوعية الأحكام فيها لها أصول تاريخية قائمة فى الثقافات المحيطة، وتنتمى إلى الاطار العام لثقافة ذلك العصر.
4- تقررت نتيجة لأوضاع ومواقف وأحداث وقعت فعلاً لجماعة المسلمين فى زمن النبى علي ما نجد في أسباب النزول،
5- موضوعات الأحكام أو التشريعات تتـفق مع الإطار الاجتماعي والحياتي لذلك العصر: (القتال- الغنائم- السبايا- الرق- وأد البنات- الأنصاب- الأزلام- القصاص- الدية).
6- كانت ترد- أحيانا- في صورة أحكام عامة اكتفاء بمعرفة المخاطب بالتفاصيل اللازمة.
7- المواقف التي طرحها الواقع تقررت بشأنها تشريعات، والمواقف التى لم يطرحها الواقع لم تتقرر بشأنها أية تشريعات ولم يرد لها ذكر: فمجمل التشريعات لا تغطى بحال من الأحوال، الأوضاع والمواقف والعلاقات التى نشأت فى المجتمع فيما بعد، والتى تتطلب تشريعا.
وكل ذلك يؤكد أن علينا أن نعيد النظر فى فهمنا لطبيعة النص القرآنى من حيث أنواع النصوص التى يحتويها. فهناك على الأقل نوعان من النصوص:
 فهناك أولا: نصوص عقائدية عبادية تتعلق بجوهر العقيدة الدينية وما تتطلبه من طقوس وشعائر تعمل على التقرب من الله واسترضائه، ومجموعة من الوصايا والنواهى الأخلاقية التى تؤكد على الطاعة والامتثال للإرادة الإلهية.
  وهذه النصوص هى التى تشكل المحتوى الدينى الخالص الذى هو خارج نطاق التقييم البشرى والذى يتعلق بالحكمة الإلهية وحدها.
  وهناك ثانيا: نصوص دنيوية بحتة كانت تستهدف تهيئة الشروط الاجتماعية والسياسية والثقافية اللازمة لحمل الرسالة الدينية التوحيدية ونشرها. فهى نصوص ذات سياق خاص وهدف محدد يتعلق بزمان ومكان ورودها. وبالتالى فهى ليست دينا فى حد ذاتها وعلينا أن نتعامل معها على هذا الأساس.
  ولو صح هذا التصور ووجد قبولا عاما، فلعلنا بذلك نكون قد خطونا خطوة نوعية هامة فى الطريق إلى فض الاشتباك بين ما هو دينى مقدس ومتعال على الزمان والمكان , وبين ماهو دنيوى يحيا فى التاريخ والمجتمع ويستهدف تطور وارتقاء الإنسان.
تبقى نقطة أخيرة أود أن أعرض لها بإيجاز وهى تدور حول اعتبار غياب السلطة المعرفية للدين عن مختلف مجالات الواقع الانسانى، يساوى بالضرورة غياب القيم الضرورية والانسانية. ومثل هذه الفكرة تدعونا إلى محاولة التمييز الذى وضحه مالكولم هاملتون ، على المستوى السوسيولوجى، بين ثلاثة أنظمة مترابطة فى حالات كثيرة هى: الدين؛ والمعتقد الايمانى؛ والقيم الاخلاقية.
  فما يميز الدين هو احتواؤه على عنصر اتصال مع المقدس (أومع كيان فوق بشرى) وفقا لتعريف هورتون. بينما قد يخلو المعتقد الايمانى من مثل هذا النوع من الاتصال.
  أما منظومة القيم الاخلاقية، فعلى الرغم من أنها قد تكون متضمنة فى المنظومة الدينية و/ أو فى المعتقد الايمانى، فإنها بامكانها أن توجد بمفردها تماماً (النزعة الهيومانية مثلا).
  فالواقع أن مثل هذه التحديدات مهمة للغاية خاصة فى نفى الاعتقاد الشائع الذى يرى أن مجتمعا بلا دين هو بالضرورة بلا أخلاق. كذلك يمكن ملاحظة أن القيم الاخلاقية- خاصة فى صورة أفعال محرمة- سابقة فى منشأتها التاريخية على الأديان، فضلا عن أن القيم الانسانية أكثر عمومية وأوسع نطاقا من القيم الدينية.
  ولعل تصور ان غياب الدين عن الحياة الاجتماعية يساوي بالضرورة غياب الاخلاق، إنما ينشأ من:
1- نظرة إلى الانسان تراه كائنا غريزيا حسيا بل وشرير بطبيعته الأصلية
2- نظرية أحادية البعد للقيم السائدة فى المجتمعات الغربية: لأنها تركز بصورة مبالغ فيها على حرية العلاقات العاطفية والممارسات الجنسية دون الالتفات إلى حقيقة أن تلك الممارسات إنما تصدر أساسا عن إرادة وقناعة شخصية وتعبر عن مشاعر انسانية لا تخلو من الرقى فى أحيان كثيرة.
3- نسبة السلوكيات الأنانية وعدم الاهتمام بالمصلحة العامة، إلى العلمانية، أمر لا أساس له من الواقع، إذ أن طبيعة النظام الرأسمالى هى التى تفرض هذا النوع من السلوكيات تحديداً.
4- لا نجد هنا مقارنة مع أخلاقيات المجتمعات التى تهيمن فيها المؤسسات الدينية وما تعانيه من ازدواجية كاملة بين المعلن والمستتر من السلوكيات
     بل ربما يمكن القول أن الأخلاق الدينية لتدعيم العلاقة بالله ونيل رضاه وليست للارتقاء بالمجتمع بينما الأخلاق الانسانية المدنية تستهدف تحقيق الارتقاء بالوضع الانسانى بأسره. ولعل منظومة قيم حقوق الانسان الحديثة تشكل خطوة هامة على هذا الطريق وتعبر عن الوعى الجمعى الانسانى الذى هو ضمير العصر الحديث.

 



#عاطف_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...
- مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ ...
- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عاطف أحمد - العلمانية والدين: محاولة لتحديد المفاهيم