لم أتعرف عل ادوارد سعيد شخصياً ، ولم أقابله وجهاً لوجه سوى مرة واحدة عقب آخر محاضرة له فى الجامعة الامريكية بالقاهرة منذ ثلاثة شهور تقريبا .
لكنى تابعت " جهده " العلمى والاكاديمى الفذ منذ أواخر الستينات ، ثم " جهاده " السياسى من اجل القضية الفلسطينية والدفاع عن الهوية العربية منذ اواخر سبعينيات القرن الماضى .
ورغم ان كثيراً من آرائه ومواقفه لم تكن فوق مستوى الجدال .. ورغم انى اختلفت مع بعض هذه الآراء وتلك المواقف.. فان خبر وفاته يوم الخميس الماضى أصابني بحزن شديد .
صحيح ان الموت عموماً يصيبنى بالاكتئاب ، بيد ان وفاة شخص بقيمة وقامة ادوارد سعيد يضاعف هذا الحزن ، لأنه ينطوي الى جانب الخسارة الإنسانية على خسارة فادحة أخرى لفارس " لم يسأم من مقاومة النظام العالمى الجديد ، دفاعاً عن العدالة ، وعن النزاهة الإنسانية وعن المشترك بين الثقافات والحضارات " على حد تعبير الشاعر الفلسطينى محمود درويش .
لكن هذا الحزن العميق الذى لازمني منذ الخميس أضيف إليه الإحساس بالخجل بعد ان طالعت الصحف الصادرة فى القاهرة صباح الجمعة ، حيث وجدتها بليدة الإحساس ، باردة المشاعر ، سميكة الجلد ، لامبالية بهذا الحدث الجلل والمصاب الفادح ، مكتفية بالإشارة العابرة اليه .. مجرد خبر طوله لا يزيد عن خمسة سنتيمترات على عامود واحد فى ذيل الصفحة الاولى حتى بدون صورة للراحل العظيم ! .
وتضاعف إحساسي بالخجل عندما وجدت الصحف العربية الصادرة فى نفس اليوم قد افردت مساحات معتبرة على الصفحات الأولى والداخلية لرثاء سعيد ، ليس فقط بأقلام محرريها وإنما أيضا بأقلام كبار الكتاب والأدباء والمفكرين العرب ، بل ان إحدى هذه الصحف العربية سارعت الى الحصول على تصريح من اديبنا الكبير نجيب محفوظ بهذا الصدد ونشرته فى مكان بارز مع اشارة بالصفحة الاولى حيث قال محفوظ انه يعتبر وفاة ادوارد سعيد "خسارة فادحة ليس فقط للنقد الأدبي بل أيضا للقضية الفلسطينية التى كانت رؤية الراحل الموضوعية إزاءها تحظى باحترام كبير فى كل مكان فى العالم " .
أليست هذه فضيحة لصحافتنا المصرية ؟!
انها بالفعل ، ودون لف او دوران ، فضيحة مخجلة .. نرجو ان نتداركها ونمحو وصمتها اليوم قبل الغد ، بتكريم ادوارد سعيد وإلقاء الضوء الساطع على إسهاماته الفكرية واجتهاداته السياسية ومآثره الإنسانية والفنية ، والتقييم النقدى لهذه الإسهامات وتلك الاجتهادات والدور الذى لعبته على الصعيدين العالمى والعربى .
وهى إسهامات واجتهادات لا يستهان بها . وكما يقول الشاعر الفلسطنيى والعالمى الكبير محمود درويش : " لو سئل الفلسطينى عما يتباهى به أمام العالم ، لأجاب على الفور : (ادوارد سعيد ) .فلم ينجب التاريخ الثقافى الفلسطينى عبقرية تضاهى ادوارد سعيد المتعدد المتفرد . ومن الآن ، وحتى اشعار أخر بعيد ، سيكون له الدور الريادي الأول فى نقل اسم بلاده الأصلية ، من المستوى السياسى الدارج الى الوعى الثقافى , ولكنه – بوفائه لقيم العدالة المهدورة على أرضها ، وبدفاعه عن حق أبنائها فى الحياة والحرية – اصبح أحد الآباء الرمزيين لفلسطين الجديدة " .
خــونــة الثــقافــة
وإذا كان البعض يمكن ان يظن ان شهادة درويش بها شئ من المبالغة او العاطفية ، لكونه فلسطينيا ولكونه شاعراً ، فها هى شهادة مثقف فرنسي كبير هو "جيل بيرو" يقول على صفحات " لوموند ديبلوماتيك " ان إدوارد سعيد " أحد اكبر مفكرى هذا الزمان " .
وقد ظفر باعتراف دولي لم يسبق ان حظى به كاتب فلسطينى أو عربى. وهذه المكانة الدولية لم تأت من فراغ ، بل كانت جائزة العبقرية والنزاهة الفكرية والريادة فى مجالات ثقافية هى الى حقول الألغام اقرب ، وبخاصة مجال "الاستشراق" حيث أرسى كتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق دعائم منهج جديد تمرد على المنهج التقليدي السائد المتسم بالدونية والإحساس بمركبات النقص إزاء الغرب .
وهو منهج وصل الى ذروة تألفه فى كتاب " الثقافة والإمبريالية " .
وكما يقول مترجمه الكاتب السورى المعروف كمال أبو ديب فأنها " قليلة هى الكتب التى تستحق ان توصف بأنها عظيمة .
بين هذه الكتب بلا ريب كتاب إدوارد سعيد " الثقافة والإمبريالية " انه عظيم اولاً فى مداه ورحابة أفاقه و علمه .
وهو عظيم ثانيا فى منظوره . وبالمقارنة مع جلال المنظور والقضايا التى يناقشها إدوارد سعيد فى فكره عامة ، يبدو بضعة المفكرين الكبار فى العالم اليوم الذين يقترن اسمه بأسمائهم كأعلام معاصرين ، من جاك دريدا الى يورجن هابرماس ، محدودي الأفق والمكان والمنظور ، ضامري الإحساس بعظمة الإنسان والانشغال بقضاياه وهمومه ".
ثم ان هذا الكتاب عظيم فى طبيعة الموقف الأخلاقي والفكري الذى ينطلق منه إدوارد سعيد فيه : إيمانه بالإنسان ، والحرية ، وضرورة التواصل ، والتفاعل ، والإثراء المتبادل بين الثقافات والمجتمعات والصراع ضد الاستعلائية والاستعمار والإمبريالية والهيمنة والتسلط والمركزية الغربية وضد نقائضها من قوميات ضيقة وهويات متشرنقة .
وهو عظيم فى اللغة الجليلة التى بها يكتب إدوارد سعيد ، وفى قوة فكره والشبوب العاطفى الذى يتوهج من جمله وعباراته ، متجاوزا حدود الجامعية الجامدة ، لكنه ملتزم بصرامتها المعرفية وشروط تكوينها ؟؟ ".
وفى هذا الكتاب بالغ الأهمية استطاع إدوارد سعيد كشف النقاب ونزع الأقنعة وإسقاط الأوهام فى أجابته العلمية عن السؤال المحورى : ماذا كان دور الثقافة فى نشأة الإمبريالية والاستعمار منذ القرن التاسع عشر ، وماذا كان دور الثقافة أيضا فى مقاومة تلك الإمبريالية وذاك الاستعمار أبان معارك التحرير ؟
الحــرب الغـبـية
ولم يكن من باب الصدفة ، لرجل له هذا الإسهام الفكرى الرائد ان يكون إدوارد سعيد ، الذى يحمل الجنسية الأمريكية منذ صباه، من أوائل من فضحوا الطبيعة الاستعمارية للعدوان الأمريكي على العراق واصف إياها بانها " الحرب الأغبى والأكثر تهورا فى العصور الجديدة وجوهرها العنجهية الإمبريالية دون اتعاظ بالتجربة التاريخية ومدى التعقيد فى شئون البشر . انها حرب لا حدود لعنفها الوحشى الذى توفره لها احدث تقنيات القتل . وليس من تجسيد افضل لهذه الحرب الأمريكية على العراق من جورج بوش نفسه عندما يحاول جاهدا أداء الدور حسب التلقين المسبق او قراءة النصوص المكتوبة له والتى لا يفك حروفها ألا بالكاد .. " .
وشن إدوارد سعيد هجوماً عنيفاً على المثقفين العراقيين والعرب الذين حرضوا الإدارة الأمريكية على العدوان على العراق واستماتوا فى تزيين هذا العدوان الاستعماري بشعارات زائفة عن الديموقراطية وحقوق الإنسان ..
ولان ادوارد سعيد انتقد ضمن من انتقد فى هذا السياق ، الدكتور مأمون فندى ، موحيا بانه "بوق من أبواق الإدارة الأمريكية" ، فان الدكتور فندى كان أحد الذين شنوا حملة شعواء عليه .
ولم يكتف برد الهجوم او تفنيد كونه بوقاً أمريكياً ، بل ذهب الى النهاية وتجريد إدوارد سعيد من اى فضل او اى قيمة ، قائلاً " ان منطق إدوارد تجاهي هو امتداد لتشوه فكرى ومنطق اخرق نما مع سعيد منذ البداية وتجلى بوضوح فى كتاب " الاستشراق " وكذلك كتاب " الثقافة والإمبريالية " وهو كتاب ملئ بالأخطاء وسوء قراءة لمؤلفات جين اوستن خصوصاً ومؤلفات أخرى بالإنجليزية والفرنسية ".
جـهــد الـهـــاوى
باختصار .. إدوارد سعيد الذى وصفه أهم مفكرى الغرب بانه اكبر مفكرى هذا الزمان " ، هو فى رأى مأمون فندى مجرد " أستاذ أدب إنجليزي وليس أستاذ تاريخ او اقتصاد سياسى للمعرفة ، او حتى أستاذا فى علوم الشرق الأوسط او فى العلوم السياسية بشكل عام " .
ولذلك فان " تجاسره " على تأليف كتاب " الإمبريالية والثقافة " يصبح – فى رأى فندى – " ممارسة مهنة بدون ترخيص " .
اى والله .. هذا نص ما كتبه فندى فى جريدة " الشرق الأوسط ".
فى حين رأى نقاد آخرين – بالعكس – ان إدوارد سعيد " الى جانب كونه أستاذ أدب ناجح فى إحدى كبريات الجامعات الأمريكية ، فان أوسع أعماله تداولا هى تلك التى تخرج عن مضمار تخصصه والتى هى حصيلة ما يسميه بـ "جهد الهاوى" غير المقيد الى إجراءات مؤسسية او نظم راسخة ، بل المناوئ لمثل هذه النظم وتلك الإجراءات (أنظر سمير اليوسف : إدوارد سعيد .. السيرة الذاتية والسياسية اخفاق فى تمثيل الهوية أم ماذا؟)
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية .. فقد كان إدوارد سعيد صوتها المتحضر فى أمريكا والغرب عموماً ، ولأنه رجل فكر وليس رجل سياسة فانه لم يأبه بالتكتيكات والمناورات ولم يتقيد بالولاءات التنظيمية التقليدية ، ولذلك وجدناه يضع يده فى يد الرئيس عرفات فترة ثم يقاطعه وينتقده بعنف ، منذ اتفاقيات أوسلو ، سنوات عديدة. لكنه استقر فى نهاية المطاف على استراتيجية حل الصراع العربى – الإسرائيلى من خلال إقامة دولة ديموقراطية علمانية واحدة من النهر إلى البحر تشمل الجميع من فلسطينيين ويهود ، وهذه مسألة بالغة الأهمية سنعود إليها بالتفصيل فى مقال لاحق.
وقد سعدت بموقف السلطة الفلسطينية يوم وفاة إدوارد سعيد ، المولود فى القدس عام 1935 ، حيث لم تمنعها انتقاداته العنيفة لعرفات من رثائه واعتبار وفاته "خسارة كبرى لا تعوض للشعب والقضية الفلسطينية والفكر الإنساني" وقررت وزارة الثقافة الفلسطينية فتح بيت عزاء لمدة ثلاثة أيام فى غزة ورام الله.
اعتذار .. وفداء
على اى حال .. فان هذه السطور الحزينة والمشتتة والعفوية ليست تأبينا لائقاً بالمفكر الكبير إدوارد سعيد ، الذى كان يكره اسمه الأول كثيراً ، لكنه احترم نفسه دائما وأبداً.
هى بالأحرى .. اعتذار له عن تقصير الصحافة المصرية فى رثائه ، وتكريمه ، وإلقاء الضوء على إسهاماته واجتهاداته وجوانب سيرته وحياته الثرية ، حيث كان إلى جانب تخصصه الأكاديمي ، وعطائه الفكرى ، ونشاطه السياسى ، موسيقيا رائعاً ، وعازف بيانو من الدرجة الأولى ، وذواقة للفنون ، ولازلت أذكر له مقالاً بديعاً عن الراقصة المصرية تحية كاريوكا .. ليت احدى صحفنا الثقافية تعيد نشره .
والأهم .. لعل مكتبة الأسرة توفر للقارئ المصرى أعماله الكاملة.
فما أحوجنا لها ...
وطبت حيا وميتا .. أيها المفكر الرائع .. والإنسان النزيه.