أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سلامة كيلة - تأملات في الدين والدولة















المزيد.....



تأملات في الدين والدولة


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 609 - 2003 / 10 / 2 - 04:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    




العرب والغرب ومسألة العلمنة
السؤال  المثار هنا هو: هل أن الطابع الديني خاصية  في أوروبا، لهذا نشأت العلمانية فيها؟ الجانب المقابل هو: هل أن  للشرق خاصية أخرى. لا تفرض الحاجة إلى العلمانية؟ بمعنى هل أن الدين كان سلطة هناك. ولم يكن كذلك هنا؟ وبالتالي هل أن  الدين غير الدين؟ ألا يوجد أساس اتفاق بين كل الأديان. كونها  معبرة عن وعي بشري (أو حسب الفقهاء عن إرادة الله). يصيغ فيها تصوراته عن وضعه؟ سنتجاوز هنا مفهوم الخاص، لأنه سطحي و"ذاتي"، رغم أن الخاص لا يستقيم إلا بالعام  (في علاقة بالعام).
(1) بمقارنة النصوص، سنلاحظ أن الإنجيل لا يحتوي تشريعاً، بعكس التوراة والقرآن وهو يحتوي فقط على نواةٍ أخلاقية عامة، بينما نلاحظ أن القرآن (كما التوراة) نصاً تشريعياً إضافة إلى أنه عقيدة في ا لتوحيد، تتضمن نواةٍ أخلاقية أيضاً، وسنلاحظ أيضاً أن كل النصوص التشريعية ألحقت بـ "الإنجيل" سواء بإدخال التشريع الروماني في "المسيحية" التي غدت  أوسع من النص, أو عبر التفسيرات و"الاحكام" الكنسية اللاحقة، ورغم أن هذه أصبحت جزءاً من ا لنص، أصبحت كلها ما أسمى "المسيحية"، فأن التمييز ظل واضحاً بين ما هو إلهي وما هو بشري. على العكس من ذلك سنلاحظ أ، النص الإلهي تضمن العقيدة والتشريع (ولاشك في أن التفسيرات والاحكام اللاحقة التي أفتى بها الفقهاء، اعتبرت واقعياً جزءاً من النص أو حتى بديل النص). وفق ذلك يكون النص "القرآن" اكثر دنيوية، لكن في الوقت نفسه اكثر لاهوتية، وبالتالي فإن امكانية تأسيسه لسلطة دينية أعلى من المسيحية، لأن النص "دستور الدين والدنيا". كما أن الإسلام دين ودنيا، إنه بذلك أكثر شمولية من (الإنجيل)، وهذا يتبدى في أنه، حتى لو اسقطنا كل التفسيرات والاحكام اللاحقة، يبقى نصاً تشريعياً، يحدد "قوانين" الآليات الاقتصادية والاجتماعية، الفكرية والسياسية (الدولة).
وبالتالي فأن أية محاولة لتفسير جديد للنص ستكون مربكة أمام (الآيات ـ الأحكام). لقد كانت المسيحية منذ القرن  الثالث عقيدة (إيديولوجية) الإمبراطورية الرومانية (ومن ثم البيزنطية)، لكن القانون الذي  حكم الإمبراطورية هو "القانون الروماني"، الوضعي (وإن كان يعطي هالة إمبراطورية مقدسة). وإذا كانت الكنيسة في العصور الوسطى وسعت المسيحية لتشمل هذه القوانين (اضافة إلى التفسيرات اللاحقة) فقد كانت الدعوة إلى العودة إلى النص (الإنجيل) مشروعة، كما كان يجنبها كل الإرث التشريعي الملحق بالنص. لهذا فإن المسألة في الإسلام، في هذا المستوى أكثر تعقيداً وبالتالي كان يمكن في  المسيحية الهروب من مواجهة الله، أما في الإسلام فالمواجهة محتمة، لأنها تتعلق بالموقف من النص ذاته (آيات الاحكام).
(2) ولا شك في أن فارقاً  تاريخياً ميز بين المسيحية والإسلام كثيراً مايجري تجاهله حين التطرق إلى مسألة العلمانية، يتمثل في دور كل منهما. المنعكس في لحظة نشوء العلمانية. فقد ادى تفكك الإمبراطورية الرومانية الغربية  (وتحديد الغربية ضروري  هنا، لأن ماحدث هناك لم يكن يحدث في الإمبراطورية الشرقية، أي البيزنطية)، إلى تحول الإيديولوجيا إلى قوة مستقلة، مستندة إلى أساس اقتصادي (الاراضي الواسعة المملوكة للكنيسة)، لكنها الطامحة إلى إعادة انتاج الإمبراطورية، بمعنى إنها كانت عنصر توحيدي، في مواجهة عناصر التفكك، الممثلة بالامراء الإقطاعيين (الأسياد)، وحيث يسود الاقتصاد الطبيعي. وبالتالي كانت محاولات الاخضاع من قبل الكنيسة هي محاولة لاسترداد دورها التوحيدي (كإيديولوجية)، إذن لقد كانت على تضاد مع الامارات. وحملت حلم تجديد الإمبراطورية الرومانية. ولهذا يمكن القول بأن الكنيسة (المعبرة عن إيديولوجيا شمولية) كانت تصارع الدولة (الاشكال الدولية الهزيلة) على السلطة، في إطار  أكثر شمولية (الإمبراطوريات، بمعنى إنها كانت تزاحم الأمراء الاسياد) على سلطتهم وهنا كانت الإيديولوجية ضد السياسة. وهما المعبرتان عن ذات "الشيء"، أي من ذات الاساس الطبقي "الإقطاعي". أكثر من ذلك إن الإيديولوجية (المسيحية هنا) كانت أكثر انسجاماً مع مصلحة "الإقطاع"، من ا لإقطاعيين انفسهم (الامراء). لأنها تطرح المصلحة الإقطاعية في اطار إمبراطوري على الضد من التفتت الذي كان الامراء يكرسونه. في أوروبا  ا لقرون الوسطى كان الصراع هو هذا، أي بين سعي الامراء لاخضاع الكنيسة لسلطتهم وبالتالي تقزيم مطامحها في اطار الامارات, وسعي الكنيسة لاخضاع الامراء لسلطتها وبالتالي لعب دور مركز موّحد.
 إن عجز "الإقطاع" عن تكوين دولته المركزية (الإمبراطورية). إذن أعطى الإيديولوجيا/ الدين استقلالاً وعمق طابعها اللاهوتي، وفرض التمأس أي تشكل الكنيسة في صيغة تراتبية، ولنلاحظ هنا الشكل المعاكس في الإمبراطورية البيزنطية، ولنلاحظ أيضاً أن تحول تيار ديني إلى المعارضة فرض التمأسس عبر حركة منظمة تراتبية (الشيعة مثلاً) وفي كلا الحالين طغى اللاهوت، طغت العقيدة. ولأن الكنيسة في أوروبا القرون الوسطى عجزت عن فرض سلطتها باعادة تشكيل إمبراطورية هي إيديولوجية ما فوق القومة "الكوزموبوليتية" قامت العلاقة بينها  وبين السياسة (الأمراء/ الدويلات) على التناحر والتضمن. بسعي كل منهما إبتلاع الآخر، لكن انتصرت السياسة، لأن التكوين الاقتصادي الاجتماعي القائم على الإنتاج الطبيعي، والمستند إلى تكوين اجتماعي بدائي، كان عاجزاً عن أن يكون أساساً لإمبراطورية. وسبب ذلك لم يكن داخلياً فقط، لأن المعيل التوحيدي وتشكيل دولة مركزية (إمبراطورية) كان سيفضي إلى تشكيل سوق يسمح بالتطور)، بل كان نتيجة وجود قوة عالمية (الإمبراطورية العربية الإسلامية). ولأن التكوين قبلي بدائي، فقد أفضى إلى تشكل إمارات. وكانت كل الإمبراطوريات التي قامت في اوروبا (الفرنجة، الإمبراطورية الرومانية المقدسة…) عاجزة عن تشكيل إمبراطورية متطورة، ولقد كانت شكلاً من اشكال الإمبراطورية العثمانية لكنه شكل هزلي. ولا شك في أن الامراء استندوا  إلى الدين ذاته. كإيديولوجيا لإخضاع الأقنان، وبالتالي فقد تجددت المسألة في حين يكون السلطة، والمشروع الساعي لتكوينه. وهذا التداخل سمح للكنيسة التدخل، لأنها متضمنة في الإمارات، ولقد مارست انطلاقاً من إنها  الحاكم بأمر الله، وكان تدخلها شمولياً، فطالت الفلسفة والعلم، وكانت محاكم التفتيش صيغتها الأفظع. وحين تطورت الدول تعمق التحالف بين ا لإقطاع والكنيسة، التي اصبحت المدافع عن الممالك الإقطاعية رغم التنازع بينهما، الذي خفت حدته، منذ بدء عصر النهضة، في مواجهة القوة الجديدة، (جمهوريات المدن، ومن ثم البرجوازية)، خصوصاً بعد تراجع حلم إعادة تشكيل الإمبراطورية الرومانية، والميل لتشكل الدولة القومية.
(1) في الإسلام تحدد مسبقاً خضوع الإيديولوجيا للسياسة. لكن السياسة التي تنفذ الإيديولوجيا ذاتها، بمعنى أنهما (السياسة والإيديولوجيا) كانا تعبيرين لأساس واحد، بمعنى آخر كان الإسلام بالأساس حركة اجتماعية سياسية. ليصبح القرآن دستور اجتماعي ـ سياسي، قامت الدولة على تطبيقه، لهذا كان رجال الدين عنصر مكمل، يعمل على نشر الإيديولوجيا التي هي إيديولوجيا السلطة. والمطبق القانوني للنصوص المقدسة. وبهذا كانت الدولة هي عنصر السياسة المتحد مع الإيديولوجيا (بغض النظر عن اختلافات الرأي بين  الفقهاء، خارج الفقه السياسي). وبالتالي فقد كان الفقهاء هم مثقفو السلطة العضويون، خاضعون للتكوين الدولتي والمتمأسسون عبره، حيث الخليفة هو ولي الأمر و"المدافع عن الدين". والشريعة  هي الدستور والقانون. وجهاز الدولة هو السلطة، المكوّن من الكتاب والقضاة (وهم الفقهاء) والمؤذنين والأئمة، (يمكن المقارنة هنا مع وضع الكنيسة في الإمبراطورية البيزنطية). بمعنى أن "الجهاز" الديني هو السلطة، فالخليفة هو خليفة رسول الله (أو خليفة الله)، مطبق الشريعة (بغض النظر عن مواقف بعض الاتجاهات الدينية المعارضة، مثل المعتزلة، الشيعة، الاسماعيلية…).
 وبالتالي فإذا كانت المسيحية إيديولوجية إمبراطورية  ذات قانون وضعي (الإمبراطورية الرومانية البيزنطية) وكانت في تنافس مع السياسة (امراء الامارات)، في القرون الوسطى، وحليف الإقطاع في عصر النهضة، فإن الإسلام كان إيديولوجياً وشريعة وسلطة معاً في الإمبراطورية العربية الإسلامية، وفي كل الأشكال الدولتية والإمبراطورية اللاحقة، والمؤسسة على انقاض الإمبراطورية العربية الإسلامية (البويهيون، السلاجقة، المماليك… ثم الإمبراطورية العثمانية). لكن في كل الأحوال كانت القيم والافكار والاخلاق نابعة من الدين في أوروبا كما في  الشرق. وكانت الثقافة مستمدة من النص، وخاضعة لسلطة  الفقهاء/ الكنيسة. كما خضعت الفلسفة للدين، وتنازع العقل والنقل، في إطار هذه الثقافة. بمعنى أن سلطة الله كانت مهيمنة هنا.
(1) مايهمنا هنا هو سلطة الدين الدنيوية، لهذا نلاحظ أنه في أوروبا كما في الشرق، كان النص هو المهيمن في الثقافة كما في السياسة. بغض النظر عن الشكل "المؤسسي"، فالمشكلة لمتكن مشكلة “المؤسسة، بل كانت مشكلة النص، وكما أوضحنا فإن شكل “المؤسسة” خاضع للظرف الموضوعي، لهذا نلاحظ تقارباً في “الشكل المؤسسي” بين "الإسلام السني" و "المسيحية الاورثوذكسة". لان كليهما  كانا مندمجين في السلطة (الإمبراطورية العربية الإسلامية والإمبراطورية البيزنطية). كذلك نلاحظ تقارباً في "الشكل المؤسسي" بين "الكنيسة الغربية" (الكاثوليكية)، و"الإسلام الشيعي"، لأن كليهما مثلاً صيغة معارضة، وإن كانت هناك اختلافات بينهما (المعارضة في بنية مفتتة ـ دويلات ـ  والمعارضة في دولة مركزية)، فالشكل المؤسسي، ليس هو إذن اساس نشوء العلمانية. بل أن هيمنة النص الشمولية  هي التي دفعت إلى التحرر منه. وبالتالي "سحب" العقل من تحت هيمنة النص، لكي ينطلق، يحفر في التاريخ والواقع. في العلم والفلسفة. بمعنى أن هذه الهيمنة دفعت إلى الفصل بين الدين والدنيا، ما هو ديني عقيدي وما هو دنيوي. وإذا كان ذلك سهلاً فيما يتعلق  بالمسيحية، لأن النص عقيدياً، وخالٍ من التشريع، فإن المسألة أصعب بالنسبة للإسلام لأن النص عقيدة وشريعة (دين ودنيا). إن العلمانية ليست نتاج "مؤسسة دينية" حاكمة، بل نتاج هيمنة النص. هيمنة المقدس على "المدنس". المقدس على الدنيوي الهيمنة التي تعيد كل الثقافة، والحقوق  والأخلاق والاقتصاد والسياسة إلى نص مقدس. وهدفت إلى إعادة الاعتبار إلى الطابع ا لنسبي (وبالتالي التاريخي) للعقل البشري. والمسألة تكمن بالأساس في نزع الخلط بين العقيدي (الجانب الالهي) والواقعي (التشريعي ـ السياسي، الثقافي) باعادة الاعتبار إلى البشر أنفسهم، وإعادة الدين إلى إطاره العقيدي. واعتبار أن ا لتشريع ـ السياسة (وبالتالي الدولة) والثقافة (الفلسفة..) قضايا تاريخية. وقد تحقق ذلك. في اوروبا عبر نفي النفي (تضاد عقل / نقل)، (عقل / نص مقدس)، حيث يميل الدين إلى أن يكون عقيدة خاصة  بالفرد (يفقد طابعه المهيمن)، وتأكيد "حياد" ا لدولة تجاهها، وبالتالي فالعلمانية هدف سياسي، يتمثل في فصل الدين  عن السياسة والدولة، دون تحريمه، لأن ذلك هو الذي يعطي الصيرورة  الواقعية في هذا الوقت حركتيها الضرورية، لأنه يدخل دور العقل (في العلم والفكر) في هذه الصيرورة، في صيغة جديدة، يفرضها النمط الحديث.
(5) حين حاور محمد عبده رينان حول العلمانية، انطلق من أن لا كنيسة في الإسلام. وبالتالي فإن دواعي العلمانية في الشرق منتفاة، لكنه دعا إلى العودة إلى الاصول، وتطبيق الشريعة. دون أن يرى تعارضاً بين المسألتين. رغم تناقضهما (وكان اختلافه مع الكواكبي يتمثل بالتحديد في رفضه فصل الدين عن الدولة. وهي دعوة الكواكبي). إن حصر المشكلة في الطابع المؤسسي للكنيسة، يعد تمسكاً بشكل محدد، وتجاهل جوهر المسألة، التي هي هيمنة الدين، كون ا لدين هو الذي يحكم الدنيوي، بغض النظر عن الشكل، وإذا كان محمد عبده قد أعلى من شأن العقل على الضد من ا لتقليد، فقد فعل ذلك في اطار الدين (النص) ذاته. وهو هنا يعيد طرح مسألة العلاقة بين العقل والنقل، رافضاً سلطة النقل كسلطة وحيدة، وبالتالي فهو يعني طرح الاشكالية القديمة، دون أن يتجاوزها، ولاشك في إن  تجاوزها كان يفترض العلمانية، بحيث تكون العقيدة معتقداً خاصاً (ولنقل سلطة النقل). والعقل مقياس وعي الواقع دون سلطة مسبقة، أي دون سلطة النقل. وهذا يعني تجاوز ا لدعوة إلى "العودة  إلى الاصول". أي العودة إلى الإسلام كشريعة وسلطة  في مرحلة إزدهاره. فهو يدعو إلى "اعادة" تشكيل الإمبراطورية القديمة، وبالتالي على أساس الدين، الدين العقيدة والشريعة، لكن مع فتح باب الاجتهاد. لكي يكون ممكناً اصدار فتاوي في المشكلات الراهنة، انطلاقاً من النص. أي باعادة تحكيم النص بالواقع. ولتبقى السلطة (الاقتصادية/ الاجتماعية والفكرية/السياسية) له. أليس ذلك "حكماً دينياً"؟ العلمانية هي فعل للخروج من هذه "العبارة" بالتحديد، سواء فيما يتعلق بالثقافة (الفكر عموماً)، أو فيما يتعلق بالتشريع, وفتاوى الامام تؤكد سلطة النص.
 العلمانية هي، إذن نزع لسلطة. دون نزع النص، وبالتالي الاقرار بحرية الفكر، وبوضعية القوانين، ودنيوية السلطة (الدولة). وبالتالي فإن الإمام يدعو إلى اعادة البنية السابقة. مع تكييفها (دون تجاوزها) مع مستجدات العصر ( هذا هو بالتحديد وضع ايران والسودان..) إذن فهي دعوة منافية للحداثة، للنهضة، وللتقدم، فالعلمانية جزء من بنية حديثة تبدأ بتحرر الفكر من سلطة النص، وتطال التكوين الاقتصادي/الاجتماعي والنظام السياسي، إنها تكوين دنيوي بدون سلطة القداسة، ولا شك في أن النظر  الشكلي للعلمانية كان يهدف إلى "تغطية" البنية القديمة، والتمويه على طبيعة هذه البنية، والفارق بين الامام، وكل من الكواكبي وعلي عبد الرازق هو أن هذين التنويريين الكبيرين، قالا بارادة البشر ودورهم الفاعل لكي يصلا إلى فصل الدين عن الدولة. وإذا كان علي عبد الرازق قال بأن لا سلطة دينية في الإسلام (وهو هنا يتفق والامام) فلكي يقول بهذا الفصل تحديداً، عكس الامام.
إذن المشكلة في الشرق كما كانت في اوروبا وإن اختلفت اشكال السلطة الدينية، وما تفعله الحركات الاصولية.  ما هو إلا تكرار (بصيغة افظع) لمحاكم التفتيش. ولا شك في أن نشاطها يطرح موضوع العلمانية بشكل أكثر حدة، ويجعله قضية راهنة.
(11) العلمنة اليوم
 هناك ثلاث مستويات. يجب التمييز فيما بينها هي: مستوى الفكر. ومستوى النظام. ومستوى الوعي الشعبي في مستوى الفكر، اعتقد أن عصر النهضة شهد حركة تنوير ديني مع الكواكبي (وقبله الطهطاوي) ومن ثم علي عبد الرازق مروراً بالزهراوي. وهؤلاء من "المؤسسة" أي رجال دين، واذا كان  لأن تكييف الدين مع التطور، يجب أن ينطلق من داخل "المؤسسة" وإذا كان الطهطاوي سعى لاضفاء مشرعية دينية على النمط ا لحديث (سياسة محمد علي في التصنيع والتحديث بما فيه التعليم, اعتبار الديمقراطية المدنية بمثابة الشورى). فإن الكواكبي انطلق  من النقطة المركزية الا وهي "فصل الدين عن الدولة وبالتالي عن السياسية"، وهو ما اكمله علي عبد الرازق بالعودة إلى اعطاء اساس "شرعي" على هذه المسألة. من خلال التأكيد على رفض الخلافة. واعتبار السياسة (بما فيه الدولة) فعل دنيوي، وهما هنا ينفيان "الاحكام السلطانية" وإذا كانت الاتجاهات الفكرية الأخرى (الاشتراكية، والديمقراطية) قد تغلغلت في ذات الفترة (ربما استناداً إلى الطهطاوي/ علي مبارك)، فقد أفضت حركة التنوير هذه إلى توسعهما  رغم المعارضة المحافظة التي أثيرت ضدهما (الكواكبي، علي عبد الرازق)، لتطبعا الثقافة والفكرة وهذه مسألة هامة، رغم أن حركة التنوير لم تفض إلى مسألة اساسية بخصوص ا لدين، ألا وهي اعادة تفسير النص، وربما كان ذلك سبباً في عودة الحركة الاصولية، حيث لم تتحول حركة التنوير هذه إلى اتجاه ديني "مؤسسة"، رغم تأثيرها الواقعي الذي ظهر في المستوى الثاني.
في مستوى النظام: إن التطورات أوضحت أن التكوين العام للمجتمع غلب عليه الطابع العلماني، حيث الحقوق (والدستور) من وضع البشر، رغم صلته بالشريعة، سواء كمصدر من مصادره، أو فيما يتعلق بالاحوال الشخصية، والتعليم حديث. وبالاساس الدولة دنيوية، اضافة إلى تشرب القيم الحديثة، واشكال التعبير الحديثة (رواية، القصة، العلوم الإنسانية والطبيعية….)، إذن نحن هنا أمام تكوين حديث اختلط بصيغ معينة والشريعة، لكنه هو المسيطر، لهذا نلاحظ أن هدف الحركة الاصولية هو اعادة فرض الشريعة وسلطة رجال الدين، ولعل كتاب د. عزيز العظمة يحاول أن يشرح هذا الطابع العلماني، وإن كان وضعه في تضاد مع المستوى ا لثالث (كتاب حال الدين  في دنيا العرب) عكس برهان غليوي الذي غلب المستوى الثالث متجاهلاً هذا المستوى والمستوى الأول.
المستوى الثالث: لا شك في أن تخلف الوعي يجعل امكانية اهتمام  عموم الشعب بالفكر الديني محدود، وبالتالي فالوعي الديني هنا وعي مبسط، وأساساً يتعلق بالعبادات، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الشعب يميل إلى الابتعاد عن السياسة، و "الخضوع" للسلطة، نصل إلى أن أي اجراءات حديثة لا تلقى مقاومة، وتبرز المقاومة حينما يمسّ  الديني (كعبادات ومقدسات)، لهذا "نجحت" اجراءات النظام، حتى  أشدها علمانية (قانون الاحوال الشخصية في تونس، رغم امكانية الالتفاف عليه)، ولم تطرح الاعتراضات على أي منها إلا من رجال دين ومن ثم من الحركة الاصولية (أي من مستوى سياسي) وإن الاولوية فيما يتعلق بالشعب، ليس تحقيق الشريعة، بل تحقيق ما يحسن وضعه. سواء تحقق ذلك عبر إيديولوجيا دينية أو قومية، أو ماركسية، وبالتالي فإن تقاطع المصالح هو المحدد لتأثير قطاعات شعبية لهذه الإيديولوجية أو تلك. وليس الوعي المسبق، حتى بالنسبة للدين. وتجربة العقود الستة الماضية توضح ذلك، حيث كانت الانحيازات "الشعبية تدعم هذه الإيديولوجية أو تلك. نتيجة الاحساس بأنها تحقق مصالحها، رغم تمسكها ب "تدينها".
 في هذا الوضع سنلاحظ أن المطلوب هو تعميق علمنة النظام (الدولة)،  عبر تعميق وضعية قوانيها ودستورها، ومؤسساتها الثقافية. وهذا يعتمد على الطبقات المسيطرة فيها (وبالتالي الأحزاب السياسية). والمشكلة هنا تتمثل في فعل الاحزاب العقلانية. العلمانية والديمقراطية، ولاشك في أن تفاقم فعل الحركة الأصولية، نابع من تفاقم أزمات المجتمع، وعجز الأحزاب السياسية عن أن تقدم بديلاً جدياً. ومن ثم تفككها نتيجة ذلك. كما  بفعل التحولات الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الداخلية. والتحولات العالمية (انتصار الثورة في إيران، انهيار الاشتراكية). ولا شك في أن استمرار الوعي التقليدي وسع لها من قدرتها على الفعل. هذا  يوضح أن حركة التنوير لم تنعكس في المؤسسة الدينية، وبالتالي هل كانت حركة فاشلة عبرت عن تأثير ما للفكر الليبرالي في المؤسسة الدينية؟ لقد كانت "سنداً" لتوسع الفكر الليبرالي. (وهنا يجب أن نلاحظ تجاور الفكر الديني والليبرالي والاشتراكي، وبالتالي في ظرف مختلف عن نشوء البروتستانتية…) وهذه مسألة هامة، لكنها لم "تنوّر" المؤسسة. تكيفها مع التحديث (والتكيف الذي تحقق، تحقق بفعل الدولة وضمن حدود علمانيتها) لهذا بقيت المؤسسة ملتزمة "التقليد". الذي تبلور عقب انهيار الإمبراطورية العربية الإسلامية، وتحدد في طابعه المحافظ.
 هل أن تناول حركة التنوير (للفقه السياسي) فقط، وتفسير النص المتعلق به في صيغة حديثة، دون تناول مجمل  فروع الفقه، هو سبب ذلك؟  اعتقد  أن هذه نقطة اساسية لكن. حتى في الحركة البروتستانتية، كانت النقطة المركزية هي فصل  الدين عن السياسة وربما كانت المقارنة بالكاثوليكية افضل هنا، لأن الكنيسة الكاثوليكية ظلت محافظة على التقليد ولم تتكيف إلا بفعل علمنة الفكر  والدولة. من هنا يتوضح أن المسألة تتعلق ـ عندنا ـ بعلمنة الفكر والدولة، وبالتالي بالطبقات السائدة. كما يقودنا إلى تلمس اشكاليات الفكر أولاً، فرغم أن حركة التنوير فتحت الآفاق لتطور الفكر العلماني (الليبرالي/ الماركسي). إلا أن هذا الفكر ظل "سطحياً". "خارجياً"، قدم شعارات، وافكار عامة ومرتبكة، مما لم يجعله قوة إقناع ووعي، لهذا وبفعل الازمات الاجتماعية، تساقط، ليعود الفكر الديني ملجأ وعي، وهذا ماعزّز من قوة المؤسسة. هنا نلمس اشكالية تحتاج إلى بحث، خصوصاً إنه ظل مختلطاً به (على الأقل في المستوى الأبستمولوجي). وثانياً أن الطبقات المسيطرة في الدولة، كانت ذات مصلحة بأن لاتكتمل العلمنة، لأنها مرتبطة بالديمقراطية، وهو ما يتنافى  مع تكوينها، كما أنها لجأت إلى استخدام الفكر الديني كقوة مسيطرة على الشعب وقوة رفض لتعبيرات ا لطبقات الاخرى (الاشتراكية تحديداً). ولهذين السببين لم تسر بالعلمنة إلى منتهاها، مما وفرّ ظروفاً لاستمرار (وانتعاش) المؤسسة بفكرها التقليدي المحافظ.
المشكلة هنا تتقوم في الثقافة العلمانية، وفي السياسة العلمانية، وهنا جذر الردة، الحركة الاصولية هي نتاج هذا الجذر. لتصبح الدولة "العلمانية". على ضوء كل المشكلات التي أوجدتها سبباً في نشوء رد أصولي (يستند إلى التقليد)، وليصبح عجز الاحزاب السياسية وضياعها (في مستوى الفكر ومن ثم الفعل) اساساً لتحوّل الشعب المضطهد والمستغل وبالتالي المحتج إلى وعيه التقليدي، وليصبح هذا التحوّل تربة خصبة للاصولية.
في الوقت نفسه الذي عادت فيه المؤسسة لكي تمارس دورها "التشريعي" (أي تطبيق الشريعة). لكن هل هذه الظروف كان يمكن أن تنتج غير الردة، سواء بشكلها الاصولي، أو بأشكال أخرى متعصبة؟ وهل لو كانت تحققت "ثورة  في الدين"، كان يمكن ألا تحصل الردة الاصولية، انطلاقاً من هذه الظروف؟ ما أود قوله أن هذه الظروف هي الاساس، الذي ينتج ردة بصيغة أو بأخرى ووجود هذا الاساس هو المنتج لاصوليات أخرى في مناطق عديدة من العالم، ولأن الإسلام هو تراثنا اتخذت الردة هذه الصيغة. لقد حدثت خطوات نحو ا لتحديث والعلمنة, وفي "تطور" الاقتصادي الاجتماعي، وترسخت تيارات مختلفة (ليبرالية، قومية، اشتراكية)، لكن التوقف عن التطور، والازمات التي أوجدها التطور ذاته، وعجز الحركة السياسية العلمانية عن بلورة حلول منطقية صحيحة. دفع إلى العودة إلى الماضي.
 هل يعني كل ذلك، تجاهل واقع المؤسسة؟ كما قلت أن حركة التنوير قد حققت أغراضها. ثم أن تطوير الفعل داخل البنية الدينية (الفكر الديني) يفترض تطوير فعل الفكر  العلماني، كي ينعكس على المؤسسة، ويبلور إتجاهاً يسعى إلى التكيف، و هنا اعتقد أن تحقيق ذلك، يفترض فعل قوى من "داخل المؤسسة". ولايستطيع الفكر العلماني أن يؤثر دون أن يحلل الواقع، ويضمنه "الوعي الديني" والتراث عموماً، من منطلقه هو. وإن يجد خطوط إتصال بالشعب. عبر التعبير عن مشكلاته. والنضال من أجل تقديم الحلول لها.
 لكن أية "ثورة في الدين" يجب أن تنطلق من الاساس الذي قامت عليه حركة التنوير وأقصد فصل الدين عن السياسةوالدولة، ومن ثم فإن أي تفسير حديث للنص يجب أن يبدأ من هنا. وتبادل هذه المسألة بالاساس لأنها تعني تحديد موقف من "آيات الاحكام"، سواء عبر التعامل معها مثلما يجري التعامل مع الآيات الخاصة بالعبيد، أو آية الغنائم، أي التجاهل. أو تفسيرها، بما يطابق عملية التطور، والعصر الحديث. أما الدعوة إلى "لاهوت تحرير" فمسألة أكثر تعقيداً، لأنه يفترض تفسيراً لا يقف عند حدّ القبول ب "فصل الدين عن السياسة والدولة". بل يتعداه إلى  تكييف أعمق يتجاوز، حتى المعطى الرأسمالي؛ بمعنى تكييف مع تغيير جذري يتوافق مع الطابع العام للتطور الذي يتجاوز الرأسمالية (الاشتراكية). ولقد أفضى انتشار الفكر الاشتراكي منذ نهاية الاربعينات إلى مثل هذه التفسيرات (مصطفى السباعي "اشتراكية الإسلام"، وسيد قطب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" ومحمد باقر الصدر "اقتصادنا"..)، لكن مشكلتها إنها جاءت نتاج الصراع ضد الاتجاهات الاخرى (الرأسمالية والاشتراكية)، لتحقيق هدف تكتيكي يتمثل في خلق حاجز يمنع الميل الشعبي نحو هذه الاتجاهات، وبالتالي لتحويلها إلى  هدف آخر، ولهذا، وحالما تحقق تقدم اساسي منذ بداية الخمسينات، فسرعان ما انقلب إلى تفسير أصولي. كان مرجع الحركة الاصولية الراهنة. كما أن مثل هذه التفسيرات جاءت من خارج المؤسسة، من مثقفين يساريين سابقين. لهذا فهي لم تؤثر فيها لأنها تفسيرات خارجية، عبرت عن ميل محافظ لدى هؤلاء (ردة، انهيار..). ولقد اعتمدت، بالاساس القسر في التفسير. وإسقاط المسبق الإيديولوجي على النص، دون مراعاة اصول التفسير، أو اعطائه منطقية تبرزه.وهؤلاء سرعان ما مالوا نحو الاصولية أو التقليد. واذا كان تفسير حركة التنوير قسري أيضاً. (انظر مثلاً، علي عبد الرازق  الإسلام واصول الحكم.). فإن الفارق في الموقع من المؤسسة. هو الذي يجعل تفسير علي عبد الرازق معبّراً عن حركة التنوير، وتفسير هؤلاء معبراً عن "الردة". وهذا يعني أن كل تفسير يسعى للتكييف قسر، فالتفسير هو إخفاء آيات وابراز أخرى، أو تحويل من معنى واقعي، متسق مع كلية النص إلى معنى "مجازي". ولاشك في أن المستوى العلماني في التفسير ممكن لأنه "يجمد" الاحكام في كل مايتعلق بتداخل العقيدة بالسياسة (الاحكام الخاصة، التكوين الاقتصادي الاجتماعي والسياسي). خصوصاً إن احكام عديدة قد "جمدت" (أو فلنقل اوقفت) نتيجة انتفاء اسباب وجودها، انتفاء الاساس الواقعي لوجودها (آيات العبيد، والغنائم، والفيء، والزكاة، والجزية، واولاد الاماء، والشورى والجلد)، لهذا تبدو الدعوة إلى فرضها مستحيلة، وتقود إلى مجازر، وكذلك تبدو السيطرة على السلطة من قبل قوى إسلامية (ايران، السودان) محكومة بالتطور الواقعي ذاته، بمعنى إنها لاتطبق أي من احكام هذه الآيات، وما عادت إليه هو ما يتعلق بالمستوى الثقافي (الفكر، الغناء، السينما..) ومايتعلق بالمرأة (الحجاب).
إن أي تفسير يهدف إلى أبعد  يجب أن يمر  من هذا الأساس، ألا وهو فصل ا لدين عن السياسة والدولة" وبالتالي إلغاء كونه تشريعاً، حينها يمكن الاستناد إلى بعض منطلقات العقيدة في تفسيرات أعمق. فالعدل مثلاً تعبير عام، يمكن صوغه وفق مصلحة محددة، هدفها العدل، لكنه في النص مفهوم محدد (مخصص)، فالزكاة جزء من العدل (الأخذ من الأغنياء وإعطاء الفقراء) لكنها تنطلق من "طبيعية"، "موضوعية" الانقسام إلى  أغنياء وفقراء، والفيء وخمس الغنائم جزء من العدل، لكنهما يؤكدان الانقسام غني/  فقير، ولأنه مخصص لايمكن قلب معناه دون "اللعب" بالنص. أولاً، وبشكل مفضوح ثانياً، وبالتالي لايؤدي الغرض منه ثالثاً. ولعل التأكيد على "اشتراكية الإسلام" يؤكد كل ذلك، وهذا المفهوم يتعلق أولاً بالتأكيد على محورية الزكاة وتوزيع الفيء والغنائم، وثانياً بالقول  ب"غياب ملكية الارض في الإسلام" ثالثاً واهمية هذه المسألة تكمن في أنها محور الاقتصاد الإسلامي، ولاشك في أن أي تفسير "غير قسري" لن يصل إلى هذه النتيجة، وحتى التفسير القسري سيبدو نشازاً، لأن النص  واضح هنا، وهو يدخلها في عموم مفهوم الاموال من جهة، ويشير إليها مباشرة من جهة اخرى، وهنا أشير إلى أنه يمكن اعطاء معنى محدداً للعدل حين يكون عاماً في  النص، بينما لايمكن ذلك حين يكون ذو معنى محدد (مخصص). وبالتالي يمكن أن نشير إلى المسيحية، حيث كانت الاحكام خارج النص. من فعل رجال دين. وإن ربطت بالنص، كما أنها كانت  ذو نزعة إنسانية مضادة للظلم، وتؤكد على قول  المسيح "اعط ما لقيصر لقيصر ومالله لله", وفي هذا الوضع يمكن أن تكيف "بسهولة". والبروتستانتية هي عودة إلى النص (الانجيل) دون الاحكام والتفاسير التي وضعت لاحقاً. لهذا كانت عقيدة ايمانية فقط (رغم كل ما فعلته)، مما يعني أنها تخلت عن كونها معنية بكل ما هو دنيوي (التشريع). وهذا الاساس هو منطلق تطور العلم والفكر، ومن ثم  فصل الدين عن الدولة. ولاهوت التحرير هو تفسير حديث للنص (الإنجيل) انطلاقاً من "اساسه" الإنساني عبر رؤية اشتراكية. بمعنى أن عمومية النص كانت تسمح بذلك. خصوصاً بعد التطور الكبير في العلم والفكر، وتكريس علمانية الدولة، وبالتالي تحقق الفصل بين الدين والسياسة والدولة. لكن يجب أن نلاحظ أن "لاهوت التحرير" هو "عودة سياسية للدين". والطابع الإنساني موجود في النص (القرآن)، وفي العقيدة تحديداً، لكنه من غير الممكن تفسير آيات الاحكام في هذا السياق، فرغم إنها كانت "إنسانية" حين الدعوة، لأنها متوافقة مع التطور التاريخي آئنذ، إلا إنها لن تبدو كذلك الآن، فهي احكام لتطور محدد في زمان ومكان محددين، وبالتالي لايمكن "مطها" لتطور آخر، وزمان ومكان آخرين إلا بالقسر، وهو ما لا يجعل التفسير منطقياً. أو ممكن القبول. وبالتالي فالمشكلة هنا لا تحل إلا بتحقيق الفصل بين الدين والسياسة (والدولة). بين العقيدة والاحكام، وهو ما عبّر عنه تيار داخل المؤسسة، وإن لم يصبح هو التيار المسيطر، ولقد أوضحنا مدى تأثيره سابقاً، والسؤال هو: كيف يمكن أن يتجدد هذا التيار، وأن يصبح مسيطراً؟ ولقد أوضحت أيضاً دور الفعل الخارجي (الفكر العلماني، الدولة..). إن وضع الإسلام مقارب لوضع الكاثوليكية، التي تكيفت على ضوء تطور الواقع (الفكر/الدولة)وليس على ضوء ثورة فيها، وهذا يوضح أن البروتستانتية (رغم أنها غدت كنيسة مستقلة). وكانت "شرارة" البدء بالتنوير في أوروبا أكثر مما كانت تحويلاً للمؤسسة (الكنيسة). وبالتالي فلا شك أن حركة التنوير الإسلامية لعبت هذا الدور (وإن تشكل آخر) دون أن تتحول إلى مؤسسة، رغم الاختلاف الكبير بينهما نتيجة اختلاف الوضع، فالبروتستانتية كما اشرت كانت بدء نشوء فكر حديث، لكن حركة التنوير نشأت بتأثير اقوى من الفكر الحديث (وربما كانت العودة إلى الطهطاوي أكثر فائدة هنا، لأنه طرح حركة تنوير مثل تغلغل الفكر الحديث. حيث كان منطلقه دون أن تعقد تشابهاً مع البروتستانتية.
 وإذا كانت الاصولية قد نهضت، فلا يعني ذلك أن ثورة في ا لدين، لم تتحقق. بل يعني نقص في تطور المجتمع، ولهذا فإن الهدف هنا هو: (1) توسيع وتعميق دور (وفعل) الفكر العلماني. المتمثل في تعميق الرؤية الديمقراطية. العقلانية والعلمانية. واعادة  تفسير التاريخ والدين والواقع تفسيراً علمياً، وفي هذا الوقت من المنظور الماركسي. لأن حركة التنوير الليبرالي استنفذت اغراضها، ولأن الطبقة المعنية بالتغيير الديمقراطي (البرجوازية) عاجزة، بل أن مصالحها قادتها إلى الاتكاء على المؤسسة، وتعميم الفكر الغيبي (دون أن ننسى الاستثناء)، وبالتالي السعي لتحويل المجتمع (دفع التطور) انطلاقاً من الفصل بين الدين والسياسة والدولة (تعميق هذا الاتجاه الذي بدأ من بداية القرن). وهذا يفرض على المثقف أن يكون علمانياً  منسجماً (وهنا ماركسياً منسجماً)، يطرح التصورات المطابقة للتطور الحقيقي، دون تلمس الشرعية من "الاصول"، بل بالقطيعة ومعها (منهجياً)، (2) إن تحقق ذلك، قد يفرض نشوء تيار يستند إلى حركة التنوير. باسهامها القائم على "الفصل"، وتعميقه. لكن في كل الأحوال فإن فعل التقدم الحديث سوف يفرض تكيف المؤسسة. ولاشك في أن الخطر الاساسي لم يكن في الحركة الأصولية، بل في الانهيارات التي حدثت في صفوف المثقفين والحركة السياسية، الأمر ا لذي ضخم من أخطار الحركة الأصولية، وأفسح لها  مجالاً واسعاً في الاستقطاب.
(III) تكوين الدين
 التعقيد في مسألة  العلمنة، ينبع إذن من كون النص عقيدة وشريعة معاً، وبالتالي فإن العودة إلى الاصول، عبر تجاوز التفسيرات اللاحقة كلها (منذ الدعوة إلى عصر الانحطاط) تعيد فرض المسألة ذاتها. النص كعقيدة وتشريع. (وبالتالي السلطة الدينية). ولعل هذه الحقيقة هي التي كانت تستدعي العودة إلى التمسك بالتفسيرات اللاحقة. بغض النظر عن أصولها من حيث الاتجاهات. حيث أن، مثلاً العودة إلى المعتزلة تقديم تفسيراً في صيغة أكثر "عقلانية"، لكنها في كل الاحوال تكرس النص (جوهر النص) في العقيدة كما في التشريع (وخصوصاً في التشريع حيث أن الاختلافات هنا محدودة). وضمن الظرف الراهن سوف يفضي إلى "الانزلاق" إلى  التفسيرات الاخرى "الأقل عقلانية" (اللاعقلانية). لأن الاختلاف بين التفسيرين. والذي كان مهما~ في الماضي، أصبح ثانويا~ راهنا~. وإذا كانت العلاقة بين العقل والنقل، قد تفككت عبر قرون في الماضي سنلاحظ أن تفككها راهناً يتحقق بشكل سريع (يمكن ملاحظة ذلك لدى الامام. الذي تأثر بالمعتزلة، ثم مال إلى اليمين لكنها أوضح مع خليفته رشيد رضا. كذلك يمكن ملاحظة ذلك لدى سيد قطب..). إن اختلاف الزمن، وتحوّل النص إلى ماضٍ. يعيش الحاضر، يجعل هذا الانتقال سريعاً، وهذا التحول محققاً، مادام أساس الوعي قائم على العلاقة بين العقل والنقل، وما دام التمسك بالنص كنص خاص بالدنيا والدين قائماً. لهذا انطلقت "حركة التنوير الديني" من الفصل بي الدنيا والدين. وهذه هي أهميتها الحاسمة. وبالتالي فإن الانطلاق من النص، والسعي لإعادة تفسيره، حتى في إطار "عقلاني". لن يفضي سوى إلى تكرار التفسيرات القديمة وربما بتطعيمها ببعض "الوقائع" الحديثة. ولأن ذلك لايحقق لها السطوة، تتراجع إلى "اللاعقلانية" حكماً، وهي تنطلق في كل الاحوال من تحقيق "سلطة دينية". أكثر أو أقل تسامحاً مع الأديان الأخرى، ومع الاتجاهات العقلانية.
 نقصد هنا بأن "السبق الأوروبي" المتمثل بالبروتستانتية، لايقود إلى نتيجة صحيحة بخصوص الإسلام، وكذلك "لاهوت التحرير". مما  يفرز نزع الوهم في هذا المجال. ولا أقصد هنا أن الإسلام غير قابل للتكيف، بل أقصد بالتحديد. أن طريقة تكيف الإسلام مختلفة عن المسيحية. وإن كان الالتفات إلى الكاثوليكية ضروري هنا، حيث أنها تؤكد بأن المسيحية تكيفت بطرق مختلفة. المسألة في الإسلام لاتتعلق ب "ثورة" على الاطلاق، بل تتعلق بتكيف مع تطور خارجي ومقبول الاندماج فيه وفق شروطه، وهو هنا التطور في المجتمع، أي التطور الاقتصادي الاجتماعي، والفكري السياسي (والدولة). لهذا فأنا أرى أن حركة التنوير الديني حققت أغراضها، لأنها أعطت الشرعية لتطور الواقع. والفكر الدنيوي (العلماني). وبالتالي فأنا أرى أن الميل ل "تنوير" الدين، من قبل العلمانية (القوميين والماركسيين) هو تحويل لهم إلى فقهاء. أكثر منه تأثير لهم في الفكر الديني. بمعنى أنه ميل نحو اليمين، يتغطى بشعار تحويل  اليمين إلى اليسار.
لهذا لاحظنا أن الفكر الديني تعزز بمثقفين جدد من صفوف اليسار، تعكس مع ما حصل في عصر النهضة. حيث تعزز الاتجاه العلماني بمثقفين دينيين. ولا شك في أن مهمة المثقف الديني (أو فلنقل الفقيه) هو كبح تحويل المؤسسة الدينية إلى مؤسسة سياسية، والتثقيف انطلاقاً من عدم استغلال الدين في الصراع السياسي. لأن لهذا قوانينه "الدنيوية". وبالتالي فإن الفعل السياسي (سواء لرجل الدين أو للشعب) يتحدد خارج الدين. ولايتحقق ذلك إلا بتحويل السياسي (سواء في مجال الثقافة / الفكر، أو الاحزاب، أو الدولة) إلى قوة مهيمنة قادرة على استقطاب الاغلبية.
وأنا، هنا أنفي إمكانية تشكل "ديني سياسي ثوري". وفقد انتهي دور الدين السياسي، في اطار تحقيق التطور. حيث "حقق الغرض منه في هذا المجال". ولا شك في أن تحليل تكوين النص  يوضح ذلك، أننا هنا نشير إلى مستويات النص. رغم أنها متداخلة. (يخدم بعضها بعضاً). وكون العنصر الإيديولوجي فيها. هو العنصر الجوهري، لأنه صياغة لوعي طبقي في شكل مقدس، ولقد عبّر عن وضع تاريخي. كان ينزع نحو التطور، ولقد تحقق ذلك في إطار الإمبراطورية العربية الإسلامية، لكننا اليوم نستطيع الفصل بين المستويات لأن بعضها يتعلق بالإنسان، الإنسان الفرد، فيما يتعلق بمخاوفه وهواجسه. وبعضها يتعلق بالدنيا.أي التكوين الاقتصادي الاجتماعي والسياسي (والثقافي العام). وإذا كان هذا التكوين قد "تجاوزه" الزمن. ليحل محله تكوين جديد. مطور، فإن مخاوف الإنسان وهواجسه باقية ومستمرة، وبالتالي فإن الفصل هنا يقوم على "نزع" مخاوف الإنسان وهواجسه من الإيديولوجية، تعريتها من كل مطمح دنيوي. وهنا يمكن أن نلحظ ثلاث مستويات:
مستوى عقيدي. ومستوى تشريعي، ومستوى تختلط فيه العقيدة والتشريع.
المستوى الأول: يتعلق بالتوحيد، التوحيد ضد الشرك، والدين الصحيح ضد التحريف (الذي طال الأديان الأخرى حسب النص). والعبادات (الصلاة، الصوم، الحج). والأخلاق العامة التي تتعلق بسلوك الفرد.
المستوى الثاني: يتعلق بتحويل الخضوع للمطلق. وعصمته وتحكمه ومقدرته وألوهيته. إلى مرادف نظري لسلطة البشر فيما بينهم. حيث أن ثنائية الله /عبيده. تتحول إلى ثنائية اسياد / عبيد، لتستوعب الانقسام الطبقي، وكذلك فإن التأكيد على العبودية للمطلق، تتحول إلى تأكيد للخضوع  لممثله المشخص (الطبقة/السلطة)، ولا شك في أن نشوء المطلق أعطى  المشروعية للطبقة المسيطرة (وللسلطة لغة الشخص) لتأكيد هذه المماثلة، وبالتالي استخدامها  لتعزيز سلطتها، مغطاة بالمقدس.
 المستوى الثالث: الشريعة، التي تضفي على كل ما هو دنيوي طابعاً مقدساً. وهي هنا تتعلق بملكية الثروة. الإرث، الزواج، الطلاق (العلاقات الاجتماعية بمعناها الطبقي، ومعناها العام). والمعاملات عموماً، السلطة (أولي الأمر، الشورى). أحكام الحدود (السرقة، القتل)، الردة.
وهذا المستوى هو الجوهري في التحليل الاقتصادي الاجتماعي. والمنتج للإيديولوجيا المكرسة لنمط اقتصادي اجتماعي معين، لكن المختلطة ب (المقدس)، والمغطاة به، لهذا قلت أن الهدف هو فصم الإيديولوجيا عن المقدس، بمعنى إلغاء قداسة الإيديولوجيا كيف تتحقق ذلك في الإسلام؟ إن الهدف هنا هو تأكيد المستوى الأول، دون المستويين الآخرين. لكن تماسك النص يجعل المسألة معقدة. لكنها ضرورية في كل الأحوال، وإذا كانت حركة التنوير الديني قد أكدت فصل  الدين عن السياسة (الدولة). وهي خطوة هامة، كما أشرت، فإن إكمالها ضروري كذلك، وإذا كانت حركة التنوير قد نبعت من داخل المؤسسة، فإن اكمال  مابدأته لن يتحقق، كما لاحظنا، من داخل المؤسسة أيضاً، إلا بفعل "التأثير الخارجي". نتيجة حساسية المسألة المطروحة وتعقيدها.
ومايهمنا هنا هو وضع المسألة في إطارها التاريخي، لأن هذه الرؤية وحدها، هي التي توضح الفارق بين الظروف الواقعية التي انتجت النص، والظرف الحاضر، وبالتالي يكون ممكناً "وضع حدود" التكيف، بتحديد ما هو تاريخي. فإذا كان التشريع قد وجد منذ أقدم الحضارات، فقد تبلور في إطار وعي اسطوري أولاً، فبدأ كرغبة  الهية. كان جزءاً من بنية إيديولوجية اسطورية: هذا ما نلاحظه لدى حضارات مابين النهرين والحضارة الفرعونية. كما لدى اليونان والرومان، ماقبل اعتناق المسيحية. لكن في "جوف" هذه الحضارات (الشرقية تحديداً) نشأت اليهودية، انطلاقاً من أنها نص عقيدي، وتشريعي معاً لكن اليهودية لم تصبح دستوراً لدولة (سوى بشكل هامشي، مثلاً اليمن قبل الإسلام). وهي في كل الاحوال نتاج وعي ساد الشرق. وبالتالي فقد تأثرت القوانين التي سادت في حضارة الشرق (من مابين النهرين إلى وادي النيل). وماركس وحده (فيما أظن) تنبه لهذه المسألة. فاعتبر أن التوراة هي صياغة لوعي (عادات وتقاليد) الشرق. أما المسيحية فقد ركزت على الجانب العقيدي. وكذلك على قيم اخلاقية محددة. ودعت إلى التزام التوراة (أو صيغة محددة للتوراة، لأنها انطلقت، كما في الإسلام من مفهوم التحريف). وحين أصبحت عقيدة الإمبراطورية الرومانية تعايشت مع القوانين الرومانية، التي هي تطوير لقوانين مابين النهرين ووادي النيل. وكما في حضارة الشرق تؤمن في قالب اسطوري. لتصبح بعد ذلك هي وهذه القوانين هي المسيحية. وجاء الإسلام تتويجاً لهذا التطور الديني والقانوني. لأنه كان تطويراً في الوعي الطبقي، وبناء أعاد صياغة العقيدة. كما أعاد صياغة القوانين.
وإن كانت الأسطورة هي التعبير الأولي في المجتمعات البدائية، فقد استمر ردحاً من الزمن في الحضارات الزراعية. لكن  الدين كان المعبر الحقيقي عن هذه المجتمعات لهذا نقول بأن الوعي لاحق للتطور الواقعي، ونتاج له في الوقت نفسه. ولكن، أيضاً، سنلاحظ أن جذور الدين وجدت في الأسطورة (فكرة الله) لكن الدين حقق التجريد النهائي لهذه الفكرة بنزعها من "التجسيد"، وبالتالي كان يخرجها من إطار ضيق إلى الإطار العام. من الإطار "المشخص" إلى الإطار المجرد، ولهذا  سنلاحظ أن الشريعة منذ موسى إلى محمد تناولت التكوين الاقتصادي الاجتماعي في نمط زراعي، من ملكية الأرض والأموال عموماً، إلى التجارة، والعدل (القوانين الناظمة للعلاقات). إلى العلاقات بين البشر (الزواج، الطلاق، الإرث، القتل، السرقة…) وحكم العبيد: وطبيعة الحكم. ولقد أعطيت هذه القوانين طابع القداسة (مثل قوانين مابين النهرين ووادي النيل، وحتى القوانين الرومانية).
إن الدين بالتالي أعطى طابعاً مقدساً لنمط محدد، عبر استخدام لمفهوم الله، الذي أصبح (مع الدين) هو الفاعل الأول (حسب تعبير فلسفة ذلك العصر). والمالك، والمسيطر، والمنشىء، والقادر، وبالتالي فقد استندت الإيديولوجيا إلى قوة خارقة" لكي تكرس هذا النمط التاريخي، بمعنى أن مفهوم القداسة كان محدداً لتكريس الملاّك، وهنا ملاك الأرض بالأساس، وجملة الآليات الاقتصادية الاجتماعية التي تحقق مصالحهم.
 ولاشك في أن حدود النص، واستخدام التعبيرات (المفاهيم) يوضحان هذا الواقع الاقتصادي الاجتماعي، هذا النمط الزراعي، لأنها كلها تدور في إطار تكوينه. وتشير إلى "المشخص" يه،  من كون الارض هي وسيلة الانتاج،  التي يمتلكها، إلى العلاقات التي تنشأ على ضوء ذلك، إلى نظام الحكم الضروري،  إلى طبيعة العلاقات بين البشر، (علاقات الانتاج، الرجل والمرأة، علاقات السوق، علاقات الغزو، ووضع العبيد..). وإن كانت تسعى إلى التأكيد على أنها فوق الزمان. وأنها الخاتمة, فلكي تكرس هذا النمط، تؤبده، تعتبره نهاية التطور، قمته.
وهو مايغدو إشكالية اليوم، لأن النمط أصبح من التاريخ،  نفي لمصلحة نمط احدث، أكثر تطوراً، ارقى، وإذا كانت هواجس الإنسان ومخاوفه باقية، فإن البناء الإيديولوجي (وبضمنه القانوني) المتداخل معها، لم يعد ممكناً استمراره، فقد تجاوزه الواقع، وهذا هو الاساس الذي يفرض فصل الدين عن السياسة (الدولة). وهو مايفترض تكيف النص (وبالتالي المؤسسة) مع الواقع الجديد، حيث العقل هو الذي يصيغ تصورات  البشر عن الواقع، دون قداسة، أو قوة فوقهم. فكيف يمكن للدين أن يتعايش مع مجتمع صناعي حديث؟ كيف يتوافق الدين مع استخدام منتجات الصناعة المادية (السلع) والفكرية؟ لقد تحدثنا عن مستويات ثلاث، وسيلاحظ أن آليات النص تساعد على تحقيق هذا التكيف، لكنني لا أقصد هنا آليات التفسير والتأويل القديمة فهذه لاتنتج سوى صيغ نافرة. بل أقصد آليات تنطلق من "روحية" النص. تتوافق والمستوى الأول وتهيء لـ "وقف" المستويين الآخرين.


(IV) الدين والعلمنة
آليات النص واحكامه
(1) القرآن استمرار  للتوراة والانجيل. كما أن الإسلام استمرار لليهودية والمسيحية، وهذا ما يؤكده القرآن  نفسه، وفي التوراة تشريعات وقيم نزلت في فترة محددة. وحسب القرآن هي منزلة من الله. لكن القرآن في تشريعاته وقيمه أكد بعضها وتجاوز عن بعضها. وهنا حسب القرآن أيضاً كانت الظروف الواقعية هي محدد هذا التجاوز، إذن في الدين يمكن أن تلغى أحكام ويقرر غيرها، وفق تغير الطرق. وبالتالي إذا ما انطلقنا من روح الدين. يمكن القول إنه تغير الظرف يفرض تغير التشريعات. لكن من يغيّر الآن؟ مادامت النبوة انتهت مع محمد (لا نبي بعده)؟ وهل التشريعات قابلة للتفسير وفق تغير الظروف؟ هذا ما أخذ به الفقهاء. لكن الظروف الواقعية توضح أن توافقاً بين النص والواقع لم يتحقق، هنا تتوضح مشكلة التفسيرات، التي توقفت عند لحظة محددة في التاريخ، لكن روحية الإسلام تفرض تشريعات وقيماً مطابقة للظروف(فهذا هو اساس نزول النص وتشكل الإسلام. بالاقرار بضرورة تجاوز اليهودية والمسيحية).
(2) هذه القضية العامة، تتمظهر (تتشخص) في القرآن نفسه، والمحددة في علوم القرآن ب "الناسخ والمنسوخ"، حيث أن تغير الظروف في لحظة محددة (هي حياة الرسول) فرض تغير الاحكام. مثلاً الموقف من المشركين الذين بدأ مرناً بداية الدعوة، إلى حد التحالف معهم، ثم تطور إلى تجنبهم، ومن ثم إلى الحكم بالموت عليهم. هذه الصيرورة ارتبطت بآلية تطور الدعوة وتحولها إلى قوة. كذلك مثلاً في الموقف من الخمر، حيث يتبين أن الظرف الواقعي فرض "تكتيكاً" واقعياً، وبالتالي فقد تغير الحكم. وهو مايشير إلى أن النص قد تعامل في احكامه، وفق منطق "تكتيكي" تدرجي.
(3) هذا يقودنا إلى واقعية النص. ولعل "أسباب النزول" توضح ذلك تماماً، حيث أن الاحداث الواقعية كانت تحدد النص، فأولاً الدعوة. التي كانت تفرض التركيز على الجانب العقيدي، ثم التشريع الذي نشأ بعد تشكل نواة الدولة في يثرب. وفي دراسة "أسباب النزول" مايوضح هذا الارتباط بالواقع توضيحاً تاماً. مثل الصراع مع اليهودية والمسيحية (الحوار الإيديولوجي). والتشريع حول الغنائم…..
(4) إن الدعوة إلى رفض التقليد  (الركود) صريحة في النص، فقد رفض منطق "إنا وجدنا اباؤنا على ملة"، داعياً إلى تقبل الجديد، وبالتالي فالروحية العامة هي رفض  التصورات والقيم السائدة في مرحلة، والسعي لاحلال تصورات وقيم جديدة محلها، لأن الواقع تغير، فهل تطال هذه الروحية النص ذاته؟ إذا أخذنا بالمغزى العام للنص نصل إلى أنها تطال.
(5) إن التناقض بين "روح" القرآن. ونصه. يفرض التأويل، لكن كيف يمكن أن نتعامل مع نصوص (احكام) تجاوزها الواقع؟
الموقف من العبيد، بعدما أفضى التطور إلى إلغاء العبودية تماماً.
الموقف من قانون الفتح، والغنائم بعدما انتهى زمن الفتوحات.
التمييز بين البشر على أساس الدين (الإسلام وأهل الكتاب)، والتشريعات الخاصة بذلك (الزواج، الإرث، الجزية، تولية الأمور السياسية والقضائية).
الزكاة بعدما أصبحت الدولة هي جابي ضرائب (وعلى ضوء إلغاء التمييز سابق الذكر).
طبيعة الضرائب عموماً، مفهوم السلطة (ولي الأمر، والشورى) بعدما تشكلت الدولة الحديثة. وكيف يمكن أن نتعامل مع وقائع جديدة؟ الاقتصاد وآلياته (الصناعة، البنوك، الشركات…) والتكوين الاجتماعي (العمل، ودور المرأة).
(6) في سياق ذلك  كيف يمكن أن نفهم موقف عمر بن الخطاب من مال الزكاة المخصص للمؤلفة قلوبهم، حينما قرر وقفه رغم أنه وراد في النص؟ وكذلك موقفه من توزيع الغنائم في سواد العراق، رغم أن آية الغنائم واضحة؟ إنه التزام بروح النص وبالتالي الانطلاق من الواقع لتحديد الموقف بغض النظر عن النص، ففي الحادثة الاولى انطلق من أن الإسلام أقر للمؤلفة قلوبهم لأن الإسلام كان ضعيفاً، فاضطر لذلك، ولما قوي لم تعد حاجة لذلك. وفي الثانية وجد أن توزيع الأرض (رغم أنه وزع الاسرى والاموال المنقولة) يعني الاستقرار، وترك "الجهاد"، وكانت مصلحة الأمة تفرض الامتداد، هذا هو السبب المضمر، والسبب الآخر الذي أشار إليه عمر هو أن توزيع الأرض الآن يعني إهمال الأجيال التالية لهذا استشهد بآية من الآيات الخاصة بالفيء، رغم عدم انطباقها على الواقعة.
(7) إن التمسك بالتقليد، والتزام تكرار ما قيل في الماضي، يتنافى مع رفض النص للتمسك بالتقليد (إنا وجدنا آبائنا على ملة…). وبالتالي مع روحية النص، فكيف يمكن أن تحل اشكالية التزام النص وحركيته؟ لايمكن ذلك إلا بالعودة إلى القيم العليا، إلى التجريد الاعلى (مثل الخير، العدل، المساواة بين البشر). وبالتالي العودة إلى الطابع العقيدي العام.وإذا كانت المسألة في المسيحية قامت على أساس العودة إلى النص. الخالي من الاحكام. وإهمال كل التفسيرات والاحكام اللاحقة له، فإن المسألة مع الإسلام أكثر تعقيداً، لأن الاحكام جزء من النص، لقد اعتبر الإسلام أنه خاتمة الاديان. وبالتالي تبلور الوعي أن التشريع الإسلامي (ومن ثم الإمبراطورية) هو خاتمة التشريعات. ويمكن أن يكون صحيحاً ذلك انطلاقاً من أنها نهاية الاحكام والقيم المستمدة من الله. أي نهاية الشريعة التي اعتبرها العقل "نازلة" من الفاعل الأول. لكن كان يعني ذلك. أن العقل بدأ يستشعر ثقته بذاته، أي أن التأكيد على أن الإسلام هو آخر الاديان كان يعني، إطلاق فعل العقل (دون فاعل أعلى)، وبالتالي تحويل كل مايخص البشر إلى فعل دنيوي، وإذا انطلقنا من الفهم الديني. نقول أن الله المنزل للشرائع، إما إنه اعتبر هذه هي الصيغة النهائية للعالم، وهو مايتناقض مع تطور الواقع ذاته، أو أنه ترك كل ماهو دنيوي للبشر، عارفاً أنها  ستتناقض مع التشريع المحدد (النص)، وبالتالي قابلاً بتجاوزه، بفعل بشري. وروحية الإسلام تتوافق مع ذلك، لهذا يمكن أن نقول انطلاقاً من الفهم الديني، أن الله حدد شرائع البشر حينما كانوا لايملكون المقدرة على ذلك، لكن تركها لهم حينما "نضجوا"، "بلغوا سن الرشد"، أو وفق المنطق العلمي يمكن أن نقول أن العقل البشري كان يعيد كل تصوراته الخاصة، وكل الشرائع والاحكام إلى قوة أعلى (الله) لكي تلقى قبولاً من البشر، وبالتالي فإن  الطابع المقدس للشرائع يهدف إلى تقبلها من قبل البشر، الذين لم يكونوا يفهمون الواقع، واسباب كل مايحدث  فيه (في الطبيعة والمجتمع)، ويعيدونها إلى فاعل أعلى (أقوى، أعرف، أقدر..)، وبالتالي فإن الشرائع المنسوبة إليه تلقى قبولاً منهم. لهذا يمكن القول أن أنسنة الإنسان، وتجاوزه لأصله "الحيواني". كانت بحاجة إلى "فعل خارجي" تفعله "قدرة" غير بشرية. وهذا هو بالاساس سبب نشوء الاديان، بفعل العقل البشري. لهذا نلاحظ  أن الأديان رسخت مبدأ عدم الزواج من الأم (الأب)، والأخ (الأخت). والعم (العمة)… كما رسخت  قيم اخلاقية هامة. كان التطور الواقعي (الاقتصادي الاجتماعي) يحتاجها. وكذلك رسخت التراتيبية مما جعل وجود الدولة أمراً مقبولاً، وهنا أقول  أنه إذا كان الدين نتاج تطور واقعي محدد (الانعكاس)، فقد لعب دوراً في تكريسه، لأنه أوجد عناصر الوعي بمكوناته (الواقع)، و "طابق" بينهما (الواقع والوعي). إذن سواء انطلقنا من الفهم الديني (حيث أن الله يحدد أن الإسلام آخر الشرائع)، أو  من المنطق العلمي، سنلاحظ أن التشريع (وبالتالي السياسة والدولة) أصبح  من فعل بشري (دنيوي). فكما "نفى" الإسلام المسيحية واليهودية، وكما نفت أحكام  أحكام أخرى (الناسخ والمنسوخ)، ستنفي القوانين الوضعية الشريعة، والأساس هو الصيرورة الواقعية التي حددت نشوء الدين، وبالتالي نشوء الشريعة، ومن ثم تحدد نشوء الفكر كفعل للعقل البشري، والتشريع كفعل له أيضاً.
(8) فعل العقل البشري فيما يتعلق ب "الدنيا" إذن. له الأولوية. إنه محدد الأفكار والتصورات والقوانين، التي تخص الواقع (الدنيا). وهذا هو الاتجاه العلماني، المختلف بين اولوية الفكرة، أو اولوية الواقع في العلاقة بين بينهما (الفكرة والواقع). أما الفكر الديني، فإما أن يكون "خارجاً" يعبر عن نزعة ماضوية تحاول فرض ذاتها على الواقع، أو أن يتكيف مع الواقع. والتكيف لايتحقق إلا بأن يقرر الفكر الديني ترك ماهو دنيوي (التشريع)، ليتحول إلى عقيدة خاصة، "منعزلة" عن صيرورة الواقع، خارجها، يتعلق بالتوحيد بالله وعبادته، وبالقيم الإنسانية العامة (الخير، العدل..). وهو مايعني "وقف" العمل بالتشريع، خصوصاً أن التطور الموضوعي اوقف العديد من الأحكام، كما جرت الإشارة سابقاً، أن تطبيق آليات تعامل النص مع النصوص السابقة، وآلياته في رفض التقليد وقبول الجديد، وكذلك مفهوم الناسخ والمنسوخ، على الواقع الراهن، يفضي ولا شك إلى تحقيق هذا التكيف، والمسألة تتعلق برجال من مستوى عمر بن الخطاب، الذي لم يتوان عن "وقف" نص صريح نتيجة تغيّر الظروف. ويمكن القول أنه تعامل معه كما لو كان الرسول هو الفاعل، فنسخ آية، لم تعد تطابق الظروف، بمعنى أن عمر إتبع آلية الناسخ والمنسوخ لكن دون أن يضيف على النص، لأن الناسخ هنا يقع خارج النص. ومن فعل بشري. وهو هنا يميل للأخذ بأسباب النزول. أي بالواقع (الصيرورة الواقعية) و "تغير الأحكام وفق تغير الأحوال". بمعنى أن عمر استند إلى "الروحية العامة" للإسلام.
(a) ما بقي من الإسلام إذن  وفق هذه "الروحية العامة" هو العقيدة (حسب تقسيم الفقهاء).
لكن: كيف يمكن للفكر الديني أن يتكيف مع ذلك؟ هل يحتاج ذلك إلى "ثورة في الدين" وفق دعوة د. سمير أمين، أم إلى تصور تدرجي يفرض من خارج الدين؟ الخيار الثاني هو الممكن



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ما الماركسية؟
- الماركسية، التقدم والصراع الطبقي
- الليبرالية والليبرالية الجديدة
- عولمة -الشرق الأوسط
- ورقة عمل من أجل اليسار
- تحوّلات إستراتيجية قادمة
- عراق ما بعد الدكتاتورية آليات تشكيل - العراق الجديد
- العراق من الدكتاتورية إلى الاحتلال
- عولمة الليبرالية الجديدة
- العولمة والحرب
- حروب الإمبراطورية
- هل نستطيع تقييم التجربة الاشتراكية
- كتاب - اطروحات من أجل ماركسية مناضلة
- أية عولمة نناهض
- مع حقوق الإنسان ضد حقوق الشعوب؟!
- العراق كبوابة لصوغ - عالم جديد
- لا للحرب...
- مصير الماركسية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية
- ما العمل حول إعادة بناء اليسار الماركسي
- الحداثة من منظور غربي: كيف تنظر الرأسمالية إلى تحديث الإسلام ...


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
- أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال ...
- كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة ...
- قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ ...
- قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان ...
- قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر ...
- قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب ...
- قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود ...
- قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى ...
- قائد الثورة الاسلامية: العدو لم ولن ينتصر في غزة ولبنان وما ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سلامة كيلة - تأملات في الدين والدولة