لا مراء في أن الخطاب الذي ألقاه العقيد معمر القذافي يوم السبت 2/3/ 2002 قدر أثار قدرا كبيرا من الذهول والغضب لأسباب كثيرة لا يتعلق معظمها بالجانب السياسي للمبادرة التي أطلقها وأسماها " الكتاب الأبيض " لأن هذا الجانب قابل للنقاش والأخذ والرد بل بالمستوى القيمي المؤسف و باللغة ومفردات الخطاب والذي بلغ درجة توجيه السباب والشتائم للأمة ووصف أبنائها بالجبناء والحقراء والخيبة فماذا تركت يا سيادة العقيد للعنصريين الأوروبيين الذين يذوق العرب المهاجرون على أيديهم الأمرين . هؤلاء الذين وصفهم القذافي بالجبناء هم الذين جندلوا عشرين جنديا ومستوطنا للدولة النووية الأقوى في الشرق الأوسط " إسرائيل في يوم وليلة فقط .أليس من المعيب والصادم أن يتفوه زعيم دولة عضو في الجامعة العربية بمفردات كهذه ؟ الطريف والموحي هو أن العقيد ولذر الرماد في العيون لم ينس أن يمتدح المقاومين وكأنه استشعر خطورة السباب الذي وجهه للعرب !
ثم ماذا عن التوقيت ؟ لقد جاء كلام القذافي هذا ودعوته لنسيان أقدس اسم في قاموس الوجود العربي " فلسطين " لأنها كما زعم احتلت وانتهى أمرها سنة 1948 في وقت يتوهج هذا الاسم بالدماء الزكية لأبطال الانتفاضة كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة . هل فكر القذافي بأمهات الشهداء وكيف سيستقبلن طعنته النجلاء هذه لظهور أبنائهن ؟ هل فكر أية هدية تاريخية قدم للإسرائيليين ولجزار شارون تحديدا ؟ يأتي هجوم القذافي على العرب بعموم القول مترادفا مع هجومه على المبادرة السعودية التي كما يبدو سرقت الأضواء من مبادرته هو التي أطلقها في مؤتمر قمة " عمان " وهكذا فسيكون بوسع البعض تفسير غضبة العقيد على أساس الغيرة ولا شيء غير الغيرة من مبادرة أخرى . وإذن فلا علاقة للمبادئ والقيم والعقل السياسي بكل ما طرح وقد قال هو ذلك وكرر قوله وتساءل عن مصير اللجنة التي شكلت لدراسة خطته التي طرحها في مؤتمر قمة عمان وختم تساؤله بالقول : ( هل نحن عيال ؟ ) وإذا كانت المبادرة الأخرى تشكو من أكثر من خلل خطير ولكنها تبقى وجهة نظر قابلة للرفض أو القبول وهي طرحت أصلا لأسباب داخلية وليست إقليمية أو دولية .
يرفض القذافي حل الدولتين لشعبين القاضي بقيام دولة فلسطينية في الضفة القطاع الى جانب دولة إسرائيل وهذه وجهة نظر معقولة يأخذها بها الكثيرون ومنهم كاتب هذه السطور ولكنه يطرح أسبابا غريبة ومدحوضة سلفا منها ضيق مساحة الدولة الفلسطينية يجعل من المستحيل إقامة دولتين على أرض فلسطين التي شبهها القذافي بالحذاء الذي يريدون أن يحشروا فيه قدمين ، فيا للتشبيه " المعبر " لأرض الأنبياء والمقدسات بالحذاء ! وبخصوص هذا السبب نتساءل : هل يعلم العقيد كم هي مساحة دولة عربية وعضو في الجامعة العربية هي مملكة البحرين ؟ إن لم يكن يعلم فهذه مساحتها 680 ستمائة وثمانون كيلو مترا مربعا أ وليست عمارة " الفاتيكان" التي مساحتها نصف كم مربع دولة يعترف بها العالم أجمع ؟هل يعلم العقيد عدد الدول الصغيرة في العالم والتي تقل مساحتها عن مساحة الضفة والقطاع والتي يعترف بها نظام الليبي ؟ هذه أمثلة قليلة :
ساوتومي ومساحتها 964 كم2
الدومنيكان 750 كم 2
غرانادا 340 كم2
جزر المالديف 300 كم2
سنغافورة 620 كم2
مالطة 320 كم 2
أطلق القذافي مبادرته الجديدة وكأنه اخترع اللبلبي وجاء بما لم يسبقه إليه أحد : نزع أسلحة الدمار الشامل من جميع الأطراف في الشرق الأوسط وعودة اللاجئين الفلسطينيين وقد قدر عددهم بسبعة ملايين في حين لا يزيد الرقم الذي يطرحه الفلسطينيون أنفسهم على الأربعة ملايين إنسان ثم إجراء انتخابات ديموقراطية لتقرير هوية فلسطين . دعونا نذكر والذكرى تنفع المؤمنين أن نظام العقيد يعتبر الانتخابات تدجيل وأن مصير المواطن الليبي الذي يدعوا إليها هو الإعدام! وبعد هذا وذاك ففكرة عودة اللاجئين وإجراء انتخابات ليست جديدة على الإطلاق بل هي أصلا فكرة إيرانية طرحتها القيادة الإيرانية منذ بداية انتفاضة الأقصى وكررها حزب الله مرارا وتكرارا . إذن لا جديد تحت شمس العقيد !
إن التحفظ على برنامج دولتين لشعبين ينبغي أن لا يستند الى صغر مساحة الدولة الفلسطينية بل الى سبب آخر هو أن هذا الحل الذي يقوم على تقسيم الأمر الواقع وقوة السلاح الغازي والذي يضمن للدولة الصهيونية ثمانين بالمائة من أرض فلسطين فيما لا تتجاوز حصة الفلسطينيين من أرضهم وهم السكان الأصليون الذين لم يغادروها ما نسبته عشرين بالمائة من الأرض . هنا تكمن لا عدالة الحل المطروح والمستند عربيا الى قرارات قمة فاس ومبادرة الأمير فهد بن عبد العزيز لسنة 1981 . إن لا عدالة هذا الحل هي المصدر الحقيقي لعدم واقعيته وبالتالي لاحتمالات تفجر الوضع من جديد حتى لو قامت الدولة الفلسطينية على ارض الضفة والقطاع . وبالمقابل فإن الخطة القذافية التي تقوم على عودة اللاجئين الفلسطينيين الى فلسطين ثم إجراء انتخابات حرة تحت إشراف الأمم المتحدة لتحديد هوية وقيادة الدولة التي يقترح لها اسما لا تنقصه الطرافة وهو " إسراطين " . وطبعا ستكون نتيجة هذه الانتخابات لصالح الفلسطينيين الذين يفوقون عدديا الإسرائيليين اليهود بكثير ، نقول إذن أن هذه الخطة غير واقعية تماما فهي وصفة ساذجة لتصفية الدولة الصهيونية وبرضا الإسرائيليين هذه المرة ودون أن يكونوا قد خسروا حربا أو حدث تغير كبير وطارئ على ميزان القوى بينهم وبين العرب لصالح العرب ، فكيف سيرضى ويوافق هؤلاء الإسرائيليون على تفكيك دولتهم وهم المسلحون بالسلاح النووي ؟ إن خطة الدولتين لشعبين ينبغي أن تستند الى قرار التقسيم لتضمن الاستمرار والعدالة ولكن الحركة الصهيونية ومن وراءها الغرب والولايات المتحدة لن ترضى بذلك تماما وعلى هذا فإن مطلب إقامة الدولة الفلسطينية على أرض الضفة والقطاع هو الحل الممكن المرحلي كما تعتقد القيادات الفلسطينية و عودة اللاجئين الفلسطينيين الى مدنهم وقراهم التي شردوا منها وليس الى الضفة والقطاع كما تصر إسرائيل . إن عودة اللاجئين حق إنساني مشروع ولكنها ترعب الإسرائيليين . ويمكن التفكير هنا بأنها ستقود الى قيام كيان ثالث كونفدرالي بين الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية على أساس ديموقراطي تستوعب الكثير من أجزاء السيادة لكل من الدولتين تدريجيا . وعلى كل حال فهذه الفرضية تتعلق بالمستقبل وبولادة أجيال جديدة وحلول فترة هدوء وسلام وتعاون بين الدولتين ويمكن أن تطرح كأفق للحالة الراهنة وليس كقدر محتوم . كما يمكن التفكير بحدوث تفكك تلقائي لدولة إسرائيل نتيجة لأزمة اقتصادية أو سياسية اجتماعية أو بحدوث تغير حاسم في ميزان القوى بين العرب وبين إسرائيل أو على المستوى العالمي الأمر الذي سيطرح حلولا جديدة أكثر عدالة تجعل من الدولة الصهيونية مجرد ذكرى أو هامش على متن التاريخ كما هي الحال مع جمهورية ألمانيا الديموقراطية .
إن الدعوة لإقامة دولة ديموقراطية واحدة في فلسطين هي في الواقع قلب البرنامج المشهور للحركة الاشتراكية الماركسية والذي خانه ستالين فيما بعد حين اعترف بقرار التقسيم وقيام دولة إسرائيل غير أن الحركة التروتسكية " الأممية الرابعة " مازالت وفية ومخلصة لهذا البرنامج حتى الآن مع أخذ التطورات التاريخية بنظر الاعتبار ، ولكن ضعف هذه الحركة ونخبويتها هو ما جعلها قليلة الفاعلية والتأثير، ومن الجدير بالذكر أن أطرافا إسرائيلية يسارية كانت تدعو الى هذا البرنامج أيضا فقد أشار لطيف الدوري وهو من أصل يهودي عراقي وقيادي معروف في حركة " ميريتس " حاليا في لقاء مع قناة الجزيرة خلال السنة الماضية أن (حزب المابام " حزب عمال إسرائيل الموحد " نفسه كان يدعو الى قيام دولة ديموقراطية واحدة للشعبين في فلسطين ولكن تطورات الأحداث جعلت ذلك الحل مستحيلا .) والحقيقة فإن عبارة " تطورات الأحداث " التي قالها لطيف الدوري غير دقيقة بل هي مضللة إن نحن توخينا الصواب وبديلها الصحيح هو " أن شوفينية وفاشية الحركة الصهيونية وجشعها الى الأرض هو الذي جعل ذلك الحل مستحيلا " . وبالعودة الى غضبة العقيد سنجد أيضا أنه لم يأتي بجديد هنا بل كل ما في الأمر أنه قدم صورة مستنسخة " فوتوكوبي " للبرنامج الاشتراكي الماركسي القديم وأضاف إليه بعض التوابل الإيرانية التعجيزية .
نصل الآن الى أخطر مفصل ورد في خطاب العقيد القذافي وهو الخاص بتغييب فلسطين كاسم ووطن وشعب حيث قال حرفيا أن فلسطين انتهت منذ حرب 1948 وإن اسمها الآن إسرائيل وأن تسمية السلطة الوطنية الفلسطينية غير صحيحة فهؤلاء لا يجب تسميتهم فلسطينيين بل غزاويين في غزة وغرباويين في الضفة الغربية ) كلام مؤسف تماما ومرفوض جملة وتفصيلا بل ومهين لدماء آلاف الشهداء الذين أعادوا اسم فلسطين البهي الى الوجود والحياة بعد أن حاولت الصهيونية العالمية دفنه الى الأبد . وحتى في هذا الموضع لا بد من التكرار لا جديد نرى تحت شمس العقيد ، فالجميع يتذكرون نظرية أو صرخة رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير التي طالما كررت : فلسطين لا وجود لها والشعب الفلسطيني هو نحن الإسرائيليون لا يوجد شعب آخر بهذا الاسم ) وبعد تضحيات غالية وحروب ومآس كثيرة أثبت الفلسطينيون لغولدا مائير وغيرها أن الشعب الفلسطيني حي يرزق ويقاتل من أجل حريته ، وأن فلسطين مازالت قائمة وأطول عمرا من هذا المشروع السياسي أو ذاك حتى جاء اليوم الذي اعترفت به إسرائيل وقادتها من أقصى اليمين الى أقصى اليسار أن فلسطين موجودة وشعبها أيضا . أبعد بحر الدماء التي سالت وتحقق هذا الهدف العزيز يأتي رئيس دولة تسمي نفسها عربية ليعلن موت فلسطين ؟ حقا إن الذات حين تتورم وتتضخم بتأثير من عقدة الشعور بالعظمة تفقد البصر والبصيرة معا . وأخيرا فكما أساء العقيد الى شعب فلسطين وشهداء فلسطين فقد أساء الى نفسه كقائد دولة والى صورته هو ذاته و الى ذكريات عزيزة لجيل كامل من المكافحين العرب عن رجل قال لا للعدوان والظلم والبربرية الغربية ذات يوم .