Bernard CASSEN
أكثر من حكومة ستبدي ندمها بسبب تبنيها قانون منظمة التجارة العالمية خلال المؤتمر الوزاري الاول الذي انعقد في مراكش عام 1994. ففي حين كان يفترض ان تشكل هذه المنظمة منتدى دائماً للنقاش التجاري المتعدد الطرف في قطيعة مع "دورات" التفاوض ـ المحددة المهل على الورق والتي لم تحترم مرة ـ التي كان تنظمها سلفها "الغات" (الاتفاقية العامة حول الرسوم الجمركية والتجارة) (1) فان المنظمة استمرت بالعمل وفق المنطق السابق نفسه (2).
وبالفعل فان الاهتمام يتركز على ايام الاجتماع الاربعة النصف سنوية خلال المؤتمر الوزاري وهو السلطة العليا في منظمة التجارة العالمية، بينما تجري بعيدا عن انظار المتظاهرين مختلف المفاوضات الجارية حول الحق في الدواء وحول الزراعة والخدمات والمعاملة الخاصة والمتنوعة للبلدان النامية والوصول الى سوق المنتجات غير الزراعية الخ... ولكل من هذه المفاوضات اطار عملها وروزنامتها من دون ترابط رسمي في ما بينها...
ان المؤتمر الوزاري المقبل في كانكون (المكسيك) بين 10 و14 ايلول/سبتمبر ـ المنعقد بعد اجتماع الدوحة (تشرين الثاني/نوفمبر 2001(3) ـ لا يرتدي اي طابع خاص بل هو مجرد لقاء دوري ينص عليه قانون المنظمة. لكن وعلى غرار ما يحيط بالاجتماعات التفاوضية الاوروبية من تصوير دراماتيكي لاستحقاقات غير ملحة في الحقيقة، فان اجتماع كانكون يثير مختلف التكهنات والتقويمات اللاحقة حول "نجاحه" او "فشله". ما هو معيار النجاح في الواقع؟ انه بكل بساطة الاستمرار في تدعيم الاجراءات الليبيرالية ضمن المجالات الخاضعة للتفاوض والتوسع الى قطاعات اخرى اذا امكن.
لكن هل تمثل هذه التدابير الليبيرالية نجاحا تحققه الشعوب المعنية؟ لا يطرح الليبيراليون هذا السؤال على انفسهم لان القضية قضية ايمان ولو ان الارقام لا تصب وللاسف في خانتهم. وفي هذه المجال بالذات برهن الباحث الكوري ها-جون شانغ مستعيدا ابحاث الخبير الاقتصادي السويسري بوا بايروخ (من قدامى "الغات") وغيرها، ان النمو الاقتصادي العالمي كان أقل ارتفاعا في الثمانينات والتسعينات المعتبرة العصر الذهبي للتبادل الحر ورفع القيود مما كانت عليه في الستينات والسبعينات المصنفة بازدراء حقبة "بالية" من حقبات الحماية والتدخل الاقتصادي(4).
توجد وسيلة في غاية البساطة للتأكد من ذلك: القيام بجردة علنية قابلة للنقاش بناء على طلب المجلس الاقتصادي الاجتماعي الفرنسي في توصيته الموثقة(5) "حول النتائج غير التجارية المترتبة على اتفاقات مراكش وتأثيرها على النمو الاقتصادي والتخفيف من الفروقات بين الدول نسبةً لمعدلات نموها، وحول العمالة وتوزيع النشاطات الانتاجية بين المناطق ومسائل البيئة وتطبيق المعايير الاجتماعية". ويقترح المجلس الاقتصادي الاجتماعي على الاتحاد الاوروبي والاّ فعلى فرنسا اتخاذ المبادرة في الطلب من المجلس الاقتصادي الاجتماعي التابع للامم المتحدة اجراء هذا التقويم.
من المستغرب ان المفوض الاوروبي باسكال لامي، الموجود باستمرار في وسائل الاعلام الكبرى حيث يستفيد من صداقة الجميع، لم يتبنّ بعد هذا الاقتراح، هو الذي يتقن على الدوام التبجح بفوائد تحرير المبادلات. عليك ايها السيد لامي لتأكيد اقوالك استدعاء ثلاثة شهود من كبار الشخصيات الذين وقعوا مؤخرا مقالا مشتركا حول التجارة المعولمة في خدمة الفقراء وهم من اعتى المدافعين عنها في وظائفهم السابقة او الراهنة: السيد روبرت روبن، وزير الخزانة الاميركي السابق ورئيس اللجنة التنفيذية في سيتيغروب، السيد شويشيرو تويودا الرئيس الفخري لجمعية ارباب العمل اليابانيين والسيد دومينيك شتراوس كان، وزير المالية (الاشتراكي) السابق في الحكومة الفرنسية(6).
يدرك المتابع بسهولة انشغال المفوض في الوقت الراهن عن متابعة هذا الاقتراح. فالمسرح يتم تحضيره في كانكون ويجب ان لا تتحول المسرحية الى مشادة في وقت يتظاهر مئات الآلاف في ارجاء العالم كافة وخاصة بعد النجاح الهائل لتجمع منطقة "لارزاك" ضد آلية عمل منظمة التجارة الدولية تحت شعار "العالم ليس بضاعة للبيع". وكي يستمر العرض الليبيرالي، من الملحّ التباحث في الملفات المحددة: اتخلى هنا وتعطيني تنازلات هناك ونتحد انت وانا مقابل طرف ثالث.
من وجهة النظر هذه فان اتفاق الحد الادنى بين الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي حول الزراعة، وإن كان لا يقدم حلا واضحا للمشكلة الجوهرية، يبرهن على الاقل عمق التضامن الاطلسي في مواجهة العديد من بلدان الجنوب المطالبة بالكثير مقابل هذا "الانفتاح" السير في "قضايا سنغفورة"(7) وهي الاستثمار والمنافسة وشفافية الصفقات حول المشاريع العامة و"تسهيل" المبادلات (تحسين آليات نزع الرسوم الجمركية الخ...). هذه القضايا هي التي تحرك السيد لامي وزميله وصديقه الاميركي السيد روبرت زوليك لان من شأنها القضاء على ما تبقى من حمايات اقتصادية لا تزال قائمة في الجنوب في وجه اجتياح الشركات المتعددة الجنسية من اوروبية واميركية.
في مجال الاستثمارات يطمح المشروع الى اعادة ادخال الاتفاق المتعدد الطرف حول الاستثمارات من نافذة منظمة التجارة العالمية مع بعض التعديلات البسيطة بعدما أخرج غير مأسوف عليه من باب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عام 1998. ليس هناك من ضمان بأن توافق حكومات الجنوب وفي مقدّمها الهند على فتح هذا الملف. خصوصا اذا رفض السيد زوليك وهو اسير لوبي شركات الادوية الانضمام الى الموقف الاجماعي الذي اتخذته 145 دولة من دول منظمة التجارة العالمية حول حصول الدول الفقيرة على الادوية الاساسية التي ليس في مقدور هذه الدول انتاجها(8).
تحتل هذه المسائل الرئيسية مقدمة المسرح. بيد أنها تطمس مشكلات اخرى اساسية هي ايضا لكنها مصنفة من المحرمات كتشجيع الاشباع الاجتماعي والبيئي من خلال تبادل البضائع والخدمات واستخدام واشنطن لتقلبات الدولار كسلاح اقتصادي ضارب واخيرا موضوع الدين العام في البلدان النامية. ذلك ان سداد هذه الديون المقدسة هو وحده الذي يرغم هذه البلدان على تصدير منتجاتها الزراعية في الوقت الذي لا يتمكن جزء من شعوبها كما في البرازيل من تأمين كفافه. انه وضع يفتقر الى المنطق لكنه يملأ خزائن الدائنين ويبقي اقتصادات هذه الدول في حال من التبعية القريبة من الاختناق. لذلك ندرك كيف ان منظمة التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية والمفوضية الاوروبية وحكومات الشمال ترفض اجراء جردة مبررة لثماني سنوات من الليبيرالية التي حفزتها منظمة التجارة العالمية، وهي الجردة التي تطالب بها مئات الجمعيات والنقابات في العالم اجمع، وكما اشرنا، هيئة رسمية تابعة للجمهورية الفرنسية الا وهي المجلس الاقتصادي الاجتماعي. الحاجة الملحة ليست لمزيد من الليبيرالية بل للبحث في حقيقة هذه الليبرالية ونتائجها!
--------------------------------------------------------------------------------
* صحافي
[1] منذ العام 1947 عقدت 8 دورات من المفاوضات ضمن اطار "الغات" وكانت آخرها دورة الاوروغواي (1986 ــ 1993)..
[2] اقرأOlivier Catteano, “ Comprendre le cycle de négociations multilatérales de Doha, son contexte, ses enjeux, ses perspectives ”, Les Eudes du CERI, Paris, n” 92, décembre 2002
[3] من اجل محصلة هذا المؤتمر اقرأ
”Globalisation à marche forcée”, Le Monde diplomatique, décembre 2001
[4] Ha-Joon Chang, “ Du protectionnisme au libre-échangisme, une conversion opportuniste ”, Le Monde diplomatique, juin 2003
[5] Jean-Claude Pasty, De Doha à Cancun : la libéralisation des échanges au service du progrès humain ”, Conseil économique et social, Paris, 28 mai 2003
[6] Sharing the benefits of global trade, Financial Times, Londres,19 mai 2003
[7] من اسم المدينة التي عقد فيها عام 1996 المؤتمر الوزاري الثاني لمنظمة التجارة العالمية، بعد عامين على مؤتمر مراكش عام 1994 والذي شهد تأسيس المنظمة.
[8] German Velasquez, “ Hold-up sur le médicament ”, Le Monde diplomatique, juillet 2003
جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم