بالرغم من الحصار الذي يشتد على الشعب الكردي لأخماد صوته وأسكات المطالبين بحقه في الحياة ، وعدم السماح لأية شرارة لأنبعاث نقطة ضوء تسلط ضيائها على مجمل حق الشعب الكردي في شتى مناحي الحياة ، وفضح الظلم والأجحاف والتنكر لمجمل حقوقه الأنسانية ، الا أن هذا الشعب الذي لم يستكن يوما ما ولم يخضع للواقع المؤلم ، ولا أصبح خانعاً بالرغم من الظروف المحلية والدولية وشبكة المؤامرات التي تحيط به من جهاته الأربعة وبالرغم من التنكر لحقوقه الوطنية من قبل الدول الكبار عدة مرات ، فقد بقي على الدوام يعطي ويتسلح بالعناد والصبر والكفاح وتحمل جراء ذلك كل أنواع الصعاب والتضحيات وعمد الى استغلال أبسط أشكال الفرص من أجل أثبات وجوده ونشر حقوقه على الناس دون معين أو مساند سوى تضامن الشعب الكردي مع قياداته ومع تضحياته التي تفوق الوصف .
وأذا كان الأكراد يشكلون شعباً متميزاً وتتوفر فيه كل مستلزمات ومقومات الدولة القانونية والتي تعني أنها الجماعة المستقلة من الأفراد الذين يعيشون بشكل مستمر على بقعة من الأرض محددة مع وجود سلطة تأخذ على عاتقها أدارة شؤون الحكم ، أوربما انها خضوع شعب معين لقانون ويقطن هذا الشعب أرضاً معينة ، فأن الحلم الأنساني في أن يكون للكرد شكل من أشكال الدولة الدستورية يجمعهم ويلملم بعثرتهم المقصودة يكون مشروعاً في نظرهم وأعتقادهم وفي أعتقاد المنصفين والتمنورين وأصحاب النظرة الأنسانية في التشريح السياسي ، ويكون حلماً خرافياً وخطوة من خطوات تمزيق الوطن عند العقول المنغلقة والظلامية وقصيرة النظروالشوفينية .
وبالرغم من أن عملية الأنبعاث القومي موجودة عند كل الشعوب وداخل وجدان الأمم ، وتشكل جزء من صيرورتها ومجدها ، فقد بقي الكرد منذ زمن طويل يطالبون بصوت واحد تلبية حقوقهم المشروعة ، ومع أن هذه المطالبة لم تمنع قيام الأنتفاضات الشعبية التي كانت تعبر عن رفض السلطات والقيادات الشوفينية تلبية جزء من حقوقهم المشروعة .
وفي التراث الشعبي الكردي العديد من الأناشيد والاغاني التي تمجد هذه المعارك والثورات منذ الزمن القديم على طول المساحة الكبيرة التي يتوزع بها الكرد بين الدول التي تقاسمت ليس فقط وجودهم وسكنهم ، بل تقاسمت غمط حقوقهم والعمل على تغييب صوتهم .
فقد سجل الشعب الكردي ملاحم بطولية وقصص تصلح كسفر من أسفار البطولة ألأنسانية في الأصرار على تحصيل الحقوق وفرض الأرادة الوطنية والشعبية ضمن المجال المحدد لحقوقهم، أضافة الى طول الفترات التي عانى منها الكرد في القتال ضد الجيوش الهمجية والسلطات الشوفينية ، وفي عدم الأستقرار وتبعثر شعبهم في مناطق بعيدة عن مناطقهم ، ومن ثم في مجاهل الدنيا تخلصاً من الضياع الذي أريد لهم .
وليس جديداً أن اذكر الغياب السياسي والثقافي للكرد في جميع المناطق التي يسكنها الشعب الكردي بالرغم من المساهمة الفعالة والمخلصة في بناء الدول والأمم التي كان الكرد يتعايش ضمنها ، دون أن تلجا القيادات الكردية الى أية عمليات عسكرية أو حربية ضد المناطق والمجتمعات المدنية الأخرى ، ولم يحصل أن قام الكرد في كل الدول التي تضم أجزاء من شعبهم بعمليات من نوع العمليات الأرهابية التي تلحق الضرر بالمدنيين الأمنيين .
ومن الغريب أن لايلتفت الكتاب الى هذه الناحية المهمة ، مع أن المبرر المنطقي موجود حين يتم محاربة ومواجهة شعب يطالب الأقرار بجزء من حقوقه بجيوش عسكرية نظامية ومتدربة ومتسلحة بأقوى الأسلحة الفتاكة ، والواقع يذكر أن المواجهة كانت تحصل بين القوى العسكرية الجبارة وبين جماهير الشعب الكردي القادرة على حمل السلاح مع كل ما يحصل لها من ضرر مادي ومعنوي خلال فترة الكفاح المسلح ويطيل القتال حتما الناس المدنيين الأمنيين ، دون أن نغفل وقوف الشعوب من غير القومية الكردية معهم ، إحساسا معهم بما لحقهم من ظلم ، وتضامناً معهم لتحقيق حقوقهم وتطلعاتهم المشروعة التي تتنكر لها السلطات .
وأذا كانت التنظيمات والميليشيات العسكرية للأحزاب الكردية تشكل خطاً من خطوط الثورة الملتزمة والمنظبطة ، فأن عملها يخضع بالتأكيد لقرارات القيادة السياسية ، هذه القيادات والتي رفعت السلاح سواء في العراق أو في تركيا ، لم تجنح الى سلوك الطريق الذي يرعب الجانب المدني الآخر ، وبالرغم من سلوك الجانب الحكومي السلوك الأرهابي في العمل العسكري ، في ترويع وقتل المدنيين وعدم وضع ضوابط للعمليات العسكرية ضد الشعب الكردي .
وتجربة العمل العسكري سواء في العراق أو تركيا من قبل الشعب الكردي كانت تمثل ظاهرة الرفض الطبيعي للأقرار بحقوق الكرد ضمن الدول التي تعيش فيها هذه الشريحة الكبيرة والمهمة ، ورد فعل طبيعي لمقاومة الحقوق الطبيعية للأنسان والأقرار بها دستوريا وسياسياً .
وبهذا الأمر نجد أن قيام الحركات الثورية في المناطق الكردية تمثل حالة قانونية سليمة من حقوق الأنسان لاتخرج عن أطارها الأنساني المتمثل بحق الأنسان في الحياة وأختيار شكل الحكم الدستوري الذي يريد .
ومن خلال معالجة أنسانية نجد أنه لايوجد منطق أو مبرر يقضي بعلو قومية على قومية أخرى ، وعلى هذا الأساس ينبغي أن تتساوى النظرة لكل قومية من القوميات المتعددة في البلد الواحد ، كما يكون لكل قومية وفق نسبتها وخصوصيتها أن تتقدم لباقي القوميات بأفكارها ومطالبها المشروعة ضمن أطار الفيدراليات أو الحكم الذاتي أو أية صيغة يصار الى الأتفاق عليها من خلال صيغ قانونية متينة تحدد أطر وأسس سليمة للحياة ويتم أحترام حقوق الأنسان فيها ، وأن تتحقق فعلاً عملية المشاركة الحقيقية في السلطة فعلاً لاقولاً .
النظرة الضيقة التي ترى أن في تحقيق بعض من حقوق الأكراد غمط للسيطرة والسيادة العربية في السلطة تتبرقع ضمن مقولات السيادة للقومية الأكبر والمصلحة العليا للبلد وعروبة العراق ووحدة التراب العراقي ، وهي كلها كلمات تغطي تحتها حقيقة واحدة وهي عدم تقبل واقع الأقرار بالحقوق ، ليس فقط للأكراد وأنما لجميع القوميات ، ومن يتنكر لحقيقة الأكراد كحالة إنسانية أنما يتنكر لجميع حقوق الأنسان ، ولايمكن أن يستوعب فكرة التعايش بين القوميات ، والتبسط في منح الأخوة والشركاء في البلد سواء في العراق أو تركيا أو سوريا أو أيران منح الحقوق .
وتبقى العقول المحدودة التفكير والضيقة الأفق تطرح أموراً لاتجد لها أساس في الواقع وتتخوف من جملة طروحات أو نسب تتعلق بالأحصاءات أو التواجد الفعلي أو التغيير الجغرافي والسكاني للمناطق ، وكأن العملية تدخل في باب التقسيمات الحسابية بدلاً من النظر للأمر نظرة وطنية أصيلة لايخشى منها شيء على الأنسان وهو أكبر من الأرض بأي حال من الأحوال .
وليس أكثر دليلاً وأثباتاً لغمط الحقوق تتابع السلطات القمعية اللجوء الى محاربة الأكراد بالعمليات العسكرية ، واللجوء الى قتالهم وأجلائهم عن مدنهم وقراهم ، مما يدلل على عدم استيعاب المتسلطين على السلطات أعطاء الكرد أدنى معاني الحق والحقوق .
وأذ ننظر الى القضية الكردية بشكل عام في عموم المنطقة ، لن نستطيع أن نجد لها الحلول الناجعة أو الطرق المتناسبة مع وضعها مالم نؤمن بتأمين حقوق الأكراد القومية والدستورية في جميع الدول التي تشكل فيها القومية الكردية حضوراً ووجوداً ملموساً سواء منها في العراق او تركيا أو سوريا أو لبنان أو ايران .
أن هناك حتى اليوم وبالرغم من حلول زمن القوانين الدولية واندحار الأنظمة الدكتاتورية وحقوق الأنسان ، وبالرغم من مطالبة الصوت العالمي للأقرار بحقوق الشعوب والقوميات المضطهدة ومنحها الأستقلال والصيغ التي تناسب وضعها وحياتها وفق رغبة شعبها ، لم يزل هناك من يغمط حق الكرد ويعمل على التنكر لحقهم في الحياة ن ولم يزل من يرفع عليهم السلاح لأسكات صوتهم ومن لم يزل يعتقل زعاماتهم ورموزهم ظنا منه أنه يستطيع بهذا الأسلوب الذي عفا عليه الزمن وثبت فشله وأندحاره ، فأن الثابت أن بغير الأقرار بحقهم في الحياة ، وأشراكهم في شكل السلطة تحت غطاء الديمقراطية والتعايش السلمي الذي تطمح له الإنسانية لن تستقيم الأمور أبداً .
وقد تشكل التجربة العراقية المريرة للكرد في كردستان العراق ، تجربة جديرة بالاهتمام بالنظر لما تتضمنه من معاني يمكن أن تصلح كتجربة نموذج في التعايش السلمي بين القوميات ، فقد ناضل الأكراد بشتى الوسائل ومن بينها الوسائل العسكرية وواجهوا جيش يعد من أقوى جيوش المنطقة عدداً وتسليحاً ، وبالرغم من المؤامرات الدولية والتنازلات السيادية والمخططات التي تضعهم على مذابح المساومات السياسية ، فقد بقيت مطالبتهم قائمة وصوتهم لم يتوقف تنتقل راية الكفاح والمطالبة من يد الى يد أخرى من يد الشهيد القاضي محمد ورفاقه الى يد الزعيم الخالد الملا مصطفى البارزاني الى يد الزعيم الثائر عبد الله آوجلان .
ولهذا ستبقى القضية الكردية في عموم المناطق التي يسكنها الشعب الكردي مشتعلة وملتهبة ، وقد تبدو ناراً تحت الرماد تؤرق السلطات القمعية والغامطة لحقوق الشعوب مالم تدرك أنها في زمن غير زمانها ، كما أنها أمام شعب عرف بالصبر والاصرار على تحصيل حقوقة بأي شكل ومهما على الثمن ومهما طال الوقت ، وأن هذا الشعب متضامن ومتكاتف مع قياداته بشكل لم يسبق أن سجله التاريخ لحركة شعبية وثورية من قبل .