قد يكون المقياس الأدق لتقلب مسار ما عرف بالإصلاح في بضع الشهور التي سبقت وتلت تولي الدكتور بشار الأسد مقاليد الحكم في البلاد هو ما اتخذ من إجراءات بخصوص ملف المعتقلين السياسيين الموروث. فقبل وفاة الرئيس الأسد الأب أفرج في نيسان من عام 2000 عن دفعة من المعتقلين فيما بدا وقتها أنه خطوة نحو تحسين المناخ العام تواكب خطوات أخرى مثل حملة مكافحة الفساد التي بلغت ذروتها بانتحار رئيس الوزراء السابق، ومثل إبعاد بعض أصحاب الطموح في الأجهزة الفاعلة ممن قد يشكلون مراكز قوى في حال وفاة الأب. وبعد شهور من تولي الدكتور بشار منصبه وفي تشرين الثاني عام 2000 أفرج عن دفعة جديدة بما أكد حينها وجود مسار انفراجي يتجه نحو حل ملفات عقد الثمانينات حتى لو لم يعبر عن الأمر بهذه الطريقة.
معلوم أن شباط من عام 2001 شهد الكرّة الأولى من هجوم ما كان يعرف قبل عام من اليوم بالحرس القديم على جملة الأنشطة المدنية المستقلة التي أخذت بالظهور قبل وفاة الأسد الأب، وتكاثفت فاعلياتها واتسعت ميادينها مع تغير العهد وما أشاعه التفاعل الاجتماعي مع هذا التغير من مناخات دافئة استحقت اسم ربيع دمشق. لكن الحراك الديمقراطي لم يلبث أن استعاد حيويته في صيف العام الماضي لأنه يعبر عن حاجة اجتماعية ووطنية موضوعية لا يمكن إلغاؤها إلا بنموذج العنف المنفلت والساحق الذي خرب البلاد قبل أكثر من عقدين داميين من السنين، وهو النموذج الذي تحن إليه بالفعل قوى انتحارية موغلة في العنف والفساد وتتعارض مصالحها على طول الخط مع أي مفهوم صالح للإصلاح. وفيما بين آب وأيلول الماضيين بلغ الحراك الديمقراطي ذروة جديدة من حيث الكثافة والنوعية والاتساع. وستبقى هذه الذروة، مهما آل مصير نصف الانفراج القلق الراهن في البلد، مؤشرا على حيوية المجتمع السوري ومثالا يحتذى في أي انفراج كامل في المستقبل. في مواجهة هذه الذروة انتقلت الجهات المستفيدة من الصمت والغياب العامين في البيروقراطية المدنية والأمنية إلى سياسة العقاب والضرب بعد أكثر من عام من المراقبة وتحسس مواقع الأقدام. فبعد أن تكشف فيما بين شباط وأيلول من العام الفائت أن ما سمي لبعض الوقت باسم تيار الإصلاح لا يملك الرؤية الشاملة ولا الشجاعة الكافية لحمل أعباء اسمه، استطاع التيار العدمي أو شبه العدمي (وهو تيار يتمتع حقا بالوعي "الطبقي" وبإرادة تحصين مصالحه وحمايتها وبمواقعه المؤثرة سواء للتفعيل أو للتعطيل)، استطاع الالتفاف على حركة الإصلاح المترددة وتوجيه ضربة إلى الحراك الديمقراطي لمنعه من التحول إلى حركة ديمقراطية وازنة لا تقبل الحذف من الحياة الوطنية. وكاستعراض حقيقي أول للقوة في مواجهة "عودة الروح" إلى سورية والسوريين، ولكن أيضا تعبيرا عن فقدان ذلك التيار لأعصابه تم اعتقال عشرة من النشطاء الديمقراطيين. وهنا أيضا ومهما آل مصير نصف الانغلاق الراهن فإن هجوم التحالف البيروقراطي متعدد الجبهات ( أمن، إعلام، أساتذة جامعيين أوفدوا بالواسطة لنيل شهاداتهم…) يقدم مؤشرا أوليا بدوره على المدى الذي يمكن أن يذهب إليه هذا التيار دفاعا عن مصالحه المضادة للمجتمع. بهذه الكرّة الهجومية الثانية سجل التيار المتطرف نقطة كبيرة لصالحه سواء بوضع حد لأوهام "التيار الإصلاحي" عن نفسه، أو بإنهاء أية رهانات عقدها المجتمع على هذا التيار إن في مجال مكافحة الفساد أو في ميدان الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الحقيقي، أو بالطبع بإضعاف الحراك الديمقراطي وتطويقه وعزله.
النقطة التي تستحق الإبراز في هذا السياق هي الوحدة الجوهرية للسياسات الاجتماعية سواء في اتجاه الإصلاح أم في اتجاه المحافظة. فبقدر ما اقترن انفراج الشهور الأولى من حكم الرئيس بشار الأسد بنمو التوقعات العامة على المستويات السياسية والقانونية والاجتماعية والإنسانية والاقتصادية، وعلى صعيد الدولة والمجتمع والقوى السياسية، فإن منحنى العام المنصرم بين شباط 2001 واليوم هو منحنى تقليص هذه التوقعات وانحدارها. إن وحدة الإصلاح تعني تجانس مطلبه في وعي وإرادة المبادرين إليه وانبثاث روح تجديدية وإحيائية واحدة على اختلاف ميادين العمل الاجتماعي المستهدفة بالإصلاح. فلا يمكن الجمع مثلا بين بناء البلد واعتقال الناس، بين تغذية توقعاتهم وآمالهم بالتغيير ثم تطويقهم بكل أنواع الخطوط الحمر… وإذا كان هناك إجراء واحد يكثف حقيقة الغدر بتلك التطلعات (عدا اعتقالات أيلول الفائت) فهو قانون المطبوعات الذي صدر قبل شهور قليلة، والذي يقول عنه بعض الخبراء إنه أكثر تشددا وقمعية من نظيره الصادر عام 1876 أيام السلطان عبد الحميد الشهير بظلاميته. على أن المؤشر الأكيد على الوحدة الموضوعية ل "البرنامج" الحكومي هو سحب مفهوم الإصلاح من التداول العلني وسد النافذة الضيقة التي كان يتسرب منها الهواء والنور إلى الإعلام الرسمي، إضافة إلى حذف قضية إصلاح حزب البعث نفسه التي دار حولها كلام كثير قبل شباط 2001. وبالمقابل فرض الحديث عن التطوير والتحديث نفسه كعنوان للبرنامج الحكومي، أو بالأحرى كعنوان لغياب هذا البرنامج، إن لم نقل العجز عن تقديم أي برنامج أو خطة وطنية. يعبر هذا العنوان عن تقليص الإصلاح واختزاله إلى جانبه الفني والكمي والتقني وتغييب جوهره السياسي أولا، ويكشف ثانيا أن نخبة السلطة بحديثها عن أولوية الإصلاح الاقتصادي في إطار التطوير والتحديث تكاد تنظر إلى الشعب السياسي كقطيع يحتاج إلى طعام وشراب… ولا مطالب معنوية وسياسية لديه.
من هذا الباب ما زال الموقف الإيجابي من قضية الاعتقال السياسي وما يرتبط بها من ملفات موروثة أو مستحدثة هو المقياس الأوثق لحرارة نيات التجديد والقدرة على الارتفاع إلى مستوى الحاجات الموضوعية للحياة الوطنية في مختلف أبعادها. وما ذلك إلا لأنها مفتاح باب الحريات العامة للمواطنين وعلامة لا منافس لها على قدرة من يحتكرون القدرة ومن تتوجب فيهم القدرة على التأسيس والبدء لمرحلة وإنهاء مرحلة في التاريخ السياسي للدولة السورية، فضلا عن أنها تضمن مناخا معنويا إيجابيا ينعكس على كل جبهات النهوض والتجديد الأخرى. وبالعكس فإن الموقف السلبي من هذه القضية المفتاحية هو المرشد الأمين إلى استمرار السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تزيد من اتساع فجوة ـ بل هوة ـ الدخل والقيمة والسلطة بين فئات الشعب السوري إلى مستويات منذرة بالخطر.
ولعل الإفراج عن أزيد من مائة من المعتقلين السياسيين المزمنين في تشرين الثاني الماضي يظهر درجة أكبر من التعقيد في سياسات النخبة السلطوية وفي مدى إدراكها واستجابتها للمتطلبات الموضوعية للعصر والمجتمع الوطني. فإذا كان الإفراج الأخير يعبر عن قدر من وعي هذه المتطلبات، فإن محدوديته أولا، والاستمرار في حبس الديمقراطيين العشرة ثانيا، ثم التلكؤ الشديد في محاكمة ثمانية منهم أحيلوا على محكمة أمن الدولة والطيش والتعسف في محاكمة عضوي "مجلس الشعب" المستقلين اللذين أحيلا على محكمة الجنايات ثالثا…كلها عوامل تعكس اضطراب منظورات وتوجهات هذه النخبة وعدم تجانسها تكوينا وتاريخا، وبالتالي مصالح ورؤى. ولا شك أيضا أنها تكشف عن الضعف المزمن للمجتمع السوري ولقوى التجديد المادي والسياسي والمعنوي فيه، أي للطبقة الوسطى وللكادر السياسي المتمرس وللمثقف الوطني المبدع وصاحب الموقف.
إن أهمية قضية الاعتقال السياسي وأخواتها تكمن في كونها موقعا ممتازا نطل منه على الاتجاهات العامة للحكم وممارسة السلطة في سورية. وهي بالفعل المفصل الذي يترابط عنده ملف رد المظالم الذي طالما ركزنا عليه مع إعادة تأسيس الدولة السورية أو بناء سورية الجديدة. والرهان الكامن خلف الحل الجذري لهذه القضية هو أن نثبت لأنفسنا وللعالم أن سورية ممكنة دون معتقلين سياسيين ومعذبين ومفقودين ومشردين… بقدر ما كانت سورية البشعة، المشلولة، والمنقسمة على ذاتها هي سورية سجن تدمر وإخوته الأقل فظاعة وفروع التحقيق والتعذيب المتفاوتة القبح. هذه القضية هي معيار التمييز بين وجود إرادة بناء وطني من عدمها، وهي بالتأكيد المدخل الإلزامي الوحيد نحو تجديد معنى الحياة وإرادة الحياة في الدولة والمجتمع السوريين. ولن يتمكن الطاقم الحاكم اليوم من رسم استراتيجية وطنية على أي مستوى دون التصدي لهذه القضية التي نعود ونؤكد أنها مقياس صدق نياته وثبات توجهه نحو البناء الوطني دون مراوغة ولا تلاعب. فبكل بساطة ـ مرة أخرى ـ لا يمكنك بناء البلد وأنت تعتقل الناس.
قد لا يتجاوز عدد المعتقلين السياسيين اليوم الألف، لكن تبييض السجون بما يرمز إليه من تحرير الضمير والوعي الوطني من جراح وندوب زمن مضى، ومن قدرة على اتخاذ قرار تأسيسي بهذا المستوى وتحقيق قطيعة إيجابية في تاريخ البلد السياسي، هو بمثابة فتح صفحة بيضاء أمام الدولة والشعب وإعطاءهما دفعة قوية إلى الأمام. لذلك يجب أن تبقى قضية الاعتقال السياسي على رأس جدول الأعمال الوطني لجميع القوى السياسية والأنشطة المدنية. لذلك أيضا يتوجب التركيز على الإفراج عن المعتقلين العشرة الذين يحتلون مكانة خاصة لكونهم رهائن الطيف الديمقراطي السوري الناشئ وأسرى عدم تجانس نخبة السلطة؛ لسنا نفضلهم على غيرهم، لكن الإفراج عنهم يعني تدارك خطأ كبير ورفض تطبيع "مؤسسة" الاعتقال السياسي في عهد لم ترسخ طباعه بعد. ولذلك أخيرا فإن الحل النهائي الوحيد لهذه القضية هو بمثابة الخطوة الأولى من ثورة سياسية حقيقية بالمعنى الأصيل لكلمة ثورة، المعنى الذي تطفل عليه وبهدله واعتقله عشاق السلطة على اختلاف أصنافهم وعقائدهم¾
الراي 2-2002