عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1993 - 2007 / 7 / 31 - 11:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
( 00 قلنا فيما تقدم : إن محمد كان يريد من قومه أن يكون عندهم مقدساً مطاعاً لأن النهضة التي يريد إحداثها للوصول إلى غايته لا تتم ولا تستمر بعده إلا بذلك , وذا كان يحرص كل الحرص على أن يتبعوه فيكون قدوتهم المقدسة ومرجعهم الوحيد في كل شيء 0
يدل على ذلك ما أخرجه أحمد وغيره عن عبدا لله بن ثابت , قال :جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله فقال : يا رسول الله , إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ فتغير وجه رسول الله , فقال عمر : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا ً , فسري عن رسول الله وقال : والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لظللتم , إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين (1) 0
فانظر كيف تغير وجه لمّا رأى عمر معجباً بالجوامع التي كتبت له من التوراة , لأنه يريد أن لا يراه إلا معجباً بالقرآن وحده , ولا متبعاً إلا إياه , ولا معتمداً إلا عليه , وكان من طبعه أن يتغير وجهه إذا سمع شيئاً يكره أو كلاماً يزعجه ويؤلمه , ولكن عمر عرف لماذا تغير وجهه , ولذا بادره بما ينفي إعجابه بالتوراة ويثبت أنه لا يبع إلا محمداً إذ قال له : (( رضينا بالله ربًا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا ً )) , ثم أنظر كيف سري عنه وانكشف ما بوجهه من تغير لمّا رأى عمر قد رجع عمّا قاله , وترك ما جاء به من جوامع التوراة , وكطيف قال له إنه لا نجاح ولا هداية لهم إلا باتباعه , , وأنهم لو كان موسى حاضراً واتبعوه لضلوا , وأكد له ذلك بما مضمونه ( أنتم لي وأنا لكم ) ولهذا السبب , أي لكونه / 656/ يريد أن يكون مرجعهم المقدس ومتبوعهم المطاع في الأمور كلها , كان يتغاضى عمّا يفعلونه أحياناً من ابتدارهم وضوءه , وتبركهم ببصاقه , وأخذهم شعر من رأسه , وشربهم دم حجامته ونحو ذلك من الأمور , ولا ريب أن هذه الأفعال منهم كانت جديرة بأن تعد غلوهم فيه , غير أن غلوهم هذا كان , والنبي حي بين أظهرهم , قد وقف هذا الحد ولم يتجاوزه إلى ما هو أعظم ولكنه بعد وفاته أخذ يتعاظم ويتفاقم كلما مرّ عليه الزمن حتى بلغ ما يناقض ما جاء به محمد من كتاب وسنة 0
ونحن نريد هنا أن نتكلم عن هذا الغلو الذي حصل بعد وفاة محمد , وقبل ذلك نقول : إن محمداً لم يرد لنفسه من كل ما جاء به إلا أمراً واحداً وهو الذكر الخالد مع التقديس , ولذا قرن اسمه باسم الله , وجعل الدخول في الإسلام لا يتم إلا بشهادتين , شهادة أن لا إله إلا الله , وشهادة أن محمداً رسول الله , مع أن الشهادة الأولى تتم بها الدعوة إلى الله , فهي وحدها كافية لهدم الوثنية وإقامة دين التوحيد , ولكنه لم يكتف بها بل وجعل الإسلام لا يتم إلا بالشهادة الثانية معها كما يدل على ذلك قصة إسلام أبي سفيان يوم الفتح 0
ذلك أن محمداً خرج من المدينة في عشرة آلاف يريد مكة , فلما بلغ مر الظهران ( موضع على مرحلة من مكة ) , نزل به فجاءه عمّه العباس بأبي سفيان بن حرب حتى أدخله على رسول الله , فقال له رسول الله : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ قال : بأبي وأمي أنت ما أحلمك , وما أكرمك وأوصلك لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عنس شيئاً بعد (1) 0
إن أبا سفيان في كلامه هذا قد اعترف بأنه لا إله إلا الله /657/ ولكن محمداً لم يكتف منه بذلك بل قال له : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي , أما والله هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئاً (2)0
وفي رواية : أن بديل بن ورقاء وحكيم بن حزام كانا مع أبي سفيان لما جاء به العباس , وأن العباس قال : يا رسول الله , أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد أجرتهم , وهم يدخلون عليك , فقال رسول الله : أدخلهم , فدخلوا , فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم عن أهل مكة , ودعاهم إلى الإسلام فقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله : اشهدوا أني رسول الله , فشهد بذلك بديل وحكيم بن حزام , وقال أبو سفيان : ما أعلم ذلك والله , إن في النفس من هذا شيئاً فأرجئها ( أي أخرها إلي وقت آخر ) , فقال العباس لأبي سفيان : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأم محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك , فشهد شهادة الحق وأسلم (3) 0
لا ريب إن إقرار أبي سفيان بالشهادة الثانية لم يكن إلا من الخوف حيثي هدده العباس بضرب عنقه , ومهما يكن فإن هذه القصة تدل على أن الإسلام لا يتم بشهادة لا إله إلا الله بل لا بد مع ذلك من شهادة أن محمداً رسول الله 0
وبذلك صار المسلمون يذكرون محمداً ويتعبدون بذكره في صلواتهم وعلى مآذنهم في كل يوم خمس مرات , وكفى بذلك ذكراً خالداً مقدساً يدوم إلى ما شاء الله 0
وفي السيرة الحلبية : قال رسول الله : سألت ربي مسألة وودت إني لم أكن سألته , سألت ربي : اتخذت إبراهيم خليلاً , وكلمت موسى تكليماً , فقال : يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك , وضالاً فهديتك /658 / , وعائلاً فأغنيتك وشرحت لك صدرك , ووضعت عنك وزرك , ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي (1)0
وفي السيرة الحلبية أيضاً عن الزهري قال : نهى رسول الله عن أكل ما يذبح للجن وعلى اسمهم (2) 0 وأما ما قيل عند ذبحه بسم الله واسم محمد فحلال أكله , وإن كان القول المذكور حراماً لإيهامه التشريك , وهذا من جملة المحال المستثناة من قوله تعالى : (( لا أذكر إلا وتذكر معي )) , فقد جاء : أتاني جبريل فقال : إن ربي وربك يقول لك : أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله أعلم , قال : لا أذكر إلا وتذكر معي 0 أقول : إن كان ذكرا سم محمد عند الذبح حراماً لأنه يوهم التشريك , فإن محمد مع الله في قوله : (( لا أذكر إلا وتذكر معي )) يلزم أن يكون حراماً لأنه يوهم التشريك أيضاً , غاية ما هناك أنه في الأول تشريك في الذبح , وفي الثاني تشريك في الذكر 0
ولا ريب أن الذكر الخالد مع التقديس الذي أراده محمد لنفسه قد تم له على أحسن ما يرام , إذ صار المسلمون من بعده يذكرونه كما قلنا آنفاً في صلواتهم الخمس وفي الشهادتين وفي سائر أوقاتهم مقروناً بالصلاة والتسليم 0
وكأن محمداً شعر بأن المسلمين من بعده سيغلون فيه غلوهم , وسيخرجون به إلى ما فوق البشرية , وهو لا يريد ذلك , فقال : لا تطروني كم أطرت النصارى عيسى ابن مريم , فإنما أنا عبد , فقولوا : عبدا لله ورسوله (3) , ولم يكتف بذلك بل صرّح بأنه بشر في موضعين من القرآن , في سورة الكهف , وفي سورة السجدة : ( قل إنما أنا بشر مثلكم ) (4) , فقد أكد في هذه العبارة بشريته تأكيدين بإنما ومثلكم , إلا أن المسلمين أبوا إلا أن يخرجوا به عن ذلك / 659/ , فمن غلوهم فيه أنه ليس لشخصه ظل , قال الحلبي في سيرته : إن ظل شخصه الشريف كان لا يظهر في شمس ولا قمر لئلا يوطأ بالأقدام , وإنه كان لا يقع عليه الذباب (5) 0
ومن ذلك أنهم اختلفوا بين مكة والمدينة في أيهما أفضل , فمنهم من فضل مكة على المدينة , ومنهم من فضل المدينة على مكة , واتفقوا على استثناء المحل الذي دفن فيه , فإن الحلبي في سيرته بعدما ذكر الخلاف قال : والكلام في غير ما ضمّ أعضاءه الشريفة من أرض المدينة, وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع , بل حتى من العرش والكرسي (1)0 ومعلوم أن العرش مقر الله كما في القرآن : ( الرحمن على العرش استوى ) (2) 0 فقد جعلوا المحل الذي دفن فيه محمد أفضل من عرش الرحمن بأي معنى كان 0
وقد جاء في القرآن في سورة الإسراء : ( ومن الليل فتجهد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) (3) , معلوم أن المقام المحمود هو المقام الذي يحمده القائم فيه , ويحمده كل من رآه وعرفه , وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات , ولكن المسلمين اختلفوا فيه واغلوا فيه غلواً حتى حدثت فتنة كبيرة في بغداد بسبب هذه الآية , فقالت الحنابلة : معناه يجلسه على عرشه , وقال غيرهم : بل المقام المحمود هو الشفاعة العظمى في فصل القضاء , فدام الخصام بين الفريقين إلى أن اقتتلوا فقتل منهم خلق كثير كما في السيرة الحلبية 0(4)
ومن غلوهم فيه أن عورته إذا انكشفت لا ترى 0 قال الحلبي في سيرته وفي الخصائص الصغرى : إنه لم ترَ عورته قط , ولو رآها أحد طمست عيناه , قال : لأنه لا يلزم من كشف عورته رؤيتها (5) 0/660/ 000) يتبع 0
(1) مسند أحمد , مسند المكيين , الحديث رقم : 15303؛ مسند الكوفيين , الحديث رقم : 176130
(1) السيرة الحلبية : 3/ 79 0
(2) نفس المصدر 0
(3) السيرة الحلبية , 3/ 79 – 80
(1) السيرة الحلبية , 3/97 0
(2) السيرة الحلبية .3/98 0
(3) صحيح البخاري , أحاديث الأنبياء رقم : 3189 , الحدود , رقم : 6328 , سند أحمد , سند العشرة , رقم : 149 , 159 , 313 , 368 , رقم 6328 , سنن الدرامي , كتاب الرقاق , رقم : 2665 0
(4) سورة الكهف, الآية: 110 ؛ سورة فصلت , الآية : 6 0
(5) السيرة الحلبية , 3/ 302 0
(1) السيرة الحلبية , 3/ 3660
(2) سورة طه , الآية : 20
(3) سورة الإسراء , الآية : 79 0
(4) السيرة الحلبية , 1/ 400 0
(5) السيرة الحلبية , 3/ 302 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي -
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟