لكي أتحاشى التقريرية المملة للقارئ بكتابة مشاهداتي الشخصية في العراق، استعنت بهوايتي القديمة بكتابة القصة، لعلي بذلك أستطيع أن أقول أكثر مع إضافة بعض الحس الإنساني والفني لهذا التقرير.
[email protected]
من 7 آب إلى 7 أيلول 2003
بدأ الجو يزداد برودة في حديقة منزل صديقي ذو اللسان الجارح، فأيام آب يبرد الجو في الليل، وبدأت قطيرات الندى تتجمع فوق أوراق الثيل الذي يزيد بدوره من برودة الجو، هدأ صاحبي بعد أن أفرغ ما بداخله من غضب على الأوغاد والعرب سماسرة الدين والمرتزقة، كنا جميعا قد تركنا الطاولة التي كانت في الحديقة وإفترشنا الأرض، فبدا الجو أكثر برودة آن ذاك، أما الآن في الثانية بعد منتصف الليل فالجو أصبح باردا ولو كان أبرد بقليل لكان لزاما علينا أن نرتدي ملابس أثقل.
فسألته، ماذا تقصد بسماسرة الدين والمرتزقة؟ ومن هم؟
أتعرف إن السلفيون قد دخلوا العراق بنفوسهم الحاقدة المريضة، هم وعرب آخرون يدفعون لهم بالدولار عن أعمال العنف التي يقومون بها؟ إن لكل منهم راتب شهري لا تعرف من يدفعه لهم، كان العرب الذين جاءوا بعد سقوط النظام لأنهم مخدوعون، أما هؤلاء ليسوا كذلك، فإما مؤمن بحقد طائفي كالسلفيين أو مرتزق يعمل بالقتل مقابل مبلغ مالي يدفع له.
رغم إني كنت أعرف بهذه المعلومات لكني لم أكن أتصور إن الجميع يعرفوها هناك، فالسلفي الذي يصل إلى مرحلة يسب بها الإمام علي عليه السلام، فإن راتبه يصل إلى خمسمائة دولار شهريا إذا كان عراقيا، وهذه مرحلة متقدمة وبلوغ درجة عالية من مراتب تنظيم السلفيون، أما العرب الآخرون فإن لهم رواتب أكبر من ذلك بكثير.
لم يبقى من المائدة شيء إلا بقايا قليلة من الطعام، فلم يستطع أحد منا أن يحمل شيئا من الأطباق الفارغة على الإطلاق. كانت الساعة قد قاربت على الثانية صباحا، فجاءت مضيفتنا التي كانت آن ذاك قد نامت على أريكة في مطبخها، جاءت وهي تخفي إنها تفرك بعينيها لترفع الصحون، أنا شخصيا كان بودي لو حملت شيئا معها ولكن خشيت أن أكسر الأطباق، وعندها سيكود وضعي محرجا جدا، فتعوذت بالشيطان ولم أثبت لها إني شهم أو من أنصار المرأة.
كان الزحام شديدا قبل الوصول إلى جسر ديالى المؤقت بعد قصف القديم، كانت السيارات متوقفة تماما ونحن على بعد ما يقرب من كيلو متر عن الجسر، استوضح السائق من بعض السيارات العائدة فعرفنا إن الشرطة الحديثة العهد بتنظيم المرور قد فشلت تماما في ضبط الحركة على الجسور الأربعة البديلة لأن سواق السيارات لم يعيروهم اهتماما كونهم مؤدبون جدا.
إنهم لم يعلموا الشرطة الجدد غير مسألة احترام الناس ولم يعلموهم استعمال السلاح، قالها السائق ساخرا من الشرطة الجديدة، فظننته يمزح وسألت
أتمزح أنت؟
والله لن أمزح، لا أحد يحترمهم ما لم يكونوا أكثر خشونة مع الناس، كأن العراقي قد تعلم على المعاملة الخشنة.
قرر السائق العودة إلى بغداد والذهاب إلى البصرة عن طريق المحاويل، الصويرة ومن ثم إلى العزيزية.
قال إن هذه الطريق ستزيد علينا الوقت ساعة أخرى ولكن لو بقينا هنا فلن نعبر بعد أربع ساعات.
لم أعترض على ذلك طالما إن الأمر في النهاية سوف لن يختلف بالنسبة لي، لأني سأبيت في البصرة على أي حال وفي الغد سنتوجه إلى ميناء أبو فلوس على شط العرب.
كان قد أفزعني حقا منظر مقبرة الآليات العسكرية المحطمة في مدخل بغداد الجنوبي يوم دخلت إلى بغداد أو مرة، ليس لاتساع المقبرة فقط وكونها تغطي مساحة هائلة، ولكن كل ما فيها كان للجيش العراقي فقط وليس هناك شيء للجيش الأمريكي، ففي الحروب بجب أن يكون هناك آليات محطمة للطرفين، ولكن في هذه الحالة كانت جميع تلك الأسلحة الجبارة والهائلة الحجم عراقية فقط، وحين تسأل يأتيك نفس الجواب، من أن هذه الآليات قد تحطمت من قبل أن يدخل الجيش الأمريكي، فالطائرات قد أنهت المهمة قبل دخول أول دبابة أمريكية، وحين تسأل أي سؤال، يأتيك دائما جواب واحد من كل الناس، لكي أتأكد من صحة الإجابة التي كنت قد سمعتها عدة مرات من مصادر مختلفة، سألت السائق الذي يأخذني للبصرة نفس السؤال، فلم يختلف عنهم بشيء. كان المنظر أكثر هولا في الطريق الجميلة المحاذية لمشروع المسيب الكبير، ذلك النهر الجميل، كانت الطريق من المحاويل فالصويرة وحتى منتصف الطريق بين العزيزية والكوت أكثر غرابة من تلك المقبرة، فعلى جانبي الطريق وبعمق لم أستطع أن احدده، كانت كل هذه المساحات عبارة عن مقبرة لعشرات الآلاف من الآليات العسكرية، مدافع، ناقلات جنود مصفحة، دبابات، مدافع عملاقة، بطاريات دفاع جوي، شاحنات جديدة لم تعمل ولو ليوم واحد والكثير الكثير من هذه الآلة العسكرية العملاقة كانت محطمة تماما، كلها قد تحطمت في مواضعها. جميع السيارات الصغيرة التي كان الضباط يستعملوها قد تحولت إلى سيارات تكسي في هذه المدن الثلاثة والقليل من الشاحنات قد سلم أو أصيب إصابة قليلة، فقد ملئت الشوارع هي أيضا تحمل البضائع في تلك المنطقة. أعمدة الكهرباء كان لها نصيب، فقد ضربت جميعها من مكان واحد لينحنى الجزء الأعلى منها نحو الأرض دون أثر يذكر على الهيكل، كان منظرا غريبا بالنسبة لي، إذ إن جميع الأعمدة قد انحنت بهذا الشكل، علق السائق دون أن أسأله
إنها أشعة الليزير كما يقولون، هي التي فعلت كل ذلك، وها أنت ذا ترى جميع الأسلاك الكهربائية قد نهبت وتم بيعها لتجار لا نعرف أين يذهبون بها.
كانت الهياكل الفولاذية التي تمثل الجسم الأساسي للشاحنات قد انتزعت كل أجزائها وتحولت إلى جسور على الجداول التي تخرج من النهر لكي تكون بديلا عن المعابر من جذوع النخيل، أحيانا كان هيكل الشاحنة والجسر القديم من جذوع النخيل معا في مكان واحد ليكون الجسر أكثر عرضا. رغم مأساوية المنظر لكن السائق الذي معي لم يتأثر به على الإطلاق، ربما كان قد أعتاد عليه. لولا هذا المنظر المأساوي للآلة العسكرية المحطمة، لكان منضر الحقول وغابات النخيل اللانهائية خلابا، فالأغنام بإليتها السمينة مازالت ترعى كما تركتها، ووسائط النقل بين الحقول مازالت ذلك الحمار الذي يعمل دون كلل يعرف طريقه دوما، كل شيء كما هو ما عدا هذه المليارات المحطمة أو المحروقة. كان منضر الحقول أجمل في أبو الخصيب، فحين تنضر إلى الأرض لم ترى إلا الظل.
لم نستطع المرور في الشارع الرئيسي في أبو الخصيب، حيث هناك جمع غفير من الناس يسد الطريق، لكن السيارات تشق طريقها من خلال هذه الجموع الملتفة حول الفلاح الذي يقف على مرتفع ما بين الناس ويلقي خطابا حماسيا ويحمل منجلا، كان المرتفع الذي يقف عليه يبدو قلقا إذ إن الفلاح كان من حين لآخر يختل توازنه فيكاد يسقط، وفي كل مرة كان يمسك بعقاله واليشماغ لكي لا تسقط، وفي إحدى المرات قد سقط بالفعل، وبعد قليل ظهر من جديد بيد يمسك باليشماغ وبالأخرى يمسك بالمنجل الذي يهدد به أثناء الخطابة، وحين اقتربنا أكثر تبين إن هناك مجموعة من الشباب هي التي تحاول إسقاط البرميل الفارغ الذي استعمله كمنصة خطابية.
سألت الشرطي الذي يقف مع الجموع غير مكترث لما يجري، من هذا وماذا يقول.
قال الشرطي وهو يمزح إنه رئيسنا القادم إن شاء الله.
ولكن ماذا يقول، سألته ثانية ونحن نضحك، فتطوع أحد المستمعين كان يقف قرب نافذة السيارة إنه من أحد الأحزاب الدينية يهدد تجار العملة بعدم التلاعب وقطاع الطرق في الليل من مغبة الاستمرار بهذه الأعمال الشائنة.
قلت هذا جيد.
لكن الرجل قال، نعم ولكن على الأقل يجب أن يعرف كيف يخاطب الناس.
كنت ذاهبا لاستقبل زوجتي وابني القادمين من دبي وينبغي وصولهم اليوم صباحا إلى ميناء أبو فلوس على شط العرب، وحين وصلنا إلى الميناء، لم نجد من نسأله، ولكن بعد مشقة عرفنا صاحب الميناء والمسؤول الأول فيه، فأكد لي أنهم سيصلون اليوم بعد الظهر لأن التأخير كان بسبب التفتيش من قبل قوات التحالف في عرض البحر. عدنا أدراجنا إلى البصرة لكي نعود ثانية إلى الميناء مساءا، ولكن السفينة لم تصل بعد، وقيل لنا هذه المرة بسبب الجزر.
وفي اليوم التالي خرجنا مبكرين لعلنا نجدهم قد وصلوا، ولم يحدث ذلك أيضا، بقينا ننتظر حتى الساعة الثانية عشرة ظهرا والسبب دائما، إما هو المد أو الجزر. ففهمت إن في الأمر شيئا ما لا أعرفه.
كانت الشمس مجرمة لا ترحم ولم يكن هناك ظلا ألا تحت برج المراقبة في ذلك الميناء المخصص أصلا للبضائع وليس للركاب حيث لا توجد هناك شرطة تراقب الحدود، حاولت أن ألوذ بالبرج فلم أفلح حيث كل مساحة الظل كانت مليئة بالناس، قررنا أنا والسائق الذي يرافقني أن نذهب إلى أبي الخصيب لكي نشرب ماءا على الأقل، فطاب لنا أن نجلس في المقهى الشعبي. كانت المساطب الطويلة مرتفعة جدا لذا لم أكن مرتاحا في جلستي، فطويت أرجلي وكأني أجلس في الأرض رغم إن حصيرة الخوص كانت قديمة، فلم أتذمر لأني أعرف تماما إني سوف لن أجد أفضل من ذلك. كان يقابلنا بعض الفلاحين من أبناء المدينة. شربنا الحامض ومن بعده الشاي فعرفته على الفور إنه جديد وليس كما نسميه "ردادة"، لذا طلبت واحدا آخر رغم حرارة الجو. قررنا بعدها أن نذهب إلى منتزه المدينة الذي يقع على شط العرب فخناك استراحة جيدة هربا من حرارة الجو. كان المنتزه جميلا رغم الإهمال الذي أصابه وذلك لأن أهم ما فيه أشجاره الباسقة التي إرتوت من الشط، لكن المخيب للآمال هو إن الاستراحة كانت قد استولى عليها من لا سكن لهم وإقتسموها بين أربعة عوائل ومنعوا زوار المنتزه من دخولها بالطبع لأنها أصبحت سكنا شخصيا لهم، لحسن الحظ كنا قد اشترينا من أبي الخصيب قنينة ماء مستوردة من الكويت وعدنا أدراجنا للميناء الخالي من كل شيء عدا البضائع.
صعدت إلى البرج الذي كان مكيفا فوجدت مجموعة من الموظفين والبحارة، عرفت من بينهم قبطان السفينة التي ننتظرها.
قال لي بعد أن سألته، نعم أنا قبطان سفينة المنار.
لمذا لا ترسو السفينة منذ البارحة ولحد الآن؟
فأجابني بأنها سوف لن ترسو اليوم أيضا،
فنزلت الإجابة على رأسي نزول الصاعقة بعد أن نالت منه شمس آب المجرمة التي لا ترحم.
وبعصبية بالغة سألت، ولماذا؟
كانت إجابته واضحة من أن السبب هو مسؤول الميناء الحكومي السيد حامد الذي يرفض أن يعطي أوامره لسفن السحب كي ترسو السفينة.
سألت ثانية، ولكن كل السفن قد رست، الأكبر من سفينتك والأصغر منها وجميعها قد جاءت بعد سفينتكم؟
هذا صحيح، لكن الجواب لدى السيد حامد ولا جواب عندي، لأني الآن تحت رحمتهم.
تركت البرج لأجد من يتحدث عن حالة الركاب في السفينة، فالغذاء قد نفذ منهم ووقود الديزل أيضا، لذا أوقفوا أجهزة التكييف في السفينة، وهناك نساء وأطفال وشيوخ ومرضى على ظهر السفينة. فاستشطت غضبا وأنا أتحدث مع الناس، فلاحظني أحد العاملين في الميناء، فأصطف خلفي وراح يتحدث وكأنه يكلم نفسه ليفشي لي بالسر الكبير من أن السيد حامد بعثي وعضو فرقة وهذا شأنه دائما مع ركاب سفينة المسافرين.
كان ذلك كافيا ليجعلني أتذكر تلك الأيام التي كنت أحرض الناس فيها لخروج المظاهرات، فكان علي أن أستعيد مهاراتي التي كدت أنساها. فصعدت على درج برج الميناء، ومنه بدأت بالتحريض قي خطبة شرحت بها كل ملابسات الموضوع. كان الأكثر حماسا معي هم الشباب في عمر العشرين وأصغر، فبلغ الحماس ببعضهم أن خلع قميصه وجاء بقضيب حديدي، فتبعه عدد من الشباب ليفعلوا نفس الشيء.
وبأعلى صوت، إن من هو وراء التأخير هذا هو مدير الميناء الحكومي السيد حامد، هذا البعثي القذر،
فاعترض أحدهم قائلا وما دخل البعث بهذا الموضوع؟
فأجاب فورا أحد الواقفين، ( عمي هذولة بعثية، جا هو الكهرباء معارضة للبعث لما يضربوا؟ يو أنابيب الماء؟ هذولة يردونة نترحم على أيام صدام، لكن هيهات)
كان هذا التجاوب قد شجعني أكثر من أن إتمام ما تطوعت للقيام به، رغم الحرب الضروس للشمس الجهنمية، وحلقي الذي جف ولم أجد ولو شربة ماء.
ذهبت إلى باب الميناء ومن خلفي كل الناس لأعيد نفس الخطاب الحماسي عليهم هناك. فتبعتني جموع كانت الشمس قد حشرتهم في أماكن لم أكن أعرفها إذ لا توجد إستراحة أو أي شيء آخر يلجأ إليه الناس. ركبنا بالسيارات بعد أن انظم إلينا سواق الشاحنات الكبيرة التي كانت في الميناء ومساعديهم، فتوجه الجميع نحو الميناء الحكومي في أبو فلوس حيث مكتب السيد حامد. كان بعض عمال الميناء قد انضموا إلينا فأخذونا إلى مكتب السيد حامد.
كان رجلا قصيرا قميئا يجلس هناك، فتيقنت من أني أستطيع أن أنال منه من دون مساعدة من أحد، وكان هذا التفكير يعني بالنسبة لي أني مازلت أمتلك نفسي ولم يفقدني الغضب صوابي، وحين بادرت بالحديث، قاطعني على الفور،
من تريد أنت؟
وقبل أن أجيبه تناولت قنينة الماء التي كانت على الطاولة وشربت نصفها.
سيد حامد، قلتها بحدة.
لقد خرج السيد حامد.
وأنت ماذا تفعل هنا؟
أنا بدلا منه.
فقلت على الفور، إذا أنت المطلوب، وعليك أن تأتي بسفينة المنار لترسو فورا.
حاول أن يتحدث مع بعض الناس من الجمع الذين كانوا معي، فكان الكل لديه إجابة واحدة،
أنت لا حديث لك معنا، تكلم مع الأستاذ.
كان الفزع باد على عينيه حين سأل، ماذا تريد بالضبط؟
قلت بحدة بالغة يجب أن ترسو السفينة الآن، ودون تباطؤ لأنك ستكون معي وبعهدتي وإلا سلمتك لهذه الجموع، حيث هم من سيكمل المهمة.
كان الشاب الذي يحمل القضيب يقف أمامي، فرفع القضيب ليهزه في الهواء.
أستاذ أرجوك تمهل قليلا وأهدأ، لأن القبطان قد ركب الآن في القارب السريع الذي ينقله إلى السفينة وستكون هنا على المرسى بأقل من ساعة.
قلت مع ذلك ستبقى معي أنت، وأشرت للآخرين أن ابقوا معنا.
فأدخلته السيارة التي كانت معي وتحرك السائق نحو الميناء الأهلي حيث ترسو السفينة ومن خلفنا باقي السيارات.
بالفعل بعد ساعة، كان الركاب على الرصيف، فأنشغل الجميع بالعناق لينشغلوا عني، فأطلقت سراح مساعد السيد حامد.
استقبلت زوجتي التي خرجت متأخرة بعض الشيء، ولكن فاجأتني حين قالت، البقاء في حياتك بوفاة السيد.
ومن السيد هذا؟ سألتها.
فقالت ألم تسمع؟ لقد أستشهد السيد محمد باقر الحكيم بانفجار هائل في النجف، ومات الكثير معه.
فوقع الخبر على رأسي وقع الصاعقة.
يتبع