لكل من يتصدى بالتحليل للوضع العراقي الراهن بعد انهيار النظام الدكتاتوري بكل تعقيداته وإشكالاته، لا بد وأن يضع نصب عينيه أولاً الموضوعية في التحليل وإطلاق الأحكام، وثانية مصلحة الوطن والشعب ومستقبله واستقراره بعد عقود من الإرهاب والموت واستلاب الحرية وحكم الحزب الواحد.. بل حكم العشيرة المتخلف متمثلة برأس النظام البائد وبما جره من ويلات على العراق تمتد آثارها لأجيال لاحقة.
وكنتيجة حتمية لمغامرات النظام البائد وعنجهيته وعدم إذعانه لمنطق العقل ولكل الأصوات المخلصة المنطلقة من أحساس رهيب بالخطر الماثل، ومن ثم تماديه في التفريط بمصلحة الوطن وتغليب روح الأنانية ودفاعه المستميت عن كرسي نخرته أرضة الاستبداد، الذي ليس له مثيل في عالمنا المعاصر، حيث كان بالإمكان تفادي الحرب التي أعدت لها أمريكا وحلفائها بكل ما تملك من أسلحة فتاكة ومدمرة يحسب لها المنطق والعقل ألف حساب بدل التهور وجر البلد وقواته المسلحة وقدرات العراق المتداعية لأتون حرب مهلكة وخاسرة بكل المعايير.
ترى ألم يكن بالمستطاع تجنيب العراق هذه الحرب ومن ثم سلطة الاحتلال الأجنبي؟
أعتقد أنه سؤال يبقى يتقد في الأذهان لزمن طويل.. لكن بعيدا عن مصلحة رأس النظام وأجهزة مؤسساته التي لم تكن سوى أجهزة قمعية مستأسدة على شعبها وغارقة في أنانيتها ومتمسكة بأردان سلطة تهاوت منذ آذار عام 1991 .
من هذا المنطلق سأوجز بعضا من ملامح الراهن العراقي حسب تصوراتي وبعض الاستنتاجات التي خرجت بها باستطلاع آراء العديد من السياسيين والمثقفين والاكاديميين وشرائح من العمال والكسبة أجريتها مؤخرا داخل العراق، كذلك من منطلق مسؤوليتنا كأبناء لهذا البلد عانوا على السواء في الداخل والخارج ولا يهمهم سوى مستقبل العراق المستقل والحر بعد سنوات عجاف لم نملك خلالها الإرادة في التغيير، وذلك لأسباب عديدة يعلمها الغالبة من أبناء شعبنا.
ينقسم الوضع السياسي الراهن داخل العراق إلى عدة تيارات وتوجهات أفرزها الواقع بعد الانهيار السريع والدراماتيكي للنظام البائد ومن ثم دخول قوات التحالف بقيادة أمريكا للعراق كقوى محتلة لا يختلف عليها اثنان وسيطرتها التامة على كل المفاصل.. كذلك نتيجة لهذا التغيير وإفرازات واقعه حتم على القوى السياسية العراقية المعارضة تلك التي كانت خارج العراق وغيرها التي أعادت تنظيمها أو التي تأسست مباشرة بعد سقوط النظام أن تدخل بكل ثقلها وبمختلف توجهاتها السياسية والعقائدية معترك الساحة السياسية كل حسب اجتهاده وتصوره لعراق المستقبل.. مقابل سلطة احتلال تدعي أنها سلطة مؤقتة لحين استتباب الأمن والاستقرار في العراق.
إذن علينا أن ندرس هذه الظاهرة الإشكالية التي تكاد أن تكون الفريدة من نوعها في جميع أنحاء العالم (إذا قارنا ذلك بمثال قريب ومعاصر وهو المثال الافغاني، حيث تم التعامل مع حكومة وطنية من مختلف الأحزاب تشكلت في مؤتمر برلين قبل الإطاحة بنظام طالبان).
من هنا أستطيع أن اجزم أن الفهم القاصر والمضطرب الذي يحاول أن يسوقه البعض من الكتاب الذين تناولوا هذه القضية، بمختلف غاياتهم وأهدافهم، يساعد بعض الشئ بتشويش المشهد ويغفل عن واقع مغاير لا صلة له بهذه أو تلك التصورات.. وأنا وفق هذا الاستنتاج لا أحاول أن أداهن حقيقة عكس أخرى، حيث نستطيع أن نقسّم هنا القوى الفاعلة الآن على صعيد الواقع السياسي الداخلي، وتلك التي تحاول جاهدة أن يكون لها أثر فاعل حتى وإن جاء بطرق وأساليب غير مشروعة.. ومنها الاجرامية حتماً.
إذا أردنا أن نعزل مؤقتاً سلطة الاحتلال وصلاحياتها التي تكاد أن تكون مطلقة ومناقشتها في مبحث آخر.. نستطيع أن نقسم القوى الفعلية التي تحاول السيطرة على مجريات الأمور على صعيد الأرض والقرار، وبتباين هذه السيطرة المختلف إلى ثلاثة فئات:
1- مجلس الحكم الانتقالي ومجلس الوزراء المعين.
2- الأحزاب والتيارات الديمقراطية والليبرالية والإسلامية المعارضة.
3- ما يسمى بـ(المقاومة) وعصابات الإجرام المنظمة وغيرها.
* * *
مجلس الحكم الانتقالي ومجلس الوزراء المعين
في البدء لا بد من التنويه إلا أنني لست معنيا هنا بمحاولة تلميع هذا الطرف على حساب الطرف الآخر في المعادلة العراقية الراهنة، لكن تقودني رؤيتي للواقع السياسي المعاش سواء بإطلالة على ما يفكر به العراقيون (خارج وداخل العراق) وفق معايشتي وإطلاعي على ما ينشر هنا وهناك للطرفين.
جلنا يعلم ما كان يدور في ثنايا المخطط الأمريكي أثناء وبعد عملية الاحتلال وإسقاط السلطة الدكتاتورية، ومحاولة عزل معظم القوى السياسية الفاعلة في الداخل والخارج، تلك التي نتفق أو نختلف معها بالهدف والبرنامج والتصور، عن ساحة الفعل العسكري الذي انفردت به القوى العظمى وحلفائها، وكيف أنعكس هذا الأمر بالسلب على فاعلية هذه القوى وحد من إمكانية سيطرتها على الوضع الأمني وسد الفراغ السياسي الذي حدث بعد الانهيار التام لكل أجهزة النظام ومؤسساته.
من هنا أراد الأمريكان الضغط على تلك القوى السياسية التي عارضت النظام وحاربته بكل الوسائل وقدمت التضحيات الجسيمة على مذبح الحرية، وجعلها أداة طيعة بيد الحاكم العسكري ومن ثم الحاكم المدني الأمريكي، على أعتبار لم يكن لها دور فعلي في التغيير العسكري، مما دفع بالامريكان لسد الفراغ السياسي داخل البلد بمحاولة تكوين لجنة استشارية لا تملك أي صلاحيات سوى إبداء النصح والمشورة في هذا الأمر أو ذاك. لكن تلك القوى أثبتت بوقفتها الوطنية بأنها رقما صعباً لا يستطيع الأمريكان تمريره كما فعلوا أبان عهد صدام والبعث الذي دام لعدة عقود ونيف (رغم تركيبة هذه القوى المختلفة التيارات والايديولوجيات) مما أدى إلى تراجع هذا المخطط والإقرار بتشكيل مجلس حكم انتقالي مؤقت يؤدي بالنتيجة إلى الضغط وتقليص صلاحية الحاكم المدني الأمريكي وبمساعدة ضغوطات دولية واقتصادية هائلة لا يمكن أن تتملص أمريكا وتستفرد بالقرار العراقي على كل الصعد.
بدأت إنطلاقة مجلس الحكم موفقة على صعيد المطالبة بأخذ زمام السيطرة على الأمن كواحد من أولياته يؤدي بالنهاية إلى الاستقرار وتهدئة الوضع الاقتصادي المتردي الناتج عن سياسات رعناء غامر بها النظام البائد وبدد أموال وثروات العراق على حروب خاسرة لم يجني منها المواطن العراقي سوى الدمار والخيبة والأزمات الدائمة، ولا زالت مطالب مجلس الحكم الانتقالي وبعد تعيين الوزارة الجديدة تؤكد على أولوية حفظ الأمن من قبل العراقيين وأجهزة الشرطة والامن والجيش العراقي الجديد (مدعومة من العديد من الدول المؤثرة داخل مجلس الأمن الدولي والكثير من الدول الصديقة). أضف إلى ذلك قضية تعزيز العلاقات الخارجية مع دول الجوار والأمم المتحدة وبقية دول العالم، تلك العلاقات التي تأثرت بالسلب على مصلحة العراق والعراقيين كثيرا، نتيجة السياسات الرعناء التي كان يديرها النظام تارة على شكل حروب متتالية أفقدت البلد قدراته الاقتصادية الهائلة وجلب الويل والدمار لشعبه، وتارة على شكل صفقات لشد طوق الحصار ضد بلده وأبنائه.
كما واجهت مجلس الحكم قضية انتشار البطالة بشكل مروع وحل وزارات بكل مؤسساتها وكوادرها مما خلق وضع قلق ومضطرب. لذا حاول المجلس الضغط وبكل الوسائل السلمية المتاحة لتجنيب الشعب العراقي ويلات أخر لا طائل من ورائها سوى أنتشار الفوضى وعدم الاستقرار، فبدأ تدريجياً العمل على ذلك وصولاً إلى تشكيل مجلس الوزراء الذي يعد أول خطوة دستورية كان ينتظرها العراقيون بشغف، ومن ثم تشكيل لجنة مؤقتة للإعداد وتشريع الدستور العراقي بعد عرضه على الاستفتاء الشعبي. فسن مجلس الحكم الانتقالي قانون عودة جميع المفصولين السياسيين أبان فترة حكم البعث البغيض لوظائفهم واحتساب مدة الفصل لأغراض التعويض والتقاعد، وتوفير أكثر من 300000 فرصة عمل للعاطلين في وزارات الصحة والتربية والتعليم والخدمات العامة
كان السؤال الملح داخل العراق قبل تكوين مجلس الحكم الانتقالي هو ضرورة سد الفراغ السياسي والإداري (حكومة انتقالية تؤهل العراق لانتخابات ديمقراطية) الذي خلفته الحرب والهروب الجماعي المخزي لكل كوادر الدولة الأعضاء في حزب البعث، مخافة أولا من انتقام الشعب العراقي، وخوفا من الاعتقال على يد قوى الاحتلال.. وكان السؤال المقابل لذلك أمام القوى والأحزاب العراقية هو كيفية تفعيل الفعاليات العراقية وأولياتها بالشكل السليم ومعالجة الجرح العراقي الفاغر وترميم الوضع المنهار، والنظر بموضوعية لما ينوء به البلد وأبنائه من أثقال أرهقت كاهل الناس بالحروب والجوع وعدم الاستقرار. فبدأت نقاشات مستفيضة داخل بنية هذه الأحزاب ومع بعضها للخروج بحصيلة واقعية لطبيعة المرحلة وتقديم المهم على الأهم في هذه المرحلة بالذات، وصولا إلى الاستقلال التام الذي يهدف له الجميع، باستثناء بقايا النظام المقبور ومن تربطه مصلحة معهم، أو أولئك الذين يريدون للعراق عدم الاستقرار الدائم.
* * *
الأحزاب والتيارات الديمقراطية والليبرالية والإسلامية المعارضة
لا يخفى على أحد ممن تابع الأيام الأولى لسقوط الدكتاتورية وانهيارها السريع، مدى هشاشة الحكم الذي كانت تتستر خلفه وابتعادها عن الجماهير العراقية التي اغتبطت لهذا السقوط، ناشدة الانعتاق من الاستبداد والرعب الحقيقي الذي عاشته طويلا، وما المقابر الجماعية التي بزغت من بين ثنايا التراب والسجون والمعتقلات السرية التي لم يكتشف منها سوى القليل إلا دليلا على مدى العنف الذي واجهه الشعب العراقي وقواه الحية طوال فترة الاحتلال البعثي البغيض.. (حيث روى الكثير ممن قابلتهم داخل العراق أن الوضع النفسي والصحي والمعاشي نتيجة سياسات الضغط المتواصل من سلطة البعث وصل بين أوساط كثيرة من المجتمع العراقي إلى أقصى درجاته احتقانا، مما أدى لحالات أنتشار أمراض نفسية وأمراض غريبة وانتحار بين فئات المجتمع العراقي المختلفة) لكن فرحة الكثير لم تكتمل لأن هذا السقوط جاء على يدي قوى أجنبية طامعة بالعراق وثرواته، مما خلق عامل مؤثر في تأسيس وتكوين أحزاب وتيارات سياسية جديدة لم يعهدها العراقي من قبل، أحزاب (ديمقراطية، إسلامية، سلفية، ليبرالية، قومية، يسارية، ثورية) عدا تلك التي تنادي بالعودة للحياة الدستورية الملكية.
معظم هذه التشكيلات هي حاجة ملحة بنظر الكثير من العراقيين داخل العراق، باعتبارها موازنة مهمة ما بين الحكومة المتمثلة بمجلس الحكم الانتقالي، وبين معارضة لها تضغط عليها في سبيل ضمان الأفضل وتحقيق مطاليب الشعب ومراقبة أجهزة الدولة المتشكلة حديثاً، وتوجيه النقد العنيف لها في حال التفريط بهذا الحق أو غيره.
كما لا يفوتنا هنا أن أغلب هذه الأحزاب والتيارات السياسية (الاتحاد الديمقراطي العراقي ومجموعات تنظيماته التي تفوق الـ 15 تنظيماً، التيارات الإسلامية المعتدلة منها والثورية لدى الشيعة والسنة والتي لا يمكن حصرها هنا لكن من الممكن الحديث عن المؤثر منها وهو تيار مقتدى الصدر والمنتدى الإسلامي الديمقراطي والحزب الإسلامي العراقي وجماعة العلماء المسلمين، التيار الليبرالي، الأحزاب القومية العربية والكردية والتركمانية، ثوار الانتفاضة، اتحاد العشائر العراقية... وغيرها). وجل هذه التيارات والأحزاب الحديثة منها والقديمة تتفق على مسألة مهمة، وهي عدم رفع السلاح والمقاومة المسلحة في هذه الفترة بالذات، إدراكاً منها لطبيعة الوضع الداخلي والخارجي المعقد، وكفة الصراع الغير متكافئ، إضافة لأوليات المطاليب الجماهيرية وتعزيز البنى التحتية والوضع الإنساني والاقتصادي العراقي المتهالك وتوعية الجماهير سياسيا وثقافيا وتهيئته للمرحلة القادمة التي تتطلب وعيا ومسؤولية عالية في الاختيار الديمقراطي.
لكنها حقيقة لم ترتكن لهذا الخيار طويلاً إذا بقي الاحتلال على حاله مع الاستفزازات المستمرة لجنود قوى الاحتلال.. والعديد من هذه القوى أنذر المحتل بضرورة الالتزام بتعهداته أزاء العراقيين بالانسحاب من العراق وفق جدول زمني محدد وإتمام الاستقلال الناجز، وإلا سيكون هناك موقف مغاير، حيث تكون لغة السلاح والمقاومة هي السائدة.
وبأنتشار هذه الحركات السياسية ومقارها وصحفها بطول العراق وعرضه، هناك تأسيس آخر أخذ يشق طريقه، وأعني به "منظمات المجتمع المدني". فمنذ اليوم الأول على سقوط النظام البائد تشكلت العديد من هذه المنظمات، مثال ذلك (منظمة السجناء الأحرار، منظمة السجناء السياسيين، منظمات للطلبة "الطالب الغيور، اتحاد الطلبة العام، منظمات طلابية اسلامية" منظمات الدفاع عن المرأة، منظمة حقوق الإنسان العراقي، المنبر المدني العراقي، منظمة الدفاع عن البدون، الاتحاد العام للعمال، الصحفيين الديمقراطيين، مكتب الدراسات المدنية.. الخ) وهناك صراع حقيقي يتنامى ما بين الهيئات الإدارية المتشكلة أبان الحكم البائد وجلها من البعثيين وبين الكثير من الناقمين على البعثيين من المفصولين السياسيين والمهمشين والمنفيين خارج العراق الذين عادوا أليه أخيرا مطالبين بالتغيير لنقابات وجمعيات، مثل: نقابة الصحفيين العراقيين، نقابة المحامين، نقابة الفنانين، جمعية الفنانين التشكيليين، نقابة المهندسين والمهندسين الزراعيين.. وغيرها الكثير.
من هذا المنطلق يعتقد الكثير من العراقيين أن المستقبل مفتوح لكل الاحتمالات، لكن يبقى احتمال النضال السلمي في إنهاء الاحتلال وإحقاق الديمقراطية هو المرجح خلال هذه الفترة، وتلعب دور في ذلك الكثير من الفعاليات الثقافية والصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى (تصدر الآن أكثر من 115 صحيفة ومجلة داخل العراق، إضافة للكثير من الإذاعات المحلية في بغداد والمحافظات) مستفيدة من جو الحرية وكسر قيود الرقابة المعتادة أبان النظام المقبور، كما هناك مشاريع تأسيس قنوات فضائية عراقية مستقلة ستكون حتما مصدرا للأخبار الموثوقة من داخل العراق ومَصّداً تجاه تلك القنوات العربية التي تلعب دورا مزدوجا في العراق (مداهن ومحرض).
خلاصة القول أن هذه الأحزاب والتيارات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والصحافة والأعلام الحر ستكون دعامة أساسية في نقد الأخطاء وتصويبها، ومعارضة فاعلة ومؤثرة يحتاج لها العراق ومجلس الحكم الانتقالي أكثر من أي وقت آخر.
* * *
ما يسمى بـ(المقاومة) وعصابات الإجرام المنظمة وغيرها
بالتأكيد سيستفز هذا العنوان الكثير ممن يريد أن يغطي شمس الحقيقة بالغربال.. لكنني ألتمس حلم الحريص على كيان بلده، وأن يحلل الأمور بموضوعية وتجرد وبعيدا عن الغلو والمبالغة.
جميعا نتفق أن التغيير كان من المفروض أن يتم على يد أبناء العراق المخلصين ممن اكتو بنار الظلم والاستبداد والقهر، وبما أن ذلك لم يحدث لأسباب عديدة يعلمها الكثير، ومن بين تلك الأسباب وقوف أمريكا والغرب لوقت قريب مع حكم الطاغية صدام حسين.. لكن بالنهاية أصبح هذا النظام عبئا على أمريكا والغرب لشدة قسوته تجاه شعبه، ولاستخفافه بكل القوانين والمطالب الدولية، وعدم تحقيق الانفراج الوطني الذي كانت تطالب به حتى المعارضة المعتدلة.
ولنقلب الصورة قليلا.. ونحتمل أن التغيير حدث نتيجة أنقلاب عسكري قامت به مجموعة من الضباط الوطنيين الأحرار مع بعض القوى السياسية المعارضة لا تملك سوى الأسلحة القليلة وبعض القواعد العسكرية.. مقابل حكم شمولي يمتلك مئات الآلاف من الجيش المنظم يقوده ضباط بعثيون كان يغدق عليهم النظام الكثير من الهبات شهريا وسنويا على حساب غالبية الشعب العراقي، إضافة لعشرات الآلاف من قوى الأمن والمخابرات والاستخبارات والأمن الخاص وقوى الطوارئ والحرس الجمهوري وفدائي صدام والجيش الشعبي "تنظيمات حزب البعث التي تعادل قوى الأمن العراقي بشراستها ضد العراقيين" والأسلحة الفتاكة الصاروخية والجرثومية وغيرها الكثير.. ولنترقب كيف ستكون المعادلة..
لكن مهلا رجاءً، لماذا نذهب بعيدا في احتمالاتنا هذه..
لدينا مثال قريب لم يجف دم وأحزان ضحاياه للآن، مثال انتفاضة آذار 1991 وتحرر 14 محافظة عراقية في جنوب ووسط وشمال العراق من قبضة سلطة كانت متهاوية ومجهدة وقتها، حيث استطاع الشعب العراقي من قتل وطرد غالبية البعثيين ومخابرات وأمن النظام في تلك المناطق ولم تبقى سوى بغداد والرمادي وتكريت والموصل حيث تجمع شراذم النظام في تلك المناطق وأعادت صفوفها وبما تمتلكه من خزين أسلحة قذرة تطايرت فوق الرؤوس والمآذن والبنايات والحقول والجبال لتنشر الموت والدمار على جميع تلك المحافظات المنتفضة، لتحرق الأخضر واليابس وتنتهك كل المحرمات التي لم تستطع كل القوى المحتلة انتهاكها.
كذلك علينا التذكير بحملات التطهير العرقي والطائفي، وحملات تنظيف السجون بقتل جميع المعارضين السياسيين بمذابح جماعية فاقت التصور ببشاعتها (في أحد التقارير الذي استطعت الإطلاع عليه داخل العراق من إحدى المنظمات الحقوقية التي حصلت على الكثير من وثائق المخابرات العراقية بعد انهيار النظام مباشرة، يشير إلى إعدام أكثر من 600 معتقل سياسي ومؤشرا تحت أسم كل معدوم عنوانه الكامل وتاريخ وطريقة الإعدام "شنق، رمي بالرصاص، تذويب بالأسيد، تجريب مختبري، ثرم").
عبر هذه المقارنة السريعة أود أن أعرج على مسألة ما يصطلح عليها بـ(المقاومة) العراقية وأود الغوص قليلا بتحليل طبيعة هذه (المقاومة).. فلا شك لدى الجميع أن أي احتلال يقود حتما إلى مقاومة، وهذه مسألة طبيعة وحق لا يدانيه أي حق.
لكن هل ينطبق هذا المصطلح على الوضع العراقي الراهن وطبيعة وهدف ومن يغذي ويقف خلف هؤلاء (المقاومون)، وسبق وأن تحدثنا عن الآلاف من أزلام النظام عبر مؤسساته القمعية وارتباط مصائر الكثير منهم بمصير النظام لما قاموا به من أعمال لا يصمت تجاهها العراقي بعد تحرره من قبضتهم، وشاهدنا قسم من ذلك بالانتقام العشوائي من جميع البعثيين ومنتسبي المخابرات والأمن في شوارع محافظات الجنوب والوسط والعاصمة بغداد، وتكاد الآن جميع محافظات الوسط والجنوب وبعض مناطق بغداد والشمال فارغة من هؤلاء ولا أثر يذكر لنشاطهم.. وإذا عرفنا حقيقة أخرى أن 90% من ضباط الجيش والمخابرات والأمن هم من مناطق تكريت ومحيطها والرمادي ومحيطها والموصل وبعض أطرافه، ولو تيقنا أن في هذه المناطق من العراق يزدهر فيها العرف والرابط العشائري، وتركيز مراكز السلطة الإدارية والتنفيذية بيد مجموعة طائفية مقيتة من هذه المناطق طوال حكم البعث العراقي لأدركنا طبيعة (المقاومة) التي يتحدث عنها البعض.
كما أن نظرة سريعة لطبيعة الحدود التي تحد تلك المناطق مع دول الجوار التي تغذي بعض حكوماتها والتنظيمات المتطرفة فيها ومعرفة غايتها المتشابكة من ذلك لتوضحت الكثير من الأمور التي تخص (مقاومتنا) العتيدة تلك وهدفها الذي يريد للعراق الفوضى وعدم الاستقرار.
أضف إلى كل ذلك مرتكبي الجريمة والجريمة المنظمة ممن أطلق الطاغية المقبور سراحهم من السجون (أكثر من 100000 مجرم سارق وقاتل) لترهيب الناس وتعقيد الوضع وتعميم الفوضى والتشويش على القوى السياسية الوطنية المخلصة التي وجدت نفسها في خضم صراع وجود كبير، وغير نزيه.. لأن (المقاومون) والـ (المجرمون) يحلون أي شئ مخالف للأعراف والتقدم والاستقرار، وما طبيعة الجرائم التي أرتكبت وترتكب بحق المال العام وممتلكات الدولة وتدمير البنى الاقتصادية وتعطيل ضخ البترول والكهرباء والماء.. والاغتيال السياسي وقتل الأبرياء يوميا ورفع صور الطاغية المقبور وتمني عودته للسلطة كي ينتقم من العراقيين من جديد شواهد على طبيعة هذه (المقاومة) المبجلة التي لا ناطق رسمي لها، ولم يتبناها للآن أي تنظيم سياسي عراقي معارض، حتى من ضمن تلك التنظيمات التي تغالي بطروحاتها الثورية وتتطرف بها.