يعتبر الفضاء العراقي في المنفى فضاءاً مستقلاً في الأغلب الأعم قبل سقوط النظام المباد وبعده، والأحزاب العراقية فشلت لسنوات عديدة في استقطاب هذا الفضاء المستقل نحو العمل الحزبي. لذا تعاطت مع هذا الفضاء بمسارات متعارضة تتراوح بين التصادم والمجاملة وتحمل انتقاداته على مضض التي لا تخلو بعض الأحيان من تجريح بقيادات الأحزاب كون قسماً منها ساهم بجزء من الخراب الذي طال العراق.
لكن هذا الفضاء المستقل كان السند الأساس للمواقف الوطنية الجادة التي اتخذتها الأحزاب ضد السلطة المبادة، والمتابع لصحافة (المعارضة سابقاً) في المنفى يمكنه التعرف على أغلب الأقلام المستقلة التي رفدت تلك الصحف بالكثير حتى أصبحت لها السيادة على الأقلام الحزبية. وحتى بعد سقوط النظام المباد لم تخفت فعالية هذا الفضاء المستقل في دعم مجلس الحكم الانتقالي والدفاع عن مواقفه إعلامياً حتى بعد أن غادرت صحف الأحزاب المنفى نحو الوطن كانت مواقع الانترنيت العراقية تعمل (ولا تزال) كطواقم إعلامية واستشارية لمجلس الحكم الانتقالي مقدمة الاقتراحات اللازمة للنهوض بمؤسسات الدولة.
صحافة الأحزاب والأقلام المستقلة:
فمنذ أن غادرت الصحف الحزبية نحو الوطن، قطعت صلاتها مع أقلام المنفى خاصة المستقلة منها فلم نعد نقرأ إلا القليل عن تلك الصحف واستوعبت تلك الصحف أقلام (الداخل) التي في أغلبها الأعم كانت مجيرةً للنظام المباد وتبرير حروبه القذرة وتمجيد الطاغية.
هذا التنافس الذي تسعى إليه الأحزاب للكسب الحزبي لمزيد من الأعضاء الجدد وتوسيع قاعدتها الحزبية تحسباً للانتخابات القادمة، اغفل العامل الأهم هو فرز أعوان النظام السابق الذين أخذوا يتسللون نحو جسد الأحزاب الوطنية لنقل العدوى لأمراضهم المستعصية، فلم يعد الأمر هاماً بالنسبة لتلك الأحزاب مساهمة تلك الأقلام البعثية في ماكنة النظام الإعلامية بل أصبح همها الأساس توسيع قاعدتها الحزبية بعد أن فشلت في استقطاب فضاء المنفى المستقل.
هذه (الذاتية) التي تمارسها الأحزاب جاءت على حساب الأقلام الوطنية المستقلة التي قارعت النظام منذ البدء وساهمت الأوضاع الأمنية السيئة في العراق بإبطاء الهجرة المعاكسة والمساهمة في الأعلام الجديد مما أدى إلى سيادة وعودة الانتهازيين وعملاء النظام المباد للهيمنة على وسائل الأعلام من جديد، والمتابع لأسماء المراسلين للفضائيات العربية والصحف الصفراء في العراق سيجد نفس تلك الأسماء (القذرة) التي كانت تروج للنظام واليوم تروج للأعلام المضاد دون أي رادع أو خجل من مواقفها السابقة.
فالأحزاب العراقية، ساهمت بشكل سلبي وهيئة الأجواء لتلك السيادة الإعلامية للمرتزقة نتيجة قطع صلاتها مع أقلام المنفى خاصة المستقلة منها، مدفوعة بمصالحها الذاتية (الحزبية) وعلى حساب الفضاء المستقل في الخارج الذي ناصرها ولا يزال!!.
الأحزاب العراقية والمهاجرين:
فمنذ تشكيل مجلس الحكم الانتقالي لم نسمع أي تصريح وتوجه لأعضاء مجلس الحكم نحو مد الجسور مع الفضاء المستقل الذي ساندها طيلة سنوات المنفى، بل العكس تنافست قيادات هذه الأحزاب على تأمين مستلزمات العودة لمنتسبيها بغية اشغال الفراغ الوظيفي في الوزارات جراء طرد أعوان النظام المباد التي تسنمها ممثليها.
وهذا الأمر أعطى انطباعاً بأن تلك الوزارات التي تشغلها الأحزاب باتت إحدى منظماتها تعين من تشاء من منتسبيها دون الأخذ بعين الاعتبار للكفاءة والخبرة التي شغلتنا طوال سنوات المنفى والتي كانت أداتنا في مقارعة النظام المباد واتهامه باعتماد معياري الحزبية والعائلية في اشغال وظائف الدولة.
أما النداءات المحدودة التي وجهتها بعض المنظمات المهنية التي شكلتها الأحزاب مؤخراً في الداخل لعودة أصحاب الكفاءات العلمية من المنفى والمساهمة في إعادة البناء فإنها لا تعدو سوى نداءات خجولة وإعلامية فاشلة كونها لم تستند إلى قواعد ومستلزمات العودة!!.
فهل أدارت الأحزاب العراقية عند تسلمها السلطة ظهرها للفضاء المستقل في المنفى؟.
المؤشرات الحالية تدلل على هذه الاستدارة للأحزاب، فالقاعدة الجديدة التي أرستها (للحزبيين الأولوية في النظام الجديد) تعد استعارة للقاعدة البعثية وسياسة التبعيث التي مارسها النظام المباد وتصنيف المواطنين إلى فئات وتتقدم القافلة من جديد شلة من الطبالين والانتهازيين وحثالة المجتمع وتعود (حليمة إلى عادتها القديمة!!). وعليه فأن الوزراء الحزبين وزاراتهم ستوضع تحت المجهر، ويتعين عليهم فهم أن الوزارة هي إحدى مؤسسات الدولة وليست منظمة من منظماتهم الحزبية يتم الهيمنة عليها!!.
ولا بد من تذكير قيادات الأحزاب العراقية ببرامجها وشعاراتها السابقة المطاِلبة بالعدالة الاجتماعية وتعين الشخص المناسب في المكان المناسب بعيداً عن الحزبيات والمحسوبيات والولاءات..وغيرها.
فالقاعدة التي أرساها مجلس الحكم الانتقالي في تعين الوزراء على أساس (عائلي) غير مقبولة وأثارت المخاوف والهواجس في الصف الوطني وهذا الأمر لا يقلل من خبرة وكفاءة السادة الوزراء فالنقاش يدور حول اعتماد المعيار (القاعدة) المرفوض بالأساس، والقلق الذي ينتاب الصف الوطني هو (اعتماد) هذا المعيار كقاعدة عامة في إعادة بناء مؤسسات الدولة الجديدة.
وهنا يجب أن نذكر أصحاب إرساء تلك القاعدة وتعميمها (المتوقع) من أن كتائب المثقفين وأصحاب الكفاءات العلمية التي قارعت النظام المباد على مدى ثلاثة عقود لم تبلع هذا الطعم (السام) عبر صمتها، بل أن مقتضيات المرحلة تتطلب (كظم الغيظ) حتى لا تمتلئ خزائن أعداء الوطن وفلول النظام المباد بالحجج والتبريرات.
لذا فأن هذا الصمت هو الصمت الذي يسبق العاصفة، وعلى من أرسو تلك القاعدة من حكم العائلة أن يتخلوا عنها وإلا فأنهم سيواجهون ما واجهه النظام المباد من حملة إعلامية تكشف استدارة قيادات الأحزاب عن مواقعها والتنصل من شعاراتها السابقة.
فالمثقفون هم دعامة المعارضة في كل أنظمة الحكم، وتجد ((جوليان بندا)) المثقفون الحقيقيون لا يكونوا أبداً في أفضل حالاتهم النفسية إلا عندما تحركهم عاطفة ميتافيزقية ومبادئ الحق والعدالة والنزاهة، فيشجبون الفساد ويدافعون عن الضعيف ويتحدون السلطة المعُيوبة أو القمعية.
والخيارات أصبحت مفتوحة مع قيادات الأحزاب العراقية وسلطة الحكم الانتقالي: أما المواجهة معها وأما العودة نحو القواسم المشتركة. فالمعركة بين أنظمة الحكم والمثقفون محسومة النتائج في شوطها الأخير، والتاريخ السياسي لأنظمة الحكم في العالم لم تسجل انتصاراً في معركة مع المثقفين بالرغم من اعتمادها كل وسائل القمع والإذلال!!.
مجلس الحكم الانتقالي وكشف الحساب:
سيكون لنا وقفة ومطالبة بكشف حساب الإنجازات والاخفاقات لأداء مجلس الحكم الانتقالي في نهاية هذا العام، ونعتقد أنها مدة كافية للاطلاع على النتائج، فميزان العدالة سيكون الحكم بيننا. فالإنجازات ستكون مدعاة للفخر والاعتزاز وهي استحقاقات البديل الديمقراطي الذي سعى الجميع نحوه، أما الاخفاقات فسوف لن تسعفها المبررات الملفقة.
فأعمارنا التي استهلكها المنفى والعمل المعارض، لم تعد تهضم مبررات الحكام مهما كانت (عادلة) فمن يرسي قاعدة إسناد المناصب على أساس عائلي عليه تحمل نتائج الإخفاق.
فالسلطة الرابعة، أما أن تكون فعالة ويتحمل المثقفون مهامها باعتبارها الرقيب على الأداء الحكومي وأما المواجهة مع الذين يرغبون بجعل تلك السلطة مؤسسة ذيلية لأجهزة الحكم. ويعتقد ((غرامشي)) بدون المثقفين لم تشتعل أي ثورة رئيسية في التاريخ الحديث، وفي المقابل لم تقم أي حركة مضادة للثورة بدون المثقفين. فالمثقفون هم أباء الحركات وأمهاتها وبالتأكيد أبناؤها وبناتها وحتى أبناء الشقيقات وبناتهن.
ستوكهولم بتاريخ 28/9/2003.
صاحب الربيعي