نبيل حاجي نائف
الحوار المتمدن-العدد: 1990 - 2007 / 7 / 28 - 06:27
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
السببية المرتدة :
لكن الأمور لم تحل ولم يتم التوصل لبناء تنبؤات ومعارف دقيقة جداً وبالتالي تحديد الأسباب . فوجود التأثير المتبادل بين النتائج والأسباب , منع التوصل للوصول إلى تنبؤات ومعارف عالية الدقة .
فعندما تصبح النتيجة هي أيضاً عامل أو سبب وتعود وتدخل في تفاعلات الأحداث , وبالتالي تغير النتيجة , ومن ثم أيضاً تعود النتيجة وتدخل في التفاعلات . عندها نحصل على نتائج متغيرة باستمرار ولا نصل لتنبؤ معين محدد .
فوجود دارات من التفاعلات العكسية المتداخلة بين النتائج والأسباب , وتشكل دارات مغلقة من التفاعلات تجعل إمكانية التنبؤ بالأحداث صعب وغير ممكن باعتماد التفكير السببي البسيط أو الموسع .
والسببية المرتدة هي هذه الدارات من التفاعلات العكسية بين النتائج والأسباب , وهذا ما يسمى بالتغذية العكسية .
و مفهوم التغذية العكسية أو المرتدة بشكله الواضح لم يكن موجوداً قبل القرن الثامن عشر , وقد بدأ في الظهور أولاً في المجال العملي عندما استعمل " جيمس واط " منظمه لسرعة عمل آلته البخارية . هذا المنظم كان مؤلفاً من كرتين معدنيتين معلقتين بزراعين تدوران حول محور , وحسب سرعة هذا الدوران ترتفعان إلى أعلى نتيجة القوة النابذة , وحسب شدة هذا القوة يتم إغلاق جزئي لمرور البخار الذي يحرك الآلة , فإذا تباطأت سرعة الآلة تتباطأ سرعة دوران الكرتين فتنخفضان وهذا يؤدي إلى زيادة فتحة البخار فيتسارع عمل الآلة , وهذا بدوره يؤدي إلى تباطؤها , وهكذا دواليك حتى يحدث توازن في وضع معين . وهذا كان نموذجاً مثالياً لطريقة عمل آلية التغذية العكسية , فالخرج يعود فيؤثر في الدخل بشكل سالب ( معكوس ) , أي النهاية تتحكم بالبداية.
ويمكن التعرف على التغذية العكسية بشكلها الكهربائي , من خلال أجهزة الاستقبال اللاسلكية , ففي دارة تنظيم قوة الصوت كهربائياً نأخذ جزءاً من خرج دارة تكبير الإشارة ونعود وندخله مع الإشارة الداخلة , ولكن بعد عكس اتجاهه , وذلك لتخفيف قوة الإشارة, وبذلك تقل قوة الإشارة الخارجة وبالتالي يقل الجزء المستعمل في التغذية العكسية وهذا يؤدي إلى تقوية الإشارة , فتعود وتزداد قوة التغذية العكسية وهكذا دواليك إلى أن تنتظم قوة أشارة الخرج عند حد معين , ويحدث هذا بسرعة كبيرة جداً.
والتغذية العكسية يمكن أن تكون موجبة وعندها يتسارع النمو مثال انتشار النار , وانتشار الأفكار المناسبة للمتلقين , يكون في أول الأمر بطيء , ولكن يخضع لتغذية عكسية موجبة فيتسارع . وإذا استمرت التغذية العكسية الموجبة فيمكن في بعض الحالات أن تؤدي إلى الانفجار أو الإخلال بالتوازن .
ويمكن أن تكون التغذية العكسية سالبة وعندها يتباطأ النمو ويحدث تناقص واضمحلال .
ويمكن أن تكون التغذية العكسية قسم منها موجب وقسم منها سالب , وفي هذه الحالة يمكن أن يحدث توازن واستقرار عند نقاط معينة , وغالبية دارات التغذية العكسية المستخدمة في التحكم هي من هذا النوع , فهذه أهم خاصية للتغذية العكسية .
إن كافة أجهزة التحكم تعتمد مبدأ التغذية العكسية , وآلية التغذية العكسية موجودة في كافة مجالات الطبيعة . ولضبط أي عمل غائي ( أي موجه نحو هدف ) يجب أن تتشكل حلقة أو دارة تأثيرات بين النتائج والمقدمات ( حلقة إعلام أو تعرف ) تساعد على التوجيه نحو الهدف , وعلى تلاؤم النتائج مع المقدمات . وهذه الخاصية يجب أن تكون موجودة في أي جهاز تسديد على هدف مهما كان نوعه أو طبيعته .
وهذه الآلية موجودة في كافة أعمال الجملة العصبية الموجهة , وهي موجودة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية .. والعلم الذي يدرس آليات وقوانين دارات التغذية العكسية هو السبيرنية , وهو يعتمد على الرياضيات ( نظرية الدارات ) بشكل أساسي .
عندما نريد إصابة أو تحقيق أي هدف مهما كان , لابد من أن نستعمل التغذية العكسية , و إلا كانت محاولاتنا عشوائية , وبالتالي احتمال تحقيق المطلوب تابع للصدفة فقط . فلابد من أن تجري دارة من التأثيرات المتبادلة , وهي بمثابة رسائل متبادلة , أو تبادل إعلام , بيننا وبين الهدف . وطبيعة هذه التأثيرت المتبادلة , أو هذا الإعلام المتبادل بين الطرفين (أي نحن والهدف) هي التي تحدد النتائج . وهذا يحدث بين أي بنيتين تحدث بينهما دارة تأثيرات متبادلة .
إن النظر إلى المشاريع على أنها منظومات سبيرنية , يسهل معرفة سلوكها وتطورها , وبالتالي التنبؤ لها بدقة عالية . وكذلك يسهل معرفة حدود النمو أو التطور لأي بنية أو مشروع .
غالباً ما يقولون خير الأمور الوسط . إن آلية التغذية العكسية هي التي استدعت هذا القول . ففي أغلب دارات ( والأوضاع المتزنة ) مهما كان نوعها , هناك منطقة أو مجال يحدث فيه التوازن أو الاستقرار , وينهار هذا التوازن بالابتعاد عن هذه المنطقة , إن كان ابتعاد بالزيادة , أو بالنقصان . وهذا يعني أن الوسط أو منطقة التوازن هي المطلوبة .
السيالات والمجالات أو الحقول , وخصائص كل منهما .
ولكي نتعامل مع دارات التغذية العكسية بفاعلية يجب علينا إن نتعرف على آليات وقوانين وخصائص السيالات وهي متشابهة في كافة أنواع السيالات, فالسيالات الكهربائية و سيالات السوائل و سيالات المواد أو البضائع أو النقود و سيالات المعارف أو المعلومات , كلها ذات آليات متشابهة بشكل كبير.
إن جريان أي سيالة مهما كان نوعها يعتمد على فرق القوة أو فرق الجهد أو فرق الضغط أو فرق الحاجة أو الدافع , فيلزم لكي تبدأ السيالة بالجريان قوة كافية للتغلب على المقاومة التي تعترضها , وإذا أريد استمرار جريان سيالة في دارة يجب أن تؤمن قوة محركة كافية للتغلب على مقاومات عناصر هذه الدارة .
إن الكثير من التفاعلات التي نلاحظها في هذا الوجود تحدث نتيجة تفاعل السيالات , ولكن ليست كافة التفاعلات تعتمد على السيالات, فهناك تأثيرات وتفاعلات المجالات. والمجال هو حيز مكاني- فضاء- صغير أو كبير تنتشر فيه قوى أو تأثيرات خلال زمن صغير أو كبير, والآليات أو القوانين التي تجري فيها تفاعلات المجالات تختلف عن الآليات التي تجري فيها تفاعلات السيالات .
وكافة التفاعلات في الوجود هي إما تفاعلات بين بنيات , أو تفاعلات بين مجالات أو ضمن مجالات , أو تفاعلات بين سيالات أو ضمن سيالات , أو بين المجالات و السيالات والبنيات في نفس الوقت .
فالإلكترون يتفاعل مع البروتون أو الإلكترون المماثل له عن طريق المجال الكهرطيسي , ففي الذرة تتشكل دارات معقدة مغلقة من سيالات كهرطيسية ( فوتونات ) بين الإلكترونات مع بعضها , وبين الإلكترونات والبروتونات الموجودة في النواة, وتنتظم هذه السيالات لتشكل طبقات الإلكترونات حول النواة وتتماسك بنية الذرة نتيجة لذلك .
وكذلك تنتقل الإلكترونات من ذرة إلى أخرى عبر الأسلاك والعناصر الكهربائية ضمن الدارات الإلكترونية لتشكل دارات من السيالات الإلكترونية .
والفرق بين المجال و السيالة هو أن المجال شامل لحيز مكاني وخلال زمن , أما السيالة فهي كمية محددة من البنيات تكون على شكل تيار له خصائصه وشدته واتجاهه , يجري ضمن دارة معينة .
وفي الغازات أو السوائل أو التيار الكهربائي يتوضح لنا الفرق بين المجال و السيالة ( أو التيار ) ففيهم نجد المجالات و دارات السيالات بشكل واضح , ففي الأجواء والبحار يوجد المجالات , و يمكن أيضاً أن توجد السيالات أو التيارات .
والمجالات تتفاعل مع بعضها , وكذلك تتفاعل مع التيارات التي ضمنها أو التي خارجها , وهذا ما يعقد التفاعلات التي تجري فيهما بشكل كبير جداً.
التعامل الفكري مع البنيات والمجالات و السيالات و داراتها
إن العقل البشري في تعامله مع حوادث الوجود والتنبؤ لها يقوم بتشكيل الأحداث باعتماد آلية السببية البسيطة المختزلة . فالعقل البشري لا يستطيع التعامل مع السببية الموسعة والصيرورة والجدل أو التأثير المتبادل , الموجود في حوادث الوجود بدون الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا . فالعقل البشري بقدراته الذاتية قاصر عن التعامل مع تفاعلات المجالات, و دارات السيالات .
ويمكن أن تحل هذه المشكلة باستعمال الرياضيات المتطورة ونظرية الدارات, بالإضافة إلى الاستعانة بقدرات الكومبيوتر .
لقد استطاع العقل البشري التعامل مع بعض الحقول أو المجالات التي استطاع تعيينها وتحديدها مثل حقول قوى المجالات الفيزيائية والتنبؤ لها بدقة عالية جداً .
أما المجالات والحقول البيولوجية, والبيئية, والاجتماعية, والاقتصادية, والثقافية فكان تنبؤه لها تابع لمقدار ما حقق لها من تعيين وتحديد, وكان هذا متواضعاً غالباً وبالتالي كانت تنبؤاته لتفاعلاتها متواضعة الدقة .
فهو عندما أراد التعامل مع التفاعلات التي تجري بين البنيات و السيالات و دارات السيالات والمجالات معاً فقد وقف شبه عاجز. فهذه التفاعلات أوسع وأعقد بكثير من أن يستطيع بالقدرات التي يملكها الآن التعامل معها بفاعلية والتنبؤ لها ولو حتى بدقة مقبولة , فتأثير المجالات والتي هي من أنواع متعددة وخصائص مختلفة على السيالات وبالتالي على البنيات التي تكونها هذه السيالات أعقد من أن يستطيع التعامل معها .
مثال على ذلك:
تأثير المجال النفسي والثقافي على السيالات الاقتصادية أو البنيات الاقتصادية , وهذا لم ينتبه له أغلب الاقتصاديين سابقاً , فقد كانوا ينظرون إلى الأمور بشكل بسيط ومختزل جداً وبالاعتماد على السببية البسيطة , ولم تراعى تأثيرات الكثير من البنيات والكثير من المجالات . ومن الأساس لم توضح السيالات والبنيات الاقتصادية و داراتها الكثيرة المتشعبة والمتداخلة مع بعضها , فهي تشبه الدارات الإلكترونية في الأجهزة الإلكترونية المعقدة . وكذلك لم توضح الكثير من الأمور مثل الخصائص والدوافع البشرية الأساسية . وكذلك الخصائص الأساسية للبنيات الاجتماعية والثقافية لم توضح بشكل جيد . ومجال تأثيرات الاجتماعية والنفسية والعلوم والتكنولوجيا والكومبيوتر والذكاء الاصطناعي لم يحسب بشكل مناسب . فحدوث تغيير أو اختراع أساسي في أحد هذه المجالات يمكن أن يغير النتائج كثيراً.
فالمهم والمطلوب هو إيجاد مناطق ونقاط اتزان دارات التفاعلات والتنبؤ الدقيق بها . وقدرات وآليات عمل عقلنا غير كافية لذلك , فالسببية البسيطة والسببية الموسعة التي يعتمدهم عقلنا والمنهج العلمي الكلاسيكي غير كافيين , وكذلك المنطق غير كافي للوصول لتنبؤات علية الدقة فهو يعتمد السببية البسيطة , ولابد من استعمال الرياضيات وقدرات الكومبيوتر للتعامل مع السببية المرتدة .
فيجب إيجاد مراكز ونقاط التوازن لدارات التفاعلات بواسطة الرياضيات والكومبيوتر . وهذا يكون بالحساب الدقيق والمطلق الصحة , ويبقى عدم الدقة ينتج فقط عن الفروق بين الأرقام والبيانات المستخدمة وما تمثله في الواقع . ففي حالة الدارات الإلكترونية تنتج عدم الدقة عن نسبة الخطأ والتغيرات في قيم المقاومات والمكثفات والملفات والترانزستورات والجهود .... المستخدمة في الحساب وهي عادة تكون صغيرة جداً جداً في حالة الأجهزة الدقيقة .
ملاحظة أخيرة
هناك دورات في الطبيعة تشمل المجال الطبيعي والحيوي , فهي مؤلفة من البيئة والغذاء والكائنات الحية . , وهذه الدورات تتزن بالتأثير المتبادل بين حلقاتها , وإذا اختلت أحدى الحلقات يمكن أن تنهار الدورة كلها .
وهناك تدوير المواد أو النفايات أو غيرها , وإعادة استخدامها , فبالنسبة للكائنات الحية التي تموت يعاد تدويرها فتتغذى عليها كائنات حية أخرى .
هذه ملاحظات موجزة وسريعة ومتواضعة على موضع هام وأساسي وواسع جداً
#نبيل_حاجي_نائف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟