قبل ان يصبح سقوط نظام البعث البائد في العراق حقيقة واقعة، أو حتى محتملة ، لم يكن الحديث عن الديموقراطية موضع خلاف بين النخب العراقية داخل العراق و خارجه. كانت موجة التغيير العالمي عاتية تجتاح ما امامها فترنحت افكار و مسلمات و تهاوت اخرى ، و اضطرت اخريات لمراجعة الذات و الشعارات و بدا للعيان و كأن عالما جديدا تماما يولد بين ايدينا.
و جاءت الثورة الالكترونية و ظهر الانترنت و تكرست مفاهيم عولمة المعلومات و الاتصالات و الاقتصاد و تفتحت فضاءات الحرية اللامتناهية امام اعيننا العطشى ، فاخذنا نقول ما لا يقال و ننشر ما لا ينشر و عيننا على الوطن نحلم به و له و بالنيابة عنه احيانا.
كان الظلم و الاستبداد في العراق في قمة طغيانه، واصبح الخلاص منه بأي شكل منتهى الاماني. كان الحلم الديموقراطي الذي رأيناه و عايشناه في غرباتنا المختلفة يبدو ماثلا للعيان في الوطن بمجرد سقوط النظام و عودة العراقيين باحزابهم و خبراتهم التي اكتسبوها و عاشوا تفاصيلها، بل و لم يكن هنالك ادنى شك في ان الحرية و الخبز الى درجة الاشباع هما قدر العراق نظرا لثرواته البشرية و الطبيعية و تراثه الحضاري..الخ. فهل كنا خارج الزمان و المكان؟
و لكن، ها هنا نحن و قد رحل النظام الى الابد و انجلى دخان المعارك أو أوشك، و ها هو المشهد العراقي أمامنا ، فما العمل ، و كيف نبدأ ، و بم نبدأ.. بالخبز أو بالحرية أو بكليهما معا؟
النموذج الغربي الليبرالي : لا ديموقراطية للبطون الخاوية
في البدء، لا خلاف على قدسية و أولوية الحقوق الاساسية للانسان مثل حق الاعتقاد و التعبير و التنظيم السياسي و النقابي، كما حق اختيار نمط الحياة و حق العمل و الكسب و الحق في التنمية الى اخر لائحة الحقوق الطويلة المعروفة جيدا و التي لم يأل الانسان جهدا في الكفاح من اجلها منذ ان رأت الانسانية النور.و لكن الى اي مدى يمكن تحقيق هذه الحقوق في مجتمعنا، و هل بامكاننا نسخ الشكل الخارجي الظاهري للديموقراطية الليبرالية الغربية و اسقاطه على العراق كما هو، بعيدا عن الظروف الموضوعية لنشأة هذه الديموقراطية، و هل يمكن اقرار هذه الحقوق خارج نطاق النموذج الغربي للديموقراطية؟
تأسست الديموقراطية الغربية الحالية عبر صراع تاريخي مرير، و هي في جوهرها رغم كل التحسينات التي طرأت عليها عبر عقود لا تزال ديموقراطية الطبقة البرجوازية الحاكمة، و ان انتزعت الطبقات الاخرى مساحات حقوقية و سياسية لا يستهان بها عبر الزمن اضطرت الطبقة الحاكمة للتسليم بها الى الحد الذي يحفظ مصالحها و يحافظ على مفهومها للسلام الاجتماعي.
و تأكيدا لعدم حيادية الديموقراطية الليبرالية الغربية فكريا و طبقيا ، نظرا لنشوئها في سياق نمط اقتصادي محدد بكل افرازاته الاجتماعية و الفكرية ، و سيادة هذا النمط في هذه المرحلة من تاريخ العالم على الأقل، و نظرا لحاجة الرأسمالية البرجوازية بحكم المصلحة الطبقية التي اخذت طابعا كونيا الى تلبية حاجات التوسع و النمو الكامنة فيها ، فقد اخذت هذه الطبقة في نشر مفهوم محدد للديموقراطية على العالم الافقر، ثمنا لمعونات و قروض البنك و صندوق النقد الدوليين و اعفاءات المديونية ، يأخذ من التطبيق الليبرالي الغربي شكله الخارجي و تطبيقاته الشكلية. غطاؤه حقوق الانسان ظاهرا، و مضمونه حقوق الاستغلال و فتح المزيد من الاسواق عنوة.
اذن، فان ما يسمى بـ "النموذج الأفضل" للديموقراطية الجاري تعميمه عالميا، انما هو ضرورة فرضها النمو الاقتصادي المتصاعد في المجتمعات الغربية و الحاجة لتجنب الصدام الحتمي مع الانماط الاخرى كلما أمكن ذلك.
و من المجحف بالتأكيد تجريد النموذج الليبرالي الغربي الحالي من ايجابياته الكثيرة. فقد بلغت المجتمعات الغربية ما بلغت في سلم التطور الاقتصادي و الاجتماعي و الحقوقي، و انتزعت الطبقات المسحوقة مكاسب لا يستهان بها في ضوء صراع فكري عنيف ، و على حساب هزات اصابت الطبقة الحاكمة التي نشأت هي ذاتها عبر سيل من الثروات الاجتماعية و الفكرية التي اقتلعت انماط الانتاج السابقة و بالتالي انماط التفكير القديمة الى غير رجعة. و لا زال الصراع مستمرا، و إن عبر آلية سلمية وفرها النظام الديموقراطي الغربي، و من خلال تبادل حركات اليسار و اليمين الحكم في بحث مستمر عن تسويات سياسية لمشكلات قائمة و مستحدثة في اطار مدني و سلمي. لقد جاءت محاسن التطبيق الليبرالي الغربي للديموقراطية تلبية لحاجات اجتماعية اساسية حصلت عليها شعوبها عبر اجيال من النضال. و نشأت عبر الصراع الطبقة الوسطى، مصدر التنظير للحرية و الوسط الطبيعي لنهوض المجتمع المدني و منظماته و نقاباته ، الجسم الذي تحطمت عليه امراض الماضي الطائفية و المذهبية و القبلية .
البناء من السقف
هذا ما كان يحدث في نصف الكرة الغربي، في حين كانت شعوب العالم الثالث (و لا ادري اين موقعنا منها) تقف متفرجة ببناها الاقتصادية و الاجتماعية الهشة تنتظر سقوط اللقمة في في فمها من يد الراعي الغربي بعد ان وأدت انظمة الاستبداد و الدكتاتوريات الوطنية البغيضة في عصور ما بعد الاستعمار احلام التصنيع و الاستزراع و الاكتفاء الذاتي التي تجرأت على مداعبة اذهانها في خمسينات و ستينات القرن الماضي.
لقد حلمنا كثيرا كافراد و احزاب و منظمات، على اختلاف مشاربنا ، بمجتمعات حرة تضع كرامة الانسان و حريته و حقه في الاكتفاء الاعتقاد و الاختيار، و ان اختلفت زاوية النظر و ترتيب الأولويات بين تيار و اخر. و لكن الامر في مجتمعاتنا المستلقية في الحضن الدافئ المريح للماضي و التي لم تشهد ثورة اجتماعية جذرية منذ ثورة محمد (ص) قبل الف و خمسمئة عام ، بدا اشبه بالبناء ابتداء من السقف. فلم يتمكن نظام الحكم العربي، المتنوع ظاهريا و المتشابه جوهريا، و المتألف من التحالف الثلاثي التاريخي (العسكر-الدين الرسمي – الاقطاع) بتنويعاته المختلفة من تقبل سيل الافكار الجديدة الا شكليا، فاقام اصناما جديدة باسماء براقة، فلبس مرة لبوس الاشتراكية التي لم يوفر لها القاعدة المادية و الفكرية فانحدرت من ملكية دولة الى ملكية العائلة و العشيرة، مع عدم تمتعها بمقومات الرأسمالية التحديثية التي تخلق معها قيمها الفكرية، ثم كانت القومية التي عجزت عن التحرر من ارث القيد النازي و سرعان ما سقطت في فخ القمع و الاستبداد الداخلي و التوسع العسكري الخارجي مصدرة ازماتها يمنة
و يسرة. كما حاولت بعض دويلات العرب استيراد صندوق الاقتراع لادامة الانظمة القائمة في مسرحيات انتخابية ينتصر فيها بالضرورة حزب العسكر و القبيلة.
و اخيرا جاءت حركات "الاسلام هو الحل" لتخلق صنما اخر غير محدد المعالم سرعان ما سقط في فخ التكفير و العنف العشوائي و لتشاطر سابقاتها مأساة احتكار الحقيقة و الغاء الاخرين لتتطاير الرؤوس بدلا من ان تبنى الاوطان، و ليثبت هذا التحالف لنفسه و لمجتمعاته بانه ، بشكله المتغير خارجيا و المتماسك داخليا منذ مئات بل آلاف السنين، هو الحل الامثل و الاكثر امانا و حفاظا على كيان الأمة.
المسألة اذن ليست في شكل الشعار، و انما في واقعية ولادته نتيجة للتطور الطبيعي الاقتصادي و الاجتماعي و انماط الانتاج المفرزة له. و مهما كان الشكل براقا، بقي الجوهر معتما و ممتلئا بامراض الماضي المتراكمة التي لم تستثن الانظمة و الحركات الثورية على حد سواء، فبقيت ظلال المجتمع الابوي تخيم منذ الوف السنين على التنظير و التطبيق، لاغية الارادة الفردية والجماعية الواعية سواء ارتدى الأب رداء "المناضل الأمين العام" أو "القائد الضرورة" أو "الولي الفقيه" أو "أمير الجماعة". فكيف يمكن لمجتمع ممارسة الديموقراطية الليبرالية بدون وجود طبقة برجوازية حقيقية و نمط انتاج رأسمالي لها، و كيف يمكن له ان يدعي تطبيق الاشتراكية في ظل غياب الوعي الطبقي للطبقات الكادحة المنتجة التي لا يمكن ان تتميز فكريا الا في ظل الرأسمالية أولا و في غياب القاعدة المادية الملائمة، و كيف يمكن له ان ينادي باقامة الدولة الدينية في ظل غياب تعريف متكامل و عصري واضح لها و لاهدافها الاجتماعية و الاقتصادية. و في ظل هذا التخبط، اخذ تحالف الحكم القائم على عاتقه مهمة تعريف جميع هذه الشعارات و تنفيذها نيابة عن المجتمع و رغما عنه في احيان كثيرة، فاخذنا نسمع عن "الطريق العربي للاشتراكية" و "نموذجنا الخاص للديموقراطية" و "فهمنا الخاص للاسلام" و ما الى ذلك.
لقد عانت الحركات الثورية (ماركسية و قومية و دينية) من معضلة خلق الانسان الجديد المفصّل على مقاس الايديولوجيا، المستعد للتضحية و الفداء في سبيل الاجيال القادمة، و هي الذريعة الفكرية (و الواقعية) التي مازال الغرب الرأسمالي يتفاخر بانتصاره على اساسها مؤكدا بان نظامه قد انتصر لأنه لا يحتاج الى حد كبير لخلق انسان مفصّل على مقاسه، ذلك لأنه مفصل طبيعيا على مقاس الانسان.و ان كان هذا هو الحل المطروح حاليا، فأين هي الرأسمالية العراقية و ماهي شروط نشأتها. ان اغنياء التجارة و الصدفة ليسوا برأسمالية، بل هم قوى تقليدية متحالفة مع اي نظام يحفظ مصالحها.لا بد اذن من الاعتراف بعدم وجود رأسمالية عراقية تثويرية تخلق نمط انتاج و شكلا اجتماعيا ليبراليا ضروريا لوجودها و استمرارها، كما تخلق نقيضاتها الطبقية و الفكرية.
ان الديموقراطية ليست صندوق الاقتراع و لا جريدة تلعن نظام الحكم فحسب ، انها سلوك اجتماعي يتجذر بالممارسة من مستوى الاسرة الى اعلى مستويات الارادة الاجتماعية و السياسية، و ستبقى ممارسة خاوية ما لم تتعلم مجتمعاتنا قيم الحرية الحقيقية و احترام الرأي الاخر و شرعية وجوده و حيوية التعايش معه مهما كان مختلفا سواء أكان ذلك الآخر زوجة أو ابنة أو خصما سياسيا أو فكريا. و كيف يمكن ان يتعايش من يملك مع من لا يملك و يحترم وجوده، و كيف يمكن ان تستقيم معادلة الحرية المتساوية بين الفرد و بين من يملك قوت يومه. و يصح هذا على مستوى الافراد و المجتمعات كما يصح على مستوى الأمم، فهل يتساوى من يملك نصف انتاج العالم الصناعي و الزراعي مع من يستورد القمح و الحليب، و هل يتساوى الفرد المتمتع بحقوق اتخاذ القرار الفردي (و دور لا يستهان به في القرار الجماعي) مع من لا يملك شيئا يدافع عنه او قيما ملموسة يحارب من اجلها، بما فيها حقوقه الاساسية ابتداء من لقمة الخبز و نسمة الهواء و الشارع المعبد و الدراسة اللائقة و الطبابة المناسبة، و ليست انتهاء بحقه في الاعتقاد و التفكير و حقه في عدم الاعتقاد و التفكير. الاجابة هي بلا طبعا.
المجتمع المدني
يلاحظ المتابع لحركة التطور الحقوقي في العالم العربي بأن اصعب القوانين و اخرها صدورا و اقلها ديموقراطية هي قوانين المنظمات الاهلية و النقابات و الاتحادات. فقد تصدر قوانين احزاب و صحافة و انتخابات ذات شكل متحضر و حر و لو شكليا، الا ان تحالف الحكم الشرقي يفكر الف مرة قبل اصدار قانون عصري للمنظمات غير الحكومية، ذلك بانه يدرك عبر تجربته التاريخية بأن الحرية الحقيقية انما تكمن في قلب المجتمع و ليس في الاحزاب السياسية التقليدية التي استسلم الكثير منها للعبة السلطة و دور "المحلل" في الزواج الكاثوليكي بين التحالف الحاكم و كرسي السلطة، ذلك ان الوعي السياسي الحقيقي يتكون بالممارسة الاجتماعية بين ابناء و بنات المهنة الواحدة و الاهتمام المتماثل و في خضم العمل الطوعي حيث يتفاعل الناشط بمجتمعه على اساس المصلحة المباشرة و المشتركة، و حيث تعمل تلك المنظمات مع مجموعات مهمشة تقليديا و في مساحات كانت دوما مقصورة على الدولة و مؤسستها العسكرية و الامنية و حليفتها التقليدية الطائفية و العشائرية، ومن هنا ينشأ الوعي الحقوقي المتبادل و ينشأ الضغط الحقيقي على السلطة و قوى المجتمع التقليدية.
ان القوى التقليدية في مجتمعنا (المحيط العربي و الداخل العراقي) تدرك تماما بأن رابطة المواطنة المدنية هي بديل عصري و حتمي لرابطة القبيلة و المذهب و الطائفة، و هي بداية الوعي لاحداث التغيير الحقيقي نحو مجتمع الحريات و الحقوق المتساوية و لذلك يعمل على وأدها و الحد من حركتها بكل ما أوتي من قوة، حتى و لو اضطر الى استيراد تجربة صندوق الانتخاب لاعاقة الولادة المنطقية للمجتمع المدني عن طريق امتصاص قوى المجتمع الحية و النخب المثقفة في اللعبة الانتخابية اذا فشلت سطوة دولة المخابرات. و لهذا نجد من يطالب بانتخابات فورية في العراق اذ ان نتائج هذه الانتخابات محسومة سلفا للمذهب و العشيرة و المال، فتعيد تلك القوى التقليدية تقاسم السلطة و تعيد انتاج التخلف و لو بشكل اكثر عصرية من نظام الاستبداد المخابراتي المقبور. و تدرك هذه القوى جيدا بأن الجسم الانتخابي العراقي لم يصل بعد الى مستوى التصويت للبرنامج و ليس للعشيرة أو المذهب، و لن يصل اليها الا عبر ممارسة ديموقراطية فعلية لم تتحقق شروطها بعد، و لن اكون مبالغا اذا قلت انه لا فرصة لسني ان يفوز بانتخابات في النجف و لا لشيعي بان يفوز بمثلها في الموصل و لا بعد جيل من الزمان. انه واقع مرير و مخجل قد لا يسعد بعضنا الاعتراف به.
و بما ان عملية البناء الاجتماعي المدني مترابطة و متشابكة، تقف مسألة بناء السلطة القضائية المستقلة كتحد اخر و شرط لقيام المجتمع المدني الحقيقي. فالقضاء صمام امان المجتمع و درعه الواقي، و تبقى مسألة التعامل مع مسألة استقلال القضاء و اعداد القضاة و التعامل مع احكامه مقياسا حقيقيا على الرغبة في بناء مجتمع الحريات و الحقوق، فهل نجد مسؤولا فاسدا أو منتهكا لحقوق الانسان يقف في قفص المحكمة في عراق الغد القريب، أو نرى القضاء ينتصر لمواطن ضد السلطة أو يلغي نتيجة انتخابية لحزبها ..
خاتمة متفائلة
لست من انصار نظرية تفوق شعب على اخر في مسألة استيعاب التطور و التحضر، و لا ازال اعتقد بأن المعضلة تكمن في توفير الشروط الموضوعية لإحداث التغيير المطلوب، و بناء الظروف المادية التي تكفل خلق الوعي الفردي و الجماعي اللازم بدءا من مستوى الاسرة و التعليم الاساسي و الجريدة و الراديو و التلفزيون و المسجد و المقهى لنصل الى مجتمع ينظر للمستقبل نظرة يوحدها الاختلاف و يغنيها بدلا من الذوبان في كتل هلامية وهمية، و اصنام اتخذناها الهة و ذبحنا انفسنا و الاخرين على مذبحها.
بناء الوعي الديموقراطي عملية مترابطة لا تنفصل عن النمو الاقتصادي و الاجتماعي و تكوّن الطبقة الوسطى العصرية، و هي بالتالي مسؤولية جماعية على عاتق جميع قوى المجتمع.
لقد رحل صدام و نظامه الى غير رجعة، فهل تملك القوى العراقية الحية القدرة على صياغة مثل هذا العقد الاجتماعي الجديد و لو ضمنيا، و هل تمتلك ارادة تنفيذه ، و هل سيتسنى للجيال اللاحقة رؤية حلمنا الديموقراطي واقعا ملموسا؟