أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - صبحي حديدي - أحزان وأحقاد














المزيد.....

أحزان وأحقاد


صبحي حديدي

الحوار المتمدن-العدد: 607 - 2003 / 9 / 30 - 03:38
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


 

رحيل إدوارد سعيد أصاب الملايين، في مغارب الأرض قبل مشارقها، بحزن عميق امتزج بإحساس ــ لا يقلّ عمقاً، على الأرجح ــ بأنّ الإنسانية خسرت عَلَماً كبيراً وضميراً فريداً وطاقة عطاء استثنائية. الأسباب كثيرة، بل ليس من المبالغة القول إنها لا تُعدّ ولا تُحصى، إذْ قد يكون لكلّ امرىء أسبابه الخاصة في احترام الراحل، سواء في الاختلاف أم في الاتفاق.
غير أنّ الآلاف، وليس في هذا القول مبالغة هنا أيضاً، تنفسوا الصعداء لأنّ هذا الطود الشامخ غاب عن المشهد، وغابت معه سلطته السجالية ـ النقدية، العالية الجبّارة، الأخلاقية والفكرية والثقافية والسياسية. ولقد أراح رحيل سعيد أولئك الذين لم يعرفوا طعم الراحة في حضوره، حين كانت جهودة الشجاعة والمبدئية واللامعة تفضح أنساق انحطاطهم كافة، وتنقلب إلى سيف مسلط على رؤوسهم... منه اليوم يتحررون!
ولعلّ المرء لا يبالغ، للمرّة الثالثة، حين يتلمّس مظاهر هذا الارتياح في بعض المراثي التي دبّجها خصومه (حيث لا تخفى الأحقاد حتى في الجملة الطافحة نفاقاً وتدجيلاً وكذباً)، أو في الامتناع ببساطة عن أيّ تعليق حول منجز الراحل. خذوا، علي سبيل المثال الأوّل الفاقع والساطع، تعليق برنارد لويس حين سُئل عن رحيل سعيد، فأجاب: De mortuis nihil nisi bonum! لقد فضّل بطريرك الإستشراق المعاصر الذهاب إلى اللغة اللاتينية لكي يختصر جوهر موقفه: عن الأمـــــوات لا تُقال ســــوى الأشياء الطيّبة. بالطبع لا يقصد لويس المعنى النبيل الذي ينطــــــوي عليه الحديث الشريف طأذكــــروا محاسن موتاكمط، بل يقصد العكس تمـــــاماً: لا أملك حول سعيد سوى الأشـــياء غير الطـــــيّبة، وما دامت الأشـــياء الطيّبــة هي وحدها التي تُقال عن الأموات، فلا تعليق لديّ على رحيله!
أو خذوا، في مثال ثان، سوء طوية تحرير صحيفة الـ "غارديان" البريطانية، التي وضعت جانباً عشرات الكتّاب المساهمين في صفحاتها، ممّن كتبوا مراراً وتكراراً عن سعيد وراجعوا أعماله ويعرفونه حقّ المعرفة، وعهدت بمهمّة رثائه إلى واحد من ألدّ خصوم الراحل، والذي تشاء المصادفة (أهي حقاً مصادفة؟) أن يكون يهودياً أيضاً، وأحد كبار كارهي الإسلام والمسلمين: عشية الحرب على أفغانستان، وبعد أسابيع معدودات على 11/9، كتب في الـ "غارديان" ذاتها يقول: حاذروا من أسامة بن لادن، إنه صلاح الدين الجديد القادم لتحرير المسلمين من أهل الغرب الصليبيين!
وماليز روثفن (أو، لكي لا يغضب منّا، ماريز روفين كما في اللفظ الإسكتلندي الصحيح لاسمه وكنيته) لا يكفّ عن دسّ السمّ في الدسم وهو يرثي إدوارد سعيد: الناقد الأكبر لوسائل الإعلام الأمريكية، ولكن الـ "سوبر ستار" في دفاعه عن القضية الفلسطينية؛ الإنسيّ الذي يتكيء على فلسفة عصر الأنوار الأوروبية، ولكن الإنسي الذي يهاجم تحالف فلسفة الأنوار مع مؤسسة الإستشراق الإستعمارية؛ والعلماني الذي يكره الحركات الأصولية، ولكن العلماني الذي جلب نقده للغرب الراحة كلّ الراحة للأصوليين؛ وعضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1977، الذي حمل عبء الصياغة الإنكليزية لإعلان الجزائر 1988، ولكن الرجل الذي استقال من المجلس ورفض اتفاقيات أوسلو وانقلب إلى شوكة في خاصرة السلطة الفلسطينية...
أهذه تناقضات تُحسب ضدّ الراحل، أم مزايا تُحسب له؟ ماريز روفين لا يتورّط في إطلاق أيّ من أحكام القيمة، ما خلا النقد الخفيف الخجول لكتاب "الإستشراق". ولكنه في الآن ذاته يرسم صورة مستترة لا تقوم باستذكار الراحل، خيراً أو شرّاً، بقدر ما تحاول تهديم شخصيته ومنجزه على نحو مستتر موارب غير مباشر. ثمة مثلاً إشارة عابرة، وجيزة وسريعة ومبتسرة، إلى موقف سعيد من موسيقي فاغنر (في "مقالة لامعة" حسب روفين!)، يتلوها عىي الفور استنتاج خبيث بأنّ الراحل كان يفصل بين الموسيقى والرسالة الإيديولوجية لصاحب الموسيقى، أي أنّ فلسفة فاغنر في العداء للسامية لم تكن تعني الراحل في شيء!
وذات يوم كتبتُ، في هذه الصحيفة، أهنيء سعيد بعيد ميلاده الستين. ولقد تحدّثت عن عمر حافل لامع غصّ بالتوابع والزوابع حتى كاد يختنق، وتزاحمت في مساراته محطات ومنعطفات وأطوار نَفْس كبيرة قسّمت نفسها في جسوم كثيرة، حتى تعب في مرادها الجسد، واشتكت العروق التي تضخّ الدم والقلب في القلم والورقة والمنبر. وقلت إنّ "الفلسطيني الطائر" يحطّ علي حجر يحمل الرقم الستين، ويرسم المزيد من تضاريس التاريخ والجغرافيا، دون أن يطوي شوكة الأسئلة العميقة المريرة التي طرحها محمود درويش ومنها استلهم سعيد عنوان واحد من أجمل أعماله: إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟
آنذاك اتصل بي الراحل من نيويورك، وقال: أليس كثيراً عليّ لقب "الفلسطيني الطائر"؟
التاريخ تكفّل بالإجابة كما أعتقد، وكذلك تكفّلت به أحزان السواد الأعظم من الناس، مثل مباهج القلّة القليلة من الحاقدين.

 

 



#صبحي_حديدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعد تحليق طويل في التواريخ واللغات والثقافات: رحيل -الفلسطين ...
- الوزارة السورية الجديدة: هل يُصلح العطّار ما أفسد الدهر؟
- ضمير من عصرنا
- تهتدي بالبربرية النازية أكثر ممّا تستعيد حلم تيودور هرتزل: ا ...
- مهرجانات
- غيفارا وجورج وسوف
- العلاقات الهندية ـ الإسرائيلية وبؤس الموقف الرسمي العربي
- أفغان العالم يتوافدون إليه خفافاً وثقالاً: العراق بوصفه مستن ...
- محمود عباس أمام انكشاف الجوهر الحقيقي للصراع
- الدولة الرأسمالية المعاصرة والتاريخ الذي انتهى وما انتهى
- مجازر الجزائر مستمرّة و العالم الحرّ يتفرّج ويتثاءب
- بلا بطيخ..!
- بشار الأسد في السنة الرابعة: الحفاظ على -أمانة الوالد
- استبدال الخاكي بالزهريّ والسماويّ لن يجمّل صورة النظام
- أمثولة فؤاد عجمي: سبينوزا أم ذبابة الخيل؟
- الحوار مع إسرائيل يكمل سيرورة دشنتها -الحركة التصحيحية-النظا ...
- عشية وصول باول وقبيل الخضوع التامّ للشروط الأمريكية - سورية ...
- في أحــــوال الـمـثـقـف الـعـــربـي على أعـتـــاب هـزيـمـة ن ...
- بشار الأسد علي أعتاب سنة ثالثة: لا معجزات ولا عصا سحرية!
- اقتصاد السوق بعد جوهانسبورغ: تقويض الفردوس الأرضي


المزيد.....




- -قريب للغاية-.. مصدر يوضح لـCNN عن المفاوضات حول اتفاق وقف إ ...
- سفارة إيران في أبوظبي تفند مزاعم ضلوع إيران في مقتل الحاخام ...
- الدفاعات الجوية الروسية تتصدى لــ6 مسيرات أوكرانية في أجواء ...
- -سقوط صاروخ بشكل مباشر وتصاعد الدخان-..-حزب الله- يعرض مشاهد ...
- برلماني روسي: فرنسا تحتاج إلى الحرب في أوكرانيا لتسويق أسلحت ...
- إعلام أوكراني: دوي صفارات الإنذار في 8 مقاطعات وسط انفجارات ...
- بوليتيكو: إيلون ماسك يستطيع إقناع ترامب بتخصيص مليارات الدول ...
- مصر.. غرق جزئي لسفينة بعد جنوحها في البحر الأحمر
- بريطانيا.. عريضة تطالب باستقالة رئيس الوزراء
- -ذا إيكونوميست-: كييف أكملت خطة التعبئة بنسبة الثلثين فقط


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - صبحي حديدي - أحزان وأحقاد