ثائر الناشف
كاتب وروائي
(Thaer Alsalmou Alnashef)
الحوار المتمدن-العدد: 1997 - 2007 / 8 / 4 - 10:13
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
فاجأ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بخطوة غير متوقعة الإدارة السورية , وجميع المراقبين لما يحصل في لبنان والشرق الأوسط خطوة بخطوة , بأنه لا حوار مع دمشق ما لم تحدث حلحلة شاملة للمشاكل القائمة في جوارها .
الإدارة السورية كبتت أنفاسها طوال السنتين الأخيرتين من حكم الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك وتحديداً منذ عام 2004 , العام الذي صدر فيه القرار الدولي 1559 , حيث لم تتوقع دمشق صدوره من رئيس فرنسي قال يوماً تحت قبة البرلمان اللبناني , بأنه لا يمكن سحب القوات السورية من لبنان بشكل نهائي , إلا في إطار تسوية دائمة للصراع العربي الإسرائيلي , مع ذلك استبشرت خيراً بالقاطن الجديد لقصر الاليزيه , أياً كان تياره , فما يهمها عودة الحوار مع فرنسا , وبالتالي تعزيزه أكثر مع دول الاتحاد الأوروبي , إيماناً منها بأن تأزم العلاقة مع فرنسا يعني قطعها بالكامل مع أوروبا .
لكن دمشق وبناءً على المعطيات الجديدة التي تلقتها من فرنسا , تبدو اليوم أشد إحباطاً من السابق , ولو كان في مقدورها القول لساركوزي ما قالته لسلفه شيراك , كفاك شخصنة للعلاقات الدولية وتأسيسها على كتلة من المشاعر الملتهبة بدلاً من المصالح المشتركة , لقالته دون إحراج , فهي تستعد لمناورة ساركوزي على طريقة الأخذ والرد , لتترك فواصل يمكن الوقوف عندها منعاً لأي انسداد متكرر في العلاقات .
كما لا يخفى على الجميع حالة العزلة التي وصلت إليها الإدارة السورية قبل وبعد خروجها من لبنان , وما لحقها من مقاطعة عربية كُسِرَ جمودها في قمة الرياض الأخيرة , وأخرى دولية أعاد تحريك مياهها الراكدة زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي لدمشق , فإذاً يفترض أن تكون دمشق هذه الأيام في حالة إصغاء تام لما يرسل ويوجه إليها من إشارات تتعلق بدورها المبهم في لبنان والغير مفهوم من فرنسا , قبل الدخول في أحاديث جانبية معها .
الانعطافة التي توقعتها دمشق من جانب ساركوزي تجاهها تبلغتها حينما أرسل الأخير تعليمات لسفيره في دمشق ميشال دوكلو , ليبلغ المسؤولين السوريين بأن تسلم رئيس فرنسي جديد للسلطة , يمثل فرصة لعودة الحوار إذا توفرت الشروط , لكن الشيء الذي لم يخطر لها , انعطاف ساركوزي المفاجئ نحو الاتجاه الشيراكي , اتجاه تبغضه كثيراً وتعتبره سلبياً ومنحازاً لدولة معينة على حساب ومصالح دولة أخرى .
وسبب هذا الانعطاف الفرنسي المعاكس تجاه دمشق , يرجع إلى الأحداث الساخنة في مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني ومجموعة فتح الإسلام , واغتيال النائب اللبناني وليد عيدو , سببان دفعا ساركوزي إلى توجيه تعليمات جديدة للسفير دوكلو , أبلغها بدوره لوزير الخارجية السوري وليد المعلم , بأن شروط معاودة الحوار غير متوفرة الآن لانعدام الاستقرار في لبنان .
من جانبه أكد برنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي جدية المسار الفرنسي حيال الموقف من سورية , خلال مؤتمر صحفي مشترك عقده مع نظيرته الأميركية كونداليزا رايس الشهر الفائت, بأنه طالما لم تعط سورية البرهان الملموس على استعدادها للمشاركة في السلام , فلا مجال للحوار معها , رسائل فرنسية بالجملة , على دمشق استيعابها بمرونة وعدم تشنج , وعليها تعويد نفسها على الإصغاء قدر الإمكان , وتجنب إطلاق التصريحات الحادة التي لا طائل منها , كتلك التي صرح بها فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري , بأنه لا توجد شرعية دولية ولا لبنانية للقرار الدولي ومن يستهدف سورية لن يحصد سوى الفشل , تصريح يصلح استخدامه محلياً للتعبئة الشعبية , التي اعتادت عليها القيادة السورية ونجحت فيها , لكنه لا يتوازى في لهجته التصعيدية مع الرأي العام الدولي .
الرسائل الفرنسية المرسلة لدمشق على شكل إشارات لا تعني أنها تتهم دمشق سلفاً بكل شاردة وواردة تحصل في لبنان , طالما أنهت دورها فيه بخروج جيشها منه , غير أن تأزم الوضع السياسي في لبنان واقتراب الفتنة المذهبية من الانفجار , ما كان ليتم أثناء وجودها فيه وحتى الاغتيالات والتفجيرات المتنقلة بين مختلف المناطق لم يشتد أوارها إلا بعد انتفاء الوجود السوري من لبنان , ولعل ما قاله فرانسوا فيون رئيس الوزراء الفرنسي بأن فرنسا لن تستسلم لرؤية لبنان مهدداً بالحرب الأهلية من جديد , ولن تقف متفرجة أمام اغتيال جميع قادته الذين يجرؤون على الدفاع عن استقلال بلدهم , رسالة بالغة الوضوح لا يختلف حولها اثنان , فما هي الأسباب المضمرة التي جعلت فرنسا قلقة إلى هذا الحد ؟.
تبدى لفرنسا , بادئ ذي بدء أن مساعي الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى لوقف عجلة الفتنة فشلت لمرتين , وتبين لها أن قرارات الفريق اللبناني المعارض للفريق الحاكم , ليست في يده بل في يد إيران وسورية , واتضح ذلك في رفضه لإقرار المحكمة الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري , ولا يمكن التفاهم مع هذا الفريق دون الرجوع مباشرة إلى سورية , وعندما شعرت فرنسا أن سورية غير مستعدة للتفاهم أرجأت الحوار المتوقع حصوله معها , وغيرت وجهت مبعوثها الخاص للأزمة اللبنانية السفير جان كلود كوسران إلى طهران بدايةً , بعد أن كان مقررا له المرور بدمشق أولاً قبل عقد مؤتمر سان كلو , لكن زيارته لها أتت بعد انتهاء المؤتمر بهدف إطلاعها على نتائجه ,وما يفهم من هذه الزيارة أنها ديبلوماسية وليست سياسية , غرضها استكمال ما بدأته الخارجية الفرنسية من خطوات على صعيد تقريب وجهات النظر وصولاً إلى بلورة الحل النهائي .
بكل الأحوال قد تكون دمشق لا زالت متأثرة بأجواء الصدمة التي تلقتها أثر صدور القرار الدولي 1757 , الخاص بإنشاء محكمة دولية تحت الفصل السابع , برعاية مباشرة من شيراك , الذي كرس جهده في الشهور الأخيرة من ولايته لإخراج المحكمة قبيل مغادرته الاليزيه , وهو ما انعكس بدوره على نفسية السوريين بعدم الخوض مع أي مسعى فرنسي يتناول بحث الأزمة اللبنانية , على الرغم من قدوم طاقم رئاسي جديد , بخلاف الحال مع الإيطاليين الذين تبادلت معهم عبر ماسيمو داليما وزير الخارجية الايطالي أطراف الحديث حول لبنان .
قد يتساءل البعض عن سر الاهتمام الفرنسي المتزايد بلبنان وحده دون غيره من الدول , باعتبار أن الشرق الأوسط ممتلئ بالمشاكل وبحاجة إلى مساندة دول لها وزنها وتأثيرها الدولي للمساعدة على إيجاد الحلول الممكنة , فلماذا تربط
فرنسا - بغض النظر عمن يحكمها- علاقاتها بسورية سلباً أو إيجاباً رهناً بالمناخ العام السائد في لبنان ؟.
إنّ السر يعود إلى مبادئ راسخة في السياسة الخارجية الفرنسية منذ عهد الرئيس شارل ديغول وحتى قبله , بأن العلاقة الفرنسية – السورية تتحدد على ضوء ما يجري في لبنان , فالتقليد الذي تقوم عليه السياسة الفرنسية يقتضي بزيارة أي رئيس فرنسي جديد إلى ألمانيا , في مقابل زيارة أول وزير خارجية إلى بيروت , وهو ما قام به كوشنير في 24 أيار ( مايو) الماضي .
المصلحة تتطلب من سورية تفهّم التغيّر الحاصل في مسار السياسة الفرنسية من حدود واسعة لا ضيقة , في ظل الاستفراد الأميركي لشؤون الشرق الأوسط , أوجب على جميع الدول الكبرى التحرك سريعاً لصون ما تبقى لها من مصالح , وفرنسا هي واحدة من هذه الدول التي لها مصالح لا تقل عن المصالح الأميركية , ولا يرضيها أن تتحول مصالحها إلى تابع للمزاج الأميركي , كما هو حال بريطانيا (بلير) وإسبانيا (أزنار) سابقاً , لذلك وحمايةً لمصالحها ودورها الجديد نتيجة الأوضاع المستجدة التي فرضها التدخل الأميركي , تخلت عن بعض أدوارها القديمة الموروثة من الحقبة الديغولية , وشرعت تقترب من الحلقة الأميركية للإبقاء على الشعرة الرفيعة الوحيدة بينها وبين مصالحها من جهة وأميركا من جهة ثانية .
بطبيعة الحال النهج السياسي الذي سار عليه شيراك في ولايته الثانية المتعلق بالاقتراب من الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي , يصعب على ساركوزي السير على نفس خطاه , بل من المتوقع تعميقه لنهج يسير به جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة , فهو من دعا إلى دعم تطلعاتها بالكامل , بعيداً عن تركيزه على قضايا داخلية تخص الهجرة والهوية والموقف الصارم من معارضة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي , كل ذلك يدل على جدية توجهه نحو اليمين المتشدد , وهو ما لا تعول عليه دمشق مستقبلاً , فهي تعتقد أنه مهما كان يمينياً في توجهاته فإن تمثيله الكلي كرئيس يقتضي التوازن كونه يمثل في النهاية دولته وليس تياره .
ما يردده أكثر من مسؤول سوري بأن شيراك هو من أزّم العلاقات المشتركة بإدخاله إياها في حلقة أساسها الشخصنة , الواقع أن للمسألة قسمين الأول بعيد عن الصحة , لأن شيراك أولاً وآخراً إنسان , له من المشاعر ما لغيره من الناس , وطبيعي أن تكون له علاقات صداقة مع أفراد من داخل السلطة وخارجها, في إشارة إلى علاقته المتميزة بالراحل رفيق الحريري , ولا ننسى أيضاً علاقته المتينة مع الراحل السوري حافظ الأسد واستقباله لنجله الرئيس بشار قبل وبعد تسلمه الحكم , القسم الثاني , لا تستطيع فرنسا الاستمرار في علاقتها مع العرب دون أن تلتفت قليلاً لعلاقتها مع جوارها الأوروبي وتغليب علاقتها الأوروبية على ما سواها من علاقات أخرى , هنا يظهر التمايز في العلاقات مستنداً إلى أبعاد أساسها المصلحة .
لا شك أن انسداد العلاقات السورية – الفرنسية كان بسبب الطرفين دون استثناء , البداية كانت اقتصادية , فقد حُرِمَت شركة توتال النفطية الفرنسية من حق الحصول على عقد لاستثمار الغاز السوري بقيمة 759 مليون دولار, ليذهب بيسر وسهولة لشركة أميركية ظناً بتحسين الحوار مع واشنطن , أما النهاية سياسية بامتياز حجتها الأولى , التهرب السوري من السير في طريق الإصلاح الذي طلبته فرنسا ووفرت له خبراء في مجال الإصلاح الإداري , حجته الثانية استهجان المسؤولين السوريين من تجاهل نظرائهم الفرنسيين ودورهم في استصدار القرار 1559 , يضاف إلى ذلك ما رشح من معلومات أوردتها صحيفة معاريف الإسرائيلية , بأن شيراك طلب من إسرائيل مهاجمة سورية أثناء حربها على لبنان في صيف العام الفائت .
الواضح أن ساركوزي سيحدد علاقة بلاده النهائية مع دمشق , وفقاً لما ستؤول إليه نتيجة الحوار اللبناني – اللبناني الذي عقد في لا سيل سان كلو, وما سينتج عنه سواء باتجاه الحل أو باستمرار التأزم إلى ما لا نهاية , لربما يحدث ثغرة صغيرة في جدار العلاقات , تريد سورية توسعتها بواسطة الضغط على حلفائها اللبنانيين ودفعهم لقبول أفكار الطرف الآخر في حدها الأدنى , سيما وأنها لم تعارض ذهابهم إلى سان كلو , وهذا يفصح عن مدى دورها المؤثر على المعارضة اللبنانية بتجميد مبادرة موسى ونقلها إلى فرنسا , فأي انفتاح فرنسي محتمل تجاه سورية سيبنى على أرضية جديدة من المصالح المتغيرة وسيكون مقطوعاً مع الماضي .
#ثائر_الناشف (هاشتاغ)
Thaer_Alsalmou_Alnashef#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟