أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - قدري جميل - واقع الحركة السياسية وآفاقها















المزيد.....



واقع الحركة السياسية وآفاقها


قدري جميل

الحوار المتمدن-العدد: 609 - 2003 / 10 / 2 - 04:32
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


بدعوة من المركز الثقافي في السقيلبية، ألقى الرفيق د. قدري جميل محاضرة تحت عنوان: «واقع الحركة السياسية وآفاقها»، وذلك بتاريخ 28/1/2003.. ونظرا ًلأهمية الموضوع المطروح ننشر النص الكامل لهذه المحاضرة.

واقع الحركة السياسية وآفاقها

 

 

هناك مشكلة في الحركة السياسية في البلاد، يمكن تشخيصها بوجود هوة بين الجماهير والشارع من جهة والحركة السياسية من جهة أخرى. وهذه الهوة تزيد أو تنقص عند هذا الحزب أو ذاك، وبحسب هذا الحزب أو ذاك. إذ أن هناك أحزاباً بينها وبين الشارع حالة قطيعة، وهناك أحزاب وضعُها أفضل نسبياً ولكن هناك أيضاً مشكلة بينها وبين الشارع، تحاول أن تعالجها، تنجح أحياناً وتفشل أحياناً أخرى..

 إذاً فالمشكلة قائمة بكل الأحوال. وعند تشخيص القضية بشكل موضوعي من أجل معالجتها، علينا أن نقر ونعترف بأنه خلال السنوات الخمسين الماضية كان هناك ابتعاد تدريجي للجماهير عن العمل السياسي، أو بمعنى أدق، ابتعاد الأحزاب السياسية نفسها عن الشارع... فهناك أحزاب تعمل بكل شيء ما عدا السياسة، هذه المسألة خلقت مشكلة بشكل عام بين قيادات الأحزاب وقواعدها، وبالتالي بين الأحزاب وجمهورها، ولكي نحيط بالموضوع مضطرين للكشف عن هذه الأسباب للوصول إلى معالجتها.

من المعروف أنه يجب النظر إلى أي ظاهرة نظرة شمولية، لذلك عندما نبحث الظاهرة السورية يجب أن نعرف أن سورية ليست خارج هذا العالم، فهي جزء منه، وبالتالي عندما نبحث هذا الموضوع فنحن مضطرون أن نبحث في التاريخ وفي العالم حتى نصل إلى سورية لأنها كما أسلفنا جزء من كل.

إن الحالة التي نتحدث عنها هي حالة عامة، ولكن لها خصوصيتها في كل بلد، وهذه المشكلة بالتالي ليست مشكلة سورية وحدها اليوم، لأن العالم كله اليوم يواجه مشكلة من هذا النوع بشكل عام.

الدور الوظيفي للحزب

الأحزاب السياسية، بالمعنى التقليدي، تعاني من مشكلة لابد من حلها. بعضهم يفكر فيها ويبحث عن الحلول، والبعض الآخر يضع رأسه في الرمل كالنعام ظاناً أنه إذا لم ير الناس فالناس لا يرونه. فعندما نتكلم عن الواقع السياسي يجب أن نتفق على المفاهيم: أولاً: مامعنى سياسة، ما معنى حركة؟ أن أدق تعريف للسياسة هو تعريف لينين «إن السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد». وماذا يعني الاقتصاد، حسب الاقتصاد السياسي يعني علاقات الإنتاج، يعني علاقات الملكية، يعني مصلحة اجتماعية. والمصلحة الاجتماعية تعبر عن هذه الشريحة أو تلك من المجتمع.

والسياسة حتى تكون سياسة يجب أن تعبر عن مصالح اجتماعية ـ اقتصادية محددة. والحركة أو الحزب حتى يكون حركة أو حزباً، يجب أن يعبر عن مصلحة اجتماعية ـ اقتصادية محددة، عندها يحصل على دور وظيفي في المجتمع.

الحزب بالمعنى العلمي هو مجموعة من الناس يعبرون عن مصالح طبقة اجتماعية محددة، ولهم مكان ووظيفة في المجتمع. لذلك لا يوجد حزب دون وظيفة، والأحزاب التي تدّعي أنها أحزاب ولا تمارس دورها الوظيفي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فهي شبه أحزاب، بل وهم أحزاب..

الحركة السياسية، هي أحزاب وقوى وحركات. أما السياسة فهي تعبير عن مصالح اقتصادية، والأحزاب والقوى والحركات لها وظيفة في المجتمع. بهذا الشكل يمكن تناول الموضوع ومعالجته.

الصعود والهبوط

لو عدنا إلى الوراء قليلاً، إلى القرن العشرين لنلقي نظرة موضوعية على تاريخ الحركات السياسية فيه ككل، للاحظنا المفارقة التالية: وهي  صعود الحركات السياسية في النصف الأول من القرن العشرين ووصولها إلى قمة تأثيرها على المجتمع وعلى مجمل الحياة السياسية حتى أواخر هذا النصف، ونلاحظ من ناحية أخرى، ومنذ أوائل الستينات، بدأ تراجع دور هذه الحركات في حياة المجتمعات وتراجع السياسة ككل وبداية حدوث الهوة التي ارتسمت بوضوح الآن بين الجماهير والشارع من جهة، وبين الأحزاب المدعوة أن تمثلها من جهة أخرى. يجب أن لا نبقى أسرى الخطأ ونقول إن المشكلة بدأت الآن، بينما هي أكثر شمولية وعمقاً. المشكلة هي أن هناك أحزاباً في القرن العشرين نشأت ونهضت وتراجعت، وكان قمة صعودها في آواخر الخمسينات، وهذا ما حدث في العالم كله.

 وانطلاقاً من هذا التوصيف يجب أن نطرح على أنفسنا سؤالاً: لماذا جرى ذلك؟ وللإجابة على هذا السؤال فإن هناك العديد من القضايا يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، وإن كنا لا نعرفها فنحن مضطرون للتعرف عليها، وعلم المجتمع هو مثل كل العلوم الأخرى يتطور ويكتشف ويستخدم أدوات علم تتحسن باستمرار..إلخ

لقد أصبح الحديث في هذا الموضوع قضية هامة وهي جديدة. نسبياً الجميع يخوض الحديث فيها، وبخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فكما للثورة قوانينها، فإن للردة قوانينها أيضاً. وبمعنى آخر، التقدم التاريخي هو تطور مَوْجي بين مد وجزر، والمحصلة للمد والجزر، المحصلة التاريخية هي التقدم...

دروس تاريخية

وللدليل على هذا الكلام سأعرض مثالين تاريخيين:

المثال الأول: عن انتصار الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، وبانتصارها انتصر الاتجاه اليساري الذي دام سنوات، وبعد ذلك جاءت موجة اليمين وصولاً إلى الردة الكاملة. فالثورة الفرنسية صنعت أول جمهورية وأسست بعد ذلك إمبراطورية وأنتجت إمبراطوراً هو (نابليون بونابرت).

درس لينين هذه الثورة واستند إليها. فكما هو معروف فإن البلاشفة الذين استلموا السلطة في أكتوبر 1917 كان عندهم أمل في أن تتحول وتتطور السلطة السوفييتية إلى ثورة عالمية لدحر الرأسمالية. وهذا ما لم يحصل، بل حدث انكفاء في الحركة الثورية العالمية واستطاع لينين أن يرى هذا الانكفاء وطرح حينها قضية هامة بنى على أساسها سياسة «النيب»، السياسية الاقتصادية الجديدة، وهي سياسة تراجع على طول الجبهة وقال لينين في الثورة الفرنسية: كان هناك اتجاهان: اليعاقبة والجيرونديون، يسار ويمين، وأكد لينين أنه يجب أن نفعل بأنفسنا بدكتاتورية البروليتارية ما فعله الجيروندنيون بفرنسا، وبمعنى أخر عندما تكون الموجة المرتدة لا مفر منها، يجب التحكم فيها حتى تصل إلى حدودها القصوى وتستنفد حالتها لنبدأ بعدها الموجة الصاعدة بأيدينا من جديد، أي التحكم بالعملية التاريخية.

الحزب أداة واعية

وهنا أضاف لينين قضية جديدة، نحن مضطرون أن نتوقف عندها وهي أن مفهوم الحزب عند لينين لم يكن قضية شباب متحمسين وشجعان يناضلون ضد الظلم والاضطهاد وغيره من أشكال القهر، بل تحول مفهوم الحزب عنده إلى شيء جديد، إذ أصبح مفهوم الحزب عنده أداة واعية للتحكم بالعمليات الاجتماعية، وأصبح الحزب أداة واعية للتحكم بالقوانين الموضوعية وفهم هذه القوانين واكتشافها والتحكم بمسارها، وقد قدم لينين بهذا الاكتشاف إنجازاً كبيراً لقضية الأحزاب ودورها، لذلك فعندما نقول إن هناك صعوداً وهبوطاً فنحن مضطرون لأن نتوقف عند هذه القضية ونفكر فيها. فمنذ أوائل الستينات بدأت الحركة الثورية العالمية بمختلف مكوناتها حركات تحرر وطني أو حركات عمالية، العد التراجعي لهذه القوى الذي تكرس بانهيار الاتحاد السوفييتي.. وبالتالي يجب أن نقلب زاوية الرؤية، إذ أنه ليس بانهيار الاتحاد السوفييتي تغيرت موازين القوى، وإنما بتغير موازين القوى العالمية التدريجي انتهى الاتحاد السوفييتي. فكيف جرى هذا التغيير؟ التغيير كان بطيئاً تراكمياً غير معلن. فالحركة الثورية العالمية في النصف الأول من القرن الماضي حققت انتصارين كبيرين، اختراقين كبيرين للجبهة الرأسمالية، هما: ثورة عام 1917 أولاً، وثانياً انتصار الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية وتشكيل منظومة الدول الاشتراكية وخروج الاشتراكية من الاتحاد السوفييتي إلى بلدان أخرى (بلدان المنظومة الاشتراكية).

في النصف الثاني من القرن العشرين، وبخاصة بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عندما انتصرت سياسة «بلا مشاكل»  التي قادها خروتشوف، كان جوهر هذه السياسة «بلا مشاكل يا شباب مع الرأسمالية، لماذا نوجع  رأسنا» حينها انتقلت الحركة الثورية من الهجوم إلى مواقع الدفاع وفي الوقت  نفسه انتقلت الرأسمالية العالمية إلى موقع الهجوم، وأخذت تعيد تنظيم قواها ومراكمتها لتحقيق انتصاراتها البطيئة التي لم نكن نراها، وهنا لا نستطيع أن نضع المسؤولية على مجموعة أو حزب، لأن القضية قضية مستوى معرفي ورؤية معرفية تحتاج إلى وقت لفهمها. لقد راكمت الرأسمالية تلك الانتصارات الصغيرة هنا وهناك من خلال العمل الحثيث والبطيء لتغيير ميزان القوى لصالحها مما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي تحت وطأة تغير ميزان القوى العالمي لصالح الرأسمالية وكنا نحن الشيوعيين نقول في تلك الفترة التي يجري فيها التغيير في ميزان القوى لصالح الرأسمالية، كنا نقول إن ميزان القوى يتغير لصالح قوى التقدم الاشتراكية والحرية، وأن الرأسمالية تتراجع تحت ضربات قوى الحرية والتقدم…

 

نهاية الردة

ما الذي تبين عام 1991؟ لقد تبين واقعياً العكس تماماً، بدليل ما جرى، وهو سقوط الاتحاد السوفييتي، لأن استراتيجية المواجهة التي بنيت من قبل فصيل هام بالحركة الثورية العالمية، الذي هو الحزب الشيوعي السوفييتي، والذي لا يجوز إنكار وزنه النوعي كقوة مادية (لأننا جميعاً رأينا ماحدث بالعالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي). القضية هي أن هذا الحزب، عندما لم يأخذ على عاتقه تغيير ميزان القوى العالمي لصالح حركة التحرر بالعالم، لصالح الحركة الثورية العالمية، حدث ما حدث. وللحق وللتاريخ أريد أن ألفت الانتباه إلى مسألة هامة وهي أن الحزب الشيوعي السوفييتي بين عام 1952 عام انعقاد المؤتمر الـ19 وعام 1956 العام الذي انعقد فيه المؤتمر العشرون كان هناك صراع بين مفهومين في الحزب:

المفهوم الأول ( وهذا ما حصل في المؤتمر الـ19 عام 1952) كان يقول حرفياً «لقد سقط علم الديمقراطية والتحرر من يد البرجوازية. وأن القوى الثورية هي القادرة على حمل هذا العلم» ـ وهذا الحديث كان عن بلدان العالم الثالث ـ.

والمفهوم الثاني: طرح المؤتمر العشرون عام 1956 مسألة التعايش السلمي (حتى لا نخيف الإمبريالية) ولا حاجة لحركة ثورية في العالم الثالث، وتجلى هذا الشيء بالتعامل مع القوى البرجوازية في تلك البلدان على أنها الأمل للمستقبل ودعم مواقفها السياسية ونسيان دور القوى الثورية الحقيقية.. ومن ثم تطور هذا المفهوم إلى طرح مفاهيم مثل «التطور اللارأسمالي» «بلدان التوجه الاشتراكي»… وغيرها من المقولات وكانت كلها تطمينات للإمبريالية، وهذا لعب دوراً هاماً بتغيير ميزان القوى العالمي بما يتنافى مع مصالح الشعوب.

موضوعياً كان يجري تراجع، والأحزاب التي كانت موجودة في تلك الفترة لم تكن ترى هذا التراجع، وبالتالي حدث تناقض بين الهدف المعلن وبين الواقع الملموس، كيف حدث ذلك؟ كان الهدف المعلن هو الانتصار على الإمبريالية وعلى الظلم، وانتصار الاشتراكية.     أما في الواقع الملموس فقد كان يجري الابتعاد عن هذا الأفق أكثر فأكثر منذ أوائل الستينات.. وكان لذلك انعكاسات على الأحزاب نفسها وعلى قياداتها وعلى الشارع أيضاً…

 

جذر الانقسام

كل مانراه اليوم من تشرذم وانقسام وتفتت على الساحة السياسية يكمن جوهره الموضوعي في التراجع غير الواضح وغير الواعي من قبل تلك القوى التي كانت مخلصة وتناضل من أجل التقدم والاشتراكية. ومعروف في تاريخ كل الحركات الثورية، أن الحركة عند التقدم تقوى وتتوحد وعند التراجع والهزائم تنقسم وتتشرذم وتبتعد  عن جماهيرها. أما عند التقدم والانتصار تزداد جماهيريتها. هذه الهوة، هذا التشرذم، هذا التفتت  يطرح علينا المشكلة الأساسية، وهذه نقطة انطلاق لنفهم ما يجري.

إذاً هناك تراجع موضوعياً، أنتج حالة انكفاء في الحركات السياسية الوطنية والتقدمية والثورية بغض النظر عن لونها. هذا الانكفاء، ونتيجة عدم فهم كنهه وسببه الحقيقي، أدى إلى حدوث انقسامات في تلك الأحزاب. لماذا؟ لأنه بدأت تظهر اجتهادات للإجابة عن تساؤلات مشروعة أهمها: لماذا نتراجع؟ لماذا تنفَضُّ الجماهير عنا؟ وكانت الإجابات كيفية ومزاجية. فالقضية ليست واضحة والحياة لم تحسمها بعد.

أدت الانقسامات إلى تقوقع عند هذه الأحزاب، والتقوقع أدى إلى تزايد الهوة بينها وبين الجماهير، وبالتالي الابتعاد عن الواقع وعدم فهم هذا الواقع وعدم التفاعل معه لدى هذه الأحزاب.

إن هذه الحالة أدت إلى إنتاج خطاب سياسي متخلف عند هذه الأحزاب وقياداتها، الأحزاب تتحدث عن شيء والجماهير تسمع شيئاً آخر، هذا هو جوهر المشكلة حتى هذه اللحظة.

إن السؤال المطروح: ماذا جرى للأحزاب في الحركة الثورية وحركة التحرر؟ الحزب الذي هو أداة للتغيير الاجتماعي. ومادام التغيير غير ممكن تحقيقه نتيجة صعوبة ذلك، ومادامت الآفاق غير واضحة، فقد تحول الحزب إلى هدف بحد ذاته وبقي الحزب معزولاً عن الجماهير وعن الشارع وعن الواقع، مما خلق عقلية معينة عند قيادات هذه الأحزاب جعلتها تنكفئ، ولكن إلى أين؟ إلى البحث عن المصالح والمكاسب الشخصية لا عن المصالح الحزبية، ولو كانت كذلك لبقيت جزئياً مكاسب عامة. لقد أصبحت قيادات هذه الأحزاب المهزومة موضوعياً، والتي مازالت لاتعي أنها مهزومة، أصبحت تبحث عن المكاسب والمصالح مادام الوصول إلى الهدف صعباً والآفاق غير واضحة بالنسبة لها مما جعلها تعمل في سياسة «دبر راسك» لأن هؤلاء القياديين الحزبيين  الذين يفترض بهم أن يسيروا باتجاه هدف معلن تصبح المكاسب الخاصة هامة جداً بالنسبة لهم من أجل استمراريتهم كقيادات في كثير من الأحيان.

ماهو الجديد اليوم؟

فما الجديد اليوم الذي يسمح لنا بأن نتحدث عن الوضع وكيفية معالجته، في سياق هذا التوصيف حول عملية التراجع التي بدأت منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، هذا التراجع الذي تكرس بانهيار الاتحاد السوفييتي وبتغير ميزان القوى ضد مصالح قوى التحرر والاشتراكية والديمقراطية. بعد هذا الانهيار أخذ المعسكر الرأسمالي وقتاً مستقطعاً مدته عشر سنوات يجرب خلالها حظه في استخدام كل الوسائل لحل المشكلات العالمية منفرداً. ولكنه لم يستطع حلها، ووصل بعد أحداث 11 أيلول 2001 إلى خيار وحيد هو الخيار العسكري وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق أزمة الرأسمالية، وإن هذه الأزمة مستعصية الحل لدرجة أن الحل العسكري هو خيارها الوحيد، وهذا يوصلنا إلى استنتاج وهو أن مرحلة المد للرأسمالية خلال الحقبة الماضية والذي استفادت منه وغيرت ميزان القوى العالمي ليصل إلى نهايته القصوى مقابل تراجع القوى الثورية منذ أوائل الستينات من القرن الماضي، والذي فهمناه بشكل واضح في التسعينات من القرن الماضي. هذا التراجع قد توقف وانقلب اليوم بصورة عكسية حيث بدأت الظروف الموضوعية تحول الجَزْر إلى مد. فاليوم هناك ظرف جديد، هو ظرف تغير ميزان القوى لصالح الحركة الثورية العالمية وحركات التحرر التي هزمت في السنوات الخمسين الأخيرة وهذا ليس تفاؤلاً رومانسياً، بل تفاؤل مبني واقعياً على دراسة أرقام ومعطيات تنبئ بأن الرأسمالية العالمية اليوم ممثلة بطليعتها الإمبريالية الأمريكية ليس لديها مخرج من أزمتها الاقتصادية الاجتماعية إلا الحرب، والحرب ضد الدنيا كلها، ومعروف أن الحرب بالنسبة للرأسمالية هي تفريغ الشحنة.

الأزمة عندهم

إن حرب اليوم بالنسبة لمن يخططون لها هي حرب عالمية شاملة بلا حدود ولا زمان، وهي تتناسب مع حجم الأزمة التي يعيشونها، لذلك فإن السؤال: هل هم بأحسن حالاتهم أم بأسوئها ؟

إن النظرة السطحية للأمور من خلال أجهزة الإعلام الغربية والموالية لها تجعلنا نقول لن يستطيع أحد أن يقف بوجههم ففي حوزتهم قوى عسكرية هائلة وهم قادرون على حشدها بسرعة كبيرة، ولكن نظرة عميقة للأمور تعطي استنتاجات أخرى، ولعل أهم استنتاج، ولعله الوحيد، أنهم في أزمة مستعصية لامخرج منها وأنهم مضطرون إلى  خوض معركة عسكرية كبيرة من كوريا إلى جنوب شرق آسيا إلى أفغانستان، إلى الشرق الأوسط… كحل للمشكلة الاقتصادية، كحل للأزمة، وإذا لم يخوضوا معركة عسكرية كبيرة فهناك مشكلة اقتصادية يجب حلها في النهاية، وجوهر هذه المشكلة الاقتصادية سأحاول إيجازها بالتالي:  اليوم هناك كم من الدولارات في العالم، كتلة من النقد أكثر من حاجة العالم أو أكثر من حاجة الأسواق العالمية بخمسين مرة، وهذا الكم من النقد يمكن في أي لحظة أن ينهي الاقتصاد الأمريكي، وهذا يفهمه الأمريكان، لذلك فإن  الحرب الكبيرة هي المخرج بالنسبة لهم، ولكن ما معنى ذلك سياسياً؟ هذا معناه أن تلك المرحلة، مرحلة صعود ذلك النظام انتهت وبدأت مرحلة الانكفاء، وبالمقابل هذا يعني أن مرحلة انكفاء القوى الثورية قد غدت في طور الانتهاء وبدأ الانتقال إلى الصعود. ولكن أين المشكلة؟ المشكلة تماماً هي أنه خلال مرحلة تراجع هذه القوى في النصف الأخير من القرن الماضي والتي كانت غير مدركة له، وكانت عقليتها التي تتعامل فيها مع الواقع عقلية منتصرين لدرجة أنهم كانوا يظنون أنهم سيقضون على الرأسمالية غداً أو بعد غد. والمشكلة اليوم هي أنه تتوفر ظروف موضوعية لتغيير ميزان القوى شيئاً فشيئاً لصالح القوى الثورية والتحررية في العالم، ونرى أن عقلية الكثير من قيادات هذه الحركة هي عقلية مهزومين بعد الهزائم التي أصابتهم والتي كان أخرها انهيار الاتحاد السوفييتي، فهم حتى الآن لم يخرجوا من حالة الصدمة. هذه مشكلة يمكن معالجتها ويجب معالجتها وهي قابلة للحلِ.

نقل مركز الثقل الى الشارع

إن فهم الحالة ومواجهتها يمكن أن يسمح بمعالجتها. ولكن هناك مشكلة في البنى التقليدية لأحزاب الخمسينات ومازالت مستمرة حتى الآن، ولنأخذ تجربة أوروبا  على سبيل المثال ، ماذا نلاحظ؟ نلاحظ أنه في العقدين الأخيرين حلت بنى جديدة محل الأحزاب التقليدية هذه القوى الجديدة تتميز بأمرين حسب وجهة نظر اليسار الأوروبي: الميزة الأولى وهي أن حدود هذه القوى غير محلية مثل المنظمات المعادية للعولمة، فهي ليست فرنسية أو إيطالية بل هي منظمات عالمية. والميزة الثانية هي أن هذه المنظمات، خلافاً للأحزاب، شعاراتها محددة غير عامة وأهدافها ملموسة، وعلى هذا الأساس تتشكل مئات المنظمات مثل المنظمة التي تقف ضد تشغيل الأحداث في العالم الثالث، ومنظمة للحفاظ على البيئة، ومنظمة لإلغاء ديون العالم الثالث.. هؤلاء بمجموعهم يحشدون مئات الألوف بل الملايين في الشوارع.

ولكن هذا لايعني أن دور الأحزاب السياسية، بالمعنى التقليدي قد انتهى وإنما أقصد أن الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة حتى الآن غير مدركة لوظيفتها الجديدة. وبما أن المجتمع لايقبل الفراغ، فإنه يعيد تكوين تلك المنظمات والبنى لتملأ ذلك الفراغ. لذلك فإن الحركة السياسية لم تتوقف مع تراجع الأحزاب السياسية التقليدية (فرنسا ـ إيطاليا وغيرها) بل هناك تقدم هائل للمنظمات غير التقليدية، المنظمات الجديدة التي عمرها بالسنوات فهي تكتسح الشارع وتسيطر عليه وشعارها الرئيسي هو العودة إلى الشارع. وبالتالي نقل مركز ثقل العمل كله إلى الشارع لمواجهة الرأسمالية ومواجهة العولمة المتوحشة، هذه المسألة تستحق الوقوف عندها و إمعان التفكير فيها.

إذاً هناك آفاق جديدة تنبئ بتقدم جديد.

 

إن هذه المقدمة كان لابد منها للوصول إلى الحديث عن وضع الأحزاب السياسية في سورية.. يجب تناول هذه المسألة منذ نشوء الجبهة الوطنية التقدمية التي كانت في حينه حدثاً هاماً، فقد ضمت قوى هامة وموجودة فعلياً على الساحة السياسية السورية، حزب البعث والناصريين والتيار اليساري ممثلاً بالشيوعيين ، هذه القوى كانت في حينه قوى فاعلة وحقيقية، البعض يرى اليوم أن الأحزاب المكونة للجبهة، ما عدا الحزب الرئيسي، ضعفت لأنها دخلت الجبهة. ولكن الأرجح أن القضية ليست كذلك، فالجبهة تشكلت في لحظة تراجع عام لمجمل الحركة (وهو ما تمت الإشارة إليه سابقاً) لذلك فإن الكل كان يتراجع إلى الوراء.  ومسألة أخرى هي أن الجبهة عندما تشكلت دخلها الجميع على أساس الأهداف المعلنة، لكن الكل كان آخذاً بعين الاعتبار أنه مع الوقت وشيئاً فشيئاً سيحاول كل طرف جذب الثاني إلى طرفه، وتغيير ميزان القوى لصالحه، لكن  ميزان القوى كان يتغير لغير صالحهم دون أن يعوا، لأنهم جزء من حالة كانت تتراجع بشكل عام، لأنهم جزء من حركة عالمية كانت في حالة تراجع. هذا التراجع هو الذي أثر سلبياً على وضع هذه الأحزاب.

خط بياني نازل

نعم، كانت الأحزاب جدية، لكن إذا قيَّمنا وضعها في كل عقد من السنين الماضية. و رسمنا خطاً بيانياً للأحزاب المكونة للجبهة ـ ليس الحزب الرئيسي لأنه حزب حاكم ـ  فسنجد أن هذا الخط البياني هو خط نازل، وهذا ما يحتاج إلى دراسة وتعميق.

القضية تكمن هنا، فأين المشكلة؟ المشكلة أن هذه الأحزاب التي لم تكن واعية لخطها البياني النازل أصابتها جملة من الأمراض يمكن تسميتها بأمراض العمل الجبهوي، وهي ثلاثة أمراض رئيسية، وهي أمراض ذاتية، ولو كانت حالة الوعي متوفرة لكان من الممكن تجاوزها وعدم الوصول إلى الوضع الذي نعيشه اليوم، والذي يتجلى بوجود أحزاب بالاسم دون وجودها بالواقع، لدرجة أن الحزب الأساسي الحاكم مضطر لتحمل عبء هذه الأحزاب كلها، العبء التمثيلي والسياسي وغيره، يتحمل هذا العبء مشكوراً لكن لا نعرف إذا كان هذا الأمر يفيد الأحزاب، هذه الأحزاب التي يجب أن توضع أمام وضعها الحقيقي حتى تتم معالجته.

الأمراض التي عمَّقت أو ساهمت بتعميق المشكلة:

المرض الأول: مرض مرتبط بمسألة أكبر من الأحزاب نفسها اسمه مرض الامتيازات والمكاسب. كيف؟ الأحزاب في تطورها في القرن العشرين، منذ أن ازداد وزنها النوعي بعد ثورة أكتوبر عام 1917، وبعد أن أثبتت قوتها بين الناس كان مصدر تلك القوة، القوة  المعنوية، لأن الحزب فكرة، وهذا يتطلب منه أمام جماهيره أن يكون متقشفاً زاهداً متواضعاً، وإن كان غير ذلك فالجماهير لا تمد يدها إليه. وهنا لدينا مثلث: الدولة، الأحزاب، المجتمع،  لدى أية دولة، بما فيها الدولة السوفييتية كما بينت الوقائع، ميل للهيمنة على المجتمع وعلى أحزاب المجتمع، لذلك فإن الفصل بين الأحزاب والدولة قضية هامة، لأن الدولة كجهاز مكلف بمهمة معينة نظرياً من قبل المجتمع عنده ميل لأن ينفلت دائماً من رقابة المجتمع، وبخاصة أن إمكانية الفساد والإفساد داخله قوية موضوعياً إذا أفلت من رقابة المجتمع. فمن يريد الخروج من رقابة المجتمع يهمه إفساد أحزاب المجتمع، يهمه التماهي بين الدولة والأحزاب الموجودة في المجتمع لأن الدولة في الظروف الحالية هي عبارة عن امتيازات مادية ومعنوية، بينما الحزب قوة معنوية، ولذلك عندما تضيع الحدود بين الحزب و الدولة يتضرر الحزب وتتضرر الدولة. يتضرر الحزب لأنه يفقد قوته المعنوية، وتتضرر الدولة لأنها تفقد جهازها الرقابي وجهازها التصحيحي، لأن الأحزاب هي قوة المجتمع الواعية المنظمة. ويجب أن لايفهم عند القول بضرورة فصل الحزب أو الأحزاب عن الدولة أن تترك الدولة كجهاز دون تحكم تفعل ما تشاء، بل على العكس تماماً، المقصود هنا هو التحكم بجهاز الدولة من قبل المجتمع ولصالح المجتمع إلى أقصى حد ممكن من خلال أحزاب المجتمع. ولكن حتى يقل ويخف تحكم المجتمع بالدولة تقوم القوى الفاسدة والمائلة للفساد في الدولة والتي  لديها مصلحة دائمة بذلك تقوم على دمج القوى الطليعية في المجتمع بجهاز الدولة بأشكال مختلفة وعندما تنجح عملية الدمج هذه تخرج الدولة عندها من تحت رقابة المجتمع.

الحدود بين الدولة والأحزاب

يجب الإشارة بهذا الصدد إلى مسألة كبيرة يجب أخذها بعين الاعتبار وذلك بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي حيث جرى الخلط بين جهاز الدولة والحزب، وهذا ما أضر كثيرا بالحزب لدرجة يمكن القول أنه لم يعد موجوداً، ولذلك عندما تفاقمت الأحداث وكانت هناك حاجة للدفاع عن النظام لم يكن الحزب موجوداً، لأن جهاز الدولة الفاسد أفسد القيادات الحزبية ودمجها بنفسه وهي اليوم تقود عودة  الرأسمالية في دول الاتحاد السوفييتي السابق كلها.

العمل من فوق، أو من تحت؟

المرض الثاني: عندما تكونت الأحزاب بين الجماهير، تكونت في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي معبرة عن مصالح الناس، لأنها كانت موجودة بينهم، تصوغ مطالبهم وتقف على رأس هذه المطالب بكل السبل والأشكال النضالية من مظاهرات وعرائض واعتصامات... وعندما أصبح لهذه الأحزاب وزراء وأعضاء مجلس شعب وأعضاء مكاتب تنفيذية في الإدارة المحلية تحول عفوياً مركز ثقل العمل اليومي في العمل الحزبي من تحت لفوق، تحول النضال من بين الجماهير ومن قيادة الجماهير إلى الأجهزة الرسمية مما أفقد بالتدريج خلال السنوات الثلاثين هذه الأحزاب علاقاتها وصلاتها السابقة  مع مجموع الجماهير. وبعد فترة لم تعد تعرف ما يجري على الساحة الجماهيرية. فإذا كانت لاتعرف ماذا يجري فهي بالنتيجة لن تعي ما هي مطالب الجماهير، وإذا عرفت مطالب الجماهير لم تعرف كيف يمكن لها أن تقود الجماهير لتحقيق مطالبها. وهذه المشكلة تنبثق من مسألة التماهي بين جهاز الدولة والأحزاب.

وهناك مسألة معروفة وهي أن المياه تجري بالطريق الأسهل، لذلك إذا كانت هناك قضية مطلبية يسعى ممثلو الأحزاب (طبعاً إذا حصل ذلك) لتحقيقها ليس عن طريق العمل مع الجماهير أصحاب المصلحة، أي ليس بالطرق النضالية العادية، بل بعيداً عن الجماهير التي يجب أن تدافع عن مصالحها وأن تتثقف ثقافة نضالية ثورية في كيفية دفاعها عن مصالحها. إن هذه الأحزاب كانت تحاول تحقيق هذه المطالب بالطرق السهلة، مما أضعف القدرة النضالية لهذه الأحزاب دون استثناء، ومع الوقت ومع ضعف هذه القدرة أصبحت غير قادرة على تحمل الأعباء النضالية السابقة التي كانت قادرة على تحملها والنضال من أجلها، هذا هو المرض الثاني من أمراض العمل الجبهوي.

الطريقة الصحيحة لحل الخلافات

المرض الثالث: من المعروف أن الأحزاب هي أجسام حية وتحمل تناقضات تحل عادة بالنقاش، ومن الطبيعي أن يكون فيها العديد من الخلافات، والخلاف بوجهات النظر إذا جرى بشكل صحي أو بشكل سليم فإن تأثيره الوحيد هو التقدم إلى الأمام، وعبر صراع الآراء. لكن نشأ وضع مشوه في بعض أحزاب الجبهة حيث أخذت القيادات الحزبية، بحل هذه المشكلات ليس ضمن المؤسسة الحزبية، على أساس النظام الداخلي الخاص بها، وإنما أصبحت تستمد القوة بشكل وهمي أو حقيقي من بعض أجهزة الدولة لقمع «المتمردين» عليها، أو بالأحرى المتباينين معها في الرأي، مما شوه الصراع الحزبي الذي كان مفترضاً به أن يقوي تلك الأحزاب. وبالتالي فإن هذا السلوك أضعف تلك الأحزاب وأضعف  مصداقية قياداتها ولهذا كله فإن الظرف الموضوعي من جهة، والعوامل الذاتية، الأمراض من جهة أخرى، عمّقت الهوة بين هذه الأحزاب والجماهير، وبمناسبة الحديث عن أحزاب الجبهة أقول إن الأحزاب التي تسمي نفسها أحزاب معارضة فهي من ناحية علاقتها  بالجماهير ليست بأحسن حالاً، فمن حيث علاقتها مع الناس والجماهير قد تكون مشكلتها أكبر وأعقد. لقد تناولت أحزاب الجبهة نموذجاً، لأنها نظرياً الأهم في الحركة السياسية، والأحزاب التي تسمي نفسها معارضة عندها مشكلة ولا أتفق معها بالرأي في أن ماتعرضت له من تقييد خلال الفترة الماضية هو الذي أضعفها. التاريخ أعطى أمثلة عديدة تعاكس هذا الاستنتاج. فالحزب الشيوعي البرتغالي مثلاً خرج من فترة التقييد ولديه القدرة على حشد عشرات الألوف من الناس في الشوارع، إن التقييد ليس هو الذي يقوي أو يضعف، لأنه في أوقات كثيرة نجد أن التقييد يقوي الأحزاب. كيف يتم ذلك؟ يقويه عندما يكون الظرف مواتياً. من هنا نجد أن التقييد ليس هو فقط الذي أضعف تلك الأحزاب، وهذا تبرير غير مقنع، يجب أن نعترف بأن المشكلة عند الجميع حتى نخرج منها كلنا، لذلك فأحزاب المعارضة ليست بأحسن حالاً من أحزاب الجبهة أبداً ولا تستطيع أن تحمّل مشاكلها لغيرها، المشكلة الأساسية تتحدد في برامجها وبطريقة تعاملها مع الشارع إلخ.... إذاً  هناك مشكلة حقيقية تحتاج إلى بحث جدي.

لقد لعبت أمراض العمل الجبهوي في سورية دوراً سلبياً. ولم تستطع الأحزاب أن تحصن نفسها من هذه الأمراض. ومن المعروف أن كل ظاهرة جديدة لها جوانبها السلبية، ولا يوجد في الحياة لون أبيض فقط أو أسود فقط. فالحياة حين تقدم ظاهرة جديدة تقدم معها جوانبها الإيجابية والسلبية، ولا ننكر أن الجبهة الوطنية التقدمية قد لعبت دوراً إيجابياً في حياة البلاد خلال فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، خلال معارك هامة خاضتها البلاد، ولكن وفي الوقت نفسه كان لهذه الظاهرة جوانبها السلبية. والتي لم تتم معالجتها مع الوقت فأصبحت هي الطاغية على الجوانب الأخرى. لذلك يجب معالجة هذه السلبيات من أجل استعادة دور هذه الأحزاب واستنهاضها وردم الهوة بينها وبين الشارع، ردم الهوة والقطيعة مع الشارع. وبالنسبة لنا كشيوعيين فإن الهوة بيننا وبين الشارع كبيرة لدرجة أن هذه القضية انتقلت إلى داخل الحزب، حيث أصبحت الهوة عميقة بين قواعده وقياداته، لأن القواعد في نهاية المطاف أكثر تحسساً لنبض الشارع، فهي التي تنقل التحسس بهذا النبض، وهذا الوضع أدى إلى مشكلة ثانية بين هذه القواعد وهذه القيادات، فالقطيعة بين الحزب والشارع تحولت إلى قطيعة بين القيادات وقواعدها، وكان يجب أن لا يتطور الأمر بهذا الشكل بل كان يجب إيجاد الحلول الإيجابية والعقلانية التي تسمح بنمو كل الحركة السياسية في البلاد.

استحقاقات كبيرة

واليوم نحن أمام استحقاقات كبيرة. فالولايات المتحدة الأمريكية تريد الحرب وإعادة النظر بخريطة المنطقة ككل، وفي اضعف الحالات هم مصرون على شن ُحرب كبيرة تستهدف الجميع في نهاية المطاف. وهذه الحرب لا يمكن مواجهتها إلا بقوى شعبية هائلة منظمة، وهذه القوى لا تستطيع أن تنظم نفسها بشكل عفوي بل تتطلب هذه العملية قوى وطنية تقدمية قادرة على أن تلعب الدور المطلوب في استنهاض هذه القوى، من هنا فإن السرعة في إعادة النظر بدور هذه الأحزاب المختلفة هي مسألة ملحة. هنا الحديث يتعلق بأحزاب الجبهة، ولكن من الضروري التأكيد أن الطيف الوطني في سورية هو أوسع بكثير من طيف الجبهة، حيث توجد هناك قوى وطنية خارج الجبهة، ويمكن اليوم أن يكون الظرف مواتياً للبحث عن أشكال جديدة للعمل، فالتفاهم بين كل القوى الوطنية الذي مقياس وطنيتها هو العداء للولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية بغض النظر بماذا تتفق أو تختلف في هذه القضية أو تلك من القضايا الداخلية مثل  القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية أوالقضية الديمقراطية. فالهام في الموضوع هو الاتفاق على القضية الأساسية أما بقية المسائل فهي مفتوحة للحوار والحياة تثبت صحة الرأي الأفضل في النهاية.

هذه قضية كبيرة تحتاج إلى بحث، وهناك جملة من القضايا ترتبط  ببعضها بعضاً ولابد من حلها وهي تحتاج إلى بحث معمق وهذه القضايا هي: القضية الوطنية والقضية الاقتصادية ـ الاجتماعية وقضية الديمقراطية، ثلاث قضايا أساسية تحتاج إلى حل وهي قضايا مرتبطة ببعضها ارتباطاً وثيقاً.

الخطر الآن كبير على استقلالنا الوطني وعلى كرامتنا وسيادتنا، وهذا الخطر له أشكال مختلفة، شكله الواضح هو الشكل العسكري الخارجي، وبرأيي أنه منذ فترة زمنية لا بأس بها عمل العدو بشكل ناجح داخلياً وأحياناً بشكل لانراه. وهو يعمل من أجل إضعاف الموقف الداخلي من خلال بعض القضايا الاقتصادية ـ الاجتماعية للإضرار بالموقف الوطني. فقوى السوق التي تدعو علنا ً لسياسة ليبرالية جديدة: وهي إنهاء القطاع العام والدعوة إلى الخصخصة إلخ.. وفي نهاية المطاف يصب مخططها في الاتجاه العام لقوى العولمة وتجلياتها الشرق أوسطية، فإذا كانت القضية الوطنية عندنا هي قضية النضال ضد إسرائيل وأمريكا فلا يمكن اعتبار القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية قضية مجردة، إنها قضية وطنية وعلى حلها بالشكل الصحيح يتوقف حل القضية الوطنية الأساسية.

دور المجتمع

وفي موضوع القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية تواجهنا مشكلة الفساد والنهب التي تؤثر على تطور اقتصادنا الوطني وعلى الاستهلاك الجماهيري، وقد بينت التجربة أن مشكلة الفساد التي تؤثر تأثيراً كبيرا ًفي المسألة الاقتصادية ـ الاجتماعية لايمكن معالجتها خارج إطار المجتمع. فالمجتمع وحده القادر على معالجة الفساد لأن اللصوص والفاسدين أصبح لديهم ما يكفي من الطرق والأساليب والأدوات والمهارات وهم قادرون على تنويعها وتطويرها. لذلك إذا كنا نريد متابعتهم بأجهزة الرقابة والتفتيش فإن هذه الأجهزة، حتى لو كانت جدية ومخلصة فلن تحيط بتلك الأساليب والطرق التي طورها هؤلاء لنهب الدولة والمجتمع. لذلك يجب إشراك المجتمع عامة لاجتثاث هذه الظاهرة. وإشراك المجتمع بالمعنى السياسي هو توسيع الديمقراطية حتى تصبح قادرة على أن تعبر عن هموم الناس وأن تدافع عنها، و الدفاع عن لقمة الجماهير هو دفاع عن القضية الاقتصادية ـ الاجتماعية، دفاع عن القضية الوطنية.

إن القضايا الاقتصادية ـ الاجتماعية لايمكن حلها الآن في إطار أجهزة الدولة نفسها. فهذا مستحيل موضوعياً، فالحل الصحيح للقضية الاقتصادية ـ الاجتماعية، هو الحل الوطني لها  وهذا يتطلب إشراك أوسع قدر من الناس بهذه العملية، وإشراكهم يعني العلنية والشفافية وحرية التعبير والرأي بكل هذه القضايا، هذا الأمر سيشل قوى السوق والسوء، سيشل قوى السوق والفساد وسيفضحها ويعريها ويمنعها من لعب دورها السياسي المطلوب منها في المراحل القادمة. من هنا فإن القضية الوطنية برأينا هي قضية اقتصادية ـ اجتماعية وقضية ديمقراطية. وقضية الديمقراطية هي قضية وطنية وقضية اقتصادية ـ اجتماعية. هذه القضايا الثلاث هي أضلاع ثلاثة في مثلث واحد كلها تعبر عن بعضها بجوهر واحد لقضية واحدة هي قضية الوطن والمواطن. وجوهر هذا التعبير عنه وطني، اقتصادي ـ اجتماعي، ديمقراطي وكلها مسميات لمسمى واحد، لقد نشأ اليوم ظرف تاريخي ملائم جداً يسمح للتيارات الرئيسية الموجودة، وأعني التيار اليساري والتيار القومي والتيار الديني، هذه التيارات لديها اليوم في ظل العنجهية والهمجية الأمريكية والصهيونية، الكثير مما تتفق عليه، وهي قادرة على أن تتفق موضوعياً على القضايا الأساسية المطروحة أمام البلاد.

خط الفصل

إن خط الفصل بيننا وبين الآخرين لا يمر عبر اللافتات الأيديولوجية فأحياناً نجد ماركسياً أو متمركساً في الظروف الحالية يطرح، بحجة أن العين لا تقاوم المخرز مفهوم المصالحة مع إسرائيل الصهيونية. ويمكن أن نجد بعض المتأسلمين يطرحون بحجة التعايش بين الأديان، إلى المصالحة مع الصهيونية. ويمكن أن نجد بعض أدعياء القومية في هذه الظروف الحالية يدعون للمصالحة مع إسرائيل بحجة أنه إذا إسرائيل أعادت لنا قطعة من الأرض فما مبرر الخصام معها وبالتالي يوقفون صراعنا مع الصهيونية ومع إسرائيل.

من هنا إذا أردنا أن نحدد موقفنا على أساس اللافتات الأيديولوجية اليوم، نجد أن هذا غير ممكن، إن خط الفصل كثير التعرج بين هذه القوى، إن خط الفصل الحقيقي هو موقف أي إنسان وأي مؤسسة وأي تنظيم من قضيتين أساسيتين وهما: موقفهم من الولايات المتحدة الأمريكية، وموقفهم من الصهيونية.

نحن مستعدون أن نقف مع كل إسلامي يحمل السلاح بوجه الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية ونرى أن حركات الجهاد وحماس وحزب الله أقرب لنا بكثير من بعض المتمركسين الذين يعتبرون أن قضية السلام مع إسرائيل يمكن أن تغير طبيعتها العدوانية ويدعوننا أن نجرب ذلك. من يطرح ذلك ليس ماركسياً ونحن مع الإسلاميين الذين يحاربون معنا في خندق واحد ضد العدو الرئيسي.

من جهة أخرى فجماهيرنا الشعبية لديها شحنة هائلة بمختلف تياراتها بهذا الاتجاه، اتجاه معاداة الصهيونية والإمبريالية الأمريكية. والمطلوب أن نجد في نفوسنا القوة والجدية الكافية حتى نستطيع توحيد تيارات المجتمع الأساسية في المعركة الهامة والأساسية، أي المعركة النهائية، لكن بأي معنى نهائية، معركة نهائية مع الرأسمالية العالمية، مع الإمبريالية. لماذا؟ إن الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب تدخل في طور اللعبة النهائية، إما تحقيق نصر ساحق، أو هزيمة نهائية، وهذا افتراض يستحق البحث لأنهم بمعركتهم هذه يريدون استعباد شعوب بكاملها واستئصال شعوب أخرى إذا انتصروا. لكن إذا انتصرت الشعوب، ومنطق التاريخ يؤكد ذلك، وهو ليس انتصاراً لتلك النزعة النيومالتوسية والنيو ليبرالية، إن منطق التاريخ هو عكس ذلك تماماً هو انتصار للشعوب. لكن حتى يتحقق ذلك يحتاج إلى جملة من الشروط منها موضوع ندوتنا اليوم، وهو البحث جدياً عن كيفية إعادة الأحزاب إلى السياسة، كيفية إعادة الأحزاب إلى الجماهير وكيفية إعادة الجماهير إلى الشارع. إن كل هذه القضايا تحتاج إلى حل في ظروفنا الملموسة حتى نستطيع رفع درجة مناعتنا في وجه الغزو الإمبريالي الأمريكي الكبير والجديد.

تغير ميزان القوى

أننا نمتلك كل الإمكانيات لمواجهته وتحطيمه والخروج منتصرين من معركة هامة ستغير ميزان القوى العالمي، تغييراً هاماً لم تشهد له البشرية مثيلاً منذ اندحار ألمانيا النازية عام 1945 وتكون منظومة الدول الاشتراكية. إن هذا المنطق ليس منطقاً تفاؤلياً رومانسياً، بل هو منطق مبني على المعطيات الواقعية وعلى دراسة حدة التناقضات وطبيعتها في عالم اليوم، وعلى قدرة القوى الوطنية والتقدمية والثورية الكامنة فيها إذا مااستطاعت أن تستغل هذه الإمكانات الموجودة لديها، إذاما استطاعت تحريك الاحتياطات الموجودة عندها، ولابد هنا من أن نلاحظ أن عدونا يستخدم احتياطاته القصوى، وأما نحن فإلى الآن، كقوى وطنية وتقدمية وثورية لم نستخدم إلا جزءاً ضئيلاً من إمكانياتنا.

إن المعركة القادمة هي معركة حاسمة.

 

 

ردود الدكتور قدري جميل

على أسئلة الحضور

 

القضية الأولى: وهي أن الجماهيرلا تتحمل مسؤولية القطيعة أو الهوة الحاصلة بينها وبين الأحزاب. الصحيح هو أن هناك هوة بين الجماهير والأحزاب وصلت إلى درجة القطيعة بين بعض الأحزاب وجماهيرها، وتكون بأحسن حالاتها في درجة الجمود والترهل عند البعض الآخر/ من الأحزاب/.

الجماهير لا تقع عليها المسؤولية لأنها سبقت كل أحزابها، والمشكلة عند هذه الأحزاب اليوم هي: عدم قدرتها على اللحاق بالجماهير، وعدم قدرتها أيضاً أن تعبر عن مصالح هذه الجماهير، فالجماهير مضربة عن أحزابها أو مقاطعة لها بسبب أن هذه الأحزاب لا تعبر عن مصالح هذه الجماهير.

ولذلك، إذا أردنا أن نلخص المشكلة بتوصيف بسيط وهي أن: هناك موجة إرسال وأخرى موجة استقبال، الأحزاب ترسل والجماهير تستقبل، هكذا، واليوم صارت الجماهير تسمع أو تستقبل على موجة F.M. والأحزاب ما زالت ترسل على الموجة الطويلة أو المتوسطة، ولذا «ما عاد حدا سمع حدا»... بالرغم من أن الخط صحيح ومبدئي ومضبوط أحياناً، لماذا؟  لأنه /بالممارسة/ هذا الخط وهذه السياسة لا يتجسدان بصورة  ملموسة، وهذا يؤدي إلى تكريس الهوة، ويخلف ما يسمى: الهوة بين القول والفعل، بين النظرية والتطبيق، وهذا يعني أن هناك هوة بين الأحزاب والجماهير. فالجماهير تقف في المقدمة والأحزاب تقف في الخلف، أن هذه المسألة واضحة ومفهومة، فالأحزاب لاتسير بشكل جيد أو في مقدمة الجماهير، لذلك فالمطلوب من الأحزاب اليوم أن ترتقي إلى مستوى جماهيرها، لأن الجماهير لا تستطيع أن تعبر عن معاناتها ومشاعرها وأهدافها بشكل سياسي، فهذه القضية هي مهمة الأحزاب السياسية التي من المفروض أن تعبر عن هموم الجماهير وأهدافها وتدافع وتناضل وتقود هذه الجماهير، لدى جماهيرنا- وهذا الاستنتاج قياساً على الأوقات الماضية- شحنة هائلة، هذه الشحنة معادية للإمبريالية العالمية والصهيونية، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.. فهل يمكننا أن نقول عن هذه الجماهير إنها متخلفة وأن الحق يقع عليها، المسؤولية تقع على الذين لا يعرفون كيف ينظمون قوى هذه الجماهير ويقودونها، ويحققون من خلال هذه الشحنة التقدم المطلوب للحركة السياسية.

القضية الثانية: الجبهة كانت ضرورة تاريخية في حينها، والأحزاب التي شكلت الجبهة كانت كلها أحزاب حقيقية في حينها، لعبت الجبهة دوراً هاماً في حياة البلاد السياسية، لكن ما يهم الآن ليس التغني بهذا الماضي المجيد والعيش عليه، إن ما يهم الآن هو المظاهر السلبية في الجبهة والعمل على علاجها وهذه الظواهر السلبية لم تكن في السابق إلا نقاطاً صغيرة عندما تكونت الجبهة، وتحولت الآن إلى ظاهرة سائدة تغطي على عمل الجبهة كله ولذلك فإن ما يهم اليوم هو المعالجة. والمعروف أن كل قضية لها جوانبها الايجابية وجوانبها السلبية، والجوانب السلبية إذا لم تعالج في حينه ويتم التحكم بها فيمكن أن تتحول إلى عنصر مهيمن ولذلك عندما ننتقد اليوم فليس من اجل فرط التحالف بين القوى السياسية نحن ننتقد من اجل التوصل إلى أسس صحيحة مستندة إلى تجربة الماضي ومن ثم تطوير هذه التحالفات بما يخدم قضية الوطن، هذا هو هدف الانتقاد. وغير ذلك ليس صحيحاً.

ليس هناك عاقل يمكن أن يتصور أن هناك حزباً سياسيا يمكنه أن يناضل دون تحالف والجبهة على هذا الأساس كانت أحد أشكال هذا التحالف، هذه التجربة كلنا سنشارك في تقييم هذه التجربة، لكن الآن في هذه اللحظات المصيرية مطلوب منا جميعاً وحدة وطنية شاملة، ومطلوب السير نحو الأمام لمواجهة كل المخططات التي تحاك من حولنا.

ولذلك فالسؤال هو: كيف يمكن أن نطور التحالف الوطني؟ .. المشكلة أن بعض أحزاب الجبهة والتي تعيش بفضل الامتيازات المعنوية والمادية ووصلت إلى درجة أنها لا ترى أية قوة سياسية غيرها على الساحة ولم تعد ترى ماذا في الشارع من تغيرات سياسية فهي أغلقت على حالها ضمن أربعة جدران ولا تريد من احد أن يعمل، أن يبحث، أن يبادر، وهذه مشكلة. إن الجبهة ليست فكرة استنفدت نفسها لأن هذه الفكرة دائمة ومستمرة وخاصة على أرضية النضال الوطني المعادي للإمبريالية والصهيونية والرجعية وبهذه الظروف الحالية فهذه الفكرة لا يمكن أن تستنفد.

وإذا أنتقدت فهذا لا يعني نسفها لأنه لو كان الأمر كذلك فهناك سؤال ينبغي الإجابة عنه وهو: من هي القوى البديلة؟ وفي الواقع لا قوة بديلة إذ أن هذه القوى غير موجودة والقوى البديلة فعلا هي قوى المجتمع بأسره وبالتالي القوى المختلفة سواء كانت داخل الجبهة أو خارجها كقوى وطنية يجب أن تلعب دوراً حقيقياً في حياة البلاد، وبالتالي ليس هناك أحد من هذه القوى شاذ عن الانتماء الوطني – كلها في خانة الوطن- أما الذين هم خارج الإطار الوطني فهم قوى معادية غير وطنية، وهذه القوى التي لا تمثل مصالح الوطن هي قوى الليبرالية الجديدة، قوى السوق المرتبطة مع الاحتكارات العالمية التي هي نفسها لا تريد القطاع العام.

والمشكلة أن القطاع العام عندنا واقع بين حدين، بين الحرامية الذين ينهبونه بشكل مستمر وبين قوى السوق والسوء التي تنادي: دعوه يمت، لقد أعطى الحرامية- الذين ينهبون- المبرر لقوى السوق والسوء لأن تقول هذا القول.

إن المطلوب منا هو أن لا نقع بين النارين - نار الحرامية ونار قوى السوق والسوء-، فقوى السوق والسوء التي تطالب «دعوه يمت» بحجة أن هذا القطاع العام لم تعد منه فائدة وقوى الفساد/الحرامية/ التي ترى فيه بقرة حلوباً. المطلوب أن نكوّن خياراً ثالثاً كقوى وطنية ضد هذين الخيارين السيئين، لأن  قوى الفساد التي تنهب قطاع الدولة وقوى السوق متحالفان من اجل خنقه شيئاً فشيئاً وإجهاضه ومن ثم إنهائه.

إذا كان هناك من أحد يظن أنه في العالم الثالث، إذا ما أخذنا بالليبرالية الاقتصادية، أنها ستجلب ديموقراطية سياسية فهو واهم وغلطان جداً. صحيح في بلدان الغرب / بلدان العالم الأول/ الليبرالية الاقتصادية جلبت معها ديموقراطية سياسية أما في العالم الثالث فقد أتت الليبرالية الاقتصادية دائماً بقمع سياسي وتقييد للحريات الديموقراطية، لماذا؟لأن الليبرالية السياسية في العالم الثالث /كنموذج/ منقولة عن الغرب وهدفه عملياً زيادة نهب الشمال والجنوب وزيادة نهب الجنوب تعني إفقاره أكثر، وزيادة إفقاره تعني زيادة التوتر الاجتماعي وبما أن مصلحة النهابين أن يكموا أفواه المنهوبين فلا مناص إذاً من تقييد الحريات والقمع السياسي.

ليس بمقدور احد أن يعطي مثالاً عن أن الليبرالية الاقتصادية في العالم الثالث قد ترافقت مع ديموقراطية سياسية لذلك فإن مقولة أن الليبرالية الاقتصادية في العالم الثالث تنتج ديموقراطية سياسية هي مقولة غير صحيحة بالمعنى العلمي والتاريخي القريب والبعيد إذن هذه المقولة أكذوبة.

إن كون القطاع العام منهوباً وكون قوى الفساد تستند إليه من اجل تركيز سلطتها لا يعني ذلك أبداً أن تقطع رأسه بدلاً من مداواته، وذلك من أجل تخليصه من المرض، فالمريض يجب أن يعالج لا أن يقطع رأسه. فالمفروض علاج المشكلة في هذا القطاع لا تدميره.

وإصلاحه في الدرجة الأساسية هو في تخليصه من الفساد والنهب الذي يتعرض له، هذه العملية التي أصبحت تعيق تطور الاقتصاد الوطني كله، فلم تعد ثمة إمكانية لتوسيع الاستثمارات ولا توجد إمكانية لتحسين مستوى معيشة الناس بسبب حجم النهب الكبير لقطاع الدولة.

وهنا يجب أن نلحظ أن بعض المستفيدين في قطاع الدولة وخلال السنوات الماضية عرفوا كيف يخلقون آليات للنهب متطورة ومتغيرة وسريعة بشكل لم يعد بمقدورنا متابعتها وملاحظتها وفتحوا قنوات مع قوى السوق حتى يستطيعوا أن يبيضوا المليارات التي نهبوها وإن تمكنوا أن يغيروا كل شيء فهم لن يترددوا!!

وهذا ما جرى للإتحاد السوفييتي، إذ أن قوى النهب في الاتحاد السوفييتي، والذين أصبح لديهم أموال كثيرة جداً /نتيجة نهبهم للدولة- وهي أموال غير مشروعة/ هم الذين كانوا حفاري قبر الاتحاد السوفييتي لأنهم سوف يحاسبون في ظل نظام اشتراكي، ولكن في ظل نظام جديد بمقدورهم تشغيل أموالهم والمفارقة تُفهم الآن والرؤية تصبح أوضح عندما نرى ونشاهد أن حكام روسيا والجمهوريات الاشتراكية السابقة اليوم هم أنفسهم آخر قيادات الاتحاد السوفييتي، هم أنفسهم لم يتغيروا هم نفس الأشخاص، تلك هي القصة. قوى الفساد في ظل السلطة السوفييتية غيرت النظام حتى تبيض أموالها وتصبح هذه الأموال بالتالي أموالا" مشروعة في ظل النظام الجديد.

ولدينا هنا في بلدنا قوى فساد هائلة يجب مقاومتها، وأنا أقول مقاومتها ليس من باب أن المسألة هي اقتصادية اجتماعية تتعلق بلقمة الناس فحسب ، بل لأن هذه القضية هي قضية وطنية تمس بشكل مباشر صمودنا وهي قضية ديموقراطية أيضاً فلا يمكن أن تتم إلا إذا أنطلقت الجماهير صاحبة المصلحة في مواجهة هؤلاء النهابين الفاسدين، وهذا يتطلب أن يسمح للجماهير بأن تدافع، وبأشكال مختلفة، عن مصالحها وبمعنى أدق إطلاق الحريات الديموقراطية للجماهير، لأن الجماهير تثبت الخط الوطني وتعمل على حل القضية الاقتصادية الاجتماعية بشكل صحيح معاد لمصالح النهابين وهذا حق من حقوق الجماهير وهو الدفاع عن مصالحها الاقتصادية الاجتماعية والوطنية.

هذا كله يتطلب إصلاحاً فالتحديث والتطوير يجب بحتهما ككل متكامل. فلم يعد موجوداً إصلاح اقتصادي بشكل مجرد ولا إصلاح سياسي لوحده الإصلاح مفهوم متكامل له جوانبه المختلفة ويستحيل اليوم أن نبدأ بإصلاح اقتصادي دون إصلاح سياسي والإصلاح السياسي اليوم وبالظروف الحالية يجب أن يستند إلى تطوير نظام الانتخابات الحالي الذي نعمل عليه منذ خمسين عاما، كما يجب أن يستند إلى قانون أحزاب ينظم الحياة السياسية في البلاد، وبحسب المنطق العقلاني السليم فإنه سيحدث في نهاية المطاف عاجلاً أم آجلاً.

إن تغيير النظام الانتخابي سيفعل الحياة السياسية في البلاد والمجتمع، سيظهر القوى السليمة ويخلق حالة صحية ويعزل قوى الفساد وقوى السوق وهذه العملية يجب أن تأخذ مداها وبعدها، ولكن حتى نعيد السياسة للمجتمع شيئاً فشيئاً نحتاج لأدوات، آليات، وهذه إحداها، لذلك فإن قضية الديمقراطية والقضية الوطنية والوضع الاقتصادي الاجتماعي هي أوجه لعملة واحدة في نهاية المطاف.

إن المسألة ليست في أن أمريكا دولة قوية أو ضعيفة، و لينين قال: أن انهيار الرأسمالية لا يتم لأنها ضعيفة، بل يتم لأنها قوية بسبب اشتداد تناقضاتها.

وإذا رجعنا للأبحاث الأمريكية مؤخراً /بول كندي حول انهيار الإمبراطوريات الكبرى/، فكل الأبحاث تؤكد بأن الإمبراطوريات انهارت في لحظة قوتها وليس بلحظة ضعفها، واليوم، الأمريكان هم بهذه الحالة، لذلك فالقوة ليست دليل الاستمرارية، فالقوة يمكن أن تكون العكس، أن تكون مؤشراً جديداً عن حالة الانهيار، قد تكون دليل تناقضات كبيرة، يعني ليست القوة الظاهرية هي التي يجب أن تعكس قوة حقيقية وبمعنى آخر ليست القوة الظاهرية- بالضرورة- تعكس حجم التناقضات الحقيقية، فالقوة الظاهرية يمكن أن تكون انعكاساً لشدة تناقضات غير ظاهرة، لقوة التناقضات الموجودة في الظاهرة التي يمكن أن تفجرها، أن مشكلة أمريكا ليست أنها قوية أو ضعيفة، المشكلة في تناقضاتها التي لا حل لها، والتي تفتح لنا آفاقاً كبيرة.

...وحول الأحزاب، الأحزاب السياسية فإن بعضها لا يعمل بالسياسة، ماذا يعني لا يعمل بالسياسة ؟؟ إذا كانت السياسة تعبير مكثف عن الاقتصاد، وإذا كان الاقتصاد هو مصالح الناس ومصالح الفئات والشرائح الاجتماعية والطبقات، فإذا كان حزب ما لا يعبر عن مصالح الناس الذين يدعي أنه يمثل مصالحهم، وأصبح شغله الشاغل /عوضاً عن ذلك/ أن يدبر حاله وحال كوادره من خلال المكاسب والامتيازات، فأين التعبير عن مصالح الناس، وأين هو العمل السياسي، عند ذلك يفقد دوره الوظيفي.

هذه مسألة كبيرة تحتاج إلى حل جذري ، ولذا فإن ثقة الناس بالأحزاب السياسية لن تتكون من جديد إلا عندما ترى هذه الجماهير أن هذه الأحزاب وقياداتها متقشفة وزاهدة ولا تركض وراء المكاسب والامتيازات، وبغير ذلك لا يمكن استعادة ثقة الجماهير بالأحزاب وبالعمل السياسي وبقيادات هذه الأحزاب.

بهذه الحالة يمكن أن تعود ثقة الناس بالأحزاب، وعلى فكرة فإن هذا الأمر ليس بجديد، فمنذ فجر التاريخ إلى اليوم، الذي يريد أن يعمل كقوة معنوية في المجتمع/الأحزاب السياسية قوة معنوية/ يجب أن يكون في مقدمة الناس ونظيفاً.

آن الآوان لبحث هذه القضية وحلها. صحيح أنه لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية لكن من الممكن أن يكون هناك نظرية ثورية بدون حركة ثورية،فالنظرية الثورية شرط ضروري للحركة الثورية، ولكنها ليست الشرط الكافي لوجود الحركة الثورية، والمشكلة اليوم هي: الأفكار والنظرية موجودة، ولكن الأداة هي غير موجودة، لذلك يجب السعي إلى تكوين تلك الحركة الثورية القادرة على التغيير والبناء الصحيح وهذا هو المطلوب منا في الظروف الحالية.

حول الفراغ السياسي، لا وجود لفراغ سياسي، لأنه يوجد فرق بين فراغ سياسي وبين الهوة القائمة بين الجماهير والأحزاب، ثم من الذي قال أن الجماهير لا تعمل بالسياسة الآن، يوجد فراغ بين الأحزاب والجماهير، في العالم كله لا يوجد فراغ سياسي، الطبيعة والمجتمع لا يحبان الفراغ، فهما تملآنه بأشكال أخرى قد تكون غير صحيحة، مشوهة، ليست كافية، هذا أمر آخر، ولكن لا يوجد فراغ سياسي في سورية.

عندما تراجع دور الأحزاب وصار فراغ في الساحة، امتلأ هذا الفراغ بأشكال أخرى وأهم شكل امتلأ فيه، أن المجتمع رجع إلى الأشكال ما قبل السياسية وبخاصة في العلاقات الاجتماعية، علاقات طائفية، قبلية، عشائرية، نمت هذه العلاقات، ونمو هذه العلاقات بحد ذاته هو دليل على تراجع الحركة السياسية، لذلك فإن تقدم الحركة السياسية هو الكفيل بإزاحة هذه الأشكال المتخلفة، ولذلك لا يوجد فراغ.

توجد تنظيمات لكن لا توجد أحزاب، توجد فصائل، لكن لا توجد أحزاب، لأن الحزب بالمعنى العلمي هو وظيفة، أو ذو وظيفة في المجتمع، وبهذا المعنى فالأكثرية الساحقة من الأحزاب هي أسماء أحزاب، هي ليست أحزاباً بالمعنى الاجتماعي، بالمعنى الوظيفي.

 نحن حالة خاصة، وقد توقع البعض قياساً على تجارب الماضي أن نخرج بحزب جديد، نحن قلنا: لا. نحن لا نريد أن نكون فصيل إلى جانب الفصائل الموجودة، وأعلنا أننا نسير باتجاه التوحيد، ولا نقصد بالتوحيد توحيد القيادات، التوجه هو توحيد الحركة، توحيد التيار، وشتان ما بين هذا وذاك، تيار التوحيد يقوى إن التحقت به القيادات فأهلاً وسهلاً، وأن لم تلتحق فتكون قد وضعت نفسها خارج الحياة السياسية، هكذا نفهم نحن المسألة، فعندما أعلنا: «لا انقسام ولا استسلام»، شكك البعض، لأنه قياساً على التجارب السابقة أنه كلما اختلف واحد مع قيادة حزبية يخرج ويعمل حزب لحاله، نحن رفضنا هذا المنطق لأننا اعتبرناه إساءة للوحدة الوطنية وإساءة لوحدة الشيوعيين السوريين، وعملنا بطريق ثان، وحتى الآن هناك الكثير ممن لم يدرك هذه القضية وكيف تجري، ويرددون: هل صحيح أنكم لا تريدون أن تخرجوا بفصيل رابع؟؟

نحن نريد حزبا بالمعنى الذي ذكرته سابقاً، في سورية لا يوجد حزب شيوعي، توجد فصائل شيوعية، يوجد أمناء عامون لفصائل، لكن حزباً شيوعياً بالمعنى السياسي غير موجود، لذلك فتوحيد الشيوعيين من أجل إعادة بناء حزبهم الذي تهشم خلال الـ 30 عاماً الماضية أمر ضروري بل حيوي، وإعادة بنائه هذه عملية تحتاج إلى جهود ووقت حتى تصل إلى مداها، وهذه العملية تجري من تحت إلى فوق، فإن أهل الـ فوق التحقوا فأهلاً وسهلاً ، ونحن لا نضع فيتو على أحد، وعاجلاً أم آجلاً سيصل الشيوعيون إلى توحيد حزبهم.


 



#قدري_جميل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المأزق الأمريكي.. من الانهيار الاقتصادي.. إلى الانتشار العسك ...
- الإصلاح الاقتصادي بين الأبيض والأسود
- وجهة نظر حول تطوير وتفعيل دور الجبهة الوطنية التقدمية: الظرو ...
- من أجل نظام انتخابي فعَّال ومتقدم
- النمو والنهب.. ضدان لايجتمعان
- إزالة الخلل بين الأجور والأسعار.. ضرورة للإصلاح الاقتصادي
- العولمة بعد 11 أيلول 2001 شلالات الدم.. لن توقف الانهيارالرأ ...
- الاشتراكية حلمٌ وعِلمٌ


المزيد.....




- -أرض العجائب الشتوية-.. قرية ساحرة مصنوعة من كعكة الزنجبيل س ...
- فيديو يظهر ضباط شرطة يجثون فوق فتاة ويضربونها في الشارع بأمر ...
- الخارجية اليمنية: نعتزم إعادة فتح سفارتنا في دمشق
- تصفية سائق هارب اقتحم مركزا تجاريا في تكساس (فيديو)
- مقتل 4 أشخاص بحادث تحطم مروحية تابعة لوزارة الصحة التركية جن ...
- -فيلت أم زونتاغ-: الاتحاد الأوروبي يخطط لتبنّي حزمة العقوبات ...
- مقتل عنصر أمن فلسطيني وإصابة اثنين آخرين بإطلاق للنار في جني ...
- بعد وصفه ضرباتها بـ-الوحشية-... إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب ...
- أكاديمي إسرائيلي: بلدنا متغطرس لا تضاهيه إلا أثينا القديمة
- كيف احتمى نازحون بجبل مرة في دارفور؟


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - قدري جميل - واقع الحركة السياسية وآفاقها