أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هلا رشيد أمون - السلفيّة: من التحرير إلى التكفير















المزيد.....


السلفيّة: من التحرير إلى التكفير


هلا رشيد أمون

الحوار المتمدن-العدد: 1991 - 2007 / 7 / 29 - 04:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


يشوب مفهوم "السلفية" الكثير من اللبس والاختلاط، وما زال بحاجة الى مزيد من الدراسة والضبط لتحديد نشأته التاريخية الفعلية، والاستخدامات المتنوعة التي طرأت عليه خلال العصور الماضية، وكيفية تطوّر مضامينه ومفاهيمه منذ النشأة الاولى وحتى اللحظة الراهنة. ويمكن القول إنه ليس هناك سلفية واحدة، بل هناك سلفيات عدة: منها التقليدي، ومنها الاصلاحي، ومنها الجهادي النظري، ومنها الجهادي التكفيري. ومن هنا صعوبة التصنيف والتقسيم التي هي في النهاية مجرد محاولة منهجية، يقتضيها البحث، لفهم الظاهرة وتسهيل دراستها وتحليلها، ليتيسّر نقدها وتحديد الطريقة التي يجب التعامل بها معها.
(1) السلفية التاريخية
من المعروف أن هذا المفهوم قد ارتبط تاريخياً بتيار "أهل السنّة والجماعة"، أو "أهل الحديث"، والذي إتضحت معالمه من خلال الاختلاف الفكري الذي دار مع "أهل العقل"، أو "أهل الرأي" من أهل الكلام والفلاسفة والمناطقة، حول المرجعية الشرعية في تأويل النص القرآني والحديث بعد وفاة الرسول، حيث رأى الفريق الاول أن "السلف" أصحاب النبي هم الوحيدون أصحاب هذا الحق، وعلى الخلف الرجوع اليهم كأصل في الفهم والسلوك. ولعل ابرز المرتكزات التي استندت اليها هذه السلفية هي: التنزيه في التوحيد، تقديم الشرع على العقل، إنكار التأويل اللفظي والباطني، البراءة من أصحاب المذاهب المخالفة مثل: المعتزلة والمشبّهة والجبرية والقدرية والشيعة، تكفير الصوفيين، حبّ السلف الصالح من أصحاب الرسول، عدم الخروج على السلطان، إلا إذا أعلن صراحة رفضه الشريعة والحكم بما أنزل الله... وغيرها من الأسس التي شكلت ما يُعرف باسم "السلفية التاريخية".
(2) السلفية الوهابية
لقب أُطلق على أتباع محمد بن عبد الوهاب (1703-1791). وهي حركة دينية سياسية كانت غايتها الاصلاح الديني، وتصحيح العقيدة الاسلامية، وتطهيرها مما علق بها من أدران الشرك والبدع والخرافات، والعودة بالاسلام الى ما كان عليه زمن النبي محمد (ص)، والقيام بتطبيق أحكام الاسلام وحدوده وشعائره الظاهرة والباطنة. وأهم مصادر هذه الدعوة: القرآن الكريم، السنّة النبوية، آثار السلف الصالح، وخاصة أحمد ابن حنبل، وابن تيمية، وابن القيّم الجوزية. وقد تمكنت هذه الحركة - الدعوة من تأسيس سلطة سياسية مستقلة عن الخلافة العثمانية في نجد في شبه الجزيرة العربية، بدعم من القبائل، ولاسيما آل سعود.
وهذه السلفية قد تحولت الى اتجاه مذهبي داخل الفكر الاسلامي، له أنصاره ومؤيدوه وأفكاره التي تتّسم بالتشدّد الاعتقادي، والتصلّب في تطبيق الشريعة، بناء على تصوّر يقسّم العالم بشكل حاد الى: عالم كافر مشرك، وعالم مؤمن مسلم. وعقيدة "الولاء والبراء" هي من المرتكزات الاساسية في هذه السلفية، وهي تعني: حب الله ورسوله والصحابة ونصرتهم، وبغض مَن خالف الله والصحابة والمؤمنين من الكافرين والمشركين ومعاداتهم، شرط أن تكون هذه المعاداة والمقاطعة صريحة وعلنية. وبناء على ما يُعرف بـ"نواقض الاسلام" أو "قواعد التكفير"، فقد "توسعت دائرة التكفير، ليوصم بالكفر كل من: مَن أشرك في عبادة الله، مَن لم يكفّر المشركين، مَن أبغض أو استهزأ بشيء مما جاء به الرسول، مَن عاون المشركين على المسلمين، مَن اعتقد أن الانظمة التي سنّها الناس أفضل من شريعة الاسلام، مَن اعتقد أن إنفاذ حكم الله في السارق والزاني لا يناسب العصر الحاضر، مَن استغاث بالاموات وطلب شفاعة الاولياء...(1)
وعلى الرغم من غلبة الجانب الفقهي والعقائدي في هذه السلفية على الجانب السياسي، الاّ أن هذه المفاهيم التكفيرية والاقصائية المتشدّدة سيكون لها أثر بالغ الخطورة على السلفية التكفيرية المعاصرة.
(3) السلفية الاصلاحية
كان أول ظهور لتسمية "السلفية" في العصر الحديث، في مصر، إبان الاحتلال البريطاني لها، ولاسيما بعد تفكك الخلافة العثمانية، وتصاعد حركة التحدي الاوروبي، ووصول محمد علي الى السلطة، وإرساله البعثات العلمية الى أوروبا، التي شاهدت التفوّق العلمي الهائل هناك، في الوقت الذي كانت فيه مصر، قد تحولت مرتعاً لشتى البدع الصوفية والخرافات التي بدأت بالتكاثر والتنامي في أرجائها، حتى داخل الأزهر نفسه.
هذه العوامل دفعت كوكبة من رجال العلم والفكر آنذاك، الى عقد المقارنات الفكرية بين واقع المسلمين في العصور الذهبية وواقعهم المتردّي في حاضرهم، فرفعوا شعار "السلفية" الذي يعني الدعوة الى الاقتداء بالسلف الصالح، والى إصلاح المسلمين من طريق الرجوع الى الينبوع الاصلي للاسلام البعيد عمّا التصق به من بدع وأوهام وخرافات، عزلته عن عجلة الحياة الحديثة، وجعلته يتقوقع في قباء العزلة والانقطاع عن كل وافد جديد.
وهكذا راجت كلمة "السلف" في الاوساط الثقافية والاجتماعية، ولاقت هوىً وقبولاً في كثير من النفوس التي راحت تأمل بعث أمجاد الاسلام الزائلة. وبعد أن كانت هذه الكلمة "السلفية"، مجرد شعار أُطلق على حركة اصلاحية، فاذا بها تتحول الى "مذهب" يرفع أصحابه شعار "لا يصلح آخر هذه الأمة الاّ بما صلح به أولها" لأن الماضي هو العصر الذهبي، ومن بعده، بدأ التدهور والتردّي، ويزعمون أنهم دون غيرهم الامناء على عقيدة السلف، والمعبّرون عن منهجهم في فهم الاسلام وتطبيقه.
ورفاعة الطهطاوي هو ركن من أركان السلفية الاصلاحية، فقد اختار طريقاً وسطاً بين الجمود والتقليد والتحجّر عند نقطة تاريخية غابرة، وتشريع الابواب على الحضارة الغربية والنهل من قيمها بلا حسيب ولا رقيب. فقد فُتن بحضارة باريس ومدنيتها، فحمل آثار الثورة الفرنسية وقيمها الى العالم العربي ليوقظ العقول، ويعبّد طريق النهضة، ولاسيما قيم العلم - لا الدين - التي كانت برأيه وراء نهضة أوروبا وقفزتها الرائعة، ولذلك دأب على حثّ ديار الاسلام على البحث في العلوم الوضعية والفنون والصنائع "فإن كمال ذلك ببلاد الافرنج أمر ثابت وشائع، والحق أحق بأن يُتّبع. ولعمر الله إني مدة اقامتي بهذه البلاد في حسرة على تمتّعها بذلك، وخلّو ممالك الاسلام منه"(2).
لقد طلع علينا الطهطاوي بقيم جديدة استفادها من رحلته الى باريس، وأهم هذه القيم: الحث على طلب العلم والمساواة وحرية الرأي والتعبير والسلوك والنقد والانفتاح على المجتمعات المتحضرة والتسامح الديني، وضرورة تعليم الصبيان والبنات فأرسى للمرة الاولى قواعد السلفية المتنوّرة، التي قادها من بعده رجال مختلفو المشارب والاجتهادات، ولكنهم يتفقون جميعاً على أن الاسلام هو القيمة المطلقة، وأن القرآن ليس ضد التطور، وأن الانضواء في عملية التحديث ضرورة حتمية لا بدّ منها لخروج المسلمين من العصور الوسطى، وولوج العصر الحديث.
وقد استوعب الشيخ محمد عبده هذه الحركة، وأخذ على عاتقه مهمة إكمال المسيرة فكان مجدداً رفع الاعمدة الاولى في التيار العقلي المناوئ للسلفية الدينية النصية الوثوقية، فدعا الى تحرير الفكر من قيد التقليد، وأبدى تفهماً كبيراً للحضارة الغربية، ولم يجد حرجاً في الدعوة اليها وتبنّي قيمها، بل إنه رفض أن يكون هناك أمر محظور على العقل أن يبحث فيه، لأن العقل هو افضل القوى الانسانية على الاطلاق، لذلك دعا الى تطهير العقيدة مما لحقها من البدع، ومناهضة جميع أولئك الذين يفضلون "كتب الاموات على كتاب الله"، والتشهير بالذين يُلحقون تعاليمهم بالتعاليم الالهية، وهذا هو منشأ الخصومة التي نشبت بينه وبين السلفية الرجعية، التي اتهمها بالتخريب والفساد والإفساد.
ولكن محمد عبده الذي دعا الى تحرير العقل من قيود التقليد والاسطورة، قد دعا ايضاً الى الرجوع الى الاصول الادق في الدين الاسلامي، والى ينابيعه النقية، ونصوصه البكر، فلا سبيل في نظره "لنهضة الأمة إذا لم تؤسس نهضتها على الدين، ولذلك فلا سبيل لهذه النهضة الاّ باصلاح معاهد الدين، اي الأزهر الشريف"(3). وهو يعتبر أن العصبية الاسلامية هي وحدها مصدر الوحدة والاستنهاض، فلا قومية الا قومية الاسلام، ولا عصبية الا عصبية الاسلام وهو يشدّد موقفه في معركة الاصلاح هذه قائلاً: "ارتفع صوتي بالدعوة الى أمرين عظيمين: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة ضمن موازين العقل البشري"(4).

(4) السلفية التأصيليّة
كانت الحركة الاصلاحية التي قام بها قادة التجديد الفكري في الاسلام، مرحلة رائدة وممهدة للحركات الاسلامية التي ظهرت لاحقا، وقد اقتبس قادة هذه الحركات اهدافهم الرامية الى انكار البدع والى العودة للتمسك بالنص. الا ان هذه الحركة قد اخذت على قادة التجديد تغليبهم الطابع الفكري على الطابع السلوكي، واخفاقهم في الربط بين الاسلام والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، اي الربط بين نوعي الاصلاح: المدني والسياسي. ام هم فقد اعطوا الاولوية لهدف التغيير الاجتماعي على هدف الاجتهاد الفكري، لأن السياسة عندهم هي المجال الواقعي لتطبيق مبدأ ان الاسلام دين ودولة.
وقد تمكن التيار الاسلامي المعروف باسم "الاخوان المسلمين" من طرح مشروع فكري – سياسي، معلنا فشل جميع الانظمة والايديولوجيات، ومقترحا طريقا آخر للخلاص هو "الرجوع الى الاسلام" بديلا من النظامين الرأسمالي والشيوعي. "فالعالم كله حائر مضطرب، وكل ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه، ولا دواء له الا بالاسلام، فالاسلام رسالة عالمية فيها حل لجميع المشاكل والويلات التي كانت الحضارة الرأسمالية والاشتراكية وراءها. انه قادر على الوقوف في وجه هذه الموجة الطاغية من المادة التي جرفت الشعوب الاسلامية، فأبعدتها عن زعامة الاسلام وهداية القرآن"(5).
وحسن البنا المنشىء لهذه الجماعة، والمحدِّد لمضمون الدعوة واهدافها، يصرح "اننا نتمرّى بدعوتنا نهج الدعوة الاولى. ونحاول ان تكون هذه الدعوة الحديثة صدى حقيقيا لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله (ص) في بطحاء مكة، قبل الف ومئات من السنين، فما اولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا الى ذلك العصر المشرق بنور النبوة... لنتلقى عنه دروس الاصلاح من جديد"(6).
وانطلاقا من مبدأ "استاذية المسلمين" الذي هو ركن من اركان الدعوة، فقد ذهب البنّا الى القول: "ان القرآن الكريم يقيم المسلمين اوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة"(7). وهو يحدد المراحل التي يجب قطعها لقيام مدنية الاسلام، بدلا من مدنية المادة، قائلا ان الاخوان "يعلمون ان اول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والايمان. ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلام... والاخوان المسلمون يستخدمون القوة العملية (الثورة) حيث لا يجدي غيرها"(8.).
واذا كان حسن البنا هو المنشىء والمرشد العام لجماعة "الاخوان المسلمين"، فان سيد قطب يعتبر قائداً فكريا ومجدداً بارزاً في حياة هذه الجماعة. فبعد موت البنا دخلت الحركة عصراً جديداً "بتأثير قطب والمودودي. فقد قام قطب باستلهام بعض مضامين الفكر السلفي الوهابي المتشدد، ومباحثه الفكرية، ولاسيما مفهوم "الولاء والبراء"، واستحضر بعض فتاوى ابن تيمية وابن القيم الجوزية، واضاف اليها بعض المفاهيم التي روج لها ابو الاعلى المودودي مثل: جاهلية المجتمعات، وحاكمية الله، فعمل على تأصيلها في الفكر الاخواني، وقام بنشر افكار المودودي في العالم العربي، بعد ان ترجم له كتاب "ماذا خسر العالم بتخلف المسلمين"، ودعا الى الرجوع الى الله، الذي له صورة واحدة "انه العودة بالحياة كلها الى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم. انه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها، والا فهو الفساد في الارض والشقاوة للناس"(9). بل هو يعتبر "ان تنحية الاسلام عن قيادة البشرية نكبة قاصمة لم تعرف لها نظير في كل ما المّ بها من نكبات"(10.(
ويختتم قطب كتابه "العدالة الاجتماعية في الاسلام" بهذه النبوءة: "ان الصراع الحقيقي في المستقبل لن يكون بين الرأسمالية والشيوعية... ولكنه سيكون بين المادية المتمثلة في الارض كلها وبين الاسلام، او بتعبير اصح وادق سيكون بين النظام الذي يجعل العبودية لله وحده... وبين سائر الانظمة الارضية التي تقوم على اساس من عبودية العباد للعباد"(11).
(طرابلس)

1 - الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز، العقيدة الصحيحة ونواقض الاسلام، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1413هـ، ص 27-29.
2 - رفاعة الطهطاوي، الاعمال الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1973، ج2، ص11.
3 - محمد عبده، الاعمال الكاملة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت، 1973، ج3، ص539.
4 - م. س. ج2، ص318.
5 - حسن البنّا، مجموعة رسائل الامام الشهيد. مؤسسة الرسالة، د.ت، ص. 176 – 191 – 312.
6 - م.س. ص75.
7 - م.س، ص 127.
8 - م.س، ص 270.
9 - سيد قطب، في ظلال القرآن، دار احياء التراث العربي – بيروت 1967، ج1، ص8.
10 - م.س، ص 9.
11 - سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الاسلام، دار الشروق – بيروت، 1993، ص215.


السلفية: من التحرير إلى التكفير [2]

الحلقة الثانية الاخيرة من دراسة الدكتورة هلا رشيد أمون حول الحركات السلفية:
5- السلفية الجهادية التكفيرية
من التقارب الذي حصل بين السلفية الوهابية، التي نشأت لمقاومة الوثنية والانحراف عن عقيدة التوحيد، والسلفية القطبية التي استلهمت مفاهيم المودودي، انبثقت السلفية الجهادية التكفيرية، وكانت افغانستان الارضية الملائمة التي حاولت من خلالها نقل مفاهيمها من المستوى الايماني الى المستوى العملاني، في جهادها الاحتلال السوفياتي (النظام الكافر). ثم جاء اعلان "الجبهة الاسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين"، اول تعبير عملي عن هذا المزج والتوفيق بين الفكر الوهابي ممثلا بالسعودي اسامة بن لادن، زعيم "القاعدة" والفكر الاخواني القطبي، ممثلا بالمصري ايمن الظواهري، زعيم "الجهاد الاسلامي".
لقد فتح سيد قطب في منظومته الفكرية والايمانية ابواب التكفير على مصاريعها لتعم الامة بكاملها، وذلك عندما صرّح "ان الناس ليسوا مسلمين كما يدعون، وهم يحيون حياة الجاهلية، ليس هذا اسلاميا، وليس هؤلاء مسلمين"(12). والواجب الشرعي يقضي رد هؤلاء الجاهليين عن كفرهم، واعادتهم الى حظيرة الاسلام والايمان، حتى ولو اقتضى الامر اعلان الحرب على المسلمين، و"الجهاد" هو احد الطرق المقترحة – وربما الوحيد – لتقويض البناء الجاهلي، واعلاء حاكمية الله وانشاء الدولة الاسلامية الموعودة، وتطبيق النموذج السياسي الاسلامي في الحكم، اي نموذج "الخلافة" الاسلامية التاريخي.
ولا بأس من القاء نظرة سريعة على بعض المفاهيم التي هي الجوهر الحقيقي والمحرك الاساسي لكل المنتمين الى هذا التيار التكفيري(13(:
أ- الحاكمية لله: وخلاصته ان الدولة الاسلامية يجب ان تقوم على اساس "الحاكمية الالهية"، وان عبودية الانسان لله واتباع شريعته هي اساس الائتلاف والتعاضد بين الناس. فالولاء يجب ان يكون للعقيدة وللاسلام، وليس للمسلمين او للوطن، او لأي افكار بشرية او وضعية، كالقومية او العروبة او الاشتراكية...
ب- جاهلية المجتمعات: المجتمع الجاهلي او مجتمع الشرك هو المجتمع الذي ينهض بنيانه على دعامة "حاكمية البشر" سواء كانت حاكمية فرد او اسرة او طبقة او جمهور. وقد رأى قطب والمودودي قبله، ان العالم يعيش اليوم جاهلية مدمرة، اساسها تجاهل مفهوم "لا اله الا الله"، فلا بد من اعلان الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها واشكالها وانظمتها.
ج- تكفير الانظمة، يصرح هذا التيار برفض الانظمة الحاكمة، ويقطع بعدم شرعيتها وبكفرها، ثم يدعو الى جهاد الحكام الكفار المرتدين الحاكمين بغير شريعة الاسلام، الموالين لليهود والنصارى، استنادا الى النص القرآني: "ومَن لم يحكم بما انزل الله، فأولئك هم الكافرون" (المائدة/44(.
د- العنف المسلح الطريق الى الاصلاح: بعد ان تبرأ من الانظمة السائدة، وممن يواليها، وصرح بعداوته لها، اعلن هذا التيار ان الجهاد المسلح لازالتها والقضاء عليها حتمي في كل زمان ومكان، وانه السبيل الوحيد للتغيير والاصلاح.
هذه هي خلاصة الافكار التي طلع عليها بها منظرو هذا التيار التكفيري، فكل ما في هذه المنظومة تفوح منه رائحة العنف والقتل والكراهية والمقاطعة والتبروء والالغاء والتكفير والهدم والتحطيم، اي هي تنضح بكل القيم السلبية التي جهدت البشرية على مر العصور والدهور على نقدها ورفضها ونبذها والدعوة الى نقائضها، لما فيه خير الانسان وسعادة المجتمع الانساني واستمراره، فكيف يمكن ان تُجمع كل هذه المفاهيم المدمرة في دعوة واحدة، ثم يدّعي اصحابها ان هدفهم الامثل هو حماية العقيدة، وصون الدين، وبناء الانسان واصلاح المجتمعات؟ وهذا السؤال يصبح مبررا اذا شهدنا الاذى البالغ الذي الحقه هذا التيار بسمعة الاسلام والمسلمين في العالم كله، ليس اقله تهمة الارهاب واستسهال الانتحار التي التصقت بهم، اضف الى ذلك الخوف والذعر والهلع والموت الذي نشره في ارجاء المعمورة لقد قدمت السلفية التي كانت مهجوسة بإشكالية التقدّم والنهضة والوحدة، خطاباً دينياً، ألحّت من خلاله على ضرورة تحرير الانسان من التقليد والتخلّف والجهل، وتحرير عقله من البدع والشرك والتمسّك بكل ما هو لا معقول، كعبادة القبور والتبرّك بالموتى والاعتقاد بالسحر والخوارق، ودعت الى الانضواء في العالم والعصر الاوروبيين، وتجديد آليات التفكير والاجتهاد، وحفظ كيان الأمة والنهوض بها من كبوتها عن طريق التربية والتوعية والتنظيم والتعقّل، ولكنها انتهت لتصبح حبيسة الفكر الاعتقادي المتزمّت، وما نتج عنه من رفض للآخر وتكفيره والدعوة الى قتاله وقتله. وبعد أن كان الشرك والكفر والتخلف والجهل هي الخصوم التي يجب محاربتها، أصبح "الآخر" المختلف هو الخصم الذي يجب معاداته ومخاصمته واقصاؤه وإنكار حقّه في الاختلاف، وصولاً الى إنكار حقّه في الحياة.
والواقع إن هذا التيار قد استمد حاله من قوة على الساحة العربية والاسلامية - بالاضافة الى الرأسمال الرمزي الهائل للنص الديني الذي يلهب مشاعر الملايين من المسلمين - من عوامل عدة، داخلية خارجية: منها فشل مشروع النهضة والتنمية في العالمين العربي والاسلامي، وتفشي أنظمة الاستبداد والقمع والسجون والفساد، وزيادة نسبة الفقر والبطالة والأمية، وعجز الانظمة وتقاعسها عن الوقوف في وجه التحديات الكبرى ابتداء من فلسطين وانتهاء بالعراق، أضف الى ذلك سياسة الولايات المتحدة التي انحازت، طوال سنوات الصراع العربي - الاسرائيلي، إنحيازاً تاماً لا لبس فيه لمصلحة الكيان الاسرائيلي الغاصب، واكتساح قيم الحضارة الغربية المادية والعلمانية للمجتمعات الاسلامية.
ولكن هذا الخطاب التكفيري، وبدلاً من الدعوة الى التجديد والتحديث، وابتداع وسائل جديدة للمقاومة والدفاع والتفاعل مع العصر، قد دعا الى الانعزال والانقطاع، وأدان العصر كله: قيماً وحضارات ومجتمعات وسياسات، وهذا ما أوقفه في تناقضات مع المرحلة الراهنة: ففي الوقت الذي يتغير فيه العالم من حوله بسرعة مذهلة، ويشهد التطورات والانجازات على المستويات كافة نجده يدعونا للرجوع الى المنابع الاولى التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويروّج لفكرة الجمود الفكري عند نقطة تاريخية معينة، معتبراً أن النص الديني قادر وبطريقة سحرية على حل جميع المشاكل في الماضي والحاضر والمستقبل، وبهذا فهو يختزل كل الازمان في زمن واحد، هو الزمن الماضي، وكل العصور بعصر واحد، هو العصر الذهبي، عصر النبي والخلفاء الراشدين. ثم هو يطرح نفسه بديلاً من كل القوى والتيارات الاخرى العاملة على الساحة، فالمتبنّون لأفكاره هم المسلمون الوحيدون، أما مخالفوهم فهم - حتى لو كانوا مسلمين - "كفرة"، وخارج دائرة الاسلام الايمانية والسياسية، وهم الوحيدون الذين يملكون المشروع الشرعي لإنقاذ الأمة. وهذا المشروع الذي ذهب الى أبعد الحدود في توظيف الدين في خدمة مصالح سياسية، قد ادعى امتلاك الحقيقة الدينية والسياسية، ولم يستحِ من الله عندما أضفى القداسة على أفكار واجتهادات هي نتاج العقل البشري غير المعصوم من الخطأ والزلل والانجرار وراء الهوى والانفعال، ولذلك فإن ما يأتي به قابل دائماً للتعديل والتصحيح وإعادة النظر والمعارضة.
إن أزمة هذا الخطاب أنه يستهدف انتاج العالم وفق النموذج الإلهي، ويحاول إعادة تجذير الحاضر للمجتمع الاسلامي في ذلك العصر التأسيسي للاسلام، الذي ينظر اليه على أنه عصر مثالي يقف فوق التاريخ ويتعالى عليه، ومع ذلك يمكن نسخه وإعادة تكراره اليوم! وهذا ما حوّل هذا الخطاب الى رؤية مثالية طوباوية، تتميز بكل صفات الدعوة المهدوية (انتظار المهدي المنقذ) الموجهة الى الشعوب البائسة والمستضعفة من الناحية الثقافية والاقتصادية، والمضطهدة سياسياً، والمكبوتة نفسياً وجنسياً، ولهذا السبب فهي مستعدة لإتباع كل حركة تغذّي الأمل بالانقاذ والخلاص، وذلك بطريقة تجييشية، تحوّل معها التراث الى نوع من الايديولوجيا الاحتجاجية والثورية، بدلاً من أن يكون مجموعة من القيم الروحية والاخلاقية التي تلهم المسلم المعاصر، وتدفعه نحو الخلق والتجديد والمشاركة العالمية في اجتراح الحلول للمآزق والمشكلات الحضارية الراهنة.
(طرابلس(

12 - سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق – بيروت، 1083، ص67.
13 - انظر المقالة التي نشرتها في جريدة "النهار"، بعنوان: "المنظومة الفكرية والقيمية للسلفية الجهادية التكفيرية"، بتاريخ 10/6/2007.
هلا رشيد أمون
(أستاذة الفلسفة في الجامعة اللبنانية )



#هلا_رشيد_أمون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
- أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال ...
- كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة ...
- قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ ...
- قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان ...
- قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر ...
- قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب ...
- قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود ...
- قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى ...
- قائد الثورة الاسلامية: العدو لم ولن ينتصر في غزة ولبنان وما ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - هلا رشيد أمون - السلفيّة: من التحرير إلى التكفير